الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها [1]


الحلقة مفرغة

مشاهدينا الكرام! أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامج (حراسة العقيدة).

إن مسألة العقل أخذت حيزاً كبيراً عند فريق المبتدعة؛ حتى إنهم وصفوا أهل السنة أهل الحق بأنهم لا يعقلون، وليس لهم عقول يعملونها.

فمن هذا المنطلق نودُّ أن نتعرف على مكانة العقل في الإسلام، ومكانه عند أهل السنة أهل الحق.

الشيخ: نشأت معضلة العقل عن أفكار الفلاسفة الإلهيين الذين انطلقوا في الكلام في الغيبيات على غير أسس الوحي السليمة، وهؤلاء غالباً هم خصوم الأنبياء، نقصد الفلاسفة الذين تكلموا في الغيبيات، وليس كل الفلاسفة.

فهؤلاء الفلاسفة لما رأوا هذا الكون العجيب، ورأوا بديع صنع الله عز وجل وآياته الظاهرة، وهم لم يؤمنوا بحقيقة وجود الرب عز وجل كما جاء بها الأنبياء؛ صاروا يعملون خيالاتهم وأوهامهم في البحث عن مصادر قوة هذا الكون ونظام هذا الكون وحركة هذا الكون؛ فتوهموا أن هناك عقولاً تدبر الكون.

المقدم: لذلك أطلقوا مصطلح العقل الفعال.

الشيخ: نعم، فمن هنا توهموا أن هذا العقل له أثر في الإنسان، وانطلقوا من هذا المنطلق، ثم تأثرت بهم مدارس واتجاهات في الأمم الأخرى وفي الأمة الإسلامية التي ضل بعض طوائفها عن طريق الحق، وأخذوا بمسالك الفلاسفة، فهؤلاء كلهم تأثروا بهذا المسلك، وظنوا أن العقل كيان مستقل؛ ولذلك عظموه وقدسوه بأكثر مما يستحق.

وأما أهل السنة أهل الحق يعرفون للعقل قدره؛ فهو مناط التكليف، وهو أعظم وسيلة منحها الله الإنسان لفقه شرع الله، ومعرفة الواجبات المجملة، أعني الواجبات التي تتعلق بحق الله عز وجل، وواجبات الإنسان في هذا الكون على ضوء شرع الله، فهذا العقل له مكانته وله قدره، وهو الوسيلة لأئمة الدين لفهم شرع الله، وتطبيقه في الحياة.

إذاً: مكانته عندهم لا شك في أنها عالية، ولكن لا يعطونه أكثر من قدره.

المقدم: هذا رد على الفلاسفة وأهل الكلام؟

الشيخ: أي نعم، ولا يجعلون العقل يعيش في متاهات لا طاقة له بها؛ إذ العقل لا يعرف تفاصيل الغيب، ولا يدرك أسرار القدر، فمن هنا أعطوا العقل كرامته، ومن كرامة العقل ألا يقحم فيما لا يطيقه.

ومن هنا اتهمهم الخصوم بأنهم ردوا تقريرات العقل حينما لم يقبلوا الأوهام التي تسمى عقليات، ولم يقبلوا التخرصات التي قال الله في أصحابها: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ [الذاريات:10-11]؛ لأنها ليس لها مستند من مصادر الحق.

المقدم: كمثل قول ابن سينا : إن العقل فعَّال، وقواه قدسية. ونحو ذلك، فهذه الأقوال من أين استقَوْها؟ وما هو المصدر لهؤلاء الفلاسفة؟ هل هو الفلسفة اليونانية؟

الشيخ: ليس لهم مصدر علمي ولا شرعي، حتى ابن سينا لو أخذناه بمبدئه الذي يدعيه؛ لما وجد أي دليل على ما يقول سوى التبعية للفلاسفة.

المقدم: إذاً: أهل الحق ينظرون إلى العقل باتزان، فلا إفراط ولا تفريط، فهل هناك أدلة في القرآن والسنة تبين مكانة العقل في الإسلام؟

الشيخ: نعم، هناك آيات كثيرة، فالله عز وجل يذكر نعمه، ويذكر آياته التي تدل على وجوده وعلى ضرورة عبادته، ثم يقول: أَفَلا تَعْقِلُونَ ، ولم يقل: ليس لكم عقول، بل قال: أَفَلا تَعْقِلُونَ ، يعني: تتفكرون، وبعض الآيات -أيضاً- نصت على التفكر، وليس بينهما تقارب في المعنى فحسب، بل هناك تطابق بين التفكر والتعقل.

ومن ذلك أن الله عز وجل لما ذكر بعض المنن والنعم، قال: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، وقال عز وجل: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم:28].

المقدم: وكذلك عاب على الكفار عدم التعقل بقوله تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10].

الشيخ: نعم، إذاً: الإسلام يدعو إلى التعقل، ويدعو إلى التفكير في معرفة الحق، ومعرفة حقوق الله عز وجل خاصة، ومعرفة وجوه الخير والنفع للإنسان.

المقدم: هناك من يقول: إن الدين يحجر على العقل، هل التقيد بالنصوص الشرعية تحجير على العقل؟

الشيخ: الحقيقة أن الدين يكرم العقل غاية التكريم؛ يدل على ذلك ما يأتي:

أولاً: أن الله أكرم به الإنسان.

ثانياً: أن الله عز وجل جعله مناط التكليف، فكلف الإنسان بأن يفكر، وأن ينظر، وأن يتدبر آيات الله، وأن يعمر الكون على سنن الله.

فالله عز وجل لم يأمر بتدبر آياته المقروءة -وهي القرآن ونصوص الوحي- فحسب، بل أمر بتدبر الآيات الكونية كذلك.

إذاً: الإسلام لا يحجر على العقل، بل يوظفه وظيفة تكده إلى قيام الساعة، ولكن على أسس تحميه من غوائل التيه، وتحميه من أسر الأوهام، وتحميه من أسر الخرافات، وتحميه أيضاً من أن يتجرأ على الله أو يتجرأ على الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.

فهؤلاء يسمون هذه الشروط قيوداً، وليست قيوداً، بل هي في الحقيقة تعتبر مناط التكريم للعقل.

المقدم: نودُّ أن نتعرف الآن على هذه الاتجاهات العقلانية، وأبرز الأفكار التي يمكن أن نناقشها في هذا البرنامج.

الشيخ: الحقيقة أن الاتجاهات العقلانية في أصولها متشابهة، وهذا الذي جعلنا نتحدث عنها تحت هذا العنوان، أما في مناهجها التفصيلية وفي غاياتها وفي وسائلها فهي مدارس لا تكاد تحصى.

ففي عصرنا هذا يمكن أن نقول: هناك اتجاهات تسمى الاتجاهات العقلانية حتى عند أصحابها، وهي جهات فكرية قائمة الآن، سواء تلك التي تنهج نهج المعتزلة والفلاسفة، والتي تنتهج مناهج حديثة لكنها تنزع إلى الاتجاه العقلاني الغربي.

وهذه الاتجاهات أيضاً لها أسماء كثيرة جداً، فيدخل فيها كثير ممن يسمون بالعلمانيين وليس كلهم، وكثير ممن يسمون باللبراليين وليس كلهم، وكثير من أصحاب الفكر التغريبي الذين هم تلامذة للتيارات الغربية، وأصحاب الفكر الحداثي، بل الحداثة تعتبر اليوم الرائدة للاتجاه العقلاني.

ويدخل في ذلك أصحاب نزعات فردية، وهنا أنبه على أمر مهم جداً، لأننا سنحتاج إلى هذا البيان فيما بعد، ذلك أنه ليس كل من أطلق عليه أنه (علماني) يكون كذلك، أو يعترف بهذا، وكذلك من أطلق عليه أنه لبرالي أو حداثي.

فهذه الأوصاف الآن أصبحت أوصافاً فضفاضة، وهي حقيقية، ولكن لا يلزم أن يكون العقلاني علمانياً أو لبرالياً أو حداثياً، بل قد يكون غير هؤلاء، وقد لا يدري ولا يعرف معنى العلمانية واللبرالية، وإنما أردت التركيز على أشهر التيارات: العلمانية، واللبرالية، وأهل الاستغراب أو التغريب، وكذلك الحداثة، والعصرانية.

المقدم: والشيوعية تدخل في هذا؟

الشيخ: إذا اعتبرنا المبادئ الغربية البحتة؛ فكل الاتجاهات الحديثة في الغرب عقلانية، ومنها الشيوعية وعكسها.

المقدم: الرأسمالية؟

الشيخ: نعم، كلها تقوم على الاتجاه العقلاني؛ لأنهم ليس عندهم مصادر للتدين الحقيقي تضبطهم، حتى الذين يسمون مفكري النصارى، أو مفكري اليهود هم في الحقيقة عقلانيون، وإن تمسكوا ببعض المذاهب الدينية.

المقدم: لكن من أي باب دخلت العلمانية واللبرالية في العقلانية؟

الشيخ: من باب أنها تشترك في الأصول التي سأذكرها بعد قليل.

وقد ذكرتني بأمر مهم، فأقول للإخوة المشاهدين: من أجل أن تعرفوا وجه ارتباط هذه المذاهب بعضها ببعض أرجو أن تستمعوا جيداً عندما نعرض موضوع مناهج وأصول اتجاهات العقلانية.

وينبغي أن نفهم حين نقول: اتجاهات العقلانية أنها كذلك مع أنها مدارس لها أصول مشتركة عامة، سواء في المنهج وفي الوسائل وفي الغايات، لكن عند الممارسة والتوجهات الفردية أو ما أشبه التوجهات الفردية تجد أنها مدارس.

المقدم: عندما نقول: العقلانيون ألا يكون ذلك ثناء عليهم؟

الشيخ: لا يلزم، ومثال ذلك من يسمون بالقرآنيين الآن، فقد اشتهروا بالقرآنيين، أليست النسبة إلى القرآن -وهو كلام الله- شرفاً؟

المقدم: بلى.

الشيخ: لقد أصبحت الاصطلاحات أحياناً هي التي تحكم المفاهيم، والمصطلح إذا شاع يحكم المفهوم ما لم يعارض الشرع.

فالقرآنيون يقصد بهم الآن: الذين يزعمون أنه لا نأخذ الدين إلا من القرآن.

المقدم: يتركون السنة؟

الشيخ: يتركون السنة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليس للنبوة عندهم اعتبار.

ومثال ذلك أيضاً من يسمون بالقدرية، أليس الإيمان بالقدر ركناً من أركان الإيمان؟!

المقدم: بلى.

الشيخ: وعلى هذا فأنا قدري من هذا الوجه، لكن الذين أخطئوا في باب القدر كان كلامهم في القدر كثيراً.

المقدم: ونفوا القدر.

الشيخ: ونفوا القدر، وصاروا يتكلمون بغير علم في القدر، فسموا قدرية.

وهكذا نقول: العقلانيون، لا لأن العقل مذموم، لكن لأنهم اشتهروا بتقديم العقل على الشرع، فجعلوا الشرع هو المحكوم، واستهانوا بدين الله بدعوى الرأي والعقل والفكر.

المقدم: هل هناك فرق بين أن نقرر مبادئ العلمانية أو مبادئ اللبرالية، وبين إطلاق هذا المصطلح على أشخاص معينين؛ إذ بعض الناس قد يتساهل فيقول: هذا علماني، هذا لبرالي. فهل هذا فيه إشكال؟

الشيخ: أنا أتصور أن فيه إشكالاً كبيراً، فينبغي أن لا نسارع في إطلاق العلمنة على أفراد، فهنا يحكمنا منهج القرآن ومنهج السلف، وهو الكلام عن الأصول البدعية والمناهج البدعية، وعن الأصول الضالة والمناهج الضالة، وأما تطبيقات ذلك فتترك للحاجة إليها التي يقوم بها أهل الاختصاص عند الضرورة.

فنحن نحاكم الناس على منهج، بصرف النظر عن تسمية الأشخاص أو أوصافهم، والله عز وجل ذكر لنا المنافقين، وذكر الفسق والفاسقين، والظلم والظالمين، ومع ذلك لم يسوغ لنا -كما هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج الصحابة- أن ننادي من تظهر عليه علامات النفاق بقولنا: يا منافق، ولا بقولنا: يا فاسق، أو: يا فاجر.

المقدم: أي نعم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف المنافقين بأسمائهم، ولم يسمهم ولم يعينهم.

الشيخ: نعم كان يعرفهم، وكان أهل الفجور والفسق موجودين بين المسلمين، وما كان الصحابة ينادون من يظهر منه فجور بقولهم: يا فاجر أو: يا فاسق، إلا عند الضرورة فقط، وهذا أمر يعرفه أهل الاختصاص من أهل العلم.

المقدم: أشرت -يا دكتور ناصر - إلى أن هناك فصولاً عامة ومعالم كبرى للمناهج العقلانية، فنود ذكر بعض هذه المناهج.

الشيخ: لعلي أتمكن الآن من سرد أهمها على جهة الإجمال، والتفاصيل تترك إلى حلقات قادمة إن شاء الله تعالى.

فالمناهج العامة للعقلانيين تتلخص فيما يأتي:

الخلط في مصادر تلقي الدين

أولاً: الخلط في مصادر تلقي الدين.

فنحن نتلقى الدين من مصادره النقية: الكتاب والسنة، أي: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما هم فلا، وقد يدعون هذه الدعوى، لكن عند التحقيق تجدهم يجعلون للمقررات العقلية ولأفكار البشر وللنظريات وللفلسفات مقاماً كبيراً في الاستمداد يستمدون منها دينهم.

فترى بعض كبار المتكلمين القدامى -وهو مشهور- يقول: أنا أستمد من الكتاب والسنة، وفي كتابه يستدل بكلام أرسطو طاليس في ثوابت الدين، لا في أمور علمية نظرية!

المقدم: هل يستدلون بالكتاب والسنة للاعتضاد أم للاعتماد؟

الشيخ: يما خالفوا فيه أهل الحق يجعلون الدليل الشرعي فيه دليلاً ثانوياً غالباً، بل قد يردونه، وغالباً تكون استدلالاتهم بالشرع -كما تفضلت- للمساندة، فالدليل الشرعي عندهم مساند، والأصل هو الدليل العقلي الذي هو آراؤهم، فيقررون مقررات في أذهانهم، ثم يحاولون أن يستدلوا لها من الكتاب والسنة، وهذا انحراف.

المقدم: ألا يمكن أن نقول -لتوضيح هذه المسألة بمثال تطبيقي-: هناك في المتكلمين من يرى أن هناك صفات عقلية وصفات خبرية، فالصفات العقلية يثبتها والصفات الخبرية ينفيها، مع أن الصفات العقلية والخبرية كلها ورد بها النص؟

الشيخ: نعم، هذا مثال صحيح.

فالخلط في مصادر التلقي أول المناهج العامة للعقلانيين.

ولهذا يعتمدون على الرأي، ويسمون نتائجه مقررات عقلية أو قواطع عقلية، وهي نتائج مبنية على الفلسفة، وعلى النظريات، وعلى آراء المستشرقين، بل على بعض كتب الأدب وكتب التاريخ أحياناً... إلخ.

الخطأ في منهج الاستدلال

ثانياً: الخطأ في منهج الاستدلال.

ومن هنا تأتي العقدة الرئيسة عندهم، التي جعلت كثيراً من الناس يغترون بهم، ذلك أنهم يرون أنه إذا كان العقل هو الذي ينظر في الشرع؛ فهو المحكم، وهو الأول، وهو المقدم، فعندما يظهر للإنسان أن الشرع يعارض العقل فالعقل هو المقدم.

المقدم: هذا القانون الكلي عند الرازي .

الشيخ: أي نعم، هو القانون الكلي عند الفلاسفة، ثم أخذه الرازي وغير الرازي ؛ لأنهم اعتبروا دلالة العقل قطعية، ودلالة الشرع ظنية نسأل الله السلامة، وهذا خذلان، وأرجو أن نتأمل هذه العبارة، فهذه مقدمات فاسدة؛ والذي لا يتأملها قد يكون ضحية هذه المقدمات.

وهذه المقدمة حقها أن تقلب تماماً، فهم يقولون: المقررات العقلية قواطع، أي: قطعيات لا شك فيها، هكذا زعموا.

نعم هناك من الأمور العقلية ما هو قاطع، لكن هل تكون المقررات العقلية قواطع فيما غاب عن العقول؟!

الجواب: لا.

وهل تكون المقررات العقلية قواطع والشرع ظنياً، وإذا تعارض القطعي -وهو عقولهم وآراؤهم- مع الظني -وهو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم- قدم القطعي وهو العقل؟! ولذلك نقول لهم: عقل من يتبع؟! عقلي أم عقلك؟! أنا لا أطيعك، فتفكيرك خاص بك، وتفكيري خاص بي.

المقدم: بأي تفكير وبأي عقل نسير؟

الشيخ: لأنهم يتوهمون أن هناك عقولاً مجردة.

المقدم: كبار الفلاسفة اختلفوا في أمور جوهرية.

الشيخ: الفلاسفة هم الخراصون الذين ذمهم الله عز وجل، وحتى لا يكون هناك لبس عند بعض الناس أنبه على أن مصطلح (الفلاسفة) يطلق على العلماء التطبيقيين، الذين يقوم علمهم على الحس والتجربة، وهؤلاء لا نشك في أن مبدأهم صحيح إذا قام على أسس سليمة، ولذا كان الفلاسفة القدامى يجمعون بين الأمرين: يجمعون بين الخوض في الغيبيات والتخرص، وبين التجارب العلمية الحقيقية؛ ولذلك فاقوا في الطب والكيمياء والفيزياء، وكان لهم نظريات نفعت البشرية.

كما يطلق المصطلح نفسه على الوجه الآخر المذموم، وهو الخوض في الغيب، فنحن في الجانب التطبيقي لا نعترض على مقررات الفلسفة العلمية التي منها الرياضيات وغيرها، فهذه مقررات ثبت فيها مشاعة بين البشرية ثبتت بالعلم.

لكن الجانب المذموم هو استعمال عقولهم وتفكيراتهم في أمور ليس للعقل فيها مدخل، وهي أمور الدين.

أولاً: الخلط في مصادر تلقي الدين.

فنحن نتلقى الدين من مصادره النقية: الكتاب والسنة، أي: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما هم فلا، وقد يدعون هذه الدعوى، لكن عند التحقيق تجدهم يجعلون للمقررات العقلية ولأفكار البشر وللنظريات وللفلسفات مقاماً كبيراً في الاستمداد يستمدون منها دينهم.

فترى بعض كبار المتكلمين القدامى -وهو مشهور- يقول: أنا أستمد من الكتاب والسنة، وفي كتابه يستدل بكلام أرسطو طاليس في ثوابت الدين، لا في أمور علمية نظرية!

المقدم: هل يستدلون بالكتاب والسنة للاعتضاد أم للاعتماد؟

الشيخ: يما خالفوا فيه أهل الحق يجعلون الدليل الشرعي فيه دليلاً ثانوياً غالباً، بل قد يردونه، وغالباً تكون استدلالاتهم بالشرع -كما تفضلت- للمساندة، فالدليل الشرعي عندهم مساند، والأصل هو الدليل العقلي الذي هو آراؤهم، فيقررون مقررات في أذهانهم، ثم يحاولون أن يستدلوا لها من الكتاب والسنة، وهذا انحراف.

المقدم: ألا يمكن أن نقول -لتوضيح هذه المسألة بمثال تطبيقي-: هناك في المتكلمين من يرى أن هناك صفات عقلية وصفات خبرية، فالصفات العقلية يثبتها والصفات الخبرية ينفيها، مع أن الصفات العقلية والخبرية كلها ورد بها النص؟

الشيخ: نعم، هذا مثال صحيح.

فالخلط في مصادر التلقي أول المناهج العامة للعقلانيين.

ولهذا يعتمدون على الرأي، ويسمون نتائجه مقررات عقلية أو قواطع عقلية، وهي نتائج مبنية على الفلسفة، وعلى النظريات، وعلى آراء المستشرقين، بل على بعض كتب الأدب وكتب التاريخ أحياناً... إلخ.

ثانياً: الخطأ في منهج الاستدلال.

ومن هنا تأتي العقدة الرئيسة عندهم، التي جعلت كثيراً من الناس يغترون بهم، ذلك أنهم يرون أنه إذا كان العقل هو الذي ينظر في الشرع؛ فهو المحكم، وهو الأول، وهو المقدم، فعندما يظهر للإنسان أن الشرع يعارض العقل فالعقل هو المقدم.

المقدم: هذا القانون الكلي عند الرازي .

الشيخ: أي نعم، هو القانون الكلي عند الفلاسفة، ثم أخذه الرازي وغير الرازي ؛ لأنهم اعتبروا دلالة العقل قطعية، ودلالة الشرع ظنية نسأل الله السلامة، وهذا خذلان، وأرجو أن نتأمل هذه العبارة، فهذه مقدمات فاسدة؛ والذي لا يتأملها قد يكون ضحية هذه المقدمات.

وهذه المقدمة حقها أن تقلب تماماً، فهم يقولون: المقررات العقلية قواطع، أي: قطعيات لا شك فيها، هكذا زعموا.

نعم هناك من الأمور العقلية ما هو قاطع، لكن هل تكون المقررات العقلية قواطع فيما غاب عن العقول؟!

الجواب: لا.

وهل تكون المقررات العقلية قواطع والشرع ظنياً، وإذا تعارض القطعي -وهو عقولهم وآراؤهم- مع الظني -وهو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم- قدم القطعي وهو العقل؟! ولذلك نقول لهم: عقل من يتبع؟! عقلي أم عقلك؟! أنا لا أطيعك، فتفكيرك خاص بك، وتفكيري خاص بي.

المقدم: بأي تفكير وبأي عقل نسير؟

الشيخ: لأنهم يتوهمون أن هناك عقولاً مجردة.

المقدم: كبار الفلاسفة اختلفوا في أمور جوهرية.

الشيخ: الفلاسفة هم الخراصون الذين ذمهم الله عز وجل، وحتى لا يكون هناك لبس عند بعض الناس أنبه على أن مصطلح (الفلاسفة) يطلق على العلماء التطبيقيين، الذين يقوم علمهم على الحس والتجربة، وهؤلاء لا نشك في أن مبدأهم صحيح إذا قام على أسس سليمة، ولذا كان الفلاسفة القدامى يجمعون بين الأمرين: يجمعون بين الخوض في الغيبيات والتخرص، وبين التجارب العلمية الحقيقية؛ ولذلك فاقوا في الطب والكيمياء والفيزياء، وكان لهم نظريات نفعت البشرية.

كما يطلق المصطلح نفسه على الوجه الآخر المذموم، وهو الخوض في الغيب، فنحن في الجانب التطبيقي لا نعترض على مقررات الفلسفة العلمية التي منها الرياضيات وغيرها، فهذه مقررات ثبت فيها مشاعة بين البشرية ثبتت بالعلم.

لكن الجانب المذموم هو استعمال عقولهم وتفكيراتهم في أمور ليس للعقل فيها مدخل، وهي أمور الدين.

المقدم: وهذا تفريق جميل بين الفلاسفة القدامى أو العلماء التجريبيين المعاصرين، فما هو الفرق بين الفلسفة وعلم الكلام؟

الشيخ: الحقيقة أن علم الكلام اصطلاح يطلق على آراء العقلانيين من المسلمين، الذين نهجوا منهج الجهمية والمعتزلة فأخذوا شيئاً من الفلسفة وشيئاً من الشرعيات وجعلوا ذلك علماً، فنظراً إلى أن هذا العلم ليس فلسفة خالصة، ولا علماً شرعياً خالصاً، وإنما هو كلام عن الله عز وجل في ذاته وأسمائه وصفاته، وفي القدَر والغيبيات بغير علم؛ سمي كلاماً؛ فلا هو وحي، ولا هو فلسفة خالصة، ولذلك لما قيل لهم: لم تدعون ذلك؟ قالوا: نريد أن نوفق بين الشريعة وبين الفلسفة. فحسبهم كثير من أجيال المسلمين أنهم على الحق.