أرشيف المقالات

علل أحاديث الأحكام

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
علل أحاديث الأحكام

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد؛ فكل مَن عَلِمَ أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وأن شريعته خاتمة الشرائع، وأن سعادة المعاش والمعاد والحياة الأبدية في اتباعه، يعلم أن الناس أحوج إلى حفظ السنَّة منهم إلى الطعام والشراب.
 
ولما كانت السنَّة قد دخل فيها ما ليس منها مما كذَبه بعض الكذابين، أو أخطأ فيه بعض الواهمين، كان الاعتماد على مرويات السنَّة من غير تنقيةٍ أو تمييزٍ يؤدي إلى تشريع ما لم يأذن به الله، وهيهات أن يُعرف ما هو من الحق الذي بلَّغه خاتم الأنبياء عن ربه - عزَّ وجلَّ - وما هو من الباطل الذي يبرَّأ عنه الله ورسوله إلا بمعرفة أحوال الرواة وعلل الروايات.
 
ومع دخول الخبث في سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها - بفضْل الله تعالى - محفوظة بحفظ الله لها، ثم بأهل العلم الذين سخَّرهم الله تعالى لذبِّ الكذب عن سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
 
"ومن مارس أحوال الرواية وأخبار رواة السنَّة وأئمتها علم أن عناية الأئمة بحفظها وحراستها ونفي الباطل عنها والكشف عن دخائل الكذابين والمتَّهمين كانت أضعاف عناية الناس بأخبار دنياهم ومصالحها.
 
قال إسحق بن إبراهيم: أخذ الرشيد زنديقًا فأراد قتله، فقال: أين أنت من ألف حديثٍ وضعتها؟ فقال له: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحق الفزاري وابن المبارك يَنخلانها حرفًا حرفًا؟!
 
وقيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟! قال: تعيش لها الجهابذة! وتلا قول الله - عز وجل -: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
 
والذكرُ يتناول السنَّة بمعناه إن لم يتناولها بلفظه، بل يتناول العربية وكل ما يتوقف عليه معرفة الحق، فإن المقصود من حفظ القرآن أن تَبقى الحُجة قائمة والهداية دائمة إلى يوم القيامة؛ لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، والله - عز وجل - إنما خلَق الخلْقَ لعبادته، فلا يقطع عنهم طريق معرفتها، وانقطاع ذلك في هذه الحياة الدنيا انقطاع لعلّة بقائهم فيها"[1].
 
ومِن هنا، تنجلي أهمية دراسة علل الأحاديث على وجه العموم، وعلل أحاديث الأحكام على وجه الخصوص؛ لأن بأحاديث الأحكام يُعرَف الحلالُ من الحرام، ولأن بها يحفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، بل بها تُقوَّى الروابط الإنسانية وتقوم على أساس من الحب والرحمة والإخاء والمساواة والعدْل.
 
فكان لا بدَّ مِن تمييز سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطهيرها مما علق بها، وليس منها لا سيما في هذا الباب، أعني: أحاديث الأحكام.
 
وقد نهانا الله تعالى عن الاختلاف والتفرُّق في الدين، فقال سبحانه: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103].
 
وقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 159]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105]، وقال: ﴿ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [الروم: 31، 32].
 
وأمَرَنا - سُبحانه وتعالى - برد المسائل المتنازع فيها إلى الكتاب والسنَّة، فقال: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [النساء: 59]، وقال: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 10].
 
ومما لا شكَّ فيه أن من أعظم أسباب الفُرقة والاختلاف في الدين الاعتمادَ على الأحاديث الواهية والمكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدًا أو خطأً، وبدون تطهير السنَّة من هذا الخبث لا يمكن أن يتحقَّق الاتفاق أو يقل هذا الاختلاف الذي ابتُليَت به هذه الأمة، بل ما دام هذا الخبث مختلطًا بالسنَّة، فإن هذا الاختلاف وتلك الفُرقة لن يُرفَعا أبدًا، بل سيزداد خطرهما يومًا بعد يوم.
 
فلا عجب بعد ذلك، إذا ما رأينا أئمة هذا الدين قد أعطوا هذا الجانب من السنَّة أبلغ اهتمامهم، وسعوا إلى تطهير السنَّة على وجه العموم، وهذا الجانب منها على وجه الخصوص سعيًا حثيثًا، وقدموا كل ما يملكون من علمٍ ووقتٍ ونفسٍ ونفيسٍ من أجل تطهيرها مما علق بها من الغث والخبث.
 
وعِلْم "عِلَل الحديث" عِلمٌ شريف، من أجلِّ علوم الحديث وأغمَضِها، وأدقِّها مسلكًا، ولا يقوم به إلا مَن منحه الله تعالى فهمًا غائصًا، واطلاعًا واسعًا، وإدراكًا لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة بطرق إعلال الروايات.
 
ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد من أئمة هذا الشأن وحُذاقهم، وإليهم المرجع في ذلك لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك، والاطلاع على غوامضه دون غيرهم ممَّن لم يُمارس ذلك.
 
سأل رجلٌ أبا زرعة الرازي، فقال: ما الحُجَّة في تعليلكم الحديث؟ قال: الحُجَّة، أن تسألني عن حديث له عِلةٌ، فأذكر علّته، ثم تقصد محمد بن مُسلم بن وراه وتسأله عنه، ولا تُخبره بأنك قد سألتني عنه، فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم، فيُعلِّله، ثم تميِّز كلام كل منا على ذلك الحديث، فإن وجدت بيننا خلافًا في علته، فاعلم أن كلاًّ منا تكلم على مُراده، وإن وجدت الكلمة متَّفقة فاعلم حقيقة هذا العلم، ففعل الرجل، فاتفقت كلمتهم عليه، فقال: أشهدُ أن هذا العِلم إلهامٌ[2].
 
ولهم في ذلك كلام يطول ذكره، ولهذا، فلا بدَّ في هذا العلم من طول الممارسة وكثرة المذاكرة والمدارسة، فإذا عدم طالب العلم المُذاكَرة به فليُكثِر المطالعة في كلام الأئمة العارفين، كشعبة، ويحيى بن سعيد القطان ومَن تلقَّى عنه كأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وغيرهم، ومن جاء بعدهم كالبخاري ومسلم وأبي زُرعة وأبي حاتم الرازيَّين، والنسائي والدارقطني وابن عدي وغيرهم من الأئمة الأعلام.
 
والعلة: عبارة عن أسباب خفيةٍ غامضةٍ تقدح في صحة الحديث السالم منها في الظاهر.
 
والحديث المعلول: هو الحديث الذي اطُّلع فيه على علة تقدَح في صحته، مع أن الظاهر السلامة، ويتطرق ذلك - غالبًا - إلى الحديث الذي رجال إسناده ثقات، الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر.
 
وقولنا: "تقدح في صحة الحديث"؛ أي: في صحة هذا الوجه الذي ثبَت أنه معلول، بصرف النظر عن كون الحديث محفوظًا من وجهٍ آخر أو لا.
 
والسبيل إلى معرفة عِلَّة الحديث: أن يُجمع بين طرقِه، ويُنظر في اختلاف رواته، ويُعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم من الإتقان والضبط.
 
وهيئة التوصل إلى معرفة اتفاق الرواة أو اختلافهم، أو تفرد بعضهم، هو ما يسمى عند المحدثين بـ "الاعتبار" أو "التتبُّع" أو "السَّبْر"، وهي أمورٌ يتداولونها، يتعرَّفون بها حال الحديث، ينظرون: هل تفرد به راويهِ أو لا؟ وهل هو معروفٌ أوْ لا؟
ويُستعان على إدراك العلة بأمرَين:
الأول: التفرد.
والثاني: المخالفة، وكلٌّ مِن التفرُّد والمخالفة قد يكون كافيًا في الدلالة على وقوع الخطأ في الرواية، بما يكفي للحكم عليها بالإعلال، والقدح في صحتها، وربما لا يكون ذلك كافيًا إلا إذا انضمَّت إليه قرائن تُنبِّه العارف بهذا الشأن على وقوع الخلل في الرواية، بحيث يغلب على ظنه ذلك فيحكم به، أو يتردَّد فيتوقَّف فيه، والله أعلم.
 
واعلم أن لهذا العلم أئمة، وجهابذة، ونقادًا، جرَّحوا وعدَّلوا، وصحَّحوا وعلَّلوا، وفرَّعوا وأصَّلوا، ووضعوا القواعد التي بها يُعرف الصادق من الكاذب، والثقة من الضعيف، والصحيح من السقيم، والثابت من غير الثابت.
 
المصدر: مجلة التوحيد، عدد رجب 1413 هـ، صفحة 13

[1] مقتبس بتصرف من " التنكيل " للمعلمي اليماني (1 / 47 - 48).

[2] "علوم الحديث" للحاكم (ص: 113).

شارك الخبر

المرئيات-١