تفسير سورة النور - الآيات [4-5] الرابع


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:

يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:4-5].

ختم الكلام في الحديث السابق عن مسألة القذف بالتصريح والقذف بالتعريض، وعرفنا بأن أهل العلم مجمعون على أن من قذف غيره بالزنا تصريحاً أنه يقام عليه حد الله عز وجل المنصوص عليه في هذه الآية.

أما من قذف غيره بالتعريض فلم يذكر الزنا صراحةً، ولكنه عرض فقد اختلف العلماء في حكمه؛ فمنهم من قال: لا يقام عليه الحد، استدلالاً بالكتاب والسنة والمعقول.

أما الكتاب: فإن الله عز وجل فرق بين التصريح والتعريض في قوله سبحانه: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:235]، فأباح التعريض، ومنع التصريح.

وأما من السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ الرجل الذي قال: ( يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود ).

وأما من المعقول: فإن التعريض محتمل للقذف وغيره، والحد لا يقام بالاحتمال.

وهناك من العلماء من قالوا: بأن القذف بالتعريض يقام به الحد؛ لأن الله عز وجل ذم بني إسرائيل حين قالوا لـمريم : يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ [مريم:28]، وذم قوم شعيب حين قالوا: إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87]، وربنا جل جلاله استعمل التعريض كذلك حين قال للواحد من أهل النار: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، وكذلك حين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24].

وكذلك الصحابة رضوان الله عليهم أقاموا الحد على من قذف غيره تعريضاً، فـعمر رضي الله عنه أقام الحد على رجل قال لآخر: لست بزان، ولا أبي زان، ولا أمي زانية، و عثمان أقام الحد على من قال لغيره: يا ابن شامة الوذر، وكذلك قالوا: بأن المقصود من إقامة الحد إزالة المعرة، والمعرة تحصل بالتعريض كما تحصل بالتصريح.

وعندنا في هذا الدرس مسائل، نعرض لها إن شاء الله.

المسألة الأولى: من قذف غيره بغير الزنا، كما لو قال له: يا آكل الربا، أو قال له: يا فاسق، أو يا سارق، ونحو ذلك، فإنه يعزر تعزيراً يزجره عن الكلام القبيح، قال بعض أهل العلم: ولا يبلغ التعزير قدر الحد، يعني لا يعزر بثمانين ولا بمائة جلدة، وإنما دون ذلك، قالوا: والتعزير موكول للحاكم، فقد يعزره بالجلد، وقد يعزره بالحبس، وقد يعزره بأخذ بعض المال، وقد يعزره بالتوبيخ، فمن قال لغيره: يا فاسق، أو يا سارق، أو يا حمار، أو يا ثور، أو يا بقرة، أو يا كلب، أو نحو ذلك من الكلام فهذا كله حرام؛ لأن الله قال: وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ [الحجرات:11]، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء )، ثم إنه في ذات الأمر كذب، فمن قال للآخر: يا كلب، فقد علم يقيناً بأن هذا الآخر ليس كلباً، ولا حماراً، فجمع بين الكلام القبيح وبين الكذب، فهذا يعزر بالضرب، ولذلك قلنا: بأن عمر رضي الله عنه حبس الحطيئة لما قال للزبرقان بن بدر :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

المسألة الثالثة: قال ابن المنذر رحمه الله: أجمع أهل العلم على أن النصراني إذا قذف مسلماً رجلاً كان أو امرأة أنه يلزمه الحد الذي يلزم المسلم، فلو أن غير المسلم نصرانياً أو يهودياً قذف مسلماً أو مسلمة بالفاحشة فإنه يقام عليه الحد.

المسألة الرابعة: لو أن رجلاً قال لآخر: يا من وطئ بين الفخذين فإنه لا يقام عليه حد القذف؛ لأنه رماه بما لا يعد زنا إجماعاً، لأن الزنا: هو الوطء في غير نكاح ولا شبهة نكاح ولا ملك يمين، أو أنه إيلاج فرج في فرج محرم شرعاً مشتهىً طبعاً. فمن قال لآخر: يا من وطئ بين الفخذين فلا يعد قذفاً، ولا يقام عليه الحد، لكن هذا أيضاً لا ينفي التعزير والتأديب.

المسألة الخامسة: لو أن إنساناً قال لآخر: يا زان، فقال ثالث: صدقت، فإنه يقام الحد، على من قال وعلى من صدقه؛ لأن المصدق للقاذف قاذف؛ ولذلك يلزمه ما يلزم القاذف، هذا يحد وهذا يحد، والحمد لله.

المسألة السادسة: لو أن إنساناً قال لآخر: أخبرني فلان بأنك زنيت، فإنه لا يقام عليه الحد سواء صدقه المخبر عنه أو كذبه؛ لأنه لم يقل ذلك من تلقاء نفسه، وإنما نقل عن غيره، سواء صدقه المخبر عنه أو كذبه، قالوا: لاحتمال أن يكون صادقاً في نفس الأمر، كما لو شهد على إنسان بأنه قذف إنساناً فكذبه المشهود عليه فلا يعد قاذفاً، فلو أن فلاناً من الناس شهد على فلان بأنه قذف الآخر بالزنا، وأنكر المشهود عليه القذف أو قال: أنا لم أقل هذا الكلام، فهل نعتبر هذا الشاهد قاذفاً؟ نقول: عندنا قضية فيها ثلاثة: فلان شهد على فلان بأنه قذف فلاناً، وأنكر المشهود عليه، وقال: أنا لم أقل هذا الكلام، فهل معنى ذلك أن الشاهد قذف؟ الجواب: لا وإنما أخبر، وبعد ذلك تكون القضية بينه وبين المخبر عنه.

نقول مرة ثانية: لو أن إنساناً قال لآخر: أخبرني فلان بأنك زنيت، فإنه لا يقام الحد على هذا المخبر؛ لأنه لم يقل ذلك من تلقاء نفسه، وإنما نقل عن غيره، سواء كذبه المخبر عنه أو صدقه.

المسألة السابعة: لو أن إنساناً قذف آخر، وعجز عن إقامة البينة، ثم زنا المقذوف قبل أن يقام الحد على القاذف، فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأنه ثبت بزناه أنه غير عفيف، والله عز وجل قال: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [النور:4]، أي: من كانوا من أهل العفة، وصورة المسألة: لو أن إنساناً ذهب إلى الحاكم وشهد وقال: والله إن فلاناً هذا زان، ويعلم الله أني رأيته بأم عيني، وأقسم بالله ثلاثاً أني رأيته، وأسأل الله أن يمسخني قرداً أو خنزيراً إن كنت كاذباً، فقال له القاضي: هذا كله لن ينفعك، لا بد أن يكون معك ثلاثة شهود مقبولين عندنا، فإن قال هذا القاذف يا أخي أنا قلت لك: يعلم الله أو يشهد الله، علم الله واسع، أما نحن فعندنا قانون، ونظام معين، وقد حكمت المحكمة على فلان ابن فلان بأن يجلد ثمانين جلدة، وأن يسجل مردود الشهادة، فلا تقبل شهادته ولا في حزمة جرجير، وهو فاسق، ولو أن واحداً في الطريق قال له: يا فاسق فليس عليه شيء، فلو أن القاضي قال للقاذف: إن شاء الله يوم الأربعاء القادم سيقام عليك الحد، فبينما هو ينتظر إقامة الحد، في يوم السبت وقع الرجل المشهود عليه في الفاحشة، وثبت ذلك عليه بإقراره أو بالبينة، فمن شهد أولاً وحكم عليه فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأنه ثبت بهذا الزنا أن هذا المقذوف ليس محصناً، وليس عفيفاً.

المسألة الثامنة: إذا تمت الشهادة في الزنا، فشهد أربعة، لكن استبان أن بعضهم غير عدول، أو استبان أن أحدهم مثلاً عبد، أو غير مكلف، فإنه يقام الحد على الآخرين؛ لأن الشهادة لم تتم، والأصل براءة عرض المسلم.

والآن نستعرض ما مر معنا من المسائل إجمالاً:

المسألة الأولى: من قذف غيره بغير زنا فقال له: يا فاسق أو يا حرامي ونحوها، فيعزر ولا يقام عليه الحد.

المسألة الثانية: من قذف غير مسلم رجلاً كان أو امرأة فلا يقام عليه الحد.

المسألة الثالثة: لو أن غير المسلم قذف مسلماً أقيم عليه الحد.

المسألة الرابعة: لو أن شخصاً قال لآخر: يا من وطئ بين الفخذين فإنه لا يقام عليه الحد.

المسألة الخامسة: من رمى إنساناً بالزنا فقال له ثالث: صدقت يقام عليهما الحد.

المسألة السادسة: من نقل القذف عن غيره، فقال: أخبرني فلان بأنك زنيت فإنه أيضاً لا يقام عليه الحد.

المسألة السابعة: من قذف غيره ولم يستطع أن يقيم البينة ولا أقر المقذوف، فحكم عليه بإقامة الحد، ثم زنى المقذوف قبل أن يقام الحد على القاذف فإن الحد يسقط عن القاذف.

المسألة الثامنة: لو أن جماعةً شهدوا وتمت شهادتهم، ثم استبان أن بعضهم غير مقبول الشهادة؛ لكونه غير عدل، أو لكونه غير مكلف مثلاً، ففي هذه الحالة يقام الحد على هؤلاء الشهود.

بقيت لدينا مسائل مهمة وهي: لو أن إنساناً قذف جماعةً في وقت واحد، أو لو أن إنساناً قذف جماعةً بكلمات متعددة، يعني بتهم متعددة كلها موجبة للفاحشة، أو نفي النسب، سنتعرض لها إن شاء الله، أسأل الله أن ينفعني وإياكم.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين. والحمد لله رب العالمين.

المسألة الثانية: من قذف رجلاً من أهل الكتاب أو امرأة فلا يقام عليه الحد، قال بعضهم: إلا إذا كانت امرأة ولها ولد من مسلم، وقال بعضهم: إلا إذا كانت تحت مسلم؛ لأن المعرة تلحق بالمسلم أما غير المسلم فهو واقع فيما هو أعظم من الزنا، وهو الكفر والشرك بالله عز وجل، وليس ثمة ذنب أعظم من ذلك، لذلك قال علماؤنا: من قذف نصرانياً أو نصرانيةً مثلاً، أو يهودياً أو يهودية فإنه لا يقام عليه الحد، وبعضهم استثنى وقالوا: إلا إذا كان للكتابية ولد مسلم؛ لأن المعرة تلحق هذا المسلم، وبعضهم قال: إلا إذا كانت تحت مسلم، أي: إذا كانت متزوجة من مسلم، وإذا قلنا: بأن الحد لا يجب على من قذف رجلاً أو امرأةً من أهل الكتاب فليس معنى ذلك أنه أيضاً لا يعزر، بل يعزر؛ لأن الله عز وجل يريد للمجتمع أن يكون طاهراً من هذه الألفاظ القبيحة والمزعجة.