خطب ومحاضرات
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -1
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
فهذا يوم الأربعاء ليلة الخميس السابع عشر من شهر الله المحرم من سنة ألف وأربعمائة وأربع وعشرين للهجرة.
وفي هذه الليلة عندنا موضوع الخيار من الفقه.
لا شك أنكم تتابعون وتعرفون وتقرءون وتسمعون هذه الأخبار التي تدع الحليم حيران، وترفع الضغط، وتجعل الإنسان في حالة صعبة، لكن عزاؤنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن نشرح الآن في الفقه والخيار بينما الناس في ضيق وليس أمامهم خيارات كثيرة، خصوصاً لما تتأمل هذا الشعب المضطهد المظلوم في العراق، ربما من عشرات السنين لم ينعم بهناءة العيش ولا بالسرور ولا بالرضا, فضلاً عن عدم قدرته على ممارسة تدينه بشكل صحيح عبر هذه السنين الطويلة, ثم هو يواجه الآن خيارات ربما كانت أصعب, بل هي بالتأكيد أصعب وأصعب مما مضى، لكن عزاؤنا -كما قلت- قول رسولنا عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي كررناه مراراً: ( إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها ). ليس مطلوباً منا ونحن نواجه هذه الأزمات الصعبة أن نتوقف عن مشاريعنا الشخصية والفردية والأسرية والجماعية وغيرها، بل المطلوب منا أن نضاعفها, وأن ندري أن أمامنا في المستقبل أزمات أخرى تتطلب أن نكون هيأنا أنفسنا وأجيالنا وشبابنا لمواجهة تلك الأزمات التي ستقع بعد عشر سنوات .. عشرين سنة, وتحتاج إلى من تذرعوا بالعلم النافع والأدب الفاضل والتقوى والإيمان؛ ليكونوا مصابيح لهذه الأمة.
ثم أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الخيار].
الخيار هو كما يقولون: اسم مصدر، وليس مصدراً، فإن مصدر (اختار) هو (اختيار) بعدد الحروف، بينما (الخيار) ناقصة الحروف, فهو مثل السلام, ومثل الكلام, يسميه العلماء واللغويون: اسم مصدر، وليس مصدراً.
و المقصود بالخيار في باب البيوع: هو أن يكون الإنسان بين خيارين، أو بخير الأمرين, أو بأحد الأمرين. أن يكون الإنسان مخيراً بين أمرين، هذا معنى الخيار، إما أن نقول: بخير وأفضل الأمرين أو بأحدهما؛ لأنه قد يختار ما يظنه الأفضل ويكون مفضولاً، ولا باع أحد شيئاً إلا وهو يظن أن البيع خير له، ولا اشترى إلا وهو يظن أن الشراء خير له، فالمقصود إذاً بالخيار: هو أن يكون البائع أو المشتري أو كلاهما مخير بين إمضاء البيع وبين فسخه أو رده. هذا معنى الخيار.
والخيار ثابت في الجملة كما سوف يتضح بعد قليل، والفقهاء من الحنابلة والشافعية والمالكية وغيرهم إذا وضعوا باب الخيار، غالباً ما يدخلون معه مسألة الإقالة ومسألة الفسخ ونحوها؛ لأن لها تعلقاً بموضوع الخيار.
والخيار أنواع, فبعضهم يقسمه إلى تقسيم لطيف، وهذا وجدته عند الشافعية، يقولون: الخيار على ضربين، خيار شهوة، وخيار نقص، فأما خيار النقص فيقصدون به مثل الخيار المبني على وجود عيب في السلعة، أو على وجود وصف ناقص، أو على غبن, أو ما أشبه ذلك من الأسباب التي تجعل المشتري بالخيار، فهذا يسمى خيار نقص.
أما النوع الثاني: فيسمونه خيار شهوة، وهو أن يكون الإنسان مخيراً بمزاجه وبقناعته، مثل: خيار المجلس، كونهم أثناء المجلس بالخيار، إن شاء أمضى البيع وإن شاء نقضه، ومثل: خيار الشرط، أنه بعدما يشتري يقول: لي الخيار لمدة ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر، يمكنني خلالها أن أرد السلعة، فهذا يسمى خيار الشرط، ومثل: خيار الرؤية عند من يجوز بيع الغائب، فيقول مثلاً: أشتري منك سيارة ليكسز مثلاً، موديل كذا، لون كذا, مواصفاتها كذا، ولكن هذا مبني على الرؤية، فإذا رأى مثلاً هذا الأمر الغائب كان بالخيار أن يمضي البيع أو يرده.
فإذاً: الخيار ينقسم إلى أقسام وأنواع.
و الحنابلة ربما من أكثر الفقهاء تقسيماً للخيار، حتى إن منهم من أوصل أقسام الخيار إلى اثني عشر قسماً، أو اثني عشر نوعاً.
منها: الخيار المسمى بـ(خيار المجلس)، وهو الذي بدأ به المصنف رحمه الله حيث يقول: [البيعان بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما]. فهذا يسمى (خيار المجلس), ويقصد بـ(خيار المجلس) أن البائع والمشتري ما داما في مجلس البيع فلكل واحد منهما إمضاء البيع أو رده حتى يتفرقا عن ذلك المجلس، وليس المقصود بالمجلس بالضرورة الجلوس؛ ولذلك لو كانوا - مثلاً- مضطجعين يصلح الخيار أو ما يصلح؟ يصلح. أو قائمين وقوفاً، يصلح أو ما يصلح؟ يصلح، وإنما المقصود بالمجلس يعني: خيار المكان الذي تم عقد البيع فيه أياً كان، قد يكون البيع بالطيارة, وقد يكون بسفينة أو باخرة، أو إن شاء الله يكون بصاروخ أو يكون في الفضاء أو في البر أو في البحر، المهم: أن المقصود بالمجلس هو مكان العقد، وهذا الخيار -خيار المجلس- هو أشهر أنواع الخيار، ومعناه ما ذكرنا، أنهما ما داما في المجلس عرفاً فهما في الخيار.
القائلون بخيار المجلس
فهؤلاء يقولون: بأن المتبايعين بالخيار ما داموا في مجلس العقد وفي مجلس البيع.
خيار المجلس يكون في عقود المعاوضات
بمعنى أوسع نقول: كل عقود المعاوضات اللازمة فإنه يقع فيها الخيار، فعقود المعاوضات مثل البيع كما ذكرنا، أو الإجارة أو نحوها.
فهذه عقود معاوضة، أخذ وعطاء، وأيضاً هي عقود لازمة؛ لأن العقد إذا مضى ونفذ وجب على الطرفين كلاهما الالتزام به، بخلاف العقود الجائزة، هل تحتاج العقود الجائزة إلى خيار؟ لا، لماذا لا تحتاج إلى خيار؟ لأنه يستطيع أن يتخلص من العقد في أي وقت شاء.
مثل ماذا العقود الجائزة؟ أقرب مثال: الوكالة، ممكن أذهب أنا الآن إلى كتابة العدل وأخرج توكيلاً بأني وكلتك على استخراج شيء حتى بدون موافقتك, لماذا؟ لأن كل ما في الأمر أنه إذا وصلتك الوكالة تقول أنت: لا أقبلها، وقد تقبلها اليوم وترفضها غداً، إذاً: هذا عقد جائز، فلا يحتاج إلى خيار، سواء كان هذا عقد المعاوضة عقداً على العين، مثل بيع، أو صلحاً على عوض, أو كان عقداً على منفعة، مثل ماذا العقد على المنفعة؟ مثل الإجارة، أجرتك مثلاً هذا البيت بخمسين ألف ريال لمدة سنة، فهذا عقد عوض، لكن ما هو على العين، وإنما على منفعة السكنى، وبعد نهاية المدة تخرج منه، فهذا عقد لازم، عقد الإجارة, ولذلك يمضي فيه الخيار ما داموا في مجلس العقد على قول الأكثرين كما ذكرنا، وهو مذهب الجمهور.
أدلة القائلين بخيار المجلس
استدلوا بأدلة كثيرة من أشهرها حديثان وكلاهما في الصحيحين، حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ( إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار، ما لم يتفرقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر، فإن تفرقا أو خير أحدهما الآخر فقد وجب البيع ). فهذا دليل على أن البائع والمشتري، البيعان يعني: البائع والمشتري، وكلاهما يسمى بائعاً.
( فهما بالخيار, ما لم يتفرقا وكانا جميعاً ), يعني: ما لم يتفرقا وقد كانا جميعاً، ولا شك أنهم عند البيع جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر.
وقوله: ( وكانا جميعاً ) لا يلزم منه أن يكونا جميعاً بأجسادهما، فإن العصر الحاضر تفتق عن أنماط جديدة من البيوع، ذكرنا منها مثلاً البيع عن طريق الهاتف، أو البيع عن طريق الإنترنت، أو البيع عن طرق اتصال مباشرة، تجعل المتبايعين يرى أحدهما الآخر ويفاوضه أو يستمع إليه، فهنا نقول: يستمر الخيار لهما إلى أن تنتهي -مثلاً- المكالمة، أو ينفض المجلس, أو يقفل الاتصال بينهما، فبناءً على ذلك يجب البيع، أما أثناء المكالمة فبإمكانه بعد نصف ساعة من المكالمة يقول له: تراجعت عن الصفقة, ولهذا قال: ( وكانا جميعاً ), يعني: كل بائعين فهما جميع في البداية؛ لأن البيع لم يكن, ولذلك الشافعية وغيرهم من الفقهاء نصوا على أنه لو باع أحدهما على الآخر وهو بعيد عن طريق الصوت, يعني: ما هم في مجلس واحد، وإنما باع عليه عن طريق الصوت، فهل يقع الخيار أو لا يقع؟
فالقول الصحيح عندهم كما ذكره الجويني وغيره: أن له الخيار، ما داموا في المكان الذي كانوا فيه، لكن نحن نقول: إن الوسائل الحديثة الآن مثل الهاتف أو الإنترنت أو غيرها هي أقوى مما كان عليه الصوت في الماضي، بل ربما كانت مثل ما لو كانوا في مجلس واحد.
طيب! حديث ابن عمر : ( ما لم يتفرقا وكانا جميعاً ).
ومثله حديث حكيم بن حزام أيضاً: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ). وهو أيضاً في الصحيحين.
وحديث حبان بن منقذ وأصله في البخاري ومسلم عن ابن عمر , وله تفاصيل عند أهل السنن والبيهقي : أنه كان رجل أصابته في رأسه آمة أو ضربة، ففقد بعض ذاكرته أو بعض فهمه، فكان يغلب ولا يصبر عن البيع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا بايعت فقل: لا خلابة ). وكان عنده لثغة في لسانه, فكان يقول: لا خيابة، أو لا خذابة، ما يستطيع أن يقولها جيداً.
وكان الصحابة يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه الفرصة، وفي بعض الروايات أنه نص على أن له الخيار ثلاثة أيام، فخلالها إذا غلب أو غبن في البيع أن يخدع، كان يخدع في البيع، فكان يرجع المبيع ويقول: النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني تفويضاً بالشيء هذا، وهذا طبعاً لا يخصه هو، وإنما لكل أحد كما سوف يأتي ممن يحتاج إلى الخيار، المهم: أن هذه الأدلة تدل على أصل جواز الخيار، والدليلان الأولان على خيار المجلس.
والدليل الثالث: حديث حبان يدل على خيار الغبن, كما سوف تأتي الإشارة إليه. وهذا القول لا شك أنه قول صحيح ظاهر الرجحان، أولاً: لأدلته القوية الصحيحة - كما ذكرنا- التي لم تتعرض لنسخ ولا لتخصيص.
وثانياً: لأنه مقتضى المصلحة والله أعلم, أنه ما دام المتبايعان في المجلس, لأنه قد يقول: اشتريت، ثم يبدو له بغير تأنٍ، فيكون عنده فرصة أن يراجع نفسه، البائع والمشتري على حد سواء.
القائلون بعدم خيار المجلس
والشيء الطريف: أن مالكاً هو راوي حديث الخيار، فقد رواه عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ).
ومن هنا أخذ عليه بعض العلماء أنه كيف تروي الحديث ثم تخالفه. فطبعاً هو روى الحديث كما ذكرنا، وتأول الأمر فيه، قد يكون تأوله بالنسخ كما ذكر ذلك عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء، وقد يكون فهم أو حمل التفرق (ما لم يتفرقا) على التفرق بالأقوال، يعني: أن هذا اشترى وهذا باع. هذه حجة الإمام مالك رحمه الله.
المهم: أن مالكاً ممن يقول بعدم خيار المجلس، وتعرض بسبب ذلك لمشكلة، وابن أبي ذئب من فقهاء المدينة سخط على الإمام مالك، وقال فيه كلمة شديدة, رأيت من المصلحة أني أقولها لكم الآن، قال ابن أبي ذئب : يستتاب مالك، فإن تاب وإلا ضربت عنقه, وهذه كلمة فضيعة في نظري، وكنت أشعر بقشعريرة أن عالماً مهما كان قدره يطلقها على رجل كالإمام مالك رحمه الله إمام دار الهجرة، ممن له من الفضل والنبل والمكانة الشيء العظيم، وحقيقة مثل هذه الكلمات ومثل هذه الأقوال وددنا أنها طويت وما رويت، وما سمعت؛ لئلا يتشبث بها الناس، ووجدنا أن الإمام أحمد رحمه الله لما قال هذه الكلمة نقلها عن مالك .. قال الإمام أحمد : هو أورع وأقول بالحق من مالك , يعني: ابن أبي ذئب . فالإمام أحمد يقول: إن ابن أبي ذئب فيه قوة ونوعاً من الشدة، ولذلك قال ما قال، وهذه أيضاً فيها شيء، ولذلك أعجبني جداً وشفى غليلي الإمام الذهبي في السير، فقد علق على كلام ابن أبي ذئب وعلى كلام الإمام أحمد وقال: لو كان ورعاً كما ينبغي لما قال هذا الكلام القبيح في حق إمام عظيم، فـمالك إنما لم يعمل بظاهر الحديث؛ لأنه رآه منسوخاً.
وقيل: عمل به وحمل قوله: (حتى يتفرقا) على التلفظ بالإيجاب والقبول، يعني: التفرق بالأقوال، مثل حديث: ( افترقت هذه الأمة ). قال: فـمالك في هذا الحديث -ولا يزال الكلام للذهبي - وفي كل حديث له أجر ولابد، فإن أصاب ازداد أجراً آخر، وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده الحرورية . فهذا الكلام الذي يتشبث به، والذهبي مربي، يقول: وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده الحرورية , الخوارج هم الذين حملوا السيف على المسلمين، قال: وبكل حال فكلام الأقران بعضه في بعض لا يعول على كثير منه، فلا نقصت جلالة مالك بقول ابن أبي ذئب فيه, ولا ضعف العلماء ابن أبي ذئب بمقالته تلك، بل هما عالما المدينة في زمانهما رضي الله عنهما، ولم يسندها الإمام أحمد فلعلها لم تصح.
وأقول: خطر في بالي وأنا أقرأ كلمة الإمام أحمد يقول: هو أورع وأقول بالحق من مالك , قلت: لعلها: هو أورع وأقول بالحق من ذلك، يمكن يكون فيها أيضاً نوع من التحريف, وأن الإمام أحمد يشكك في صحة هذه الكلمة ونسبتها إليه. والله أعلم. ويحتمل الوجه الثاني أنه معروف ابن أبي ذئب كان فيه نوع من القوة، ولعلنا ذكرنا لكم سابقاً أن ابن أبي ذئب جاءه مرة أعرابي، وكان طلق زوجته وأراد منه أن يردها إليه، فقال له ابن أبي ذئب : طلقت زوجتك منك بالثلاث ولا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك، فولى الأعرابي وهو يقول:
أتيت ابن ذئب أبتغي رد زوجتي فطلقها بتاً فبتت أنامله
فطلقها بتاً، يعني: ألبتة.
أتترك في فتوى ابن ذئب حليلتي وعند ابن ذئب أهله وحلائله
يعني: يطلق زوجتي وزوجاته عنده. فهذه مما يستطرف في خبر ابن أبي ذئب رحمه الله وغفر له، والمقصود: أن مثل هذه اللغة - يعني: القبيحة- كما عبر الذهبي من الأشياء التي ينبغي أن تبعد عن طلبة العلم، وأن ينأى بها خصوصاً في مجال الاختلاف في مسائل لها وجه.
الإمام مالك رحمه الله لم ينفرد بهذا القول، وأيضاً لا أنسى أن الشافعي ممن عاب على مالك هذا المذهب، وقال: لا أدري هل يتهم مالك نفسه، أو يتهم نافعاً ؟ قال: وأعظم أن أقول: يتهم ابن عمر، بينما مالك رحمه الله كما قلنا: قد لا يكون اتهم أحداً أصلاً، وإنما إما أن يقول: بأن الحديث منسوخ، أو يحمله على أحد الوجوه, وله حجة كما سوف نذكر.
المهم: أن الإمام مالكاً ممن قال بهذا، ونقل هذا القول عن شريح وعن النخعي وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , وهو من شيوخ الإمام مالك، وهو مذهب أصحاب الرأي: أبي حنيفة وأصحابه والثوري وابن شبرمة وطائفة من أهل الظاهر، قالوا: بأنه ليس هناك خيار للمجلس.
أدلة القائلين بعدم خيار المجلس
وكذلك قالوا: إن ذلك مثل عقد النكاح أو عقد الخلع، فإنه لا يجوز مثلاً في النكاح أن يكون للعاقد خيار، فقالوا: كذلك عقد البيع.
إضافة إلى أنهم رووا عن عمر رضي الله عنه كما ذكره ابن قدامة في المغني لهم: أنه كان يقول: (إنما البيع صفقة أو خيار) فقالوا: معنى قول عمر : (صفقة أو خيار), يعني: إما بيع بصفقة مباشرة، أو خيار يعني: خيار الشرط، أنه يشترط أن لي الخيار، ولم يذكر خيار المجلس. وما أشبه ذلك من الأقوال والحجج.
وأجابوا عن الحديث بمثل ما ذكرنا، أن المراد التفرق بالأقوال, كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ( افترقت هذه الأمة ). وقيل: بأن ذلك منسوخ. ومالك أيضاً يحتج بعمل أهل المدينة ؛ لأنه يقول: إنه وجد أهل المدينة لا يعملون بخيار المجلس، ولا شك أن الصواب: أن خيار المجلس باق وصحيح؛ لقوة أدلته.
العبرة بالعرف في مدة خيار المجلس
وبعضهم قال: إذا ابتعد عنه بحيث لا يسمع صوته المعتاد.
وبعضهم قال: إذا خرج من المجلس إن كانوا في مجلس.
ولذلك أحياناً يكون الخيار مستمراً مثل ما لو كانوا في سفينة كما قلنا، أو في طائرة صغيرة، أو سيارة صغيرة, وربما يستغرق المسير بضعة أيام أحياناً، فهنا متى ينقضي خيار المجلس؟
نقول: يظل الخيار معهم إلى أن يتفرقوا، وهذه من حجج أبي حنيفة، قال: أرأيت إن كان في سفينة، فنقول: حتى لو كان في سفينة يظل الخيار باقياً.
هل يستطيعون هم أن يتخلصوا من خيار المجلس في الحالة هذه؟
نعم، أن يتفقا على إلغائه، والصواب: أنهم إذا اتفقوا على إلغاء الخيار سقط، يعني: لو قال: بعت وقال هذا: اشتريت، قال: طيب ما رأيك خيار المجلس نلغيه، ما يكون لي خيار ولا لك خيار، يعتبر البيع نافذ وواجب، قلنا: اتفقنا على إلغاء خيار المجلس. في هذه الحالة يلغى الخيار ويكون العقد صحيحاً وإن طال بهم المجلس. طيب.
الخلاف في المالك للسلعة مدة الخيار
في المسألة هذه ثلاثة أقوال، هي ثلاثة أقوال للشافعية وغيرهم.
قيل: إن السلعة للمشتري؛ لأن البيع وقع ومضى، والبائع هذا هو الضامن لو حصل فيها تلف، والنبي صلى الله عليه وسلم ماذا يقول؟ ( الخراج بالضمان ). نعم حديث: ( الخراج بالضمان ) لا بأس بإسناده, وقد صححه جماعة من أهل العلم كما سوف نذكره بعد قليل.
فالمقصود: أنهم قالوا: إن السلعة تكون لمن؟
تكون للمشتري، للأدلة التي ذكرناها؛ لأنه هو الضامن، ولأن البيع عقد أجري وانتقلت السلعة إليه, كما انتقل الثمن إلى البائع, فتكون السلعة للمشتري، إذا اشتريت منك مثلاً، لنفترض هذه الدابة بعير أو فرس، وجرى عقد البيع والشراء في هذا المجلس، فخلال المجلس سواء كان خيار مجلس أو خيار شرط تكون هذه الدابة في ملكي، ولو تلفت لكنت ضامناً, ولذلك نماء هذه لي, مثلاً: لو كانت شجرة كمثال وأثمرت أليس يأخذ ثمرها، لو حلب مثلاً هذه الناقة أو الشاة أليس له لبنها وحليبها، فقالوا: يكون هو الضامن، ويكون ملكها له، كما أن الثمن ملك للبائع.
وهذا القول هو قول كثير من الحنابلة أيضاً, وهو الراجح, أنه خلال مدة الخيار يكون ملك السلعة للمشتري، وأن ملك الثمن للبائع، بمعنى: أننا نعتبر أن البيع كما لو كان لا خيار فيه، ماض.
القول الثاني: العكس، قالوا: السلعة تكون للبائع؛ لأنه لم يتم البيع بشكل تام ولم ينفذ، والثمن يكون للمشتري أيضاً.
والقول الثالث: قالوا: إنها موقوفة أو منظورة أو مرجئة، متربص فيها, لا تكون لهذا ولا لهذا، والأقوى هو الأول، ومما يدل على قوته -أن السلعة للمشتري- قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في مسلم : ( من بائع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع ). فدل هذا على أنه بمجرد عقد البيع يصبح العبد للمشتري، ويصبح الثمن -ثمن العبد- للبائع فدل هذا على أنه بمجرد عقد البيع تنتقل ملكية السلعة إلى المشتري وثمنها إلى البائع.
مداخلة: ما هو باستلام النقود يا شيخ! انتهى.
الشيخ: لا، ما هو باستلام النقود، بإمضاء العقد، بمضي العقد بينهم؛ لأنه قد يكون البيع بيعاً بالتقسيط مثلاً أو بالآجل.
ما لا يدخله الخيار
قالوا: مثل الكتابة، عقد الكتابة لما كان هناك عبيد أرقاء، الله سبحانه وتعالى يقول: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33]. فقالوا: الكتابة، كونك تكاتب العبد الرقيق، فإذا كاتبته فإنه ليس لك الخيار, لماذا؟ قالوا: هذا رغبة من الشريعة في تحرير الأرقاء والمكاتبين وإمضاء ذلك, فإذا أمضى العقد فإنه يتم.
كذلك قالوا: لو كان الشخص هو الذي تولى طرفي العقد، مثل ما لو وكلتك أن تشتري لي مزرعة أو استراحة، ووكلك آخر أن تبيع له استراحة، فأنت وكيل عن البائع ووكيل عن المشتري، ففي هذه الحالة لا يكون ثمة خيار؛ لأن الشخص واحد فلا يتصور أن ينفصل أو يتفرق، الواحد ما يتفرق، إلا إذا مات فإنها تتفرق أجزاؤه في قبره، فإذا كان الشخص يتولى طرفي العقد لم يكن له خيار.
كذلك الصورة الثالثة: شراء من يعتق عليه، يعني: لما كان هناك عبيد أرقاء، لو اشترى أباه مثلاً بمجرد الشراء، فإن الأب يصبح حراً عتيقاً بمجرد الشراء, فإذا شتراه عتق, فلا يكون له خيار حينئذٍ.
حكم إسقاط الخيار
لو أسقط أحدهما الخيار، هل يسقط عن الآخر أو يبقى له؟ يبقى له، نعم، الصواب: أنه لو أسقط أحدهما الخيار فإنه يبقى له، ولهذا المصنف هنا قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما) ودل قوله: (بأبدانهما) ليخرج التفرق بالأقوال، وإلا فإنه لا يقصد بالأبدان حقيقة البدن، فإنه كما ذكرنا قد يكون البيع بين متباعدين، فيحمل على التفرق الحسي بالأبدان أو بغيرها، وليس التفرق بالأقوال.
وإلا فإن التفرق بالأقوال كون هذا اشترى وهذا باع هل يصح أن يسمى هذا تفرقاً أو اتفاقاً؟
اتفاقاً وليس تفرقاً، حقيقة أنا بعت وأنت اشتريت، لكن هذا هو الاتفاق الذي بموجبه يقع عقد البيع، فلا يصح أن يسمى تفرقاً.
قال: [فإن تفرقا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع]. هذا الآن هو النوع الأول من الخيار، وهو ما يسمى بخيار المجلس.
والأكثرون من أهل العلم كجمهور الصحابة -مثلاً- ومنقول هذا الخيار عن ابن عمر وعن عمر أيضاً نفسه وعن أبي هريرة وعن أبي برزة الأسلمي وذكره النووي وذكره صاحب المغني، وذكره ابن رشد وغيرهم عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك السلف والتابعون، نقل عن شريح والشعبي وعطاء وطاوس والزهري والأوزاعي وابن أبي ذئب وفقهاء أهل المدينة، وهو مذهب الشافعي رحمه الله وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وأبي ثور وغيرهم.
فهؤلاء يقولون: بأن المتبايعين بالخيار ما داموا في مجلس العقد وفي مجلس البيع.
وربما يكون هذا ليس خاصاً بالبيع فقط، وإن كان غالباً ما يقال: البيع، حتى الحديث: ( البيعان بالخيار ). إنما يقصد بذلك البيع وما كان في معناه، مثل الصلح الذي يكون على عوض، ومثل الهبة التي تكون على عوض أيضاً.
بمعنى أوسع نقول: كل عقود المعاوضات اللازمة فإنه يقع فيها الخيار، فعقود المعاوضات مثل البيع كما ذكرنا، أو الإجارة أو نحوها.
فهذه عقود معاوضة، أخذ وعطاء، وأيضاً هي عقود لازمة؛ لأن العقد إذا مضى ونفذ وجب على الطرفين كلاهما الالتزام به، بخلاف العقود الجائزة، هل تحتاج العقود الجائزة إلى خيار؟ لا، لماذا لا تحتاج إلى خيار؟ لأنه يستطيع أن يتخلص من العقد في أي وقت شاء.
مثل ماذا العقود الجائزة؟ أقرب مثال: الوكالة، ممكن أذهب أنا الآن إلى كتابة العدل وأخرج توكيلاً بأني وكلتك على استخراج شيء حتى بدون موافقتك, لماذا؟ لأن كل ما في الأمر أنه إذا وصلتك الوكالة تقول أنت: لا أقبلها، وقد تقبلها اليوم وترفضها غداً، إذاً: هذا عقد جائز، فلا يحتاج إلى خيار، سواء كان هذا عقد المعاوضة عقداً على العين، مثل بيع، أو صلحاً على عوض, أو كان عقداً على منفعة، مثل ماذا العقد على المنفعة؟ مثل الإجارة، أجرتك مثلاً هذا البيت بخمسين ألف ريال لمدة سنة، فهذا عقد عوض، لكن ما هو على العين، وإنما على منفعة السكنى، وبعد نهاية المدة تخرج منه، فهذا عقد لازم، عقد الإجارة, ولذلك يمضي فيه الخيار ما داموا في مجلس العقد على قول الأكثرين كما ذكرنا، وهو مذهب الجمهور.
ما هو دليلهم على خيار المجلس؟
استدلوا بأدلة كثيرة من أشهرها حديثان وكلاهما في الصحيحين، حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ( إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار، ما لم يتفرقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر، فإن تفرقا أو خير أحدهما الآخر فقد وجب البيع ). فهذا دليل على أن البائع والمشتري، البيعان يعني: البائع والمشتري، وكلاهما يسمى بائعاً.
( فهما بالخيار, ما لم يتفرقا وكانا جميعاً ), يعني: ما لم يتفرقا وقد كانا جميعاً، ولا شك أنهم عند البيع جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر.
وقوله: ( وكانا جميعاً ) لا يلزم منه أن يكونا جميعاً بأجسادهما، فإن العصر الحاضر تفتق عن أنماط جديدة من البيوع، ذكرنا منها مثلاً البيع عن طريق الهاتف، أو البيع عن طريق الإنترنت، أو البيع عن طرق اتصال مباشرة، تجعل المتبايعين يرى أحدهما الآخر ويفاوضه أو يستمع إليه، فهنا نقول: يستمر الخيار لهما إلى أن تنتهي -مثلاً- المكالمة، أو ينفض المجلس, أو يقفل الاتصال بينهما، فبناءً على ذلك يجب البيع، أما أثناء المكالمة فبإمكانه بعد نصف ساعة من المكالمة يقول له: تراجعت عن الصفقة, ولهذا قال: ( وكانا جميعاً ), يعني: كل بائعين فهما جميع في البداية؛ لأن البيع لم يكن, ولذلك الشافعية وغيرهم من الفقهاء نصوا على أنه لو باع أحدهما على الآخر وهو بعيد عن طريق الصوت, يعني: ما هم في مجلس واحد، وإنما باع عليه عن طريق الصوت، فهل يقع الخيار أو لا يقع؟
فالقول الصحيح عندهم كما ذكره الجويني وغيره: أن له الخيار، ما داموا في المكان الذي كانوا فيه، لكن نحن نقول: إن الوسائل الحديثة الآن مثل الهاتف أو الإنترنت أو غيرها هي أقوى مما كان عليه الصوت في الماضي، بل ربما كانت مثل ما لو كانوا في مجلس واحد.
طيب! حديث ابن عمر : ( ما لم يتفرقا وكانا جميعاً ).
ومثله حديث حكيم بن حزام أيضاً: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ). وهو أيضاً في الصحيحين.
وحديث حبان بن منقذ وأصله في البخاري ومسلم عن ابن عمر , وله تفاصيل عند أهل السنن والبيهقي : أنه كان رجل أصابته في رأسه آمة أو ضربة، ففقد بعض ذاكرته أو بعض فهمه، فكان يغلب ولا يصبر عن البيع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا بايعت فقل: لا خلابة ). وكان عنده لثغة في لسانه, فكان يقول: لا خيابة، أو لا خذابة، ما يستطيع أن يقولها جيداً.
وكان الصحابة يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه الفرصة، وفي بعض الروايات أنه نص على أن له الخيار ثلاثة أيام، فخلالها إذا غلب أو غبن في البيع أن يخدع، كان يخدع في البيع، فكان يرجع المبيع ويقول: النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني تفويضاً بالشيء هذا، وهذا طبعاً لا يخصه هو، وإنما لكل أحد كما سوف يأتي ممن يحتاج إلى الخيار، المهم: أن هذه الأدلة تدل على أصل جواز الخيار، والدليلان الأولان على خيار المجلس.
والدليل الثالث: حديث حبان يدل على خيار الغبن, كما سوف تأتي الإشارة إليه. وهذا القول لا شك أنه قول صحيح ظاهر الرجحان، أولاً: لأدلته القوية الصحيحة - كما ذكرنا- التي لم تتعرض لنسخ ولا لتخصيص.
وثانياً: لأنه مقتضى المصلحة والله أعلم, أنه ما دام المتبايعان في المجلس, لأنه قد يقول: اشتريت، ثم يبدو له بغير تأنٍ، فيكون عنده فرصة أن يراجع نفسه، البائع والمشتري على حد سواء.
أما القول الثاني في مسألة خيار المجلس، فهو القول في منعه، وهذا مذهب الإمام مالك رحمه الله.
والشيء الطريف: أن مالكاً هو راوي حديث الخيار، فقد رواه عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ).
ومن هنا أخذ عليه بعض العلماء أنه كيف تروي الحديث ثم تخالفه. فطبعاً هو روى الحديث كما ذكرنا، وتأول الأمر فيه، قد يكون تأوله بالنسخ كما ذكر ذلك عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء، وقد يكون فهم أو حمل التفرق (ما لم يتفرقا) على التفرق بالأقوال، يعني: أن هذا اشترى وهذا باع. هذه حجة الإمام مالك رحمه الله.
المهم: أن مالكاً ممن يقول بعدم خيار المجلس، وتعرض بسبب ذلك لمشكلة، وابن أبي ذئب من فقهاء المدينة سخط على الإمام مالك، وقال فيه كلمة شديدة, رأيت من المصلحة أني أقولها لكم الآن، قال ابن أبي ذئب : يستتاب مالك، فإن تاب وإلا ضربت عنقه, وهذه كلمة فضيعة في نظري، وكنت أشعر بقشعريرة أن عالماً مهما كان قدره يطلقها على رجل كالإمام مالك رحمه الله إمام دار الهجرة، ممن له من الفضل والنبل والمكانة الشيء العظيم، وحقيقة مثل هذه الكلمات ومثل هذه الأقوال وددنا أنها طويت وما رويت، وما سمعت؛ لئلا يتشبث بها الناس، ووجدنا أن الإمام أحمد رحمه الله لما قال هذه الكلمة نقلها عن مالك .. قال الإمام أحمد : هو أورع وأقول بالحق من مالك , يعني: ابن أبي ذئب . فالإمام أحمد يقول: إن ابن أبي ذئب فيه قوة ونوعاً من الشدة، ولذلك قال ما قال، وهذه أيضاً فيها شيء، ولذلك أعجبني جداً وشفى غليلي الإمام الذهبي في السير، فقد علق على كلام ابن أبي ذئب وعلى كلام الإمام أحمد وقال: لو كان ورعاً كما ينبغي لما قال هذا الكلام القبيح في حق إمام عظيم، فـمالك إنما لم يعمل بظاهر الحديث؛ لأنه رآه منسوخاً.
وقيل: عمل به وحمل قوله: (حتى يتفرقا) على التلفظ بالإيجاب والقبول، يعني: التفرق بالأقوال، مثل حديث: ( افترقت هذه الأمة ). قال: فـمالك في هذا الحديث -ولا يزال الكلام للذهبي - وفي كل حديث له أجر ولابد، فإن أصاب ازداد أجراً آخر، وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده الحرورية . فهذا الكلام الذي يتشبث به، والذهبي مربي، يقول: وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده الحرورية , الخوارج هم الذين حملوا السيف على المسلمين، قال: وبكل حال فكلام الأقران بعضه في بعض لا يعول على كثير منه، فلا نقصت جلالة مالك بقول ابن أبي ذئب فيه, ولا ضعف العلماء ابن أبي ذئب بمقالته تلك، بل هما عالما المدينة في زمانهما رضي الله عنهما، ولم يسندها الإمام أحمد فلعلها لم تصح.
وأقول: خطر في بالي وأنا أقرأ كلمة الإمام أحمد يقول: هو أورع وأقول بالحق من مالك , قلت: لعلها: هو أورع وأقول بالحق من ذلك، يمكن يكون فيها أيضاً نوع من التحريف, وأن الإمام أحمد يشكك في صحة هذه الكلمة ونسبتها إليه. والله أعلم. ويحتمل الوجه الثاني أنه معروف ابن أبي ذئب كان فيه نوع من القوة، ولعلنا ذكرنا لكم سابقاً أن ابن أبي ذئب جاءه مرة أعرابي، وكان طلق زوجته وأراد منه أن يردها إليه، فقال له ابن أبي ذئب : طلقت زوجتك منك بالثلاث ولا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك، فولى الأعرابي وهو يقول:
أتيت ابن ذئب أبتغي رد زوجتي فطلقها بتاً فبتت أنامله
فطلقها بتاً، يعني: ألبتة.
أتترك في فتوى ابن ذئب حليلتي وعند ابن ذئب أهله وحلائله
يعني: يطلق زوجتي وزوجاته عنده. فهذه مما يستطرف في خبر ابن أبي ذئب رحمه الله وغفر له، والمقصود: أن مثل هذه اللغة - يعني: القبيحة- كما عبر الذهبي من الأشياء التي ينبغي أن تبعد عن طلبة العلم، وأن ينأى بها خصوصاً في مجال الاختلاف في مسائل لها وجه.
الإمام مالك رحمه الله لم ينفرد بهذا القول، وأيضاً لا أنسى أن الشافعي ممن عاب على مالك هذا المذهب، وقال: لا أدري هل يتهم مالك نفسه، أو يتهم نافعاً ؟ قال: وأعظم أن أقول: يتهم ابن عمر، بينما مالك رحمه الله كما قلنا: قد لا يكون اتهم أحداً أصلاً، وإنما إما أن يقول: بأن الحديث منسوخ، أو يحمله على أحد الوجوه, وله حجة كما سوف نذكر.
المهم: أن الإمام مالكاً ممن قال بهذا، ونقل هذا القول عن شريح وعن النخعي وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , وهو من شيوخ الإمام مالك، وهو مذهب أصحاب الرأي: أبي حنيفة وأصحابه والثوري وابن شبرمة وطائفة من أهل الظاهر، قالوا: بأنه ليس هناك خيار للمجلس.
وحجة هؤلاء: قالوا: أولاً: قول الله سبحانه وتعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]. فهذا عقد حصل عن تراض من الطرفين، فوجب إمضاؤه, وهو عقد واجب .. عقد لازم, فبمجرد ما يشتري هذا ويبيع ذاك، وجب البيع ولا يجوز التراجع فيه.
وكذلك قالوا: إن ذلك مثل عقد النكاح أو عقد الخلع، فإنه لا يجوز مثلاً في النكاح أن يكون للعاقد خيار، فقالوا: كذلك عقد البيع.
إضافة إلى أنهم رووا عن عمر رضي الله عنه كما ذكره ابن قدامة في المغني لهم: أنه كان يقول: (إنما البيع صفقة أو خيار) فقالوا: معنى قول عمر : (صفقة أو خيار), يعني: إما بيع بصفقة مباشرة، أو خيار يعني: خيار الشرط، أنه يشترط أن لي الخيار، ولم يذكر خيار المجلس. وما أشبه ذلك من الأقوال والحجج.
وأجابوا عن الحديث بمثل ما ذكرنا، أن المراد التفرق بالأقوال, كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ( افترقت هذه الأمة ). وقيل: بأن ذلك منسوخ. ومالك أيضاً يحتج بعمل أهل المدينة ؛ لأنه يقول: إنه وجد أهل المدينة لا يعملون بخيار المجلس، ولا شك أن الصواب: أن خيار المجلس باق وصحيح؛ لقوة أدلته.
مدة خيار المجلس، كم هي؟ يقول العلماء: هذا راجع للعرف من غير تحديد، فما داموا مجتمعين في عرف الناس فالخيار باق، فإذا تفرقوا تفرقاً يعتبرون بموجبه حصل عندهم التفرق فإنه ينقطع الخيار؛ ولذلك بعضهم قال: إذا مشى ثلاث خطوات.
وبعضهم قال: إذا ابتعد عنه بحيث لا يسمع صوته المعتاد.
وبعضهم قال: إذا خرج من المجلس إن كانوا في مجلس.
ولذلك أحياناً يكون الخيار مستمراً مثل ما لو كانوا في سفينة كما قلنا، أو في طائرة صغيرة، أو سيارة صغيرة, وربما يستغرق المسير بضعة أيام أحياناً، فهنا متى ينقضي خيار المجلس؟
نقول: يظل الخيار معهم إلى أن يتفرقوا، وهذه من حجج أبي حنيفة، قال: أرأيت إن كان في سفينة، فنقول: حتى لو كان في سفينة يظل الخيار باقياً.
هل يستطيعون هم أن يتخلصوا من خيار المجلس في الحالة هذه؟
نعم، أن يتفقا على إلغائه، والصواب: أنهم إذا اتفقوا على إلغاء الخيار سقط، يعني: لو قال: بعت وقال هذا: اشتريت، قال: طيب ما رأيك خيار المجلس نلغيه، ما يكون لي خيار ولا لك خيار، يعتبر البيع نافذ وواجب، قلنا: اتفقنا على إلغاء خيار المجلس. في هذه الحالة يلغى الخيار ويكون العقد صحيحاً وإن طال بهم المجلس. طيب.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية | 3985 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 | 3924 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة | 3852 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض | 3844 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين | 3670 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 | 3623 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض | 3611 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع | 3549 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج | 3513 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها | 3442 استماع |