أرشيف المقالات

آليات التنمية العقدية في الإسلام

مدة قراءة المادة : 25 دقائق .
آليات التنمية العَقَدِيَّة في الإسلام
(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)

تمثِّل العقيدةُ جانبًا أساسيًّا في الحياةِ، وتُعدُّ تنميتُها، والانتقالُ فيها من حالٍ إلى حالٍ أحسنَ منها - مظهرًا من مظاهرِ الالتزامِ بها، وتنزيلِها وترجمتِها إلى واقعٍ مَعِيش.

وحتى لا ينصرفَ الذهنُ بخصوصِ موضوعِنا إلى أننا سنُنَاقِش القضايا المرتبطةَ بالأصولِ التي تَقومُ عليها العقيدةُ؛ فإننا صدَّرنا عنوان المقال بعبارةٍ تتضمَّن "الآليات" مضافةً إلى "التنمية" التي هي "ظاهرةٌ مركبة"[1]، تتمثَّل في تحقيقِ زيادةٍ تراكميةٍ ودائمةٍ عبرَ فتراتٍ من الزمن، جاعلةً الإنسانَ غايتَها وهدفَها[2].
 
وحينما نَحصُر مرادَنا في آلياتِ التنميةِ العقديةِ المرتبطةِ بالوحيِ الإلهي، فإننا نَكُون قد أَعلنَّا منذ البَدْء: أن موضوعَنا سيَنحَصِر في رصدِ الآليات التي تتحقَّق بها التنميةُ العقديةُ في الإسلامِ؛ ولذلك فإنه لن يُهتمَّ بغيرِ ما يُحدُّ به الموضوع؛ إذ إن التنميةَ قد تعدَّدت مجالاتُها، وتنوَّعت فضاءاتُ الحديثِ فيها.

فإذا تبيَّن ذلك، فإننا سنَهتمُّ في الفقراتِ الآتيةِ بتتبُّعِ الآلياتِ التي سَلَكها الإسلامُ - منذ نزولِه - من أجلِ تحقيقِ تنميةٍ عقديةٍ رشيدةٍ، ملتزمِينَ في ذلك بالوقوفِ على الحدودِ المَصدَرِية المتمثِّلة في القرآنِ الكريمِ والسنة النبويَّة الشريفةِ، بُغيةَ معاينةِ الانتقالِ من حالٍ عقديةٍ إلى حالٍ أخرى، في فضاءٍ موضوعيٍّ متمتِّع بصفاءٍ مصدريٍّ غيرِ مَشوبٍ بشائبةٍ.

ولكي تكونَ القيادةُ مؤهَّلةً لإرشادِ الناس؛ فإنه توجب أن يتحقَّق تخليصُها من كلِّ الشوائب والأدرانِ التي - حين توفُّرِها - تُبقِي أصحابَها في المستوياتِ العقديةِ العادية غيرِ المتميزة.


وهو الأمرُ الذي يتبيَّن من خلالِ تتبُّعِ المسارِ التربويِّ الذي خَضَع له بعضُ أنبياءِ الله - تعالى - الذين اختارهم الله واصطَفَاهم؛ من أجلِ قيادةِ البشريةِ وإرشادِها إلى ما يُصلِح أحوالَها بُغيةَ تحقيقِ تميزِها الإنسانيِّ.

لقد تنوَّعت آلياتُ التنميةِ العقدية في الإسلام بتنوُّعِ الأحوالِ والمواقفِ والسياقاتِ التي كان يَعِيشها هؤلاءِ المُصطَفَوْن الأخيارُ، وهي التي نُحبِّذ أن نُجمِلها في النماذجِ الآتية:
أ- الاكتشاف والتتبع:
يُعدُّ الاكتشافُ والتتبُّع مَعْلَمَينِ من معالِم المَسَار التنمويِّ العقديِّ، ونحن لا نَقصِد بهما اكتشافَ الأنبياءِ لما لم يكن مكتشَفًا، وإنما نَرمِي من خلالِ استعمالِهما إلى تفعيلِ الأنبياء لما لم يكن مُفعَّلاً، واستثماره في أن يسخَّر باعتبارِه عنصرًا من العناصرِ الموصلةِ إلى الله - تعالى.

وهكذا، فإننا إذا وَقَفنا على قصةِ إبراهيمَ - عليه السلام - مع النجوم والكواكبِ؛ حيث ينبِّهنا القرآنُ الكريمُ إليها، بقول الله - سبحانه -: ﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 76 - 79].

إن القرآن الكريم ليَشهَد شهادةً كاملةً: أن الانتقالَ بين هذه المستوياتِ التي وَقَف عليها نبيُّ اللهِ إبراهيمُ - عليه السلام - والتفاعلَ معها وقراءتَها قراءةً عقديةً - لم يكن أمرًا ذاتيًّا خاصًّا بشخصيةِ إبراهيمَ - عليه السلام - وإنما كان بهدايةِ الله - تعالى - وتيسيرِ السبيلِ له؛ من أجلِ أن يصل إلى هذا المبتغَى الجليلِ، وهو ما نجدُه منبَّهًا عليه بقولِ ربِّ العزة - سبحانه وتعالى -:﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [الأنعام: 75].

وقد أشارتِ السنةُ النبويةُ الشريفةُ إلى هذا الأمرِ إشارةً واضحةً؛ فعن أنسِ بن مالكٍ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُكثِرُ أن يقولَ: ((يا مُقلِّب القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ))، فَقلتُ: يا رسولَ الله، آمنَّا بكَ وبما جئتَ به، فهل تَخافُ علينا؟ قال: ((نعم؛ إن القلوبَ بين أُصبُعينِ من أَصابعِ الله يقلِّبها كيف يشاءُ))[3].

ب- الإخضاع للتجربة:
وهذا الأمرُ يعدُّ مسلكًا أساسيًّا من مسالكِ التنميةِ العقدية؛ حيث تتبدَّى الحقائقُ للمعتقدِ بصورةٍ واقعيةٍ مبتعِدةٍ عن مقتضياتِ الغيب، فيَنتَقِل ما كان غيبًا إلى أن يستقرَّ في حيِّز المُدرَكِ بالحواسِّ التي يدرَك بها الواقعُ المشاهَد والمُعَايَن.

ومن أمثلةِ ذلك: أن نجد نبيَّ اللهِ عُزَيرًا قد أُخضِع للتجربةِ بعد أن استبعَدَ إحياءَ الله - تعالى - للقريةِ التي مرَّ عليها، وهي خاوية على عروشِها؛ حيث قال الله - سبحانه - في كتابِه العزيز: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [البقرة: 259]، متسائلاً عن إمكانِ تحقيقِ أمرِ الإحياء، ومستبعدًا الوصولَ إليه في يومٍ من الأيامِ، فكيف يتحقَّق ذلك؟ ومن أيِّ طريقٍ؟ وبأيِّ سببٍ؟[3].
 
لقد حكَى الطبريُّ عن بعضِهم أن هذا القولَ كان: "شكًّا في قدرةِ الله - تعالى - على الإحياءِ؛ فلذلك ضَرَب له المثل في نفسه"[4]، وأخضَعه للتجربة التي تَبدُو الحقيقةُ من خلالها، لا غبشَ فيها ولا عشوةَ؛ ﴿ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ﴾ [البقرة: 259].

ولكي تتأكدَ الحقيقةُ لديه ويَرَاها رأيَ العين، فقد وُظِّف ما يُحِيط به مما يَعرِفه معرفةً دقيقةً خاصةً؛ لإكمالِ المشهد، وأداءِ الدرس، وأخذِ العبرة؛ فوُظِّف الطعامُ "الذي جَمَعه من أشجارِ القرية التي مرَّ عليها"[5]؛ حيث لم يُمسَّ بأذًى، وأُحيِي الحمارُ بعد أن كان عظامًا نَخِرة حياةً رآها عُزَيرٌ رأيَ العين، فشَاهَد "اتصالَ عظامِه وإحياءه جزءًا جزءًا"[6]، وأمرَ في كلِّ ذلكَ بإعمالِ النظرِ والاستفادة من العقلِ والتفكيرِ.
 
إن هذه التجربةَ لم تتَّخذْ مستقرَّها عند هذه الحدودِ، وإنما استمرَّت تَوالُداتُ أحداثِها في مسارٍ تعاقبِيٍّ، لن تكتَمِل فصولُه إلا بعودةِ عزيرٍ إلى أهلِه وذَوِيه؛ ليكونَ - بكلِّ ذلك - آيةً من آياتِ الله - تعالى - التي أخرجها للناسِ؛ حيث "جاء شابًّا على حالِه يوم ماتَ، فوَجَد الأبناءَ والحَفَدة شيوخًا"[7].
 
إن إخضاعَ عزيرٍ لهذه التجربةِ كان له هدفانِ نُورِدهما على الصورة الآتية:
أولهما: أن يُضرَب له المثلُ في نفسِه؛ بُغيةَ طردِ الشكِّ عنه، وإبعادِ الهواجسِ التي تعكِّر على المرءِ صفوَ إيمانِه.
 
وثانيهما: أن يُجعَل آيةً للناسِ تَقُومُ دليلاً على قدرةِ الله - تعالى - على الخلقِ والبعثِ.
 
والمبتغَى منهما معًا هو الوصولُ إلى تحقيقِ تنميةٍ عقديةٍ في النفوس التي يعوزُها الدليلُ ويَنقصُ إيمانُها الشاهد، فلم تَستَطِع أن توظِّف ما يُحِيط بها من عناصرِ الكتابِ المنشورِ باعتبارِها من مكوناتِ عالَم الشهادةِ، للوصولِ إلى الإيمانِ بكلِّ ما يَقتَضِيه عالَم الغيبِ.
 
ولمَّا آتت التجربةُ أُكُلَها وتبيَّنت حقيقةُ إحياءِ الله - تعالى - للأمواتِ وبعثِ الرَّمِيم من العظامِ؛ فإن العقيدةَ قد عرفت تنميةً في نفس المستهدف بها، فلم يبقَ بوسعِه إلا أن ينطقَ بها ويقرِّرها في ألفاظ يُعلِن من خلالِها أنه لن يتزَحزَح عن الإيمان أبدًا؛ فقال الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 259].
 
ج- التبيُّن:
ومن المداخلِ الأساسيةِ المحقِّقة للتنميةِ العقديةِ في نفوس الناس: التبيُّن الذي لا نَرمِي به إلى أن المرءَ يكونُ منكِرًا لحقيقةِ الإيمان، وإنما نَقصِد من خلالِه إلى التعبيرِ عن رغبتِه في تحقيق الطمأنينةِ النفسيةِ لديه.

ومن الأمثلةِ التي تُقدَّم بهذا الخصوصِ: سؤالُ نبيِّ الله إبراهيمَ - عليه السلام - عن الكيفيةِ التي بواسطتِها يُحِيي الله الموتى، وهو المَشهَد الذي يَصِفه القرآنُ الكريم بقولِ الله - تعالى -:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260].

فمركزُ القضيةِ يتمثَّل في الاستفسارِ عن كيفيةِ إحياءِ الموتى، الذي يُفهَم منه أنه ناتجٌ عن عدمِ الإيمانِ بصفةِ الإحياء على الأقلِّ، والذي إذا تحقَّق ضاعَ به الإيمانُ كلُّه! ولكنَّ الجوابَ يَنصرِف إلى طلب الطمأنينةِ التي لا تتحقَّق إلا بتحقُّق التنميةِ العقديةِ في النفس، أما الإيمانُ، فإنه لم يُمَسَّ بسوءٍ، فكأننا بنبِيِّ الله إبراهيمَ - عليه السلام - إنما يَطلُب باستفسارِه عن كيفيةِ إحياء الموتى تنميةً عقديةً يثبِّت بها ما تحقَّق لديه من إيمانٍ راسخٍ.

والتبيُّن خاصيَّة عَاشَها نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد انتَابَه خوفٌ، وهَيمَنَت على شعورِه شكوكٌ وهَوَاجِس عند بَدْء نزولِ الوحي؛ فقد رَوَت عائشة - رضي الله عنها - أنه - صلى الله عليه وسلم - كان متحنثًا في غارِ حِرَاء، فجَاءَه جبريل - عليه السلام - فأَمَره بقول الله - تعالى -: ﴿ اقْرَأْ ﴾ [العلق:1]، فقال: ما أنا بقارئٍ، فأخذَه فغطَّه حتى بَلَغ منه الجَهد ثم أرسله، فأعاد عليه القولَ والفعلَ مراتٍ ثلاثًا، فقال: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5].
 
إن هذا المستوَى الذي يَرتبِط من خلالِه نبِيُّ الرحمةِ - عليه صلاة الله وسلامه - يُعدُّ مستوًى عقديًّا بدئيًّا، رغم أنه يمثِّل حادثًا فارقًا بين عهدينِ؛ حيث إن اطلاعَه على الرسالةِ وعلى متعلقاتِها لم يكن متحققًا في أيِّ حال من أحوالِه، ولذلك فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَجَع بها ((تَرجُفُ بَوادِرُه حتى دخَل على خديجةَ، فقال: زَمِّلونِي زَمِّلونِي، فَزمَّلُوه حتى ذهَب عنه الرَّوعُ، ثم قال لخديجةَ: ((أَيْ خديجة،ُ ما لِي؟ وأَخبرَها الخبرَ))[8].
 
لقد أحدث الأمر بجدَّته روعًا في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الارتباطَ بالمصدرِ الإلهي لم يكن متحقِّقًا من قبل، فكان مما قاله وردَّده: ((لقد خَشِيتُ على نَفسِي))[9].
 
ورغم أن الطمأنةَ كانت تأتيه تَتْرَى من خديجةَ - رضي الله عنها - إلا أن الأمر الحاسمَ لن يكونَ إلا بتبيُّن حقيقةِ هذا الأمر الجديدِ على حياته بالذهاب إلى وَرَقة بن نَوفَل ابن عمِّ خديجةَ: الذي كان قد تَنَصَّرَ فِي الجاهليةِ، وكان يكتبُ الكتابَ العربِيَّ، وكان شيخًا كَبِيرًا قد عَمِيَ؛ فقد يكونُ لَدَيه تفسيرٌ للحادثِ الجديدِ، بالنظرِ إلى ما تميَّز به عن بَنِي قومِه.
 
إن الطمأنةَ التي نَطَق بها ورقةُ كانت تَحمِل في طيَّاتِها مفاجأةً؛ فالحادث ليس من الجنِّ أو مما يَكرَه الإنسانُ حدوثَه، وإنما هو: "النَّامُوسُ الذي أُنزِلَ على موسى - صلى الله عليه وسلم"[10].
 
ولذلك فإنها تَبلُغ منتهاها حين يتمنَّى وَرَقة أن يَمُدَّ الله في عمره حتى يعيشَ الأحداثَ التي ستكون فارقةً بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قومِه، بقوله: "يا ليتنِي فيها جَذَعًا، يا ليتنِي أكونُ حَيًّا حين يُخرِجُكَ قَومُكَ"[11].
 
لقد اختَلَطت البشارةُ بالإنذارِ القائمِ على استشرافِ المستقبلِ في قلبِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أوَمُخرِجِيَّ هم؟))، قَالَ وَرقةُ: "نعم، لم يَأتِ رجلٌ قطُّ بما جئتَ به إِلا عُودِيَ، وإن يُدرِكْنِي يَومُكَ أَنصُرْكَ نَصرًا مُؤَزَّرًا".
 
فإذا تبيَّنت ملامحُ هذا المستوى العَقَدي الذي عاشه نبِيُّ اللهِ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - فإن التنميةَ العقديةَ التي تحقَّقت في قلبِه بتوجيهاتِ الوحي الكثيرة؛ حيث يقولُ الله - تعالى -: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [محمد: 19].
 
ويقول - عز وجل -: ﴿ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [يونس: 94].
 
ويقول - سبحانه -: ﴿ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾ [النمل: 6].
 
كان لها الأثرُ الحاسمُ في تحقيقِ تخليةِ القلب من كلِّ الوساوس والتخوُّفاتِ، وتحليتِه بكلِّ عناصر الطمأنينةِ والثباتِ، بعد أن تبيَّن - صلى الله عليه وسلم - من حقيقةِ المستجدَّات التي صار يعيشها.
 
د- اليقين:
وإذا كانت العقيدةُ تَحرِص على وصولِ أصحابِها إلى درجةِ اليقين؛ فإنها تَعتِرف لهم بمستوياتٍ فيه، وهي تُحبِّذ أن يكونوا في درجاتِه السامقةِ.


وقد أمدَّتنا عقيدةُ التوحيدِ بنماذجَ لهذا الأمرِ الجَلَل، منبِّهةً على الأطوارِ التي تَعبُرها التنميةُ العقديةُ لدى المرء، معلِنةً أن ما يُرجَى منه إنما يتمثَّل في استقرارِه في منطقة الذِّروَة والسَّنَام التي تُحِيل على "ألا معبودَ بحقٍّ إلا الله، ولا ربَّ يَستَحقُّ الحمدَ والشكرَ والثناءَ إلا هو".

ومن ذلك الأطوارُ التي نُحبِّذ أن نَقِف عليها مع موسى - عليه السلام - فقد قال الله - تعالى - في شأنه: ﴿ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [النمل: 7 - 9].

إن المفاجأةَ عظيمةٌ، وإن اللقاءَ قد تَمَّ مع جهةٍ ليس متوقَّعًا أن يتحقَّق معها، وإن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي يتكلَّم بذاك: ﴿ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [النمل: 9]؛ ولذلك، فإن أُفُقَ انتظارِ موسى - عليه السلام - سينفتِحُ على كلِّ احتمال؛ لأن الأمرَ تَكسُوه الجدَّة من كلِّ واجهاته.

ومن أكثرِ هذه المشاهدِ الجديدةِ تأثيرًا عليه أن يَرَى العصا التي أَلِفها سنواتٍ في رَعيِه وتَرحالِه ومَآربِه الأخرى متحوِّلةً عن طبيعتِها، لأن تَظهَر على صورةِ جانٍّ يَهتَزُّ اهتزازًا، فيُداخِله خوفٌ مُرِيب يَدفَعه لأن يَفِرَّ من المكان فرارًا غيرَ منتظَرٍ ممن كان متميزًا بقوةٍ تشبِه قوَّته.

والصورةُ تتحدَّد ٍ- بوضوح - من خلالِ قول الله  - تعالى -: ﴿ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النمل: 10، 11].

فالخوفُ الذي عَاشَه موسى متحقِّقٌ مشهودٌ به، وسببُه الأساسُ: هو جدةُ الموقفِ، وغرابةُ المشهدِ، وقوةُ تأثيرِ التحوُّلات المفاجئة.

ولكن حينما يَقطَع موسى - عليه السلام - في مدارجِ اليقينِ درجاتٍ، ويَعِيش موقفًا يفرض عليه خوفًا يَنتَابُه من حيث لا يَدرِي؛ فإن خوفَه لم يؤثِّر عليه حتى يفرَّ من المكانِ فلا يُعَقِّب، ولا سيما حينما وَقَف أمام السَّحَرة الذين جاؤوا بسحرٍ عظيمٍ، وسَحَروا أعينَ الناسِ واستَرهَبُوهم، وهو ما يَصِفه القرآن الكريم بقول الله - تعالى -: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: 65 - 69].
 
إلا أن التنميةَ العقديةَ لما تتحقَّق لدى نبِيِّ الله موسى - عليه السلام - وتقطع أشواطًا لا يداخلُها شكٌّ، ولا خوفٌ، ولا تردُّد؛ فيَصِير مؤمنًا بأن الفعَّال هو الله - سبحانه - وأنه هو الضارُّ والنافِع، وأن الأمرَ كلَّه بيده، فإنه لما كان ذاهبًا ببني إسرائيلَ تخليصًا لهم من فرعونَ وأهله، فرأى قومُه جيشَ فرعونَ يُلاحِقهم من ورائهم والبحرُ من أمامهم، قالوا: ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61].
 
والموقفُ في حقيقتِه الواقعيةِ لا يَتَنافَى مع ما صَدَر عن بني إسرائيلَ، الذين رأوا أن منافذَ الخلاصِ قد سُدَّت، فلا مناصَ من أن يكونُوا فَرائسَ لجيوشِ فرعونَ، إلا أن اليقينَ لما كان قد تَمَكَّن من شخصيةِ موسى - عليه السلام - فأُشربَت به بقوَّة عاليةٍ - صار يُؤمِن بأن حدودَ الفَهمِ المَنطقيِّ للواقعِ بربطِ الأسباب بالمُسَبِّبات تُتجاوزُ حين تتدخَّل قدرةُ الله - تعالى - الذي يَحصُر أمرَ التسييرِ والتدبيرِ لديه في قولِه: ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾؛ فنَطَق بهذه العباراتِ التي تبيِّن أن التنميةَ العقديةَ قد تحقَّقت لديه إلى أبعد حدٍّ، قائلاً: ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62].
 
إن هذا المستوَى اليقينيَّ الذي لا يَنشَدُّ إلى ما تَقتَضِيه نتائجُ ارتباطِ الأسبابِ بالمسبِّبات، هو ما عاشه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في موقفٍ حاسمٍ؛ فصار يَنطِق عن يقينٍ في أحلكِ الظروفِ وأشدِّها خيفةً على القلوب، ولا سيما بعد: انقطاعِ السُّبُل، وانعدامِ النصيرِ، واشتدادِ مكر العدوِّ، واجتماعِه عليه بالقضِّ والقَضيض؛ فقد روي عن أبي بكر - رضي الله عنه - قولُه: "قلتُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في الغار: لو أن أحدَهم نَظَر تحت قَدَميه لأبصرَنا، فقال: ((ما ظنُّك يا أبا بكرٍ باثنينِ الله ثالثُهما))!"[12].
وهو الأمر الذي يشهد له القرآن الكريم بقول الله تعالى: ﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ؛ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40].
 
إن حقيقةَ هذا القولِ لا تظهرُ بوضوحٍ إلا باستحضارِ الحالِ التي عاشها نبيُّ الرحمة - صلى الله عليه وسلم - حين بَدْءِ الوحي، كما أشرنا إليها سلفًا؛ حيث يتَّضحُ أن التنميةَ العقدية التي انتقل بها - صلى الله عليه وسلم - من حالٍ إلى حالٍ، آتت أُكلَها بعد أن أزيحَ عن القلبِ التخوُّفَ، وأُبعِدت عنه الهواجسُ.
 
هـ- الهجرة إلى الله تعالى:
تعدُّ الهجرةُ آليةً من الآلياتِ الرئيسةِ في تحقيقِ التنميةِ العقديةِ؛ ذلك لأنها تمكِّن المرءَ من عدمِ الاستمرار في التأثُّر بمعطياتِ الواقع المخالِف لما يتميَّز به معتقدُه، وتؤهِّله للاستقلالِ بأفكارِه عن أفكارِ الآخرين، وقد نبَّه القرآن الكريم إلى بعض مردوديات ذلك بقول الله - تعالى -: ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ﴾ [النساء: 100]، مُلِحًّا على الهجرةِ إلحاحًا تتبين حدَّتُه من تجريدِ غير المهاجرِ من ولايةِ المؤمنين؛ حيث يقول الله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾ [الأنفال: 72].


ومن المَشَاهد الممثِّلة لهذه الآليةِ في تاريخِ العقيدة الإسلاميةِ الموقفُ الذي أبداه نبِيُّ اللهِ إبراهيمُ - عليه السلام - حين يَئِس من قومِه ومما يعملون؛ فقال الله - تعالى - بشأنه: ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾[العنكبوت: 26].

وتنتقِلُ الهجرةُ إلى أن تَصِير مكونًا من المكوِّنات الرئيسةِ، التي يقوم عليها الاحتفاظ بالتميز العقدي الإيجابي؛ احتياطًا من الوقوعِ في الذوبانِ الذي يتهدَّد كثيرًا من الناس بفعلِ التأثُّر السلبي بما يَأتيه مَن يُخالِفهم العقيدةَ والإيمانَ.


وشَاهدُنا على هذا الأمرِ هو الموقفُ الذي اتَّخذه أصحابُ الكهفِ من قومِهم بعد أن أعلنوا إيمانَهم بربِّ العزة - سبحانه -: ﴿ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ﴾ [الكهف: 14]، محدِّدين الموقعَ الذي يستقرُّون فيه، بالمقارنةِ مع ما اختاره قومُهم، فقالوا: ﴿ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ [الكهف: 15].
 
فالمواقِع مختلفةٌ، والمعتقداتُ متباينةٌ، ولذلك فقد قرَّروا الهجرةَ من المكان ومفارقةِ مَن يَعمُره، فقالوا: ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ﴾ [الكهف: 16].
 
والذي يَظهَر أن الهجرةَ هنا ليست مطلوبةً لذاتِها، وإنما هي وسيلةٌ مُبلِّغةٌ لهدفٍ، يتمثَّل في طلب النجاةِ بالمعتقدِ؛ بُغيةَ الحفاظِ عليه وتنميته، وهو ما كان الفتيةُ يَستَشعِرونه في تحرُّكاتِهم وقراراتِهم؛ حيث أَبدَوا تخوُّفَهم من انعكاسات ظهور قومِهم المشركين عليهم، فقالوا: ﴿ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾ [الكهف: 20].

وهكذا يتَّضِح - مما أشرنا إليه من قبلُ - أن التنميةَ العقديةَ لا تُطلَب لذاتِها، وإنما تُطلَب من أجلِ الوصول إلى أهدافٍ ومرامٍ، يتقوَّى من خلالها ارتباطُ المرءِ بالله تعالى؛ بُغيةَ إقامةِ شرعِه على الأرض؛ فهمًا وتنزيلاً.


وحتى تتحقَّق التنميةُ على أحسنِ وجهٍ، فقد اتُّخذَت لها آلياتٌ ومراكبُ نرجو أن نكونَ قد وفِّقنا في رصدِها وتتبُّعِها من خلالِ ما وردَ في المحجَّة البيضاء؛ كتاب الله وسنة نبيه.

[1] التنمية في عالم متغير، دراسة في مفهوم التنمية ومؤشراتها، إبراهيم العيسوي، دار الشروق، القاهرة،   ط 2، 1420هـ، 2000، 18- 19

[2] نفسه، 28

[3] رواه الترمذي في  كتاب القدر عن رسول الله، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، 2066، وابن ماجة في  الدعاء، دعاء رسول الله، 3824، وأحمد في باقي مسند المكثرين، مسند أنس بن مالك، 11664.
وقال أبو عيسى: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

[4] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، تحقيق أحمد عبد العليم البردوني، دار الشعب، القاهرة، ط2، 1372هـ،، 4/ 299.

[5] نفسه، 4/ 301

[6] نفسه، 4/ 304

[7] نفسه

[8] - رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله، 231

[9] نفسه.

[10] نفسه.

[11] نفسه.

[12] رواه البخاري في كتاب المناقب، باب مناقب المهاجرين وفضلهم، 3380، ومسلم في فضائل الصحابة، من فضائل أبي بكر الصديق، 4389، والترمذي في تفسير القرآن عن رسول الله، ومن سورة التوبة، 3021، وأحمد في مسند العشرة  المبشرين بالجنة، مسند أبي بكر الصديق، 11.

شارك الخبر

المرئيات-١