الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها [4]


الحلقة مفرغة

الرد على الإساءة إلى الإسلام عبر الوسائل الإعلامية

بسم الله الرحمن الرحيم.

مشاهدينا الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم (حراسة العقيدة).

منذ أن شع نور الإسلام تكالب الأعداء عليه بين مسفه ومكذب وحاقد وحاسد، وتوالى الهجوم على كل من اقتفى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه أصحاب المذاهب الضالة سهامهم إلى منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة، لذا نجد العقلانيين في زماننا هذا يحذون حذوهم بتشكيك في أصول الإسلام، وهجوم على أتباع الحق.

وفي هذا اللقاء نحاول الإجابة على الدعاوى التي يطرحها أرباب الاتجاهات العقلانية المعاصرة.

فهل أهل السنة والجماعة مختلفون في ثوابت الدين؟

وهل عقيدة السلف لها مشارب متعددة؟

وهل وصف أهل السنة والجماعة وصف لا أصل له؟

وهل مذهب السلف محصور فيما يسمونه بالوهابية أو الحنابلة؟

بداية -مشاهدينا الكرام- أرحب بضيف البرنامج الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

أهلاً ومرحباً بكم فضيلة الشيخ!

الشيخ: مرحباً بك -أستاذ تركي - وبالمشاهدين.

المقدم: نرحب بكم -مشاهدينا الكرام- مرة أخرى.

شيخنا الكريم! وردت علينا عن طريق منتديات الصفوة في النافذة الخاصة بحراسة العقيدة بعض الاقتراحات، وبعض التساؤلات.

فهذه إحدى الأخوات ترحب بهذا البرنامج، وتذكر أن هناك من تعمد الإساءة إلى عقيدة الإسلام في الصحف، وفي بعض المجلات، وفي مواقع الإنترنت أيضاً، وتقترح أن يكون للشيخ ناصر العقل مكان في إحدى الصحف للرد التأصيلي على هذه الشبهات، وهذه الأشياء التي يتناقلها أناس غير متخصصين.

الشيخ: على أي حال هي طلبت واجباً، وأنا لا أعتذر، ولكني أجدني مشغولاً بأمور هي أولى بالنسبة لي؛ لوضعي كأستاذ في الجامعة، وعندي كثير من الأمور الملزمة، فأرجو -إن شاء الله- أن أتمكن من تحقيق بعض هذا المطلب، وأنا لست وحدي في الساحة، فهذا الاقتراح يجب أن يكون مطروحاً على جميع المتخصصين، وأنا لا أتنصل من المسئولية.

المقدم: وأنت من كبار المتخصصين في هذا المجال.

الشيخ: على أي حال نسأل الله الإعانة، فهو اقتراح وجيه، ومحل تطبيق إن شاء الله.

التفصيل في مسائل العقلانية والليبرالية ونحوهما

المقدم: هنا أخ آخر يقترح نفس الاقتراح، وهو معجب بالبرنامج، ومعجب بطرحكم حفظكم الله، ويقول: هل ستناقشون مسائل عقلانية ولبرالية وتنويرية وعصرانية؟ يقول: نريد أشياء مفصلة في هذا الباب.

الشيخ: علي أي حال فإننا في مثل هذه الحلقات لا نزال نناقش، لكن الوقت لا يتسع لمناقشة تفصيلية؛ ولذلك ركزنا -ولا نزال نركز- على الأصول والمناهج والضوابط العامة، أما الدخول في التفاصيل فهذا أمر لا ينتهي.

هذا إن كان يقصد الطرح من خلال هذا البرنامج وأمثاله، وأما إن كان يقصد الطرح المكتوب أو المشاركات الأخرى أو الدورات العلمية والمحاضرات، فهذا -ولله الحمد- حاصل، ولكن يحتاج إلى شيء من الدفع الإعلامي والنشر، ونسأل الله أن يعين على ذلك.

المقدم: هو يسأل فيقول: هل اللبراليون هم منافقو هذا الزمان؟

الشيخ: الكلام في مثل هذه الأمور حساس، وإذا نظرنا إلى المفهوم العام للنفاق، فإنه يدخل فيه النفاق الخالص الذي لا يعلمه إلا الله، وإذا نظرنا إلى هذه الاتجاهات على مختلف طرائقها ومناهجها ومختلف أطيافها التي هي العقلانية والحداثة والعصرانية والتجديد بالمعنى السلبي، وكذلك العلمنة، واللبرالية وغيرها، سنجدها كلها يجمعها منهج واحد يشكل أصلاً من أصول النفاق.

لكن لا يلزم أن يكون كل فرد من أصحاب هذه الاتجاهات متهماً بالنفاق، فهذا أمر صعب.

المقدم: وقد أكدت -يا شيخ- من بداية الحلقات -وما زلت تؤكد- على أننا في هذا البرنامج سنطرح ونناقش المسألة كمفاهيم عامة، دون تنزيلها على أناس معينين.

الشيخ: ولا على تيارات؛ لأنها تختلف.

وأذكر بأن هذه المسميات يجمعها وصف النفاق في السابق، إنما التغير الآن تغير مصطلحات وشعارات.

الإعلان للبرنامج وكتابة محتواه خطياً

المقدم: يقترح الأخ أن يكون هناك إعلان للبرنامج، وبناءً على هذا الاقتراح رفعنا ذلك لإدارة البرامج، وإن شاء الله سينفذ.

كما يقترح اقتراحاً آخر، وهو اقتراح بناء أيضاً، وهو كتابة الحلقات خطياً، وهذا الاقتراح نرحب به ونتمنى من الإخوة والأخوات في منتديات الصفوة ومن المشاهدين أن يتبنوا مثل هذه المشاريع؛ لأن المشايخ والعلماء مشغولون بأشياء كثيرة وبأعباء كثيرة، ولا يساعدهم الوقت على متابعة مثل هذه الأمور.

وسنتابع كل من يكتب هذه الحلقات عن طريق منتديات الصفوة، وسنعرضها على الشيخ بإذن الله تعالى؛ حتى يؤيدها الشيخ، أو يعدل ما يشاء فيها.

الشيخ: جزاكم الله خيراً، وأنا مستعد لأبذل ما أستطيعه، لكن كتابة الحلقات: ليس عندي لها وقت.

المقدم: هناك اقتراح آخر يقول: نتمنى أن تكون لكم زاوية خاصة في إحدى الصحف لمناقشة هذه القضايا، وسبق الجواب على ذلك منكم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

مشاهدينا الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم (حراسة العقيدة).

منذ أن شع نور الإسلام تكالب الأعداء عليه بين مسفه ومكذب وحاقد وحاسد، وتوالى الهجوم على كل من اقتفى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه أصحاب المذاهب الضالة سهامهم إلى منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة، لذا نجد العقلانيين في زماننا هذا يحذون حذوهم بتشكيك في أصول الإسلام، وهجوم على أتباع الحق.

وفي هذا اللقاء نحاول الإجابة على الدعاوى التي يطرحها أرباب الاتجاهات العقلانية المعاصرة.

فهل أهل السنة والجماعة مختلفون في ثوابت الدين؟

وهل عقيدة السلف لها مشارب متعددة؟

وهل وصف أهل السنة والجماعة وصف لا أصل له؟

وهل مذهب السلف محصور فيما يسمونه بالوهابية أو الحنابلة؟

بداية -مشاهدينا الكرام- أرحب بضيف البرنامج الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

أهلاً ومرحباً بكم فضيلة الشيخ!

الشيخ: مرحباً بك -أستاذ تركي - وبالمشاهدين.

المقدم: نرحب بكم -مشاهدينا الكرام- مرة أخرى.

شيخنا الكريم! وردت علينا عن طريق منتديات الصفوة في النافذة الخاصة بحراسة العقيدة بعض الاقتراحات، وبعض التساؤلات.

فهذه إحدى الأخوات ترحب بهذا البرنامج، وتذكر أن هناك من تعمد الإساءة إلى عقيدة الإسلام في الصحف، وفي بعض المجلات، وفي مواقع الإنترنت أيضاً، وتقترح أن يكون للشيخ ناصر العقل مكان في إحدى الصحف للرد التأصيلي على هذه الشبهات، وهذه الأشياء التي يتناقلها أناس غير متخصصين.

الشيخ: على أي حال هي طلبت واجباً، وأنا لا أعتذر، ولكني أجدني مشغولاً بأمور هي أولى بالنسبة لي؛ لوضعي كأستاذ في الجامعة، وعندي كثير من الأمور الملزمة، فأرجو -إن شاء الله- أن أتمكن من تحقيق بعض هذا المطلب، وأنا لست وحدي في الساحة، فهذا الاقتراح يجب أن يكون مطروحاً على جميع المتخصصين، وأنا لا أتنصل من المسئولية.

المقدم: وأنت من كبار المتخصصين في هذا المجال.

الشيخ: على أي حال نسأل الله الإعانة، فهو اقتراح وجيه، ومحل تطبيق إن شاء الله.

المقدم: هنا أخ آخر يقترح نفس الاقتراح، وهو معجب بالبرنامج، ومعجب بطرحكم حفظكم الله، ويقول: هل ستناقشون مسائل عقلانية ولبرالية وتنويرية وعصرانية؟ يقول: نريد أشياء مفصلة في هذا الباب.

الشيخ: علي أي حال فإننا في مثل هذه الحلقات لا نزال نناقش، لكن الوقت لا يتسع لمناقشة تفصيلية؛ ولذلك ركزنا -ولا نزال نركز- على الأصول والمناهج والضوابط العامة، أما الدخول في التفاصيل فهذا أمر لا ينتهي.

هذا إن كان يقصد الطرح من خلال هذا البرنامج وأمثاله، وأما إن كان يقصد الطرح المكتوب أو المشاركات الأخرى أو الدورات العلمية والمحاضرات، فهذا -ولله الحمد- حاصل، ولكن يحتاج إلى شيء من الدفع الإعلامي والنشر، ونسأل الله أن يعين على ذلك.

المقدم: هو يسأل فيقول: هل اللبراليون هم منافقو هذا الزمان؟

الشيخ: الكلام في مثل هذه الأمور حساس، وإذا نظرنا إلى المفهوم العام للنفاق، فإنه يدخل فيه النفاق الخالص الذي لا يعلمه إلا الله، وإذا نظرنا إلى هذه الاتجاهات على مختلف طرائقها ومناهجها ومختلف أطيافها التي هي العقلانية والحداثة والعصرانية والتجديد بالمعنى السلبي، وكذلك العلمنة، واللبرالية وغيرها، سنجدها كلها يجمعها منهج واحد يشكل أصلاً من أصول النفاق.

لكن لا يلزم أن يكون كل فرد من أصحاب هذه الاتجاهات متهماً بالنفاق، فهذا أمر صعب.

المقدم: وقد أكدت -يا شيخ- من بداية الحلقات -وما زلت تؤكد- على أننا في هذا البرنامج سنطرح ونناقش المسألة كمفاهيم عامة، دون تنزيلها على أناس معينين.

الشيخ: ولا على تيارات؛ لأنها تختلف.

وأذكر بأن هذه المسميات يجمعها وصف النفاق في السابق، إنما التغير الآن تغير مصطلحات وشعارات.

المقدم: يقترح الأخ أن يكون هناك إعلان للبرنامج، وبناءً على هذا الاقتراح رفعنا ذلك لإدارة البرامج، وإن شاء الله سينفذ.

كما يقترح اقتراحاً آخر، وهو اقتراح بناء أيضاً، وهو كتابة الحلقات خطياً، وهذا الاقتراح نرحب به ونتمنى من الإخوة والأخوات في منتديات الصفوة ومن المشاهدين أن يتبنوا مثل هذه المشاريع؛ لأن المشايخ والعلماء مشغولون بأشياء كثيرة وبأعباء كثيرة، ولا يساعدهم الوقت على متابعة مثل هذه الأمور.

وسنتابع كل من يكتب هذه الحلقات عن طريق منتديات الصفوة، وسنعرضها على الشيخ بإذن الله تعالى؛ حتى يؤيدها الشيخ، أو يعدل ما يشاء فيها.

الشيخ: جزاكم الله خيراً، وأنا مستعد لأبذل ما أستطيعه، لكن كتابة الحلقات: ليس عندي لها وقت.

المقدم: هناك اقتراح آخر يقول: نتمنى أن تكون لكم زاوية خاصة في إحدى الصحف لمناقشة هذه القضايا، وسبق الجواب على ذلك منكم.

دعوى تعدد مشارب عقيدة أهل السنة ومصادرها

شيخنا الكريم! النقاش في هذه الحلقة عن مواقف الاتجاهات العقلانية المعاصرة من عقيدة السلف أهل السنة والجماعة.

بداية دعني أسألك: هل عقيدة السلف متعددة المشارب؟ أي: هل مصادرها متعددة؟

الشيخ: الحقيقة أن هذه دعوة يثيرها كثيرون، ولعل أول من أثارها بشكل مقنن -إن صح التعبير- هم المستشرقون، فالمستشرقون يرون أن الإسلام كله خليط من مشارب اليهودية والنصرانية والمؤثرات البيئية، وأن الإسلام استفاد مما عند العرب، سواء الجانب العقدي والجانب الأخلاقي والجانب التعاملي، ومما عند غير العرب من الأمم المجاورة، فزعموا أن الإسلام خليط من عدة مشارب، وهذا الزعم نفسه تبناه كثير من أصحاب الاتجاهات الفكرية والعقلانية منذ زمن، وأصحاب الأفكار العصرانية خاصة، فهم يزعمون أن منهج السلف هو نتيجة مؤثرات كثيرة، من ضمنها المؤثرات الشخصية، أي: نزعات الأشخاص الذين هم أئمة السلف.

ثم يقولون أيضاً: هو نتيجة تأثير البيئة، أي: ما عند الناس من تقاليد وأعراف، سواء العرب والعجم الذين دخلوا في الإسلام، ونظراً لأنهم لا يفرقون بين عقيدة السلف الصافية وبين عقائد المتكلمين -وأحياناً يخلطون بينهما- زعموا أن العقيدة تطورت من خلال التاريخ، والتطور في سنن الحياة وفي العلوم الاجتهادية وفي البحوث العلمية البحتة كائن، لكن العقائد ليس فيها تطور.

المهم أنهم زعموا أن عقيدة السلف -كغيرها- تطورت فتأثرت بالمؤثرات البيئية والجغرافية والسياسية، وبتدخل السلاطين، وبتدخل الأهواء والفلسفات.. إلى آخره، فشكلت خليطاً بزعمهم، وهذا عن من يحسن منهم النظرة إلى عقيدة السلف، فيزعم أن عقيدة السلف شكلت خليطاً من هذه المؤثرات، وهذا كله جهل، فعقيدة السلف -والمقصود بها الثوابت- ليس لها مصدر إلا الكتاب والسنة، أي: الوحي المعصوم.

المقدم: هل مع المستشرقين حق في قولهم: إن الإسلام استفاد من الأديان السابقة، اليهودية والنصرانية؟

الشيخ: هم يستغلون بعض وجوه التشابه في الديانات؛ ليجعلوها برهاناً لهم على تأثر الإسلام، بتلك الديانات، وهذا راجع إلى أنهم لا يؤمنون بالإسلام أصلاً، ومن ناحية أخرى: لا يفقهون الدين، وقد يكون عندهم معلومات، ولكنها معلومات لا تنظمها قواعد، بل تنظمها منطلقاتهم الشخصية، كل واحد منهم له منطلق شخصي ديني وبيئي وعقلي، أعني: المستشرقين.

وكذلك من أخذوا بمنهجهم من المستغربين الذين هم العقلانيون، فهؤلاء ينطلقون من خلفيات معينة ومن قناعات معينة ومن قلة الفقه في الدين.

إنَّ الإسلام عقيدة وشريعة، فالعقيدة هي عقيدة الأنبياء جميعاً، ولذلك يوجد في العقيدة الإسلامية ما هو موجود في البقية الباقية في التوراة والإنجيل، فهما محرفان، لكن يوجد فيهما إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعثته، ويوجد فيهما إشارة إلى الإيمان بالبعث، ويوجد فيهما إشارة إلى بعض الإلهيات.

المقدم: الوصايا العشر؟

الشيخ: الوصايا العشر وغيرها، يوجد بعض الحق في التوراة والإنجيل قرره الإسلام على وجه أصفى وأكمل، وبعيد عن الغبش والخلط، فظنوا أن هذا الاقتران والتشابه يعني الاستمداد، والحال أن النبي صلى الله عليه وسلم ما استمد شيئاً إلا مما أوحى به إليه ربه عز وجل، فهذا نوع من اللبس والالتباس والتلبيس حيث لبسوا على الناس بحكم وجود وجوه التشابه، حتى فيما يتعلق بالأخلاقيات وبعض الأحكام، بل حتى فيما يتعلق بمشابهة الفقه الإسلامي لبعض الدساتير أو الأنظمة الوضعية من بعض وجوه التشابه، فجعلوه وسيلة أو ذريعة للقول بأن الإسلام خليط من مصادر شتى.

المقدم: هل تأثر منهج السلف مع الهجمة الفلسفية في عهد المأمون وما تبعه من العصور بالمناهج الكلامية والفلسفية؟

الشيخ: لا، فالسلف لا يملكون أن يجددوا في ثوابت الدين شيئاً، السلف الصالح يتميز منهجهم في العقيدة بأنهم أخذوا بمنهاج النبوة، لا يزيدون ولا ينقصون، ولا أحد يملك أن يزيد أو ينقص في العقيدة السلفية، عقيدة أهل السنة والجماعة؛ لأنها هي الحق، وهي الإسلام الذي ثبت بخصائص الثوابت نفسها، لذا لا يمكن أن يتصور هذا عقلاً ولا شرعاً من أجل أن نقول مثل هذه المقالة، فعقيدة السلف عبارة عن ثوابت لا دخل لاجتهادات السلف فيها فضلاً عن غيرهم.

الرد على دعوى تعدد مصادر ومشارب عقيدة أهل السنة

المقدم: القضية مثلاً بشيء من التفصيل دعواهم أن عقيدة السلف لها مشارب متعددة ولها مصادر مختلفة، ما هي طريقة الرد عليها بشكل مجمل؟

الشيخ: ينبغي أولاً أن تعرف أسباب هذا التصور عندهم؛ لأنه إذا عرفنا سبب قولهم هذا القول، وعلى أي أساس بنوا ذلك؛ هدمنا أصولهم بقواعد الحق.

الأمر الثاني: أننا نحتاج إلى أن نشيع التأصيل الشرعي الذي يجهلونه هم ويجهله كثير من الناس، بل كثير من أجيال أهل السنة والجماعة المتأخرين من الشباب يجهلون هذه الثوابت؛ لأنهم لم يتلقوها بشكل منهجي يقاوم الغزو الذي استهدف العقيدة.

فأنا أقول: هؤلاء يرد عليهم بالتذكير بثوابت الحق، أي: ما هي مصادر الدين؟ ثم ما هو المنهج؟

فحينما نقول: ما هي مصادر الدين؟ نقول: هي الكتاب والسنة، ثم نأتي بالأدلة التي دلت على أنه لا يجوز استمداد الدين من غير الوحي من القرآن والسنة بدلالاتهما ومعرفة كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين ذلك وكيف كان يطبقه.

فالنبي صلى الله عليه وسلم كان بين للصحابة ورباهم على ألا يتلقوا الدين من غير الوحي.

وقد حدثت حادثة هي عبارة عن رسم للمنهج، وعبارة عن حماية للمنهج، هي حادثة اطلاع عمر رضي الله عنه أمام النبي صلى الله عليه وسلم على صحيفة من التوراة، فالنبي صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً، حتى لفت ذلك أنظار الصحابة، فالتفتوا إلى عمر ، فلما أدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب؛ عرف أنه أخطأ، وأنه يخشى أن يخلط، وأن هذا منهج، مع أن عمر -وهو عمر في فقهه- لا يتصور منه أن يتأثر مثل تأثر الناس اليوم، ومع ذلك سد النبي صلى الله عليه وسلم باب الاستمداد من أي مصدر آخر في ثوابت الدين حماية لجناب الدين وثوابت الحق.

أما الاستدلال في العلوم الاجتهادية فنعم.

دعوى عدم اتفاق السلف على الثوابت

المقدم: من الدعاوى التي نسمعها أحياناً أن هؤلاء المدعين يقولون: إن السلف لم يتفقوا على الثوابت الشرعية.

الشيخ: هذا جهل كذلك، ولا نستغرب أن يكون هذا الجهل من أصحاب هذه الاتجاهات؛ لأنهم لم يفقهوا الدين، ولم يعرفوا عقيدة السلف بالشكل الذي يجعلهم يعرفون قيمتها، لكن المؤسف أن هناك ممن ينتسب للعلم الشرعي من قد يجاري من غير تبصر بهذه الشبهة، فقد يقول: مساحة الثوابت قد تتفاوت. وهذا خطير، فالثوابت بمعناها الشرعي الدقيق هي أصول الدين وقواطعه ومسلماته، أركان الدين وفرائضه وواجباته الأساسية، ليس فيها زيادة ولا نقص، ولا تختلف مساحة الإيمان بها بين عالم وآخر من علماء السلف، وقد يوجد من غير المنتسبين للسلف من يشكك، وهذا أمر طبيعي؛ لأنه لا يعرف الثوابت أو لا يؤمن بها، وليس عنده الأسس التي كان ينطلق منها السلف.

وقد يوجد من علماء السلف من يزلُّ زلة، والزلة لا اعتبار لها، لكن إذا نظرنا إلى عموم المنهج نجد أنهم لا يختلفون في الثوابت، ولا يختلفون في الأصول وفي القطعيات إطلاقاً، لا يختلفون في مصادرها ولا في قطعيتها، فمن هنا كان لا بد من استدراك أخشى أن أنساه، وهو الذي يتذرع به هؤلاء الذين يثيرون الشبه على السلف وعقيدة السلف، ويقولون: إنهم لا يتفقون على شيء، أو إن مساحة الاتفاق قد تقل وتكثر.

أقول: هؤلاء -في الحقيقة- يستدلون بأشياء تدل على قصورهم في إدراك الجانب المنهجي الدقيق والموضوعي عند السلف.

فكثيراً ما يستدلون على مقولتهم بأن السلف اختلفوا في كتب العقائد في كثير من المسائل، والحظ التحديد أو الإحالة على كتب العقائد، فهذا الأمر يوهم كثيراً من الناس، فما دام أن في كتب العقائد اختلافات؛ فمعنى ذلك أن هناك اختلافاً في الثوابت.

ومن هنا فلا بد من وقوف عند هذه النقطة بوقفة ضرورية من عدة جوانب:

الجانب الأول: ليس كل ما يكتبه السلف في كتب العقائد هو من الثوابت، فهم في كتب العقائد يميزون بين الثوابت وغير الثوابت، هذا أولاً.

ثانياً: المسائل التي يختلفون فيها في كتب العقيدة هي مسائل خلافية فعلاً، لكنها ليست الأصول، فهي متفرعة، فدخلت في كتب العقائد لأنها متفرعة عن العقائد وخذ على سبيل المثال في المسلمات عند السلف أركان الإيمان، فهي من الثوابت عند السلف، لا يشكون فيها، وقد يقول قائل: هل هناك من العقلانيين من يشك في أركان الإيمان؟ فأقول: نعم.

المقدم: عجيب!

الشيخ: فإذا كان يقول: الملائكة هي نوازع الخير، وليس هناك خلق اسمه الملائكة فإنه ما آمن بالملائكة.

المقدم: وهل هذا الكلام موجود؟

الشيخ: نعم، هو مذهب واسع يؤمن به عدد وفئام من الناس، وليس مذهباً قليلاً أو نادراً عندهم، يرون أن الملائكة نوازع الخير، وهذه نزعة فلسفية، فهؤلاء ما آمنوا بالملائكة.

الأمر الآخر: أنهم يسخرون من وصف الملائكة بصفات خَلْقية.

المقدم: عجيب!

الشيخ: أي نعم، يسخرون سخرية واضحة.

ومن الغيبيات القطعية: الإيمان بالجن، وأحد كبار المعاصرين يرى أنه ليس هناك شيء اسمه جن، فالجن ما هم إلا مستضعفو البشر، وهذا معناه أن الفقراء عندهم جن، والمستضعفون من الناس جن، والشياطين هم الكبراء من بني آدم.

وهذا مذهب يحتذى الآن، مع أن ذلك من الثوابت عند السلف، فهم خرقوا هذه الثوابت بشبهات.

فالشاهد من هذا أنه توجد مسائل يختلف فيها السلف هي تابعة للعقيدة.

المقدم: مثل ماذا؟

الشيخ: لهذا أمثلة كثيرة، فالسلف حينما أثبتوا الإيمان بالملائكة اختلفوا في كتب العقائد في هل هناك ملكان اسمهما منكر ونكير، فـ (منكر ونكير) لم يردا في نص، بل ذكرا في نصوص ضعيفة، فاختلفوا في اسم منكر ونكير، ولم يختلفوا في الملكين اللذين يأتيان العبد في القبر.

ومن ذلك ملك الموت، قيل: إن اسمه عزرائيل، وجاء الخلاف فيه في كتب العقائد، فهو اسم لم يثبت، وثبت اسم إسرافيل وجبريل وميكائيل، وأما عزرائيل فلم يرد في نص قاطع، فهذه أمثلة في الإيمان بالملائكة.

والإيمان بالرسل تتفرع عن الثوابت الموجودة فيه والقواعد القطعية مسائل، كمسألة الخضر؛ فقد دخل في كتب العقائد الخلاف في الخضر هل هو نبي أو غير نبي، وهذا الخلاف لا يضر؛ لأنه لا يوجد نص قطعي، فلا يضر ولا يؤثر في مبدأ الإيمان بالملائكة.

وخذ مثالاً غير أركان الإيمان الستة، ولنأخذ الرؤية مثلاً، أي: رؤية العباد لربهم عز وجل يوم القيامة في الجنة بأبصارهم، نسأل الله أن يمتعنا جميعاً بهذا.

فالرؤية متفق عليها؛ لأن فيها نصوصاً قواطع، ونصوصاً متواترة، وآيات قاطعة في الدلالة، لكنهم اختلفوا في مسائل في الرؤية؛ لأن الدليل فيها غير واضح، أو لم يثبت، أو أن دلالته غير قطعية، مثل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المعراج، فهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينه أم بفؤاده؟

هذه محل خلاف، لكن أصل الرؤية ثابت.

وهكذا لا تجد أصلاً من الأصول القطعية إلا وله حد لا يختلف فيه السلف، وهناك ما دون هذا الحد مما يختلفون فيه من المسائل التي تفرعت عن هذا.

فأخذ هؤلاء المفتونون -نسأل الله السلامة- مثل هذه المسائل وظنوا أنها ترجع إلى الاختلاف في الأصول، وهذا جهل، وبعضهم لا يجهل، بل يتعمد التخليط.

المقدم: لماذا يتعمد؟

الشيخ: لأن الله عز وجل قال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، فالله عز وجل الخبير بقلوب العباد أخبر أن هناك فئة من العباد تفعل ذلك، تخوض في مقتضى الأدلة الشرعية على هذا النحو، بالتلبيس والتقاط جوانب الإشكالات التي تكون عندهم ذريعة لضرب الثوابت.

بيان المقصود بمصطلح السلف وأهل السنة والجماعة

المقدم: اسمح لي أن أرجع خطوات قليلة إلى الوراء قبل أن ننتقل إلى النقطة التي تليها في الدعاوى، فإنه يسمع كثيراً عبارة (السلف)، فما المقصود بالسلف؟

الشيخ: ينبغي أن نؤصل هذه الكلمة من النصوص.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الافتراق، وذكر الأهواء، وذكر الاختلاف؛ أوصى بوصايا، فهو أخبر أن الافتراق سيقع حتماً، وأن هناك طوائف من الأمة هم من المسلمين، لكنهم ارتكبوا البدع وركبوا الأهواء؛ فخرجوا عن السنة، فأوصى بوصية القرآن، وهي اتباع سبيل المؤمنين، فالله عز وجل قال: وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء:115].

وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الاختلاف، فذكر المشاقة التي ستكون من بعض الطوائف، فقال في الحديث الصحيح: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)، وفي بعض ألفاظ حديث الافتراق قال: (عليكم بالجماعة)، وقال: (إياكم والفرقة)، وقال: (إن يد الله مع الجماعة).

فهنا أوصى وصايا قطعية بالسنة وأوصى بالجماعة، إذاً: عندنا توجيه ووصية من النبي صلى الله عليه وسلم ثمينة، هي أنه إذا وقع الاختلاف والافتراق فلنسلك سبيل السنة والجماعة، فمن هم أهل السنة والجماعة؟

لقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من كان على ما أنا عليه وأصحابي)، فتحددت الخطوة الثالثة؛ لئلا يدعي أي مبتدع بأنه على السنة، فنقول: السنة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هؤلاء الذين هم أهل السنة والجماعة هم أئمة الهدى الذين شقوا الطريق من قبلنا، بمعنى أنهم سلفوا، فتسمية (السلف) تسمية تاريخية واصطلاحية، وإلا فهم أهل السنة والجماعة.

فالسلف وصف وليس اسماً؛ لأنهم سبقوا على طريق الهدى، وسبقونا على منهاج النبوة؛ ولأنهم -أيضاً- رسموا لنا طريق الاتباع والاهتداء والاقتداء، فهم المرجعية لنا، ونظراً لأنهم سلفونا وسبقوا في الزمن وصفوا بالسلف، لكن اسمهم: أهل السنة والجماعة.

المقدم: هل يقيد بالقرون الثلاثة الأولى المفضلة، أم أنه مطلق لكل من سبقنا؟

الشيخ: لا يقيد إلا من حيث الأفضلية، فإذا قيل: من هم أول قدوة في السلف؟ نقول: الصحابة ثم القرون الفاضلة، ثم كل من سلك هذا السبيل فهو سلفي.

إذاً: المسألة مسألة أولويات وأخرويات تاريخية فقط.

دعوى ابتداء الافتراق في عصر الصحابة

المقدم: من الدعاوى -يا شيخ ناصر - التي يقولونها: أن هؤلاء الصحابة الذين أنتم تنادون باتباعهم والسير على نهجهم كان أول افتراق في عصرهم.

الشيخ: نعم، أول افتراق كان في عصرهم، لكن يجب أن نفهم جيداً أن الصحابة رضي الله عنهم ليسوا هم السبب في الافتراق، هذا أولاً.

ثانياً: لم يكن منهم رأس في الافتراق.

وبعبارة أدق: لم يكن من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فارق الجماعة ببدعة أو بمنهج يتعلق بمصالح الأمة العظمى، بمعنى أنه لم يخرج عن السنة من الصحابة أحد، وإنما اختلفوا في الاجتهاديات.

المقدم: كيف نفسر الخلاف بين علي رضي الله عنه ومعاوية ، وما حصل بينهما من اقتتال؟

الشيخ: كل خلاف بين الصحابة كان في الاجتهاديات، حتى قتالهم كان اجتهاداً فيه المخطئ وفيه المصيب، ولا يعدم كل منهم من الأجر أو الأجرين كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فهم مجتهدون، ولم يكن في الصحابة من يعتبر قدوة لأهل البدع والأهواء والافتراق على الإطلاق، ولذلك كان ظهور الخوارج والشيعة في عهد الصحابة، ثم كان ظهور القدرية في عهد متأخري الصحابة، ولم يكن في الصحابة أحد على هذه المذاهب على الإطلاق، بل بدأ الافتراق في الجيل الثاني والثالث وما بعدهما.

إذاً: أعود وأحرر العبارة بدقة؛ لأن هذه -في الحقيقة- مزلة قد توهم فيها بعض العلماء، فكيف بطلاب العلم ومن دونهم؟!

فأقول: ليس في الصحابة من فارق الجماعة أو وقع في افتراق، وكل خلافاتهم التي وقعوا فيها هي في الاجتهاديات.

شيخنا الكريم! النقاش في هذه الحلقة عن مواقف الاتجاهات العقلانية المعاصرة من عقيدة السلف أهل السنة والجماعة.

بداية دعني أسألك: هل عقيدة السلف متعددة المشارب؟ أي: هل مصادرها متعددة؟

الشيخ: الحقيقة أن هذه دعوة يثيرها كثيرون، ولعل أول من أثارها بشكل مقنن -إن صح التعبير- هم المستشرقون، فالمستشرقون يرون أن الإسلام كله خليط من مشارب اليهودية والنصرانية والمؤثرات البيئية، وأن الإسلام استفاد مما عند العرب، سواء الجانب العقدي والجانب الأخلاقي والجانب التعاملي، ومما عند غير العرب من الأمم المجاورة، فزعموا أن الإسلام خليط من عدة مشارب، وهذا الزعم نفسه تبناه كثير من أصحاب الاتجاهات الفكرية والعقلانية منذ زمن، وأصحاب الأفكار العصرانية خاصة، فهم يزعمون أن منهج السلف هو نتيجة مؤثرات كثيرة، من ضمنها المؤثرات الشخصية، أي: نزعات الأشخاص الذين هم أئمة السلف.

ثم يقولون أيضاً: هو نتيجة تأثير البيئة، أي: ما عند الناس من تقاليد وأعراف، سواء العرب والعجم الذين دخلوا في الإسلام، ونظراً لأنهم لا يفرقون بين عقيدة السلف الصافية وبين عقائد المتكلمين -وأحياناً يخلطون بينهما- زعموا أن العقيدة تطورت من خلال التاريخ، والتطور في سنن الحياة وفي العلوم الاجتهادية وفي البحوث العلمية البحتة كائن، لكن العقائد ليس فيها تطور.

المهم أنهم زعموا أن عقيدة السلف -كغيرها- تطورت فتأثرت بالمؤثرات البيئية والجغرافية والسياسية، وبتدخل السلاطين، وبتدخل الأهواء والفلسفات.. إلى آخره، فشكلت خليطاً بزعمهم، وهذا عن من يحسن منهم النظرة إلى عقيدة السلف، فيزعم أن عقيدة السلف شكلت خليطاً من هذه المؤثرات، وهذا كله جهل، فعقيدة السلف -والمقصود بها الثوابت- ليس لها مصدر إلا الكتاب والسنة، أي: الوحي المعصوم.

المقدم: هل مع المستشرقين حق في قولهم: إن الإسلام استفاد من الأديان السابقة، اليهودية والنصرانية؟

الشيخ: هم يستغلون بعض وجوه التشابه في الديانات؛ ليجعلوها برهاناً لهم على تأثر الإسلام، بتلك الديانات، وهذا راجع إلى أنهم لا يؤمنون بالإسلام أصلاً، ومن ناحية أخرى: لا يفقهون الدين، وقد يكون عندهم معلومات، ولكنها معلومات لا تنظمها قواعد، بل تنظمها منطلقاتهم الشخصية، كل واحد منهم له منطلق شخصي ديني وبيئي وعقلي، أعني: المستشرقين.

وكذلك من أخذوا بمنهجهم من المستغربين الذين هم العقلانيون، فهؤلاء ينطلقون من خلفيات معينة ومن قناعات معينة ومن قلة الفقه في الدين.

إنَّ الإسلام عقيدة وشريعة، فالعقيدة هي عقيدة الأنبياء جميعاً، ولذلك يوجد في العقيدة الإسلامية ما هو موجود في البقية الباقية في التوراة والإنجيل، فهما محرفان، لكن يوجد فيهما إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعثته، ويوجد فيهما إشارة إلى الإيمان بالبعث، ويوجد فيهما إشارة إلى بعض الإلهيات.

المقدم: الوصايا العشر؟

الشيخ: الوصايا العشر وغيرها، يوجد بعض الحق في التوراة والإنجيل قرره الإسلام على وجه أصفى وأكمل، وبعيد عن الغبش والخلط، فظنوا أن هذا الاقتران والتشابه يعني الاستمداد، والحال أن النبي صلى الله عليه وسلم ما استمد شيئاً إلا مما أوحى به إليه ربه عز وجل، فهذا نوع من اللبس والالتباس والتلبيس حيث لبسوا على الناس بحكم وجود وجوه التشابه، حتى فيما يتعلق بالأخلاقيات وبعض الأحكام، بل حتى فيما يتعلق بمشابهة الفقه الإسلامي لبعض الدساتير أو الأنظمة الوضعية من بعض وجوه التشابه، فجعلوه وسيلة أو ذريعة للقول بأن الإسلام خليط من مصادر شتى.

المقدم: هل تأثر منهج السلف مع الهجمة الفلسفية في عهد المأمون وما تبعه من العصور بالمناهج الكلامية والفلسفية؟

الشيخ: لا، فالسلف لا يملكون أن يجددوا في ثوابت الدين شيئاً، السلف الصالح يتميز منهجهم في العقيدة بأنهم أخذوا بمنهاج النبوة، لا يزيدون ولا ينقصون، ولا أحد يملك أن يزيد أو ينقص في العقيدة السلفية، عقيدة أهل السنة والجماعة؛ لأنها هي الحق، وهي الإسلام الذي ثبت بخصائص الثوابت نفسها، لذا لا يمكن أن يتصور هذا عقلاً ولا شرعاً من أجل أن نقول مثل هذه المقالة، فعقيدة السلف عبارة عن ثوابت لا دخل لاجتهادات السلف فيها فضلاً عن غيرهم.

المقدم: القضية مثلاً بشيء من التفصيل دعواهم أن عقيدة السلف لها مشارب متعددة ولها مصادر مختلفة، ما هي طريقة الرد عليها بشكل مجمل؟

الشيخ: ينبغي أولاً أن تعرف أسباب هذا التصور عندهم؛ لأنه إذا عرفنا سبب قولهم هذا القول، وعلى أي أساس بنوا ذلك؛ هدمنا أصولهم بقواعد الحق.

الأمر الثاني: أننا نحتاج إلى أن نشيع التأصيل الشرعي الذي يجهلونه هم ويجهله كثير من الناس، بل كثير من أجيال أهل السنة والجماعة المتأخرين من الشباب يجهلون هذه الثوابت؛ لأنهم لم يتلقوها بشكل منهجي يقاوم الغزو الذي استهدف العقيدة.

فأنا أقول: هؤلاء يرد عليهم بالتذكير بثوابت الحق، أي: ما هي مصادر الدين؟ ثم ما هو المنهج؟

فحينما نقول: ما هي مصادر الدين؟ نقول: هي الكتاب والسنة، ثم نأتي بالأدلة التي دلت على أنه لا يجوز استمداد الدين من غير الوحي من القرآن والسنة بدلالاتهما ومعرفة كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين ذلك وكيف كان يطبقه.

فالنبي صلى الله عليه وسلم كان بين للصحابة ورباهم على ألا يتلقوا الدين من غير الوحي.

وقد حدثت حادثة هي عبارة عن رسم للمنهج، وعبارة عن حماية للمنهج، هي حادثة اطلاع عمر رضي الله عنه أمام النبي صلى الله عليه وسلم على صحيفة من التوراة، فالنبي صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً، حتى لفت ذلك أنظار الصحابة، فالتفتوا إلى عمر ، فلما أدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب؛ عرف أنه أخطأ، وأنه يخشى أن يخلط، وأن هذا منهج، مع أن عمر -وهو عمر في فقهه- لا يتصور منه أن يتأثر مثل تأثر الناس اليوم، ومع ذلك سد النبي صلى الله عليه وسلم باب الاستمداد من أي مصدر آخر في ثوابت الدين حماية لجناب الدين وثوابت الحق.

أما الاستدلال في العلوم الاجتهادية فنعم.

المقدم: من الدعاوى التي نسمعها أحياناً أن هؤلاء المدعين يقولون: إن السلف لم يتفقوا على الثوابت الشرعية.

الشيخ: هذا جهل كذلك، ولا نستغرب أن يكون هذا الجهل من أصحاب هذه الاتجاهات؛ لأنهم لم يفقهوا الدين، ولم يعرفوا عقيدة السلف بالشكل الذي يجعلهم يعرفون قيمتها، لكن المؤسف أن هناك ممن ينتسب للعلم الشرعي من قد يجاري من غير تبصر بهذه الشبهة، فقد يقول: مساحة الثوابت قد تتفاوت. وهذا خطير، فالثوابت بمعناها الشرعي الدقيق هي أصول الدين وقواطعه ومسلماته، أركان الدين وفرائضه وواجباته الأساسية، ليس فيها زيادة ولا نقص، ولا تختلف مساحة الإيمان بها بين عالم وآخر من علماء السلف، وقد يوجد من غير المنتسبين للسلف من يشكك، وهذا أمر طبيعي؛ لأنه لا يعرف الثوابت أو لا يؤمن بها، وليس عنده الأسس التي كان ينطلق منها السلف.

وقد يوجد من علماء السلف من يزلُّ زلة، والزلة لا اعتبار لها، لكن إذا نظرنا إلى عموم المنهج نجد أنهم لا يختلفون في الثوابت، ولا يختلفون في الأصول وفي القطعيات إطلاقاً، لا يختلفون في مصادرها ولا في قطعيتها، فمن هنا كان لا بد من استدراك أخشى أن أنساه، وهو الذي يتذرع به هؤلاء الذين يثيرون الشبه على السلف وعقيدة السلف، ويقولون: إنهم لا يتفقون على شيء، أو إن مساحة الاتفاق قد تقل وتكثر.

أقول: هؤلاء -في الحقيقة- يستدلون بأشياء تدل على قصورهم في إدراك الجانب المنهجي الدقيق والموضوعي عند السلف.

فكثيراً ما يستدلون على مقولتهم بأن السلف اختلفوا في كتب العقائد في كثير من المسائل، والحظ التحديد أو الإحالة على كتب العقائد، فهذا الأمر يوهم كثيراً من الناس، فما دام أن في كتب العقائد اختلافات؛ فمعنى ذلك أن هناك اختلافاً في الثوابت.

ومن هنا فلا بد من وقوف عند هذه النقطة بوقفة ضرورية من عدة جوانب:

الجانب الأول: ليس كل ما يكتبه السلف في كتب العقائد هو من الثوابت، فهم في كتب العقائد يميزون بين الثوابت وغير الثوابت، هذا أولاً.

ثانياً: المسائل التي يختلفون فيها في كتب العقيدة هي مسائل خلافية فعلاً، لكنها ليست الأصول، فهي متفرعة، فدخلت في كتب العقائد لأنها متفرعة عن العقائد وخذ على سبيل المثال في المسلمات عند السلف أركان الإيمان، فهي من الثوابت عند السلف، لا يشكون فيها، وقد يقول قائل: هل هناك من العقلانيين من يشك في أركان الإيمان؟ فأقول: نعم.

المقدم: عجيب!

الشيخ: فإذا كان يقول: الملائكة هي نوازع الخير، وليس هناك خلق اسمه الملائكة فإنه ما آمن بالملائكة.

المقدم: وهل هذا الكلام موجود؟

الشيخ: نعم، هو مذهب واسع يؤمن به عدد وفئام من الناس، وليس مذهباً قليلاً أو نادراً عندهم، يرون أن الملائكة نوازع الخير، وهذه نزعة فلسفية، فهؤلاء ما آمنوا بالملائكة.

الأمر الآخر: أنهم يسخرون من وصف الملائكة بصفات خَلْقية.

المقدم: عجيب!

الشيخ: أي نعم، يسخرون سخرية واضحة.

ومن الغيبيات القطعية: الإيمان بالجن، وأحد كبار المعاصرين يرى أنه ليس هناك شيء اسمه جن، فالجن ما هم إلا مستضعفو البشر، وهذا معناه أن الفقراء عندهم جن، والمستضعفون من الناس جن، والشياطين هم الكبراء من بني آدم.

وهذا مذهب يحتذى الآن، مع أن ذلك من الثوابت عند السلف، فهم خرقوا هذه الثوابت بشبهات.

فالشاهد من هذا أنه توجد مسائل يختلف فيها السلف هي تابعة للعقيدة.

المقدم: مثل ماذا؟

الشيخ: لهذا أمثلة كثيرة، فالسلف حينما أثبتوا الإيمان بالملائكة اختلفوا في كتب العقائد في هل هناك ملكان اسمهما منكر ونكير، فـ (منكر ونكير) لم يردا في نص، بل ذكرا في نصوص ضعيفة، فاختلفوا في اسم منكر ونكير، ولم يختلفوا في الملكين اللذين يأتيان العبد في القبر.

ومن ذلك ملك الموت، قيل: إن اسمه عزرائيل، وجاء الخلاف فيه في كتب العقائد، فهو اسم لم يثبت، وثبت اسم إسرافيل وجبريل وميكائيل، وأما عزرائيل فلم يرد في نص قاطع، فهذه أمثلة في الإيمان بالملائكة.

والإيمان بالرسل تتفرع عن الثوابت الموجودة فيه والقواعد القطعية مسائل، كمسألة الخضر؛ فقد دخل في كتب العقائد الخلاف في الخضر هل هو نبي أو غير نبي، وهذا الخلاف لا يضر؛ لأنه لا يوجد نص قطعي، فلا يضر ولا يؤثر في مبدأ الإيمان بالملائكة.

وخذ مثالاً غير أركان الإيمان الستة، ولنأخذ الرؤية مثلاً، أي: رؤية العباد لربهم عز وجل يوم القيامة في الجنة بأبصارهم، نسأل الله أن يمتعنا جميعاً بهذا.

فالرؤية متفق عليها؛ لأن فيها نصوصاً قواطع، ونصوصاً متواترة، وآيات قاطعة في الدلالة، لكنهم اختلفوا في مسائل في الرؤية؛ لأن الدليل فيها غير واضح، أو لم يثبت، أو أن دلالته غير قطعية، مثل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المعراج، فهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينه أم بفؤاده؟

هذه محل خلاف، لكن أصل الرؤية ثابت.

وهكذا لا تجد أصلاً من الأصول القطعية إلا وله حد لا يختلف فيه السلف، وهناك ما دون هذا الحد مما يختلفون فيه من المسائل التي تفرعت عن هذا.

فأخذ هؤلاء المفتونون -نسأل الله السلامة- مثل هذه المسائل وظنوا أنها ترجع إلى الاختلاف في الأصول، وهذا جهل، وبعضهم لا يجهل، بل يتعمد التخليط.

المقدم: لماذا يتعمد؟

الشيخ: لأن الله عز وجل قال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، فالله عز وجل الخبير بقلوب العباد أخبر أن هناك فئة من العباد تفعل ذلك، تخوض في مقتضى الأدلة الشرعية على هذا النحو، بالتلبيس والتقاط جوانب الإشكالات التي تكون عندهم ذريعة لضرب الثوابت.