شرح أخصر المختصرات [84]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

[كتاب القضاء: وهو فرض كفايةٍ كالإمامة، فينصب الإمام بكل إقليمٍ قاضيًا، ويختار أفضل من يجد علمًا ‏وورعًا، ويأمره بالتقوى وتحري العدل، وتفيد ولاية حكمٍ عامة فصل الخصومات، وأخذ الحق ودفعه إلى ‏ربه، والنظر في مال يتيمٍ ومجنونٍ وسفيهٍ وغائبٍ، ووقف عمله ليجري على شرطه وغير ذلك. ‏

ويجوز أن يوليه عموم النظر في عموم العمل، وخاصاً في أحدهما أو فيهما. ‏

وشرط كون قاضٍ بالغًا، عاقلًا، ذكرًا، حراً، مسلمًا، عدلًا، سميعًا، بصيرًا، متكلمًا، مجتهدًا ولو في ‏مذهب إمامه .

وإن حكم اثنان بينهما رجلاً يصلح للقضاء نفذ حكمه في كل ما ينفذ فيه حكم من ولاه إمام أو نائبه.

وسن كونه قوياً بلا عنف، ليناً بلا ضعف، حليماً متأنياً، فطناً عفيفاً، وعليه العدل بين المتحاكمين في لفظه ولحظه، ومجلسه ودخول عليه.

وحرم القضاء وهو غضبان كثيرًا ، أو حاقنٌ، أو في شدة جوعٍ أو عطشٍ، أو همٍّ، أو مللٍ، أو ‏كسلٍ، أو نعاسٍ، أو بردٍ مؤلمٍ، أو حرٍ مزعج، وقبول رشوةٍ وهديةٍ من غير من كان يهاديه قبل ولايته، ‏ولا حكومة له. ‏

ولا ينفذ حكمه على عدوه، ولا لنفسه، ولا لمن لا تقبل شهادته له. ‏

ومن استعداه على خصمٍ في البلد بما تتبعه الهمة لزمه إحضاره، إلا غير برزةٍ فتوكّل ‏كمريضٍ ونحوه، وإن وجبت يمينٌ أرسل من يحلفها.

فصل: وشرط كون مدعٍ ومنكرٍ جائزي التصرف، وتحرير الدعوى، وعلم مدعًى به إلا فيما نصححه ‏مجهولًا كوصيةٍ. ‏

فإن ادعى عقدًا ذكر شروطه، أو إرثًا ذكر سببه، أو محلى بأحد النقدين قومه بالآخر، أو بهما ‏فبأيهما شاء. ‏

وإذا حررها، فإن أقر الخصم حكم عليه بسؤال مدعٍ، وإن أنكر ولا بينة فقوله بيمينه، فإن ‏نكل حكم عليه بسؤال مدعٍ في مالٍ وما يقصد به. ‏

ويستحلف في كل حق آدمي سوى نكاحٍ ورجعةٍ ونسبٍ ونحوها، لا في حق الله كحد وعبادةٍ. ‏

واليمين المشروعة لا تنعقد بالله وحده أو بصفته. ‏

ويحكم بالبينة بعد التحليف.

وشرط في بينة عدالةٌ ظاهرًا، وفي غير [عقد] نكاحٍ باطنًا ‏أيضًا.

وفي مزك معرفة جرحٍ وتعديلٍ، ومعرفة حاكم خبرته الباطنة، وتقدم بينة جرح.

فمتى جهل حاكم حال بينة طلب التزكية مطلقاً، ولا يقبل فيها وفي جرح ونحوهما إلا رجلان، ومن ادعى على غائب مسافة قصر، أو مستتر في البلد، أو ميت، أو غير مكلف وله بينة سمعت وحكم بها في غير حق الله تعالى، ولا تسمع على غيرهم حتى يحضر أو يمتنع، ولو رفع إليه حكم لا يلزمه نقضه لينفذه لزمه تنفيذه، ويقبل كتاب قاض إلى قاض في كل حق آدمي، وفيما حكم به لينفذه، لا فيما ثبت عنده ليحكم به إلا في مسافة قصر].

أهمية القضاء

ذكر الفقهاء القضاء في آخر كتاب الفقه، وذكروا الشهادة والإقرار؛ لأنها التي يعتمد عليها القاضي؛ ولأن الغالب أن الإنسان إذا تمت عليه النعمة، بأن حصل على المال، وحصل على النكاح، فلا يؤمن أن يتعدى على غيره، وأن يغلبه الطمع في حق الغائب؛ ولذا تكثر الخصومات والمرافعات، فتجد عند القضاة عدة قضايا؛ وذلك من آثار الاعتداء، ومن آثار الطمع، ومن آثار الظلم، ولو أن كلاً اقتصر على حقه لاستراح القضاة ونحوهم، وهكذا لو أن الإنسان تورع عن الشيء المشتبه وتركه ولم يطالب به عندما يكون الحق الذي يدعيه ليس شيئاً واضحاً؛ إذاً لقلت الخصومات ولقلت القضايا.

ولما كانت الخصومات واقعية، وكانت المرافعات والمنازعات منتشرة في كل البلاد غالباً، وكان هناك اعتداءات ومظالم وأخذ للحقوق بغير حق؛ احتيج إلى نصب القضاة ليحكموا بين الناس.

وقد كان من الأنبياء قضاة، مثل: داود، قال الله تعالى في سورة ص: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص:26] ( بين الناس بالحق ) يعني: عندما يتخاصمون، جعله الله خليفة في الأرض وأمره أن يحكم بين الناس.

وكذلك أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالحكم حتى بين اليهود، وخيره في ذلك القضاء: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42] ثم قال: وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ [المائدة:49] فأمره الله أن يحكم بينهم بالعدل أي: بالقسط، وأمر الله الحكام عموماً بالعدل في قوله تعالى في سورة النساء: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] وفي سورة النحل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النحل:90] أي: بالمساواة وإعطاء كل ذي حق حقه وأخذ المظلمة من الظالم، والانتصار للمظلوم ونصره على من ظلمه.

ونصر الظالم بنصيحته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله ! أنصره إذا كان مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً ؟ قال: تمنعه وتحجزه عن الظلم، فذلك نصرك إياه) أي: تأخذ على يديه وتمنعه من أن يأخذ ما لا يستحقه، وتمنعه من الاعتداء عليه، وتخبره بأن ما أخذه من حق مسلم وهو لا يستحقه فإنه يؤخذ من حسناته يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن المظالم حتى ينتصر للشاة الجماء من الشاة القرناء)، تؤدى المظالم حتى أن الشاة من الغنم إذا كانت جماء ليس لها قرون، ونطحتها التي لها قرون؛ فلابد أن الله تعالى يأخذ حق هذه من هذه، وإذا كان هذا بين البهائم مع أنها لا تكليف عليها، فبطريق الأولى الإنسان المكلف الذي هو بالغ وعاقل، ومع ذلك من الناس من يأخذ حق غيره فيعتدي على ما ليس له ويظلم الناس؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الشورى:42] السبيل، يعني: الحجة عليهم، فمنهم من يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، والذي يحملهم على هذا البغي ضعف إيمانهم؛ ولو كانوا مؤمنين حقاً لحجزهم إيمانهم عن الاعتداء على حق مسلم بغير حق، وقد يحملهم على البغي السرف وحب المال والطمع في الاستكثار، ولا شك أن هذا مما يحمل كثيراً من الناس على أن يعتدي على حق أخيه فيأخذه بغير حق، فيكون بذلك ظالماً ومسيئاً في أخذ ما لا يستحقه.

الورع عن حقوق الناس

ومما يحمل على البغي قلة الورع، والورع: هو التوقف عن الشيء المشتبه، وقد كان السلف رحمهم الله يحملهم الورع والخوف على ترك الاعتداء وترك الشيء المشتبه، بل إذا كان هناك شيء مشتبه يخشون أن فيه حراماً أو أنه قريب من الحرام تركوه كله، وقد كتب الإمام أحمد رحمه الله رسالة صغيرة مطبوعة، إذا قرأتها تعرف ما كان عليه الإمام أحمد وغيره من أهل زمانه من شدة التورع عن أخذ ما ليس بحق له.

فإذا عرف الإنسان أن هذا حق مسلم، فعليه أن يتجنبه، ولا يأخذ ما لا يستحقه ظلماً، فإنه ولابد سينتقم منه وسيؤخذ منه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بأعمال كثيرة ويأتي وقد ظلم هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئات المظلومين فطرحت عليه، ثم قذف في النار).

لابد أن يؤخذ للمظلوم من الظالم حتى ولو دخل الجنة، وقد ورد في الحديث: (إنهم إذا نزلوا من الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض في مظالم كانت بينهم، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم بدخول الجنة) أي: لا يدخلون الجنة وبينهم أحقاد، وبينهم مظالم، وبينهم شحناء وعداوات، بل يدخلون الجنة بعدما تصفى قلوبهم، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] أي: ما كان بينهم في الدنيا من الأحقاد، لا يدخلون الجنة إلا وقد صفت منها قلوبهم، وسلموا من الظلم.

ولذلك نقول: إن على المسلم أن يتورع عن حق إخوانه، فإن الاعتداء عليهم حرام، وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) أي: محرم بعضكم على بعض أن يعتدي أحد على أحد، وفي حديث آخر قال: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه) ، ولكن هناك من لا يبالي في الاعتداء على حق أخيه، فيضربه بغير حق، أو يقتله ظلماً، أو ينتهبه، أو يختلس منه، أو يستولي على شيء من حقه فيأخذه ظلماً وعدواناً، وهذا بلا شك من الظلم، وإذا كان كذلك فلابد أن يؤديه في الدنيا، فإن لم يؤده طوعاً أداه كرهاً وذلك إذا حكم عليه الحاكم بأنه ظالم، وأن عنده من الحقوق لإخوانه كذا وكذا، فيحكم عليه بدفع تلك المظلمة وإعطائها لمستحقها كرهاً ولو بحبس أو بجلد حتى يؤدي الحقوق لمستحقيها؛ ولهذا نصب القضاة والحكام ونحوهم.

حكم تنصيب القضاة وصفاتهم

نصب القضاة فرض كفاية، أي: يكفي في البلد قاض واحد إذا كان يقوم بفصل الخصومات، وإن عجز ضم إليه ثانياً وربما ثالثاً أو أكثر من ذلك ولو عشرة أو عشرين إذا كانت البلد مترامية الأطراف.

وهكذا أيضاً إذا كثرت الخصومات وكثرت المنازعات، فإن على ولي الأمر أن ينصب في كل قطر قاضياً، وهذا فرض كفاية كالإمامة التي هي الخلافة، فنصب ملك يتولى أمور المسلمين من أمور الكفاية، والإمام الذي هو الملك مسئول عن نصب القضاة، فعليه أن ينصب في كل إقليم قاضياً، أي: في كل قطر وفي كل جهة ينصب قاضياً إذا كان كافياً، فإن لم يكف زيد بقدر الكفاية.

(ويختار أفضل من يجد علماً وورعاً): وذلك لأن القاضي يتولى أمور الناس ويسمع أقوالهم، فلابد أن يكون عالماً، أما إذا كان جاهلاً فإنه لا يعرف الحكم، ولا يدري ما يحكم به، فيكون بذلك غير قائم بما أوجب الله، والعالم هو: العالم بكتاب الله تعالى وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وبالأحكام وبالآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في أمور القضاء وما إلى ذلك.

وكذلك يتصف بالورع، فيكون تاركاً للمشتبهات، بحيث إنه يتورع عن أن يظلم أحداً، وإذا لم يكن ورعاً خشي أن يميل مع هذا لصداقته، ومع هذا لقرابته، ومع هذا لمعاملته، فيظلم الناس بغير موجب، ويظلم الناس للناس، يعني: يظلم هذا لأجل هذا ولا مصلحة له هو إذا لم يكن ورعاً، فلابد أن يكون من أهل الورع حتى يحمله ورعه على أن يحكم بالعدل.

(ويوصيه الوالي بالتقوى وتحري العدل)، والتقوى كلمة جامعة يدخل فيها فعل الأوامر وترك الزواجر، فعل الخيرات وترك المنكرات، وهي مشتقة من التوقي، وهو أن يجعل بينه وبين الحرام وقاية، فيقول: عليك بتقوى الله، أي: الخوف منه ومن عقوبته، ويقول أيضاً كما في الحديث: (اتق دعوة المظلوم)، هكذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً ، يعني: توقها فلا تظلم أحداً لنفسك ولا لغيرك، قاله لـ معاذ عندما أرسله إلى اليمن داعياً وجابياً وقاضياً وهادياً، أرسله بأربع وظائف، فأرسله للدعوة إلى الله، فقال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله.) ، وأرسله جابياً الزكاة أي: جامعاً للزكوات ونحوها قال له: (إياك وكرائم أموالهم) ، وأرسله قاضياً وسأله: (كيف تقضي ؟ قال: بكتاب الله..) إلى آخره، وأرسله هادياً يعني: معلماً؛ وذلك لأنه من أعلم الصحابة، شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل)، فلذلك أوصاه بالتقوى.

وكذلك يوصي الوالي القاضي أن يعدل بين الخصوم، ولا يظلم أحداً، قال الله تعالى: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] .

الولاية العامة والخاصة للقاضي

يقول: (تفيد ولاية حكم العامة فصل الحكومة وأخذ الحق ودفعه إلى ربه، والنظر في مال يتيم ومجنون وسفيه وغائب، ووقف عمله ليجري على شرطه وغير ذلك).

الولاية إما أن تكون عامة وإما أن تكون خاصة، والولاية العامة كأن يقول: وليتك الولاية الفلانية ولاية عامة، بحيث أنه يوليه جميع أعمالها، والولاية الخاصة كأن يقول: وليتك فصل الخصومات، أو يقول: وليتك أخذ الحقوق من بعضهم لبعض، أو يقول: وليتك ولاية الأموال التي ليس لها مالك أو ما أشبه ذلك، فهذه تكون ولاية خاصة.

وفي هذه الأزمنة الغالب أن هناك ولايات خاصة حيث إن الحكومة تجعل لكل عمل والياً، فالقاضي يتولى فصل الخصومات، يقول: عندك يا هذا كذا، وعليك يا هذا كذا، والأمير يتولى التنفيذ، فيقول: يا فلان! سلم، ويا فلان خذ حقك، فيلزم هذا بأخذ وهذا بدفع، وهذا الذي يسمى منفذاً، وهناك ولايات أخرى، فمثلاً: الأوقاف لها ولاية،وهي الجهة التي تتولى الأوقاف، وتنفذ شروط الواقفين، وهناك ولاة يتولون على الأموال التي ليس لها مالك أو أموال السفهاء ينظرون فيها ويحفظونها، هذا إذا كان هناك عدة ولايات.

وإذا لم يتمكن الإمام أن يجعل لكل جهة والياً فإنه يولي القاضي ولاية عامة، فيقول: عليك أيها القاضي فصل الخصومات وعليك بعد ذلك التنفيذ، ألزم هذا بأن يدفع ما عنده حتى يأخذ الحق صاحبه ومستحقه، ولك أن تنظر في أموال القاصرين في هذه البلد من مجانين ويتامى وسفهاء وأموال غاب أهلها، فلا تترك هذه الأموال فيعبث بها السفهاء فتضيع وتفسد.

والذي يتولى النظر فيها القاضي، وله أن يوكل، فيقول: وكلت فلاناً على مال اليتيم الفلاني، وأنت على مال السفيه، وأنت على مال الغائب احفظ مال هذا الغائب كما تحفظ مالك، واتجر فيه كما تتجر في مالك؛ لأن القاضي قد يقول: أنا منشغل والأعمال كثيرة، فكيف أتولى هذا بنفسي؟! فيوكل من يراه كفؤاً يقوم مقامه ولو لم يأمره الإمام الذي هو الخليفة، لأجل ألا تضيع الأموال.

كذلك إذا كان في البلد أوقاف مثل عقارات أو نخيل، أو بهائم موقوفة كخيل أو نحوها، من الذي يتولى النظر فيها؟ القاضي، لكن إذا جعل هناك -كما في هذه المملكة- من يتولاها كوزارة الأوقاف أو نحوها فإنهم يتولونها ولا يلزم القاضي أن ينظر فيها؛ لأن الأوقاف قد يشرط أصحابها شروطاً، فيقولون مثلاً إذا كانت الأوقاف كتباً: لا تمنع ممن يستفيد، والوكيل عليها فلان، وبعده فلان، وبعده الصالح من الذرية، وهكذا أيضاً إذا كان الوقف عقاراً، أو شجراً، أو دواب، كل ذلك في حاجة إلى أن يتولاه من يقيمة ومن ينظر فيه.

(ويجوز أن يوليه عموم النظر في عموم العمل وخاصاً في أحدهما أو خاصاً فيهما):

مثال عموم النظر في عموم العمل أن يقول الملك لإنسان: وليتك عموم النظر في عموم عملي، أي: ما تحت ولايتي، ولو اتسعت الولاية فله أن يقول: هذه المملكة الواسعة، وقد وليتك عموم النظر، فلك أن تفصل، ولك أن توظف، ولك أن توقف، ولك أن تنفذ، ولك أن تعمر، ولك أن تنقل، لك عموم النظر، فهذا الذي ولاه عموم النظر له أن يوظف من يراه صالحاً، وله أن يعزل من يريد عن قضاء، أو عن إمامة، أو عن خطابة، أو عن تدريس، أو عن وعظ ودعوة، أو ما أشبه ذلك من العمل في جميع المملكة، هذا عموم النظر في عموم العمل، فيقول: وليتك عموم النظر في منطقة الأحساء، فهذا الذي ولاه عموم النظر له في هذه المنطقة أن يوظف وأن يعزل، وأن يغير، وأن ينقل، وأن يعمر مساجد، ويعمر مدراس، فيعين فيها من يريد في هذه المنطقة وحدها، وكذلك له أن يغير بعض الأشياء التي تحتاج إلى تغيير، فإذا كان هناك أوقاف تعطلت فله أن يبيعها وينقلها إلى جهة أخرى، وله أن يقضي، وله أن ينقل، وله أن يعلم، وله أن يوكل من يعلم، يعني: عموم النظر في هذه المنطقة في خاص دون العمل.

وله أن يوليه عموم العمل في خاص منهما، بأن يقول: وليتك القضاء في جميع المملكة، هذا خاص في عمل عام، عرفنا أن العمل هو المملكة، وأن النظر هو جهة من جهاتها، فقال: وليتك جميع المملكة في النظر في القضاة، أو النظر في الأئمة، أو النظر في الخطباء، أو النظر في المعلمين، أو النظر في الدعاة، في خصوص النظر في عموم العمل، ففي هذه الحال يتصرف فيما حدد له، هذا معنى: خاص بأحدهما، ومثال الخاص مثلاً: إذا قال: لك النظر في القضاة في منطقة القصيم، فهذا خاص في خاص، أما عام في عام: لك النظر في المملكة كلها في جميع ما تأمر به، هذا عام في عام، أما إذا كان نظراً في عموم، فمثل ما ذكرنا، وهو: النظر في المملكة في جميع الأحوال، وأما نظر في خاص، أي: في منطقة، وأما خاص في عام، مثل أن يقول: لك النظر في هذه المنطقة في جميع ما تأمر به.

فالحاصل: أنه يجوز أن يوليه عموم النظر في عموم العمل أو خاصاً في أحدهما أو فيهما.

شروط القاضي

قال رحمه الله: (يشترط كون القاضي بالغاً عاقلاً ذكراً حراً مسلماً عدلاً سميعاً بصيراً متكلماً مجتهداً ولو في مذهب إمامه).

يعني: أنه إذا كان صغيراً دون البلوغ فإنه قد ينخدع؛ وذلك لأنه لم يتكامل عقله، ولم تتكامل معرفته، فلابد أن يكون قد بلغ، ويجوز إذا كان قد بلغ، وذكروا أن معاذاً ولاه النبي صلى الله عليه وسلم اليمن وعمره نحو العشرين أو ثمانية عشر، وكذلك كثير من الذين تولوا في عهد الصحابة وغيرهم تولوا القضاء وهم صغار؛ وذلك لأن الذي ولاهم عرف فيهم الكفاءة فولاهم وقاموا بالعمل كما ينبغي.

الشرط الثاني: أن يكون عاقلاً، وضده المجنون، فاقد العقل، فكيف يعرف أن يتصرف؟ وكيف يعرف ما يحكم به؟

الشرط الثالث: الذكورية، لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فارس ولوا ابنة ملكهم، فقال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) المرأة كما ورد في الحديث ناقصة عقل ودين، فلا تتولى مثل هذا، وأيضاً فإن المرأة وظيفتها الاستحياء والاحتشام والتستر، والقاضي يلزمه أن يكون بارزاً للناس، يتوافد إليه الخصوم، فيجلسون إليه ويدلون بحججهم، فلا يكون القاضي امرأة؛ لأنه يلزم من ذلك أن تبرز للناس وذلك ينافي أنوثتها.

الشرط الرابع: الحرية؛ لأن المملوك مستولى عليه، بمعنى: أنه مملوك لسيده ومنافعه له، فلا يمكن أن يتولى، لكن لو أذن له سيده وكان كفؤاً عالماً عاقلاً بالغاً مسلماً عدلاً، وفرغه للقضاء، وكان أهلاً؛ فإنه يصلح، وتكون أجرته ومرتبه لسيده.

الشرط الخامس: الإسلام، فلا يجوز أن يولى القضاء كافراً ولو كان عالماً عارفاً بالأحكام؛ لأنه يحكم للمسلمين، حتى وإن كان قد يحكم لغيرهم إذا كانوا معهم، فلا يكون إلا من المسلمين.

الشرط السادس: العدالة، أن يكون عدلاً، يخرج بهذا المتظاهر بالمعصية، فإنه لا يصلح أن يتولى القضاء أياً كانت تلك المعصية، سواء كان يشرب الخمر، أو يشرب الدخان، أو يحلق لحيته، أو يسمع الغناء، أو يترك الصلاة، أو يتأخر عن صلاة الجماعة، أو ما أشبه ذلك، وكذلك أيضاً إذا كان يتعامل بالربا، أو يأخذ الرشوة، فكل ذلك يقدح في عدالته، فلا يجوز أن يتولى مثل هذا قضاء المسلمين.

الشرط السابع: أن يكون سميعاً، فالأصم لا يدري ما الناس يقولون؛ وذلك لأنه لابد أن يسمع كلام هذا الخصم ثم كلام الخصم الثاني، فإذا كان أصم فكيف يسمع ؟

الشرط الثامن: البصر، حتى يعرف سيما هذا وسيما هذا؛ لأنه إذا كان ضريراً لبس عليه، وقد يأتيه إنسان على أنه فلان وليس هو، والصحيح: أنه يجوز أن يكون القاضي ضريراً؛ لأن العادة أن الضرير يكون معه فطنة وفهم ومعرفة بأصوات الناس، فهو يميز بين الصادق والكاذب، وكذلك يعرف الأصوات ويميز بين صوت فلان وفلان.

الشرط التاسع: أن يكون متكلماً، فلا يصح أن يكون أخرس لا ينطق، كيف يعرف الناس حكمه إذا كان أخرس؟ ليس كل الناس يعرف إشارات الأخرس، إذا أشار بكذا وبكذا بأصابعه لم يفهمه كل أحد، إذاً: لابد أن يكون متكلماً.

الشرط العاشر والأخير: أن يكون مجتهداً ولو في مذهب إمامه.

الاجتهاد قسمان: اجتهاد مطلق، واجتهاد مقيد، فالاجتهاد المطلق هو الذي يقدر أن يعرف الحكم الذي هو الصواب بدليله، فيستطيع أن يعرف الأدلة ويستخرجها من أصولها، وذكر المتأخرون أن الاجتهاد المطلق قد انقطع بعد انتهاء عصر الأئمة الأربعة، وأن من بعدهم لابد أن يرجع إلى أقوالهم، ولكن الصحيح أنه لم ينقطع، وأن الإنسان إذا أعطاه الله قدرة وملكة فإن له أن يجتهد، ويأخذ القول الصواب سواء كان عند هذا الإمام أو عند هذا، وقد ذكروا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان مجتهداً؛ ولذلك خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل، مما يدل على أن الله أعطاه ملكة يقدر بها على معرفة الصواب ولو خالفه من خالفه.

وكذلك في عهد السيوطي في القرن التاسع وأول القرن العاشر ادعى أنه بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، ولما ادعى ذلك أنكر عليه أهل زمانه، وأشد من أنكر عليه السخاوي ، وقالوا: كيف تدعي الاجتهاد والاجتهاد قد انقطع ؟ولكن مؤلفاته فيها شيء كثير من الاختيارات، والغالب أنه لم يأخذ كل شيء عن مذهب الشافعي ؛ لأنه شافعي المذهب، فهذا هو الاجتهاد المطلق.

وأما الاجتهاد المقيد فهو: أن يجتهد في مذهب الإمام الذي يقلده، إذا كان في المذهب عدة روايات كمذهب الإمام أحمد ، ففي مذهب الإمام أحمد روايتان وثلاث روايات وأربع روايات، ففي هذه الحال إذا كان مجتهداً مقيداً فمعناه أنه يعرف الراجح من هذه الروايات، إذا نزلت به نازلة يستطيع أن يخرج دليلها وأن يخرج القول فيها من كتب العلماء الذي هو تبع لهم، من كتب الحنابلة إن كان حنبلياً، أو من كتب الشافعية إن كان شافعياً، يستطيع أن يخرجها.

وأما المقلد الذي هو غير مجتهد فإذا حصلت عليه قضية لا يعرف دليلها ولا يعرف الحكم، فيحتاج أن يسأل فيقول: يا فلان ! عرضت علي قضية كذا وكذا، أخبرني كيف أقضي، كلما جاءته قضية توقف فيها حتى يسأل زملاءه أو أهل بلده، فهذا لا يسمى عالماً؛ لأنه يأخذ العلم عن غيره، ويأخذ القضاء عن غيره.

هذه شروط القاضي، وهي عشرة، وفي واحد منها خلاف، وهو اشتراط البصر.

نفوذ حكم المحكم

يقول: (إن حكم اثنان بينهما رجلاً يصلح للقضاء نفذ حكمه في كل ما ينفذ فيه حكم من ولاه إمام أو نائبه).

اثنان بينهما خصومة ونزاع، وطال ذلك النزاع، وكل يدعي أن الصواب معه، فاتفقا على رجل وأتيا إليه وقالا: نرى فيك الأهلية، وقد رضينا حكمك، دعنا نعرض عليك قضيتنا، هذه دعواي كذا وكذا، والثاني يقول: وأنا دعواي كذا وكذا.

فإذا سمع دعوى كل واحد منهما قال: أنتما حكمتماني، أنت يا فلان عندك كذا لصاحبك فأعطه حقه، هل ينفذ ؟ ينفذ لأنهما حكماه ورضيا بحكمه واقتنعا به وقالا: قد جعلناك حكماً بيننا، قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35] يعني: إذا طال النزاع بين الزوجين فللقاضي أو لأهلهما أن يبعثوا حكمين، يختار هؤلاء حكماً، ويختار هؤلاء حكماً، ثم يقول الحكمان: ماذا عندك يازوج ؟ ماذا عندك يازوجة ؟ فإذا سمعا منهما عند ذلك يحكمان، فيقولان: الحكم لك يا فلان والحكم عليك يا فلان، مثلاً: عليك أن تقنعي بدون حقك، وعلى وليك أن يدفع كذا أو ما أشبه ذلك، فالله تعالى أباح أن يحكم حكمان في هذا الأمر.

وكذلك قال تعالى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95] فأمر أن يحكم في الصيد حكمان.

اثنان بينهما خصومة، فاختارا رجلاً اسمه سعيد، فقالا: يا سعيد قد جعلناك حكماً بيننا؛ لأنك تصلح للقضاء، ولأنك من أهل المعرفة، ومن أهل العلم، احكم بيننا، فينفذ حكمه في كل شيء ينفذ فيه حكم من ولاه الإمام أو نائبه، يعني: في فصل الخصومات وفي قطع المنازعات.

آداب القاضي

ما هي صفات القاضي التي ينبغي أن يتحلى بها من الأخلاق؟

قال: (يسن كونه قوياً بلا عنف، ليناً بلا ضعف، حليماً، متأنياً، فطناً، عفيفاً)، هذه مما يشترط في صفات القاضي؛ لأنه إذا كان ضعيف الجانب، ليس له هيبة، وليس له سلطة؛ طمع فيه الظالم، ولبس عليه، بخلاف ما إذا كان مهيباً، ولكن لا تكون هيبته قوة شديدة بحيث يهابه صاحب الحق، ولا يقدر على أن ينطق بحق؛ لأن بعض القضاة يظهر شدة ويظهر قوة ويظهر اعتزازاً، فإذا رآه المظلوم أيس من حقه وقال: هذا متعجرف، وهذا متكبر، كيف آخذ حقي منه ؟ هذا شديد لقوة كلامه ولصرامته، فلا يطمع في أخذ شيء من حقه، فيكون بذلك ظالماً، فلابد أن تكون قوته ليس فيها عنف وبطش.

وأن يكون ليناً ليس معه ضعف، فيكون لين الجانب، سهل الأخلاق، مسفر الوجه، طليقه، يتواضع مع الصغير والكبير، ولكن بحيث لا يطمع فيه أهل الظلم، فيغتنم دينه ويخدعه ويصرفه عن طريق الحق، لابد أن يكون ليناً ولكن لا يكون مع اللين ضعف شديد.

وأن يكون حليماً، فلا يعجل، وإذا تكلم عليه أحد لم يغضب ولم يشتد في كلامه، بل يغلبه الحلم.

وأن يكون متأنياً، والتأني هو التريث في الأمور وعدم العجلة، حتى يعرف الحق ويحكم به بعد أن يتضح دليله، بخلاف الذي يحكم بسرعة فإنه قد ينتقض حكمه؛ لأنه لا يكون عارفاً، فالعارف يتأنى في الأمور، ولا يتسرع، ولا يحكم إلا بعد ما يتتبع القضية من هذا ومن هذا.

ويسن أن يكون فطناً، أي: ذكياً، وإذا كان بليداً فإنه قد يعتقد الظالم محقاً ويحكم له، ولا يتفطن لحيلة، فإن الناس معهم حيل ومعهم أفكار قد يصرفون بها القاضي، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن من حجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها) وهذا أيضاً يدل على أنه يستحب للقاضي نصيحة الخصوم وتوبيخهم حتى يقنعوا، وحتى يرجع الظالم عن ظلمه، وحتى ينصرفوا وهم راضون عن القاضي.

وأن يكون عفيفاً، والعفيف هو الورع المتعفف عما لا يحل، والعفة تكون عن الحرام وتكون عن المشتبهات، فإذا كان يتعامل بالمشتبهات في بيعه أو في شرائه أو في تصرفه دخل عليه الخلل ودخل عليه العيب، ورمي بأنه يتجرأ على حقوق الناس، وبأنه يأخذ ما لا يحل، فيكون ذلك طعناً فيه فلا تقبل أحكامه ولا نصائحه.

وجوب العدل بين المتخاصمين

قال: (وعليه العدل بين المتحاكمين في لفظه ولحظه ومجلسه ودخول عليه) العدل هو المساواة، والمتحاكمان هما المتخاصمان، عليه أن يعدل بينهما أي: أن يسوي بينهما في لفظه، فلا يلين في الكلام مع أحدهما والآخر يشدد عليه، بل يكلمهما سواء، فيعدل بينهما، أما كونه يلين مع واحد أو يساره فيتكلم معه سراً فإن هذا فيه حيد، فعليه أن يعدل بينهما في كلامه، ولا يكلم أحدهما سراً والآخر لا يسمع، فإن هذا يكون مطعناً عليه.

وكذلك في لحظه، أي: نظره، فإذا كان ينظر إلى واحد من المتخاصمين اتهمه الآخر، ويقول: كونه دائماً كان يحدق النظر إلى خصمي يدل على أنه مال معه، وأنه ظلمني بهذا الميل، فيكون ذلك سبباً في الطعن عليه، فلابد أن يلحظهما سواء.

وكذلك مجلسه، ورد في الشرع أن الخصمين يجلسان أمام القاضي، ولو كان أحدهما أميراً أو ثرياً أو كبيراً، يجلسان سواء بين يدي القاضي ولا يرفع مجلس أحدهما عن الآخر، بل يجلسهما سواء، فإن كانا على كرسيين سوى بينهما، وإن كانا على الأرض سوى بينهما، ولا يجلس أحدهما على فراش أحسن من الثاني، ولا أحدهما على الأرض والآخر على الفراش، بل يسوي بينهما في مجلسه.

كذلك يسوي بينهما في الدخول عليه، فيدخلان عليه سواء؛ لأنه لو دخل واحد وحجب الآخر اتهمه ذلك المحجوب، ويقول: دخل عليه وحده وأسر إليه وكلمه، وأنا حجبني ومنعني، وما أدخلني إلا بعد مدة، فلابد أن يدخلا عليه سواء، وذلك من العدل.

متى يحرم القضاء؟

يقول: (وحرم القضاء وهو غضبان كثيراً) في حديث أبي بكرة لما تولى ابنه القضاء كتب إليه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) ؛ لأنه إذا كان غضبان كثيراً فقد لا يتصور المسألة، وقد يحمله غضبه على أن يميل مع أحدهما، فإذا غضب من أحدهما أجل القضية، وصرفهما إلى أن يذهب عنه غضبه، فيحكم بينهما في حالة هو فيها مقتنع بالحكم، قد ذهب عنه الغضب الشديد.

ولا يحكم وهو محتقن البول؛ لأنه يكون متكدر البال غير متأنٍ ولا متأمل لما يقول، وكذا إذا كان في شدة الجوع، فإذا كان جائعاً جوعاً شديداً فإنه في تلك الحالة لا يكون مطمئناً، ولا يكون متثبتاً؛ لأنه مع شدة ألم الجوع، وكذلك العطش؛ لا يكون متأنياً؛ يتمنى أن تنفصل القضية ليذهب ليأكل أو ليشرب.

أو في هم، فإذا جاءه هم وغم شديد فإنه لا يفكر في القضية، فلا يجلس للقضاء وهو مهموم.

وكذلك إذا كان في ملل، أي: تعب شديد بحيث إنه من آثاره لا يقبل على القضية.

وكذلك الكسل، وهو التثاقل في الأمور وعدم النشاط فيها.

وكذلك النعاس، فإذا كان في حالة نعاس، وهو بحاجة إلى أن يريح نفسه، فإذا قضى في تلك الحالة قد يكون القضاء غير محكم.

وهكذا إذا كان هناك برد شديد مؤلم أو حر شديد، بحيث إنه لا يطمئن في مجلسه لشدة الحر الذي يزعجه أو لشدة البرد الذي يزعجه.

حرمة الهدية للقاضي

قال: (وحرم عليه قبول رشوة):

النبي صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي، والرشوة هو المال الذي يعطيه أحد الخصمين حتى يميل معه، يقول أحد الخصمين: إن عندي لك هدية، عندي لك كذا، ويسميها هدية وهي رشوة، ففي هذه الحالة يميل معه، أو يقصد ذلك الراشي أن يميل معه، وفي الحديث: (لعن الله الراشي والمرتشي) .

وكذلك لا يقبل الهدية إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته، وليس له قضية، فلا يقبل الهدايا من أحد مخافة أن يكون له دعوى، فإذا خاف أن له دعوى لا يقبل هديته بل يردها عليه، وإذا قبلها فقد يتهم، ويقال: حكم لفلان لأنه يهدي إليه، ومال معه لأنه أعطاه كذا، فيتهم وإن لم يكن ذلك قصداً، والذي يقبل هديته يشترط ألا يكون له خصومة ودعوى، فإذا كان له دعوى فلا، ولا يقبلها إلا إذا كان ممن يهادونه قبل أن يتولى، إذا كان يهدي إليك وتهدي إليه قبل أن تتولى، فأهدى إليك كعادته، فلا بأس أن تقبل تلك الهدية؛ لأن العادة أنهم يتهادون من قبل عملاً بحديث: (تهادوا تحابوا) .

ومنع القاضي أن يتجر في الأسواق؛ لأن الناس قد يتساهلون معه بالبيع أو بالشراء طمعاً أن يميل معهم.

لا يقضي القاضي على عدوه ولا قريبه

قال رحمه الله: (ولا ينفذ حكمه على عدوه) لأنه يتهم، يقول: حكم عليّ لأني قد عاديته، ولأني قد خاصمته.

إذا كان له عدو فلا يحكم له، بل يحيل القضية إلى غيره، يقول: أحيل القضية إلى فلان من القضاة، أما أن يحكم على عدوه فإنه متهم.

ولا يحكم لنفسه ولا لجميع أولاده وآبائه وأجداده وجداته وبناته، فإذا كانت القضية لولده مع خصم آخر أحالها على غيره من القضاة وقال: انظروا في دعوى ولدي فلان، أو والدي فلان؛ لأني لا أحكم له مخافة أن أتهم بأني تساهلت مع أبي أو مع ابني.

وهكذا كل من لا تقبل شهادته له من الأصول والفروع كالأب والجد والأم والجدة وإن عليا، وكذلك أيضاً الابن والبنت وابن الابن وبنت الابن وبنت البنت وابن البنت ونحوهم، فهؤلاء لا تقبل شهادته لهم، وكذلك لا يشهدون له، وكذلك أيضاً لا يحكم لهم مخافة أن يتهم ويقال: حكم لقريبه.

إحضار الخصم

قال: (ومن استعداه على خصم في البلد بما تتبعه الهمة لزمه إحضاره إلا غير برزة) يظهر أن (إلا) زائدة، والصواب (لزمه إحضاره غير برزة فتوكل كالمريض)، وهنا كتبها بزرة، والصواب: برزة، أي: إلا المرأة التي ليست برزة، وهي التي تستحي ولا تبرز للناس، فغير البرزة توكل، أما البرزة التي معها جرأة تخرج وتكلم وتحتج فإنه يلزمها أن تحضر.

والاستعداء الشكاية، فإذا جاء إلى القاضي رجل وقال: إن فلاناً خصمي، أريد أن تحضره، وهو موجود في البلد، وقد ظلمني بكذا وكذا، فإذا كانت المظلمة مالاً له قيمة وله قدر تتبعه همة الناس يلزم القاضي إحضار ذلك الخصم، وفي هذه الأزمنة يكون الاستعداء للشرط، أو أمراء البلد، فهم الذين يستعديهم المظلوم، ويقول: إن فلاناً ظلمني، فإذا كان كذلك فإن على القاضي أن يرسل من يحضره فيقال له: يا فلان أجب القاضي فإن فلاناً قد اشتكاك، احضر وإن لم تحضر فإننا سنعاقبك، فيلزمه أن يحضر إذا كان المال مما تتبعه الهمة.

أما غير البرزة فلا يحضرها بل توكل، يعني: المرأة التي تستحي من الناس -غير برزة- توكل؛ لأنها تستحي أن تحضر،

وكذلك المريض، إذا قال: إن فلاناً مريض وعليه لي حق قدره كذا وكذا مما تتبعه الهمة، فإنه في هذه الحال يوكل؛ لأنه يشق عليه الحضور.

وكذلك أيضاً: من كان بعيداً، أي: خارج البلد فإنه يوكل؛ لأن عليه مشقة في الحضور.

وإذا وجبت اليمين على غير البرزة، أو على الغائب، أو على المريض فلا يحلف الوكيل؛ لأن الحلف يتعلق بالذمة، بل يرسل القاضي من يحلفهما، فيرسل إلى المرأة التي ليست برزة: احلفي على كذا وكذا، ويرسل إلى المريض: احلف على كذا وكذا، فيحكم بعد ذلك بما يوجب ذلك.

ذكر الفقهاء القضاء في آخر كتاب الفقه، وذكروا الشهادة والإقرار؛ لأنها التي يعتمد عليها القاضي؛ ولأن الغالب أن الإنسان إذا تمت عليه النعمة، بأن حصل على المال، وحصل على النكاح، فلا يؤمن أن يتعدى على غيره، وأن يغلبه الطمع في حق الغائب؛ ولذا تكثر الخصومات والمرافعات، فتجد عند القضاة عدة قضايا؛ وذلك من آثار الاعتداء، ومن آثار الطمع، ومن آثار الظلم، ولو أن كلاً اقتصر على حقه لاستراح القضاة ونحوهم، وهكذا لو أن الإنسان تورع عن الشيء المشتبه وتركه ولم يطالب به عندما يكون الحق الذي يدعيه ليس شيئاً واضحاً؛ إذاً لقلت الخصومات ولقلت القضايا.

ولما كانت الخصومات واقعية، وكانت المرافعات والمنازعات منتشرة في كل البلاد غالباً، وكان هناك اعتداءات ومظالم وأخذ للحقوق بغير حق؛ احتيج إلى نصب القضاة ليحكموا بين الناس.

وقد كان من الأنبياء قضاة، مثل: داود، قال الله تعالى في سورة ص: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص:26] ( بين الناس بالحق ) يعني: عندما يتخاصمون، جعله الله خليفة في الأرض وأمره أن يحكم بين الناس.

وكذلك أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالحكم حتى بين اليهود، وخيره في ذلك القضاء: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42] ثم قال: وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ [المائدة:49] فأمره الله أن يحكم بينهم بالعدل أي: بالقسط، وأمر الله الحكام عموماً بالعدل في قوله تعالى في سورة النساء: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] وفي سورة النحل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النحل:90] أي: بالمساواة وإعطاء كل ذي حق حقه وأخذ المظلمة من الظالم، والانتصار للمظلوم ونصره على من ظلمه.

ونصر الظالم بنصيحته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله ! أنصره إذا كان مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً ؟ قال: تمنعه وتحجزه عن الظلم، فذلك نصرك إياه) أي: تأخذ على يديه وتمنعه من أن يأخذ ما لا يستحقه، وتمنعه من الاعتداء عليه، وتخبره بأن ما أخذه من حق مسلم وهو لا يستحقه فإنه يؤخذ من حسناته يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن المظالم حتى ينتصر للشاة الجماء من الشاة القرناء)، تؤدى المظالم حتى أن الشاة من الغنم إذا كانت جماء ليس لها قرون، ونطحتها التي لها قرون؛ فلابد أن الله تعالى يأخذ حق هذه من هذه، وإذا كان هذا بين البهائم مع أنها لا تكليف عليها، فبطريق الأولى الإنسان المكلف الذي هو بالغ وعاقل، ومع ذلك من الناس من يأخذ حق غيره فيعتدي على ما ليس له ويظلم الناس؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الشورى:42] السبيل، يعني: الحجة عليهم، فمنهم من يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، والذي يحملهم على هذا البغي ضعف إيمانهم؛ ولو كانوا مؤمنين حقاً لحجزهم إيمانهم عن الاعتداء على حق مسلم بغير حق، وقد يحملهم على البغي السرف وحب المال والطمع في الاستكثار، ولا شك أن هذا مما يحمل كثيراً من الناس على أن يعتدي على حق أخيه فيأخذه بغير حق، فيكون بذلك ظالماً ومسيئاً في أخذ ما لا يستحقه.

ومما يحمل على البغي قلة الورع، والورع: هو التوقف عن الشيء المشتبه، وقد كان السلف رحمهم الله يحملهم الورع والخوف على ترك الاعتداء وترك الشيء المشتبه، بل إذا كان هناك شيء مشتبه يخشون أن فيه حراماً أو أنه قريب من الحرام تركوه كله، وقد كتب الإمام أحمد رحمه الله رسالة صغيرة مطبوعة، إذا قرأتها تعرف ما كان عليه الإمام أحمد وغيره من أهل زمانه من شدة التورع عن أخذ ما ليس بحق له.

فإذا عرف الإنسان أن هذا حق مسلم، فعليه أن يتجنبه، ولا يأخذ ما لا يستحقه ظلماً، فإنه ولابد سينتقم منه وسيؤخذ منه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بأعمال كثيرة ويأتي وقد ظلم هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئات المظلومين فطرحت عليه، ثم قذف في النار).

لابد أن يؤخذ للمظلوم من الظالم حتى ولو دخل الجنة، وقد ورد في الحديث: (إنهم إذا نزلوا من الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض في مظالم كانت بينهم، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم بدخول الجنة) أي: لا يدخلون الجنة وبينهم أحقاد، وبينهم مظالم، وبينهم شحناء وعداوات، بل يدخلون الجنة بعدما تصفى قلوبهم، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] أي: ما كان بينهم في الدنيا من الأحقاد، لا يدخلون الجنة إلا وقد صفت منها قلوبهم، وسلموا من الظلم.

ولذلك نقول: إن على المسلم أن يتورع عن حق إخوانه، فإن الاعتداء عليهم حرام، وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) أي: محرم بعضكم على بعض أن يعتدي أحد على أحد، وفي حديث آخر قال: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه) ، ولكن هناك من لا يبالي في الاعتداء على حق أخيه، فيضربه بغير حق، أو يقتله ظلماً، أو ينتهبه، أو يختلس منه، أو يستولي على شيء من حقه فيأخذه ظلماً وعدواناً، وهذا بلا شك من الظلم، وإذا كان كذلك فلابد أن يؤديه في الدنيا، فإن لم يؤده طوعاً أداه كرهاً وذلك إذا حكم عليه الحاكم بأنه ظالم، وأن عنده من الحقوق لإخوانه كذا وكذا، فيحكم عليه بدفع تلك المظلمة وإعطائها لمستحقها كرهاً ولو بحبس أو بجلد حتى يؤدي الحقوق لمستحقيها؛ ولهذا نصب القضاة والحكام ونحوهم.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح أخصر المختصرات [21] 2739 استماع
شرح أخصر المختصرات [28] 2716 استماع
شرح أخصر المختصرات [72] 2607 استماع
شرح أخصر المختصرات [87] 2570 استماع
شرح أخصر المختصرات [37] 2483 استماع
شرح أخصر المختصرات [68] 2348 استماع
شرح أخصر المختصرات [81] 2339 استماع
شرح أخصر المختصرات [58] 2332 استماع
شرح أخصر المختصرات [9] 2318 استماع
شرح أخصر المختصرات [22] 2269 استماع