أرشيف المقالات

الحرص على المال

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
الحرص على المال

الحرص على المال وحبُّه أمرٌ مشاهَد، تَلمَسه في نَفْس كل إنسان عاقل سويٍّ، نطق بذلك كتاب الله؛ قال سبحانه: ﴿ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 17 - 20]، وقال سبحانه: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 14، 15].
 
فبيَّن سبحانه للمسلم أن هناك ما هو خير من هذا المال؛ ذلك لأن الاستمرار في حب المال والحرص عليه يحمل المرءَ الضعيفَ إلى تَرْك كثير من الواجبات، والوقوع في كثير من المُحرَّمات، ويجعل صاحبَه مكروهًا منبوذًا؛ لأن الزاهد في الدنيا - وأبرز أنواع الدنيا المالُ - يكون محبوبًا، والمتعلِّق بها يكون مكروهًا؛ عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دُلَّني على عملٍ إذا عَمِلتُه أحبني الله وأحبني الناس، فقال: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس))؛ رواه ابن ماجه.
 
وقال تعالى عن الإنسان: ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ﴾ [العاديات: 8، 11].
 
وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46].
 
فالمؤمن يستجيب إلى الله ويؤثِر على المال ما هو خير؛ الجنة ورِضوان الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن لابن آدم واديًا من ذهب، لأحب أن يكون له وادٍ آخر، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلا الترابُ، ويتوب الله على مَن تاب)).
 
وفي رواية: ((لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلا الترابُ، ويتوب الله على مَن تاب)).
 
وفي رواية: ((لو أن ابن آدم أُعطي واديًا من ذهب، أَحبَّ إليه ثانيًا، ولو أعطي ثانيًا أحب إليه ثالثًا، ولا يَسُد جوفَ ابن آدم إلا الترابُ، ويتوب الله على مَن تاب)).
 
انظر: البخاري (6436 - 6437 - 6438 – 6439)، ومسلم (1048، 1049)، والترمذي 3898، وابن ماجه 4237.
 
المرء الذي أعطاه الله واديًا من ذهب يحب أن يكون له وادٍ آخر، ولو أعطاه واديًا ثانيًا لأَحَبَّ أن يكون له ثالث..
وهكذا لا يَشبَع، هذا شأنه حياتَه كلها، ولا يَقنَع بما آتاه الله؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما أيوب يَغتسِل عُريانًا خَرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يَحْثي في ثوبه، فناداه ربه - عز وجل -: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك))؛ رواه البخاري برقم 3391، وفي رواية: ((أما تَشبع؟ قال: يا رب ومَن يَشْبَع من رحمتك؟))، وانظر البداية والنهاية (1: 513).
 
يقول الشاعر:






نروح ونغدو لحاجاتنا
وحاجة من عاش لا تنقضي











إن رغبات الإنسان كثيرة، وحاجاته عديدة مُتنوِّعة، ومشاريعه وآماله كثيرة، والأجل قريب منه لا يُتيح له أن يُحقِّق هذه الآمال كلها، وقد عبَّر رسول الله عن هذا المعنى بصورة توضيحيَّة رائعة: فقد أخرج أحمد في المسند[1] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أصابعَه فوضعها على الأرض ثم قال: (هذا ابن آدم)، ثم رفعها فوضعها قبل ذلك قليلاً، وقال: ((هذا أجله))، ثم رمى بيده أمامه فقال: ((وثَمَّ أمله)).
 
وأخرج الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى حصاتين: إحداهما قريبة والأخرى بعيدة، وذكَر الأمل والأجل.
 
وعن بُريدة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل تَدْرون ما مَثَل هذه وهذه؟))، ورمى بحصاتين، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((هذاك الأمل، وهذا الأجل))؛ رواه الترمذي (2870).
 
وعن أنس رضي الله عنه قال: خطَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطوطًا، فقال: ((هذا الأمل وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب))؛ رواه البخاري (6418).
 
إن هذا المال الذي يَحرِص عليه الإنسان ويتْعَب في جَمْعه، ليس له منه إلا ما قدَّمه في مرضاة الله، ويكون الباقي للوَرَثة، يقول صلى الله عليه وسلم: ((يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا بن آدم إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبست فأبليت، أو تصدَّقت فأمضيتَ؟!))؛ رواه مسلم (2958).
 
وإفسادُ الحرص على المال للدين إفسادٌ كبير، صوَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة الرائعة: هناك قطيع من الغنم في زريبة وليس لها راعٍ ولا حارس، جاءها ذئبان جائعان، مضى عليهما عدة أيام لم يذوقا شيئًا، فكيف يكون فتْكهما في هذه الأغنام؟ إنه سيكون فتكًا كبيرًا.
 
يقول صلى الله عليه وسلم: ((ما ذئبان جائعان أُرسِلا في غنم بأفسدَ لها من حِرْص الرجل على المال والشرف لدينه))؛ رواه الترمذي (2376).
 
وهذا الحرص على المال عام في كل الناس؛ كبيرهم وصغيرهم، وفقيرهم وغنيهم، وصالحهم وفاسقهم، فلنَحْذر من مخاطر هذا الحرص، إنه يأمر بالبخل؛ فيمنع صاحبَ المال من أن يؤدي حقَّ الله فيه، وأن يُعطي الفقراء ما جعل الله لهم في هذا المال من حق، ويُزيِّن له أن يحصل على المال ولو كان حرامًا عن طريق السرقة أو الرِّشوة أو أكل مال اليتيم وما إلى ذلك، وهذا الحرص في الناس جميعًا، وهو أيضًا في المسنين الشيوخ، فقد قرَّر صلى الله عليه وسلم أن قلب الشيخ المسنِّ يبقى شابًّا على حب الحياة والحرص على المال والاستكثار منه، يقول صلى الله عليه وسلم: ((قلب الشيخ شابٌّ على حب اثنتين: طول الحياة، وكثرة المال))؛ رواه البخاري 6420 ومسلم 1046 وابن ماجه 234 والترمذي 2339 و2455.
 
وقال البخاري في باب الأمل وطوله: وقول الله تعالى: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]، وقوله سبحانه: ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر: 3]، وقال علي بن أبي طالب: ارتحلت الدنيا مُدبِرة، وارتحلت الآخرة مُقبِلة، ولكل واحد منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل..
(انتهى كلام البخاري).
 
وإنها لموعظة بليغة، وهي موجَّهة إلى الأغنياء في كل حين.
 
إن إخواننا من أهل السُّنة في الشام والعراق في أشدِّ الحاجة إلى المعونة، فلا يحملنا الحرص على المال أن نَبخَل عليهم، إن الشيطان يَعِد المسلمين بالفقر؛ قال تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268].
 
إن الصدقة وإنفاق المال في سبيل الله والعمل الصالح هو الذي يكون مع المرء ويتْبعه عندما يموت.
 
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يتْبَع الميتَ ثلاثةٌ: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان، ويبقى عمله))؛ رواه البخاري 6514 ومسلم 1805.
 
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: قوله: ((يتْبَع الميت ثلاثة)) هذا يقع في الأغلب، ورُبَّ ميت لا يَتْبعه إلا عمله فقط، وجاء في حديث البراء عند أحمد وغيره في صفة المسألة في القبر: ((ويأتيه رجل حَسَن الوجه، حسن الثياب، حسن الريح، فيقول: أَبْشِر بما يَسُرُّك، فيقول: مَن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح))، وقال في حق الكافر: ((سيأتيه رجل قبيح الوجه، يقول: أبشر بما يسوءك..
فيقول: مَن أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث)
)
[2].
 
يا مسلمون، تنبَّهوا وسارعوا إلى عملِ الخير، وتذكَّروا قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 9 - 11].



[1] مسند أحمد (3: 123).


[2] فتح الباري: 11/365 - 366.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢