خطب ومحاضرات
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الربا -3
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومساكم الله بالخير.
هذه ليلة الخميس الأول من جمادى الأولى من سنة (1423هـ)، وفي هذا اليوم من أبواب شرح عمدة الفقه نخلص وننتهي إن شاء الله تعالى من باب الربا، يعني: سيكون هذا الدرس هو آخر درس فيما يتعلق بدروس الربا وعلته.
وقد مضى في الربا درسان آخران، وخلاصة ما سبق: أن الربا هو الزيادة، وتعريفه الاصطلاحي أصبح معروفاً: زيادة مخصوصة بعقد بغير عوض.
وهو نوعان:
القسم الأول: وهو ربا النسيئة، وهو أشدها، وهو الربا الجلي، وهو ربا الجاهلية، وهو محرم لذاته، أي: محرم تحريم المقاصد.
القسم الثاني: وهو ربا الفضل، وهو محرم؛ لأنه وسيلة إلى ربا النسيئة، وقد خالف فيه بعض الصحابة كما أسلفنا.
أما الدرس الماضي فقد تكلمنا فيه عن العلة الشرعية في تحريم بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل سواءً بسواء، كما في الحديث المتفق عليه، فذكرنا أن العلماء ذهبوا في مسلك العلة في موضوع الذهب والفضة إلى ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أن العلة هي اتحاد الجنس مع الوزن، يعني: الذهب موزون مثلاً فهو جنس واحد، ولذلك لا يجوز بيع الذهب بالذهب متفاضلاً ولا نسيئة، وهذا قول الأحناف.
الاتجاه الثاني أو المذهب الثاني: مذهب الشافعية قالوا: إن العلة هي غلبة الثمنية أو أغلبية الثمنية، يعني: أن الغالب على الذهب والفضة أنها أثمان، ولهذا لم يجروا العلة مثلاً في الفلوس؛ لأن الفلوس ليست مصنوعة من ذهب ولا من فضة، والثمنية طارئة عليها، فقالوا: الفلوس ترجع إلى أصولها، وإذا كانت مصنوعة من حديد فالحديد يعني له حكم خاص، أو مصنوعة من نحاس كذلك، ولا تأخذ حكم الذهب والفضة؛ لأن الثمنية وصف طارئ عليها.
وغلبة الثمنية هذه عند الشافعية قلنا: إنها علة قاصرة، وما معنى كونها علة قاصرة؟ أنها عندهم مقصورة على الذهب والفضة، كأنهم عللوا الأمر بأن هذا ذهب وهذه فضة، بناءً عليه هذه العلة لا تنتقل إلى غيرها من الأثمان الأخرى، لكن لو رأى هؤلاء انتشار العملة الورقية الآن، وكيف أنها غطت على الذهب والفضة لاعتبروا أن هذا من باب أولى أن يدخل فيه الربا.
الاتجاه الثالث في تعليل الربوية في الذهب والفضة هو: القول بالثمنية أو بالثمنية المطلقة، وهذا مذهب مالك ورواية عند الإمام أحمد، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم، وهذا هو القول الصحيح الراجح: أن علة الذهب والفضة هي الثمنية، وبناءً عليه فكل ما صار ثمناً فهو يجري مجرى الذهب والفضة في وقوع الربا فيه، فهو يقع من باب أولى على العملة الورقية الموجودة الآن فنقول: إنها أثمان وهي دراهم ودنانير يجب أن يكون فيها تساوي وتقابض على حسب قاعدة الربا. هذا كله مضى.
ننتقل اليوم إلى بقية الأصناف الأربعة وهي: البر والشعير والتمر والملح، هذه الأصناف الأربعة التي نص النبي صلى الله عليه وسلم على أنه يجري فيها الربا، يبقى عندنا سؤال: عرفنا علة الربا في الذهب والفضة، وقلنا إنها الثمنية على القول الراجح.
يبقى السؤال: هذه الأصناف الأربعة ما هي علتها؟
مما سبق أيضاً أن علة هذه الأصناف الأربعة عند الجماهير مختلفة عن علة الذهب والفضة، وقليل من يعلل الأصناف الستة كلها بعلة واحدة، وهذا هو الصحيح: أن علة الأصناف الأربعة شيء وعلة الذهب والفضة شيء آخر.
يبقى ما هي علة هذه الأصناف الأربعة؟
هذا أيضاً بحث يعني داخ فيه الفقهاء وتكلموا فيه، وكلٌ نصر قوله ومذهبه، وإذا قرأ الإنسان في بعض الكتب يكاد أن يفقد صوابه من التعليلات والاضطرابات والاختلافات، والإنسان إذا قرأ في هذه الكتب يخرج بفائدة، من الفائدة التي يخرج بها الإنسان: أن العلماء اختلفوا في هذه القضية الأصلية الجوهرية، وحين تقرأ كتب الشافعية مثلاً تجدهم انتصروا لمذهبهم وأطالوا النفس وتكلموا وردوا على الخصوم، وقالوا: إن ما نقوله صواب وراجح، والأدلة كذا وردوا على الآخرين، وعندما تأتي للأحناف تجد مثل ذلك، ومثلهم الحنابلة والمالكية، ومع هذا ظلت الدنيا تسير وظلت الأمور على ما يرام، واستمر الأمر على ما كتبه الله سبحانه وتعالى ويحقق الإسلام انتصارات وخيراً وبراً، وبين المسلمين من التواصل الشيء الكثير، مع أنهم يختلفون في هذه القضايا وغيرها؛ لكن الإنسان عندما يعاين هذا بنفسه يستغرب كيف أن الناس الآن على كثرة ما بينهم من الاختلافات وضيق نفوسهم.. إلا أنك تجد كثيراً منهم يظنون أنه لا يمكن أن يتحقق للمسلمين وحدة إلا إذا اتفقت آراؤهم على مفردات المسائل، وهذا معناه أننا علقنا هذا على أمر محال، هذا طبعاً فائدة عرضية نعود بعدها إلى موضوعنا.
فأقول: الفقهاء لما تكلموا في موضوع الأصناف الأربعة وعلة الربا فيها؛ ذهبوا مذاهب شتى، حتى إن الإمام النووي في المجموع والعيني في شرح البخاري وصاحب الحاوي الماوردي وغيرهم أوصلوها إلى أكثر من عشرة أقوال، وبعض المالكية زادوا على هذا، وربما يصح أن تجتمع إلى خمسة عشر قولاً في تحديد هذه العلة.
هناك أقوال لا داعي للإطالة بها؛ لأنها أقوال اندرست وهي أقوال ضعيفة، لكن نأخذ من الأقوال خمسة أو ستة مما هي من أظهر الأقوال، ومن الأقوال السهلة أيضاً التي يمكن فهمها ومعرفة دليلها.
القول الأول: اتحاد الجنس
المقصود أنهم يقولون: إن كل جنس يقع فيه الربا، وبناءً عليه لو باع سيارة بسيارتين مثلاً وقع فيه الربا، لو باع مثلاً كتاباً بكتابين وقع فيه الربا، باع جهازاً بجهازين وقع فيه الربا، كل شيئين من جنس واحد يقع فيهما الربا، وهذا القول نسب لـمحمد بن سيرين رحمه الله، وفي نسبته إليه نظر كما سوف يأتي بعد قليل فيما رواه عنه البخاري، وكذلك قال به أبو بكر الأودني من فقهاء الشافعية، وهذا القول ضعيف من حيث النظر وضعيف من حيث الأثر أو من حيث الدليل؛ لأن مسلماً رحمه الله روى عن أنس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى
كذلك جاء عن جابر رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع عبداً بعبدين )، وهذا أيضاً في صحيح مسلم، وله قصة: ( أن عبداً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: قناً رقيقاً- فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة وهو لا يدري أنه عبد، فبعد ذلك جاء سيده يريده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بعنيه، فاشتراه منه النبي صلى الله عليه وسلم بعبدين )، ثم لم يبايع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أحداً حتى يسأله: أهو حر أم عبد.
فهذا الحديث أيضاً دليل على جواز بيع العبد بالعبدين، وسوف يأتي مزيد بحث لهذه المسألة، المهم أن هذا دليل على عدم صحة هذا القول، ونحن نقول: وإن كان هذا القول المنسوب لـابن سيرين والأودني قولاً سهلاً في الفهم، سهلاً في التطبيق من جهة، إلا أنه عسر جداً وفيه حرج وضيق على الناس؛ لأنه يجعل كل شيء عندهم ربوياً كما هو ظاهر. هذا قول.
القول الثاني: أن يكون من الأجناس الزكوية
وربطه بين وجوب الزكاة وبين وقوع الربا فيها قال: لأن هذه الأموال التي تجب فيها الزكاة هي عادة أموال المواساة التي تشوفت الشريعة إلى إيجاد عدل ومواساة بين الناس فيها، ولهذا أوجبت فيها إخراج الزكاة، فكان مناسباً أن يقع ويجري فيها الربا، وهذا أيضاً يرد عليه بما ورد ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع بعيراً ببعيرين )، وهذا جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً فكان -
فإذاً: هذا الحديث يدل على أن ابن عمرو بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل، والإبل فيها زكاة، ومع ذلك لم يجر فيها الربا، فهذا يدل على ضعف هذا القول، ولذلك بوب البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب البيوع يقول: باب بيع العبيد والحيوان بالحيوان نسيئة. قال: (واشترى ابن عمر راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بـالربذة).
قال: وقال ابن عباس : (قد يكون البعير خيراً من البعيرين).
قال: (واشترى رافع بن خديج بعيراً ببعيرين فأعطاه أحدهما وقال: آتيك بالآخر غداً رهواً إن شاء الله تعالى وقال ابن المسيب : لا ربا في الحيوان بالبعيرين والشاة بالشاتين إلى أجل.
وقال ابن سيرين : لا بأس بعير ببعيرين نسيئة).
انتهى كلام البخاري، ويمكن مراجعة فتح الباري في هذه النقاط؛ لأنه أطال في شرحها وبيان طرق هذه الروايات التي ساقها البخاري رحمه الله تعالى معلقة، ولكنها تدل على اختيار البخاري وأنه لا يرى البعير بالبعيرين بأساً.
وفيه أيضاً إشارة إلى مذهب ابن سيرين، وأنه لا يرى بذلك بأساً، خلاف ما نسب عنه أكثر الفقهاء كما أشرنا إليه قبل قليل.
إذاً: هذا الأمر الذي هو بيع العبيد والحيوان وغيرها نسيئة يدل على أن مسألة الأموال الزكوية لا يلزم أن تكون هي الأموال الربوية.
ويرد أيضاً على ربيعة بن أبي عبد الرحمن بجواب آخر وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكروا الأصناف الستة ذكر منها الملح، والملح هل هو صنف زكوي؟ لا. إذ لا زكاة فيه.
إذاً: هذا منتقض بالملح، وأنه فيه الربا ولا زكاة فيه، ومنتقض بالإبل وأن فيها الزكاة ولا ربا فيها.
القول الثالث: أن يكون مكيلاً
لاحظ هذا المتن، (أن الربا يجري في كل ما كان مكيلاً منها)، يعني سواءً كان مأكولاً أو غير مأكول، هذا المذهب يجب أن يكون مذهب من؟
هذه يتفطن لها الفاهمون للدرس الماضي، يقول أصحاب هذا القول: كل مكيل ففيه الربا سواءً كان مأكولاً أو غير مأكول، وبلهجة أخرى أو لغة أخرى: كل شيء يقع فيه التقدير الشرعي بالكيل أو الوزن فهو رباً. هذا مذهب أبي حنيفة، فيطلبونه في الذهب والفضة، فيقولون: إن الذهب والفضة من الموزونات، وبناءً عليه يجري فيها الربا، ويطلبونه في الأجناس الأربعة فيقولون: إن الأجناس الأربعة من المكيلات، فيجري فيها الربا.
إذاً: الأحناف علة الربا عندهم تتعلق بالتقدير هل هو كيل أو وزن؟ فما كان مكيلاً أو موزوناً يجري فيه الربا، الوزن في الذهب والفضة والكيل في الأصناف الأربعة وما يقاس عليها.
إذاً: عند هؤلاء القوم -وهم الحنفية وهو أيضاً القول المشهور عن الإمام أحمد ومنسوب إلى جماعة من السلف- أن المكيل يجري فيه الربا سواء كان مأكولاً أو كان غير مأكول. فمثلاً الحديد هل هو مكيل؟ لا، ليس بمكيل.
لا. ليس مكيلاً، نحن نتكلم الآن عن المكيل، بعضهم يقول: كالجص أو النورة أو الأشنان، تعرفون الأشنان؟! شيء يغسل به وكان يكال.
فهذه الأشياء ليست مأكولة، وهي عند الأحناف ربوية؛ لأنهم قالوا: هذه يجري فيها الكيل كالصاع أو المد أو غيره..
أما المكيل المأكول مثل الشعير، الرز، الحنطة، كل الأشياء التي تكال يجري فيها الربا، سواء كانت مأكولة كما ذكرنا أو كانت غير مأكولة مثل الجص والأشنان والنورة وغيرها.
ما لا يجري فيه الكيل فلا يجري فيها الربا حتى لو كان مأكولاً، مثل التفاح أو البرتقال أو الرمان أو البطيخ، هذه الأشياء لا تكال ولذلك لا يجري فيها الربا عند أبي حنيفة .
ما هي حجة الحنفية على أن العبرة في الربا بالكيل؟
من حجتهم أولاً، هذا يفترض أننا ذكرناه سابقاً في موضوع الوزن في الذهب والفضة لأن مذهبهم مضطرب.
قالوا: (وكذلك الميزان)، في رواية: وكذلك الميزان التي ذكرنا أنها في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة : (الذهب بالذهب) إلى آخره قال في آخره: (وكذلك الميزان). وهذه ذكرنا أن الصواب أنها موقوفة ولا تصح مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقالوا: فقوله: (وكذلك الميزان) يعني: الموزون، فدل على أن العبرة بالكيل أو بالوزن.
كذلك استدلوا بحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما وزن مثلاً بمثل إذا كان نوعاً واحداً، وما كيل مثلاً بمثل إذا كان نوعاً واحداً )، فقالوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما وزن مثلاً بمثل) والكيل مثل ذلك، فهذا دليل على أن العبرة هي بالوزن أو بالكيل، فكل ما يجري فيه الميزان أو المكيال يقع فيه الربا.
وهذا الحديث الذي استدلوا به رواه الدارقطني، والجواب عنه: أن هذا الحديث ضعيف، معلول من عدة وجوه:
أولاً: في سنده الربيع بن صبيح وهو ضعيف.
ثانياً: الحديث مضطرب الإسناد.
ثالثاً: أنه مضطرب المتن، وهو منكر؛ لأن حديث عبادة رضي الله عنه مشهور وليس فيه هذه الزيادة.
وقد أشار الدارقطني عند روايته إلى إعلاله.
إذاً: علة الكيل وعلة الوزن التي اعتمد عليها الحنفية سبق أن ذكرنا في الدرس الماضي أنها ليست بالقوية، لأنها ليست صفة ذاتية في الأشياء، وإنما هي أمر طارئ عليه، أي: ليست علة لازمة، وإنما هي علة طارئة عليه أتت بعد ذلك ولم يرد في الشرع ما يدل على اعتبارها، ونحن نعرف أن المكيل قد يصبح موزوناً في بعض البلاد، والموزون قد يصبح مكيلاً في بلاد أخرى، فتعليق الأمر على الكيل أو على الوزن هو تعليق على وصف طردي ليس له مناسبة كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله.
وقد رد هذا التعليق كثير من العلماء والمحققين أن موضوع الكيل أو الوزن ليس صفة في ذات المادة، أو في ذات الشيء أو النوع أو الجنس وإنما هي صفة خارجية عنه، فالتعليل بها غريب.
وكذلك مما رد به سابقاً: أن إسلام النقدين في الموزونات جائز إجماعاً، يعني كون الإنسان يستخدم السلم في أمور موزونة، فيدفع الثمن الآن ويستلم السلعة بعد سنة أو أقل أو أكثر ولو كانت من الأشياء الموزونة أو المكيلة جائز بإجماع العلماء، ولو كانت العلة هي الكيل أو الوزن ما كان السلم موجوداً أو كاد ألا يكون موجوداً.
إذاً: القول الثالث مذهب الحنفية، وهو أن العلة في الأصناف الأربعة هي الكيل. وهذه العلة قلنا إنها على القول الراجح: علة ضعيفة.
القول الرابع: الكيل أو الوزن مع الطعم
إذاً: وافقوا الحنفية على علة الكيل أو الوزن، ولكن أضافوا لذلك وصفاً جديداً وهو أن يكون مطعوماً، وبناءً على ذلك نقول مثلاً: إن الأشياء المكيلة عند الأحناف مثل الجص أو الأشنان يجري فيها الربا؛ لكن على هذا القول لا يجري فيها الربا؛ لأنها ليست مطعومة.
إذاً: القول الرابع أن الربا يجري في المطعوم المقدر، يعني: مكيلاً أو موزوناً. وهذا القول هو مذهب سعيد بن المسيب، والشافعي في قوله القديم، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد، ورجحه الإمام ابن تيمية رحمه الله في غير موضع من كتبه، وكذلك رجحه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في آخر أبحاثه ودروسه، وجماعة من الباحثين والمعاصرين منهم الدكتور عمر المترك صاحب كتاب الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية، وهذا الكتاب رسالة دكتوراه، وهو كتاب قيم يحسن بطالب العلم اقتناؤه على أنه يعتبر مختصراً نسبياً لكنه مفيد.
إذاً: القول الرابع مذهب الشافعي القديم ورواية عن أحمد قالوا: يجري الربا في المكيل أو الموزون بشرط أن يكون مأكولاً أو مطعوماً.
وبناءً على ذلك؛ فإنه لا ربا في المطعوم إذا كان لا يكال ولا يوزن؟ مثل البطيخ أو التفاح كما ذكرنا أو البيض لأنه لا يكال ولا يوزن وإنما يعد عداً، وكذلك لا ربا في المكيل والموزون إذا لم يكن مطعوماً كالحديد والرصاص، وإنما يكون الربا فيما جمع هذين الوصفين، فكان مكيلاً أو موزوناً من جهة وكان مأكولاً من جهة أخرى.
إذاً: هذا القول يجعل العلة مركبة من شيئين: الطعم أو الأكل من جهة والكيل أو الوزن من جهة أخرى.
نناقش هذا القول فيما يتعلق بالكيل أو الوزن: هو علل بشيئين: القول على الوزن من جهة والطعم من جهة أخرى، فيما يتعلق بالكيل أو الوزن هل يصلح أن يعلل به؟
لا يصلح، لماذا؟
لأننا ذكرنا -قبل قليل- في ردنا على قول الحنفية أن الكيل أو الوزن وصف طردي، وأنه وصف طارئ وغير لازم، وقد يكون مكيلاً اليوم موزوناً غداً، مكيلاً هنا موزوناً هناك، فالكيل أو الوزن لا يناسب أن يربط به التعليل الشرعي.
وبناءً عليه نقول في هذا القول أيضاً: إن تعليل هؤلاء بالكيل أو الوزن الذي هو العلة الأولى أو القسم الأول من العلة يقال فيه ما يقال في مذهب الأحناف، إن التعليل بالكيل أو الوزن تعليل غير مناسب، فيسلم لهم القسم الثاني من العلة وهو كونه مطعوماً أو كونه مأكولاً فحسب.
القول الخامس: الطعم
فهؤلاء يقولون: لا يجري الربا إلا في المطعوم، سواءً كان المطعوم مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً، وبناءً على هذا القول يجري الربا مثلاً في الحلوى أم لا يجري؟ يجري؛ لأنه مطعوم.
يجري في الفواكه أو لا يجري؟ يجري؛ لأنها مطعوم.
يجري في اللحم أو لا يجري؟ يجري؛ لأنه مطعوم.
يجري في السمن؟ يجري، نعم. الخضروات، البيض، الجوز، كل الأشياء التي تؤكل يجري فيها الربا لأنها مطعومة، بغض النظر عن كونها معدودة أو موزونة أو مكيلة. هذا هو القول الخامس.
وهؤلاء قالوا: إن الأكل علة مقصودة لذاتها في هذه الأجناس، وهي علة لازمة وعلة مطردة، فبذلك اعتمدوا على هذا الدليل الأول.
كما اعتمدوا على دليل ثان، وهو حديث معمر بن عبد الله في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الطعام بالطعام مثلاً بمثل ) هذا الحديث نص على الطعام، فقال هؤلاء: إن الشريعة إذا علقت الحكم على اسم مشتق دل على أن هذا الاسم المشتق يدل على العلة، فإذا قال الله سبحانه وتعالى مثلاً: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] دل على أن قطع اليد متوجه على السارق؛ لأنه علق الحكم بلفظ أو باسم مشتق، وهو السارق مأخوذ من السرقة.
وهكذا قوله سبحانه وتعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا [النور:2] الجلد متوجه على الزاني بسبب أنه ربط الحكم بالعلة، فهكذا إذا قال: ( الطعام بالطعام مثلاً بمثل ) قالوا: العلة الربوية مرتبطة بالاسم المشتق والطعام مأخوذ من الطعم أو من الطُعم، فدل على أن العلة مرتبطة بذلك. هذا قول.
وأجيب عن هذا: بأن لفظة الطعام في السنة النبوية أو عند العرب لا يقصد بها مطلق الطعام، إنما يقصد بها البر وحده، فإذا أطلق الطعام عند العرب قصدوا بها نوعاً من الطعام، وهذا من باب إطلاق العام ويراد الخاص، ويقصدون بالطعام البر.
ومما يستدل به على ذلك حديث أبي سعيد في صدقة الفطر أنه قال: ( كنا نخرجها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط ) فلو كانت كلمة الطعام تشمل كل ما يطعم ما احتاج إلى التفصيل بعد ذلك، فلما قال: ( صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو من بر، أو من تمر، أو من أقط )، دل على أن المقصود بالطعام هو البر، فقالوا: هذا هو العرف الجاري في لغة العرب وفي لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وكذلك مما أجيب به عن هذا القول: أنهم قالوا: لو كانت العلة هي كونه طعاماً لما احتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يعدد لنا هذه الأربعة، لأنها كلها أطعمة، فالبر مثلاً والشعير والتمر كلها أطعمة، وكذلك الملح يعتبر داخلاً في الطعام لأنه مما يصلح به الطعام، فكان يكفي أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: الطعام بالطعام ويقف، أو يذكر واحداً منها ويترك الباقي للقياس، فلما عدها دل على أنه لا يكفي فقط كونها طعاماً.
ومما احتج به عليهم أيضاً: أن الماء يسمى طعاماً، ما هو الدليل على أن الماء يسمى طعاماً؟ الذي يجيب نعطيه هذا.
مداخلة: ....
الشيخ: ممتاز، هذا لك الجهاز؟ الحمد لله، ترى هذه هدية لك أنت.
قوله تعالى: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة:249] فأطلق الطعام، مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ يعني: الماء، فبناءً عليه سمي الماء طعاماً، وبناءً على هذا فإنه يقال: إن الماء يجري فيه الربا، وهذا قول عند الشافعية والمالكية وغيرهم يقولون: إن الماء يجري فيه الربا، عند بعضهم.
إذاً: هذا هو القول الخامس وهو قول الشافعية: أن علة الربا هي الطعام أو الطُعم، وقد عرفتم ما لهذه العلة وما عليها.
القول السادس: أن يكون مقتاتاً مدخراً
إذاً: يشترط في الأمر الربوي أن يكون قوتاً وأن يكون قابلاً للادخار. وهذا طبعاً مذهب الإمام مالك واختاره ابن القيم رحمه الله ونصره في إعلام الموقعين، وكذلك أذكر أن الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله قبل فترة طويلة كان يرجح هذا القول، ثم رجع إلى القول السابق كما أسلفنا.
فـابن القيم نصر هذا القول نصراً قوياً في إعلام الموقعين، أعني مذهب الإمام مالك قال: إن العلة تجري فيما يكون فيه شرطان:
الأول: أن يكون قوتاً.
والثاني: أن يكون مدخراً.
والمالكية أحياناً وبالذات الإمام مالك رحمه الله في الموطأ لا يشيرون إلى القوت فقط بل وأن يكون غالب عيش الناس، يعني يكون قوتاً ومنتشراً وهو غالب عيش الناس، وذلك لأن هذه الأقوات عندهم يقولون: عليها حاجة الناس ومدار مصالحهم، فلو جوز بيع بعضها ببعض نسيئة لم يفعله أحد إلا إذا كان يربح بهذا الفعل، فبذلك يعز الطعام ويقل ويصعب على المحتاج الوصول إليه.
ما معنى كونه قوتاً؟ وما معنى كونه مدخراً؟ أما كونه قوتاً أو كونه يقتات فالمقصود أن بنية الإنسان وقوام حياته وعيشه تقوم عليه، بحيث أن الإنسان يمكن أن يقتصر على هذا الأمر كطعام أساسي حاجة أساسية له، مثل الرز الآن يعتبر قوتاً أساسياً؛ لأن أكثر الناس يقوم عيشهم عليه، فتجدهم يأكلونه غداءً ويأكلونه عشاءً وقد يقتصر إنسان عليه دون غيره، هذا معنى كونه قوتاً.
وأما كونه مدخراً معناه: أنه يمكن حفظه وأنه لا يفسد لو بقي إلى أجل، وحدد بعضهم مدة ستة أشهر، وبعضهم قال مطلقاً من غير تحديد.
فالمقصود بأنه مدخر أي: أنه قابل للادخار ولا يفسد، ويمكن أنه يلبث أو يحفظ، وهنا يدخلون في القوت أيضاً ما يحتاج إليه القوت، مثل الملح، الملح ليس قوتاً، أحد يأكل الملح؟ لا. لكنه يحتاج إليه في صناعة القوت، وبناءً عليه يلحقون بالملح وما كان من جنسه مثل بعض التوابع التي يصلح بها الطعام ويستقيم بها طعمه، فهذه تعتبر من الأشياء التابعة للقوت وإن لم تكن قوتاً بذاتها.
إذاً: على هذا القول لا يجري الربا في الطعام الذي لا يكون قوتاً، مثل البطيخ، أو الخوخ، أو كثير من الفواكه والخضروات التي لا تعد قوتاً لذاتها، ومثلها الحلاوات، الرمان، الكمثرى.
بعض المالكية يقولون: وعيون البقر، وهذه لم أجدها إلا في كتب المالكية، والمالكية كان أكثرهم في المغرب والأندلس بلاد خضرة وجمال وفواكه، فهذا نوع من الفواكه التي عندهم، ويخطر في بالي من خلال وصفهم لها أنها قد تكون مثلما نسميه نحن البخارى أو غيرها، لأنه بمقتضى وصفهم لها هي فاكهة صغيرة لا تيبس، تؤكل وهي غضة، فهي كأنها من هذا النوع، وبحثت فيها فلم أجد تعريفاً لها، بحثت في كتب الفقه، يمكن أهل اللغة يتكلمون عنها.
المقصود: أن هذه الأشياء التي لا تقتات، يعني لا تصلح قوتاً فإنها لا يجري فيها الربا ولو كانت طعاماً ولو كانت مكيلة أو موزونة.
وطبعاً يشكل على هذا المذهب أولاً: الملح، فإنه ليس بقوت، ويجاب عنه بأنه وإن لم يكن قوتاً إلا أنه يصلح به القوت.
ويشكل عليه أيضاً -وهذا إشكال ربما صعب- يشكل عليه الرطب، والرطب معروف، فهذا الرطب ربوي بالنص ومع ذلك فإنه لا يدخر، وقد يجاب على هذا.
الضميد ما يصير رطب، الضميد يتحول إلى تمر، يعني هو الرطب لا يدخر وهو رطب، فإذا ادخر تحول إلى شيء آخر وإلى اسم آخر وهو التمر، فهذا قد يشتهر وربما وجدوا عنه جواباً أو مخرجاً.
موضوع الثلاجة ليس داخلاً، المقصود الاقتيات في كل الظروف.
على كل حال: ذكرنا الآن الأقوال الستة ولا بأس أن نستذكرها بسرعة.
القول الأول: أن العلة في الأجناس الأربعة هو: الجنس، فالتراب بالتراب ربا.
القول الثاني: أن العلة أنه جنس تجري فيه الزكاة.
القول الثالث: أنه مكيل أو موزون. نعم. مكيل أو موزون في الذهب والفضة.
القول الرابع: أنه مكيل أو موزون من جهة ومطعوم من جهة أخرى.
القول الخامس: أنه مطعوم فقط.
القول السادس: أنه مما يقتات ويدخر.
وحقيقة إن كان في قول الإمام مالك الأخير هذا شيء من القوة -والله أعلم- فهو أن هذا القول يحكم أمر هذه الأجناس فلا تمتد وتتسع؛ لأن من الفقهاء من يقول -كما أسلفنا- أنه لابد من الاقتصار على هذه الأجناس الأربعة دون غيرها، لما رأوا من خلاف الفقهاء في التعليل، ولذلك هذا القول هو أضيق الأقوال، بمعنى: أنه يضيق نطاق الربا في الأشياء التي تكون مكيلة ومدخرة، وما معنى المكيلة والمدخرة؟ معناه من باب أولى أن تكون مطعومة.
إذاً.. هذا القول يتضمن أن تكون مطعومة ومكيلة ومدخرة ومن جنس واحد.
المكيلة هذه جاءتنا بالغلط، نعود لحكاية المذهب مرة أخرى: مذهب الإمام مالك يقتضي أنه يشترط أن يكون من جنس واحد. هذا رقم واحد.
رقم اثنين: أن تكون مطعومة، لأن الناس لا يقتاتون أو يدخرون ما ليس بطعام.
القول الثالث: أن تكون مدخرة.
القول الرابع: أن تكون قوتاً.
وبناءً عليه فلا تتحقق هذه الشروط إلا في أشياء معينة مما يكون غالب قوت الناس كما ذكرنا مثل الرز وغيره، هذه ميزة لقول الإمام مالك وإن كان الترجيح في هذا الباب صعباً.
ونحن نمضي على قول المذهب الذي اختاره المصنف لأنه مذهب الحنابلة المشهور: أن التقدير هو الطعام، أن علة الربا هي الطعام، وهذا مذهب الشافعي كما ذكرنا ورواية عن أحمد .
الإمام ابن قدامة في المغني يقول: ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعام -يعني الكيل أو الوزن مع الطعام- من جنس واحد ففيه الربا رواية واحدة عن الإمام أحمد، لأنه اتفقت فيه الأشياء كلها، ومثل الرز والذرة والدهن واللحم، قال: وهذا قول الأكثر من أهل العلم، قال ابن المنذر : هذا قول علماء الأمصار في القديم والحديث.
القوال الأول قالوا: إن العلة في الأصناف الأربعة وكونها ربوية هي الجنس، يعني: كون هذه الأصناف من جنس واحد، وبناءً عليه فكل جنس يجري فيه الربا، بمعنى: أن كل بيع يكون عوضين أو بدلين هما من جنس واحد فإنه يجب فيه التساوي والتقابض، لأن الجنس واحد، حتى لو أن الإنسان باع تراباً بتراب وجب أن يكون متساوياً؛ لأن التراب جنس واحد، أما يبقى هذا التراب والرمل شيء واحد أو شيئان هذا فيه تفصيل دعك منه.
المقصود أنهم يقولون: إن كل جنس يقع فيه الربا، وبناءً عليه لو باع سيارة بسيارتين مثلاً وقع فيه الربا، لو باع مثلاً كتاباً بكتابين وقع فيه الربا، باع جهازاً بجهازين وقع فيه الربا، كل شيئين من جنس واحد يقع فيهما الربا، وهذا القول نسب لـمحمد بن سيرين رحمه الله، وفي نسبته إليه نظر كما سوف يأتي بعد قليل فيما رواه عنه البخاري، وكذلك قال به أبو بكر الأودني من فقهاء الشافعية، وهذا القول ضعيف من حيث النظر وضعيف من حيث الأثر أو من حيث الدليل؛ لأن مسلماً رحمه الله روى عن أنس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى
كذلك جاء عن جابر رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع عبداً بعبدين )، وهذا أيضاً في صحيح مسلم، وله قصة: ( أن عبداً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: قناً رقيقاً- فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة وهو لا يدري أنه عبد، فبعد ذلك جاء سيده يريده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بعنيه، فاشتراه منه النبي صلى الله عليه وسلم بعبدين )، ثم لم يبايع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أحداً حتى يسأله: أهو حر أم عبد.
فهذا الحديث أيضاً دليل على جواز بيع العبد بالعبدين، وسوف يأتي مزيد بحث لهذه المسألة، المهم أن هذا دليل على عدم صحة هذا القول، ونحن نقول: وإن كان هذا القول المنسوب لـابن سيرين والأودني قولاً سهلاً في الفهم، سهلاً في التطبيق من جهة، إلا أنه عسر جداً وفيه حرج وضيق على الناس؛ لأنه يجعل كل شيء عندهم ربوياً كما هو ظاهر. هذا قول.
القول الثاني: أن الربا يجري في كل جنس تجب فيه الزكاة، يعني مثل القول الأول، لكنهم أضافوا قيداً جديداً وهو أن يكون هذا الجنس من الأجناس الزكوية، وبناءً على هذا القول فإن ما وجبت فيه الزكاة يجري فيه الربا، سواءً من الزروع أو المواشي أو الأموال أو غيرها، وما لا زكاة فيه فإنه لا يجري فيه الربا، وهذا قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن من فقهاء أهل المدينة، وقد أدرك جماعة من الصحابة.
وربطه بين وجوب الزكاة وبين وقوع الربا فيها قال: لأن هذه الأموال التي تجب فيها الزكاة هي عادة أموال المواساة التي تشوفت الشريعة إلى إيجاد عدل ومواساة بين الناس فيها، ولهذا أوجبت فيها إخراج الزكاة، فكان مناسباً أن يقع ويجري فيها الربا، وهذا أيضاً يرد عليه بما ورد ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع بعيراً ببعيرين )، وهذا جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً فكان -
فإذاً: هذا الحديث يدل على أن ابن عمرو بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل، والإبل فيها زكاة، ومع ذلك لم يجر فيها الربا، فهذا يدل على ضعف هذا القول، ولذلك بوب البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب البيوع يقول: باب بيع العبيد والحيوان بالحيوان نسيئة. قال: (واشترى ابن عمر راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بـالربذة).
قال: وقال ابن عباس : (قد يكون البعير خيراً من البعيرين).
قال: (واشترى رافع بن خديج بعيراً ببعيرين فأعطاه أحدهما وقال: آتيك بالآخر غداً رهواً إن شاء الله تعالى وقال ابن المسيب : لا ربا في الحيوان بالبعيرين والشاة بالشاتين إلى أجل.
وقال ابن سيرين : لا بأس بعير ببعيرين نسيئة).
انتهى كلام البخاري، ويمكن مراجعة فتح الباري في هذه النقاط؛ لأنه أطال في شرحها وبيان طرق هذه الروايات التي ساقها البخاري رحمه الله تعالى معلقة، ولكنها تدل على اختيار البخاري وأنه لا يرى البعير بالبعيرين بأساً.
وفيه أيضاً إشارة إلى مذهب ابن سيرين، وأنه لا يرى بذلك بأساً، خلاف ما نسب عنه أكثر الفقهاء كما أشرنا إليه قبل قليل.
إذاً: هذا الأمر الذي هو بيع العبيد والحيوان وغيرها نسيئة يدل على أن مسألة الأموال الزكوية لا يلزم أن تكون هي الأموال الربوية.
ويرد أيضاً على ربيعة بن أبي عبد الرحمن بجواب آخر وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكروا الأصناف الستة ذكر منها الملح، والملح هل هو صنف زكوي؟ لا. إذ لا زكاة فيه.
إذاً: هذا منتقض بالملح، وأنه فيه الربا ولا زكاة فيه، ومنتقض بالإبل وأن فيها الزكاة ولا ربا فيها.
المذهب الثالث في المسألة في علة الربا في الأصناف الأربعة: أن الربا يجري في كل ما كان مكيلاً.
لاحظ هذا المتن، (أن الربا يجري في كل ما كان مكيلاً منها)، يعني سواءً كان مأكولاً أو غير مأكول، هذا المذهب يجب أن يكون مذهب من؟
هذه يتفطن لها الفاهمون للدرس الماضي، يقول أصحاب هذا القول: كل مكيل ففيه الربا سواءً كان مأكولاً أو غير مأكول، وبلهجة أخرى أو لغة أخرى: كل شيء يقع فيه التقدير الشرعي بالكيل أو الوزن فهو رباً. هذا مذهب أبي حنيفة، فيطلبونه في الذهب والفضة، فيقولون: إن الذهب والفضة من الموزونات، وبناءً عليه يجري فيها الربا، ويطلبونه في الأجناس الأربعة فيقولون: إن الأجناس الأربعة من المكيلات، فيجري فيها الربا.
إذاً: الأحناف علة الربا عندهم تتعلق بالتقدير هل هو كيل أو وزن؟ فما كان مكيلاً أو موزوناً يجري فيه الربا، الوزن في الذهب والفضة والكيل في الأصناف الأربعة وما يقاس عليها.
إذاً: عند هؤلاء القوم -وهم الحنفية وهو أيضاً القول المشهور عن الإمام أحمد ومنسوب إلى جماعة من السلف- أن المكيل يجري فيه الربا سواء كان مأكولاً أو كان غير مأكول. فمثلاً الحديد هل هو مكيل؟ لا، ليس بمكيل.
لا. ليس مكيلاً، نحن نتكلم الآن عن المكيل، بعضهم يقول: كالجص أو النورة أو الأشنان، تعرفون الأشنان؟! شيء يغسل به وكان يكال.
فهذه الأشياء ليست مأكولة، وهي عند الأحناف ربوية؛ لأنهم قالوا: هذه يجري فيها الكيل كالصاع أو المد أو غيره..
أما المكيل المأكول مثل الشعير، الرز، الحنطة، كل الأشياء التي تكال يجري فيها الربا، سواء كانت مأكولة كما ذكرنا أو كانت غير مأكولة مثل الجص والأشنان والنورة وغيرها.
ما لا يجري فيه الكيل فلا يجري فيها الربا حتى لو كان مأكولاً، مثل التفاح أو البرتقال أو الرمان أو البطيخ، هذه الأشياء لا تكال ولذلك لا يجري فيها الربا عند أبي حنيفة .
ما هي حجة الحنفية على أن العبرة في الربا بالكيل؟
من حجتهم أولاً، هذا يفترض أننا ذكرناه سابقاً في موضوع الوزن في الذهب والفضة لأن مذهبهم مضطرب.
قالوا: (وكذلك الميزان)، في رواية: وكذلك الميزان التي ذكرنا أنها في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة : (الذهب بالذهب) إلى آخره قال في آخره: (وكذلك الميزان). وهذه ذكرنا أن الصواب أنها موقوفة ولا تصح مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقالوا: فقوله: (وكذلك الميزان) يعني: الموزون، فدل على أن العبرة بالكيل أو بالوزن.
كذلك استدلوا بحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما وزن مثلاً بمثل إذا كان نوعاً واحداً، وما كيل مثلاً بمثل إذا كان نوعاً واحداً )، فقالوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما وزن مثلاً بمثل) والكيل مثل ذلك، فهذا دليل على أن العبرة هي بالوزن أو بالكيل، فكل ما يجري فيه الميزان أو المكيال يقع فيه الربا.
وهذا الحديث الذي استدلوا به رواه الدارقطني، والجواب عنه: أن هذا الحديث ضعيف، معلول من عدة وجوه:
أولاً: في سنده الربيع بن صبيح وهو ضعيف.
ثانياً: الحديث مضطرب الإسناد.
ثالثاً: أنه مضطرب المتن، وهو منكر؛ لأن حديث عبادة رضي الله عنه مشهور وليس فيه هذه الزيادة.
وقد أشار الدارقطني عند روايته إلى إعلاله.
إذاً: علة الكيل وعلة الوزن التي اعتمد عليها الحنفية سبق أن ذكرنا في الدرس الماضي أنها ليست بالقوية، لأنها ليست صفة ذاتية في الأشياء، وإنما هي أمر طارئ عليه، أي: ليست علة لازمة، وإنما هي علة طارئة عليه أتت بعد ذلك ولم يرد في الشرع ما يدل على اعتبارها، ونحن نعرف أن المكيل قد يصبح موزوناً في بعض البلاد، والموزون قد يصبح مكيلاً في بلاد أخرى، فتعليق الأمر على الكيل أو على الوزن هو تعليق على وصف طردي ليس له مناسبة كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله.
وقد رد هذا التعليق كثير من العلماء والمحققين أن موضوع الكيل أو الوزن ليس صفة في ذات المادة، أو في ذات الشيء أو النوع أو الجنس وإنما هي صفة خارجية عنه، فالتعليل بها غريب.
وكذلك مما رد به سابقاً: أن إسلام النقدين في الموزونات جائز إجماعاً، يعني كون الإنسان يستخدم السلم في أمور موزونة، فيدفع الثمن الآن ويستلم السلعة بعد سنة أو أقل أو أكثر ولو كانت من الأشياء الموزونة أو المكيلة جائز بإجماع العلماء، ولو كانت العلة هي الكيل أو الوزن ما كان السلم موجوداً أو كاد ألا يكون موجوداً.
إذاً: القول الثالث مذهب الحنفية، وهو أن العلة في الأصناف الأربعة هي الكيل. وهذه العلة قلنا إنها على القول الراجح: علة ضعيفة.
ننتقل للقول الرابع قالوا: إن الربا يجري في كل ما كان مكيلاً أو موزوناً من المأكولات أو من المطعومات.
إذاً: وافقوا الحنفية على علة الكيل أو الوزن، ولكن أضافوا لذلك وصفاً جديداً وهو أن يكون مطعوماً، وبناءً على ذلك نقول مثلاً: إن الأشياء المكيلة عند الأحناف مثل الجص أو الأشنان يجري فيها الربا؛ لكن على هذا القول لا يجري فيها الربا؛ لأنها ليست مطعومة.
إذاً: القول الرابع أن الربا يجري في المطعوم المقدر، يعني: مكيلاً أو موزوناً. وهذا القول هو مذهب سعيد بن المسيب، والشافعي في قوله القديم، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد، ورجحه الإمام ابن تيمية رحمه الله في غير موضع من كتبه، وكذلك رجحه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في آخر أبحاثه ودروسه، وجماعة من الباحثين والمعاصرين منهم الدكتور عمر المترك صاحب كتاب الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية، وهذا الكتاب رسالة دكتوراه، وهو كتاب قيم يحسن بطالب العلم اقتناؤه على أنه يعتبر مختصراً نسبياً لكنه مفيد.
إذاً: القول الرابع مذهب الشافعي القديم ورواية عن أحمد قالوا: يجري الربا في المكيل أو الموزون بشرط أن يكون مأكولاً أو مطعوماً.
وبناءً على ذلك؛ فإنه لا ربا في المطعوم إذا كان لا يكال ولا يوزن؟ مثل البطيخ أو التفاح كما ذكرنا أو البيض لأنه لا يكال ولا يوزن وإنما يعد عداً، وكذلك لا ربا في المكيل والموزون إذا لم يكن مطعوماً كالحديد والرصاص، وإنما يكون الربا فيما جمع هذين الوصفين، فكان مكيلاً أو موزوناً من جهة وكان مأكولاً من جهة أخرى.
إذاً: هذا القول يجعل العلة مركبة من شيئين: الطعم أو الأكل من جهة والكيل أو الوزن من جهة أخرى.
نناقش هذا القول فيما يتعلق بالكيل أو الوزن: هو علل بشيئين: القول على الوزن من جهة والطعم من جهة أخرى، فيما يتعلق بالكيل أو الوزن هل يصلح أن يعلل به؟
لا يصلح، لماذا؟
لأننا ذكرنا -قبل قليل- في ردنا على قول الحنفية أن الكيل أو الوزن وصف طردي، وأنه وصف طارئ وغير لازم، وقد يكون مكيلاً اليوم موزوناً غداً، مكيلاً هنا موزوناً هناك، فالكيل أو الوزن لا يناسب أن يربط به التعليل الشرعي.
وبناءً عليه نقول في هذا القول أيضاً: إن تعليل هؤلاء بالكيل أو الوزن الذي هو العلة الأولى أو القسم الأول من العلة يقال فيه ما يقال في مذهب الأحناف، إن التعليل بالكيل أو الوزن تعليل غير مناسب، فيسلم لهم القسم الثاني من العلة وهو كونه مطعوماً أو كونه مأكولاً فحسب.
وهذا يولد لنا القول الخامس، وهو: أن الربا لا يجري إلا فيما كان مطعوماً أو مأكولاً فحسب، وهذا مذهب الشافعي الجديد، وهو رواية أيضاً عن الإمام أحمد، وبذلك اكتملت عن الإمام ثلاث روايات الآن.
فهؤلاء يقولون: لا يجري الربا إلا في المطعوم، سواءً كان المطعوم مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً، وبناءً على هذا القول يجري الربا مثلاً في الحلوى أم لا يجري؟ يجري؛ لأنه مطعوم.
يجري في الفواكه أو لا يجري؟ يجري؛ لأنها مطعوم.
يجري في اللحم أو لا يجري؟ يجري؛ لأنه مطعوم.
يجري في السمن؟ يجري، نعم. الخضروات، البيض، الجوز، كل الأشياء التي تؤكل يجري فيها الربا لأنها مطعومة، بغض النظر عن كونها معدودة أو موزونة أو مكيلة. هذا هو القول الخامس.
وهؤلاء قالوا: إن الأكل علة مقصودة لذاتها في هذه الأجناس، وهي علة لازمة وعلة مطردة، فبذلك اعتمدوا على هذا الدليل الأول.
كما اعتمدوا على دليل ثان، وهو حديث معمر بن عبد الله في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الطعام بالطعام مثلاً بمثل ) هذا الحديث نص على الطعام، فقال هؤلاء: إن الشريعة إذا علقت الحكم على اسم مشتق دل على أن هذا الاسم المشتق يدل على العلة، فإذا قال الله سبحانه وتعالى مثلاً: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] دل على أن قطع اليد متوجه على السارق؛ لأنه علق الحكم بلفظ أو باسم مشتق، وهو السارق مأخوذ من السرقة.
وهكذا قوله سبحانه وتعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا [النور:2] الجلد متوجه على الزاني بسبب أنه ربط الحكم بالعلة، فهكذا إذا قال: ( الطعام بالطعام مثلاً بمثل ) قالوا: العلة الربوية مرتبطة بالاسم المشتق والطعام مأخوذ من الطعم أو من الطُعم، فدل على أن العلة مرتبطة بذلك. هذا قول.
وأجيب عن هذا: بأن لفظة الطعام في السنة النبوية أو عند العرب لا يقصد بها مطلق الطعام، إنما يقصد بها البر وحده، فإذا أطلق الطعام عند العرب قصدوا بها نوعاً من الطعام، وهذا من باب إطلاق العام ويراد الخاص، ويقصدون بالطعام البر.
ومما يستدل به على ذلك حديث أبي سعيد في صدقة الفطر أنه قال: ( كنا نخرجها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط ) فلو كانت كلمة الطعام تشمل كل ما يطعم ما احتاج إلى التفصيل بعد ذلك، فلما قال: ( صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو من بر، أو من تمر، أو من أقط )، دل على أن المقصود بالطعام هو البر، فقالوا: هذا هو العرف الجاري في لغة العرب وفي لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وكذلك مما أجيب به عن هذا القول: أنهم قالوا: لو كانت العلة هي كونه طعاماً لما احتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يعدد لنا هذه الأربعة، لأنها كلها أطعمة، فالبر مثلاً والشعير والتمر كلها أطعمة، وكذلك الملح يعتبر داخلاً في الطعام لأنه مما يصلح به الطعام، فكان يكفي أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: الطعام بالطعام ويقف، أو يذكر واحداً منها ويترك الباقي للقياس، فلما عدها دل على أنه لا يكفي فقط كونها طعاماً.
ومما احتج به عليهم أيضاً: أن الماء يسمى طعاماً، ما هو الدليل على أن الماء يسمى طعاماً؟ الذي يجيب نعطيه هذا.
مداخلة: ....
الشيخ: ممتاز، هذا لك الجهاز؟ الحمد لله، ترى هذه هدية لك أنت.
قوله تعالى: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة:249] فأطلق الطعام، مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ يعني: الماء، فبناءً عليه سمي الماء طعاماً، وبناءً على هذا فإنه يقال: إن الماء يجري فيه الربا، وهذا قول عند الشافعية والمالكية وغيرهم يقولون: إن الماء يجري فيه الربا، عند بعضهم.
إذاً: هذا هو القول الخامس وهو قول الشافعية: أن علة الربا هي الطعام أو الطُعم، وقد عرفتم ما لهذه العلة وما عليها.
نبقى في القول السادس وهو الأخير، قالوا: إن الربا يجري في المقتات المدخر فقط.
إذاً: يشترط في الأمر الربوي أن يكون قوتاً وأن يكون قابلاً للادخار. وهذا طبعاً مذهب الإمام مالك واختاره ابن القيم رحمه الله ونصره في إعلام الموقعين، وكذلك أذكر أن الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله قبل فترة طويلة كان يرجح هذا القول، ثم رجع إلى القول السابق كما أسلفنا.
فـابن القيم نصر هذا القول نصراً قوياً في إعلام الموقعين، أعني مذهب الإمام مالك قال: إن العلة تجري فيما يكون فيه شرطان:
الأول: أن يكون قوتاً.
والثاني: أن يكون مدخراً.
والمالكية أحياناً وبالذات الإمام مالك رحمه الله في الموطأ لا يشيرون إلى القوت فقط بل وأن يكون غالب عيش الناس، يعني يكون قوتاً ومنتشراً وهو غالب عيش الناس، وذلك لأن هذه الأقوات عندهم يقولون: عليها حاجة الناس ومدار مصالحهم، فلو جوز بيع بعضها ببعض نسيئة لم يفعله أحد إلا إذا كان يربح بهذا الفعل، فبذلك يعز الطعام ويقل ويصعب على المحتاج الوصول إليه.
ما معنى كونه قوتاً؟ وما معنى كونه مدخراً؟ أما كونه قوتاً أو كونه يقتات فالمقصود أن بنية الإنسان وقوام حياته وعيشه تقوم عليه، بحيث أن الإنسان يمكن أن يقتصر على هذا الأمر كطعام أساسي حاجة أساسية له، مثل الرز الآن يعتبر قوتاً أساسياً؛ لأن أكثر الناس يقوم عيشهم عليه، فتجدهم يأكلونه غداءً ويأكلونه عشاءً وقد يقتصر إنسان عليه دون غيره، هذا معنى كونه قوتاً.
وأما كونه مدخراً معناه: أنه يمكن حفظه وأنه لا يفسد لو بقي إلى أجل، وحدد بعضهم مدة ستة أشهر، وبعضهم قال مطلقاً من غير تحديد.
فالمقصود بأنه مدخر أي: أنه قابل للادخار ولا يفسد، ويمكن أنه يلبث أو يحفظ، وهنا يدخلون في القوت أيضاً ما يحتاج إليه القوت، مثل الملح، الملح ليس قوتاً، أحد يأكل الملح؟ لا. لكنه يحتاج إليه في صناعة القوت، وبناءً عليه يلحقون بالملح وما كان من جنسه مثل بعض التوابع التي يصلح بها الطعام ويستقيم بها طعمه، فهذه تعتبر من الأشياء التابعة للقوت وإن لم تكن قوتاً بذاتها.
إذاً: على هذا القول لا يجري الربا في الطعام الذي لا يكون قوتاً، مثل البطيخ، أو الخوخ، أو كثير من الفواكه والخضروات التي لا تعد قوتاً لذاتها، ومثلها الحلاوات، الرمان، الكمثرى.
بعض المالكية يقولون: وعيون البقر، وهذه لم أجدها إلا في كتب المالكية، والمالكية كان أكثرهم في المغرب والأندلس بلاد خضرة وجمال وفواكه، فهذا نوع من الفواكه التي عندهم، ويخطر في بالي من خلال وصفهم لها أنها قد تكون مثلما نسميه نحن البخارى أو غيرها، لأنه بمقتضى وصفهم لها هي فاكهة صغيرة لا تيبس، تؤكل وهي غضة، فهي كأنها من هذا النوع، وبحثت فيها فلم أجد تعريفاً لها، بحثت في كتب الفقه، يمكن أهل اللغة يتكلمون عنها.
المقصود: أن هذه الأشياء التي لا تقتات، يعني لا تصلح قوتاً فإنها لا يجري فيها الربا ولو كانت طعاماً ولو كانت مكيلة أو موزونة.
وطبعاً يشكل على هذا المذهب أولاً: الملح، فإنه ليس بقوت، ويجاب عنه بأنه وإن لم يكن قوتاً إلا أنه يصلح به القوت.
ويشكل عليه أيضاً -وهذا إشكال ربما صعب- يشكل عليه الرطب، والرطب معروف، فهذا الرطب ربوي بالنص ومع ذلك فإنه لا يدخر، وقد يجاب على هذا.
الضميد ما يصير رطب، الضميد يتحول إلى تمر، يعني هو الرطب لا يدخر وهو رطب، فإذا ادخر تحول إلى شيء آخر وإلى اسم آخر وهو التمر، فهذا قد يشتهر وربما وجدوا عنه جواباً أو مخرجاً.
موضوع الثلاجة ليس داخلاً، المقصود الاقتيات في كل الظروف.
على كل حال: ذكرنا الآن الأقوال الستة ولا بأس أن نستذكرها بسرعة.
القول الأول: أن العلة في الأجناس الأربعة هو: الجنس، فالتراب بالتراب ربا.
القول الثاني: أن العلة أنه جنس تجري فيه الزكاة.
القول الثالث: أنه مكيل أو موزون. نعم. مكيل أو موزون في الذهب والفضة.
القول الرابع: أنه مكيل أو موزون من جهة ومطعوم من جهة أخرى.
القول الخامس: أنه مطعوم فقط.
القول السادس: أنه مما يقتات ويدخر.
وحقيقة إن كان في قول الإمام مالك الأخير هذا شيء من القوة -والله أعلم- فهو أن هذا القول يحكم أمر هذه الأجناس فلا تمتد وتتسع؛ لأن من الفقهاء من يقول -كما أسلفنا- أنه لابد من الاقتصار على هذه الأجناس الأربعة دون غيرها، لما رأوا من خلاف الفقهاء في التعليل، ولذلك هذا القول هو أضيق الأقوال، بمعنى: أنه يضيق نطاق الربا في الأشياء التي تكون مكيلة ومدخرة، وما معنى المكيلة والمدخرة؟ معناه من باب أولى أن تكون مطعومة.
إذاً.. هذا القول يتضمن أن تكون مطعومة ومكيلة ومدخرة ومن جنس واحد.
المكيلة هذه جاءتنا بالغلط، نعود لحكاية المذهب مرة أخرى: مذهب الإمام مالك يقتضي أنه يشترط أن يكون من جنس واحد. هذا رقم واحد.
رقم اثنين: أن تكون مطعومة، لأن الناس لا يقتاتون أو يدخرون ما ليس بطعام.
القول الثالث: أن تكون مدخرة.
القول الرابع: أن تكون قوتاً.
وبناءً عليه فلا تتحقق هذه الشروط إلا في أشياء معينة مما يكون غالب قوت الناس كما ذكرنا مثل الرز وغيره، هذه ميزة لقول الإمام مالك وإن كان الترجيح في هذا الباب صعباً.
ونحن نمضي على قول المذهب الذي اختاره المصنف لأنه مذهب الحنابلة المشهور: أن التقدير هو الطعام، أن علة الربا هي الطعام، وهذا مذهب الشافعي كما ذكرنا ورواية عن أحمد .
الإمام ابن قدامة في المغني يقول: ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعام -يعني الكيل أو الوزن مع الطعام- من جنس واحد ففيه الربا رواية واحدة عن الإمام أحمد، لأنه اتفقت فيه الأشياء كلها، ومثل الرز والذرة والدهن واللحم، قال: وهذا قول الأكثر من أهل العلم، قال ابن المنذر : هذا قول علماء الأمصار في القديم والحديث.
فنعود هنا إلى كلام المصنف رحمه الله صاحب العمدة قال: [باب الربا]. ثم ذكر حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل سواءً بسواء، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ).
هذه هي النقطة الأولى في كلام المصنف أنه ذكر حديث عبادة بن الصامت، والحقيقة الحديث لم أجده بهذا اللفظ عن عبادة رضي الله عنه، فالإمام مسلم رحمه الله روى حديث عبادة بن الصامت وهذه إحدى روايات مسلم قال: ( غزونا غزاة وعلى الناس
طبعاً نجد الحديث عند مسلم والبخاري عن غير عبادة، فمثلاً حديث أبي سعيد الخدري هو من أقرب الألفاظ إلى نص المصنف، حديث أبي سعيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء )
الخلاصة أن الحديث صحيح. وقد تكلمنا عنه فيما سبق.
النقطة الثانية فيما ذكره المصنف قال: [ولا يجوز بيع مطعوم مكيل أو موزون بجنسه إلا مثلاً بمثل].
هذا دليله أنه لابد أن يكون مطعوماً مكيلاً أو موزوناً على أحد الأقوال التي ذكرناها، ودليل ما سبق من حديث معمر بن عبد الله : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل، أو قال: الطعام بالطعام مثلاً بمثل ) والحديث رواه مسلم .
والمقصود بالمماثلة مساوة المكيل بالمكيل والموزون بالموزون، فمثلاً: الذي يكال لابد أن تكون مساواته بالمكيال، والذي يوزن لابد أن تكون مساواته بالميزان، غير المطعوم -على هذا القول كما أسلفنا- ليس فيه ربا كالحديد والصابون مثلاً، وغير المكيل والموزون أيضاً ليس فيه ربا كالبطيخ والرمان. هذا مما سبق.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية | 3986 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 | 3925 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة | 3853 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض | 3845 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين | 3671 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 | 3624 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض | 3614 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع | 3551 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج | 3516 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها | 3443 استماع |