شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -2


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

هذه ليلة الخميس، السابع عشر من ذي القعدة من سنة: (1422هـ).

وفي الأسبوع الماضي بحمد الله تعالى أتينا على معظم ما يتعلق بمحظورات الإحرام، وفي هذا اليوم سنتحدث عن باب الفدية، لكن قبل ذلك بقي علينا في محظورات الإحرام مسائل يسيرة نمر عليها.

تغطية المحرم رأسه

أظن أننا وصلنا إلى الرابع من المحظورات وهو ما يتعلق بتغطية الرأس، وذكرنا أن تغطية الرأس من المحظورات، ولهذا لا يلبس المحرم العمامة والقلنسوة وما في معناها، وذكر ابن المنذر وغيره الإجماع على هذا المعنى، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما مات الرجل أو وقصته دابته، فقال عليه الصلاة والسلام: ( ولا تغطوا رأسه )، وفي لفظ: ( ولا وجهه )، ولكن رواية: (رأسه) هي الثابتة، فهو دليل على أن المحرم لا يغطي رأسه، سواء كان حياً أو ميتاً؛ لأنه في حال الإحرام يظل له أحكام المحرم وإن كان ميتاً.

وهل الأذنان من الرأس؟

في حديث: ( الأذنان من الرأس )، وجاء من طريق عشرة من الصحابة، لكن كل طرق الحديث ضعيفة؛ ولهذا لا يثبت أهل العلم مثله، ومن هنا وقع الخلاف بينهم في إلحاق الأذنين بالرأس سواء في الوضوء، هل تمسح مع الرأس أو تغسل مع الوجه، أو يكون ما أقبل منها مع الوجه، وما أدبر يمسح مع الرأس؟

ثلاثة أقوال: آخرها هو أضعفها، ولكن الأذنان من الرأس في الجملة، وإنما نعلم أن المنهي عنه حال الإحرام هو تغطية عامة الرأس، أما لو غطى شيئاً من رأسه مما تدعو الحاجة إلى تغطيته فليس في ذلك حرج، فلو أن الإنسان استخدم وهو محرم سماعات الأذن التي يستمع بها، أو سماعات الجوال أو غيرها، فإنه ليس عليه في ذلك حرج.

وطبعاً فيما يتعلق بتغطية الرأس ذكرنا أشياء لا تدخل في هذا، وهي: ما لو حمل مكتلاً أو غطى رأسه بشيء غير ملاصق كالسقف مثلاً أو السيارة.. أو غيرها، وما يفعله بعض الناس من إزالة السقف أو غيره فليس له أصل.

الطيب للمحرم

الخامس: هو الطيب، والطيب أيضاً للمحرم مما أجمع أهل العلم على تحريمه على المحرم.

ومما يستدل له في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته دابته، قال: ( لا تحنطوه )، والحنوط: نوع من الطيب، وفي رواية لـمسلم : ( ولا تمسوه طيباً )، فهذا دليل على أنه يحرم على المحرم أن يتطيب -يعني: بعد إحرامه- لا في بدنه ولا في ثيابه، وقد نقل إجماع العلماء على تحريم الطيب على المحرم جماعة كـالزركشي وابن قدامة في المغني وابن تيمية .. وغيرهم، وحجتهم ما ذكرنا.

وفي حديث يعلى بن أمية أيضاً -كما في البخاري -: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما سأله: كيف ترى في رجل أحرم وهو متضمخ بالخلوق؟ ) الحديث مشهور.

المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يغسل عنه الخلوق، وكأنه تضمخ به بعد إحرامه.

هذا أحد الأوجه في تفسير الحديث، ولا شك أن هناك أشياء لا تدخل في الطيب، مثل: شم الريحان، وشم الورود والأزهار الجميلة مثلاً كما ذكرناه عن ابن عباس وعن عثمان رضي الله عنه، أو كذلك شرب القهوة، أو الطعام الذي يكون فيه الزعفران، فإن هذا لا يسمى طيباً، وخصوصاً وقد مسته النار، وحتى لو لم تمسسه النار فهو مختلط في هذا الطعام أو الشراب ذاهب فيه، وليس له جرم ولا استقلال، فهو داخل فيه تبعاً ولا يعد طيباً.

ومثل ذلك أيضاً: ذكرنا لو أن إنساناً استخدم صابوناً فيه رائحة طيبة، فإن هذا لا يسمى طيباً ولا بأس به، أو استخدم الشامبو في رأسه، فإن الشامبو لا يعد من الطيب ولا يسمى طيباً ولا يدخل في النهي، وهكذا ذكر الحنابلة الكحل، مع أنه ورد في بعض الأحاديث في مسلم النهي عنه، ولكن الجمهور: على أن النهي هو عن كحل خاص، كأن يكون كحلاً فيه طيب؛ فيه مادة طيب ظاهرة واضحة قوية، وإلا فالجمهور على أنه ليس بمحظور حال الإحرام.

قتل الصيد للمحرم

السادس: قتل الصيد، وهو إحدى المحظورات المتفق عليها بنص القرآن الكريم: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]، وسوف نأتي عليه الآن بعد قليل إن شاء الله، وكذلك في السنة النبوية كما في حديث الصعب بن جثامة : ( لما قتل صيداً وأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم فرده، وقال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم )، وإجماع العلماء على ذلك، والنصوص في هذا سبق الإشارة إلى شيء منها.

ما هو الصيد؟ الصيد: هو ما كان وحشياً مباحاً، فما ليس بوحشي كالحيوانات الإنسية، فإنها لا تسمى صيداً، فلا يسمى الدجاج مثلاً، ولا يسمى الغنم أو البقر أو نحوها من الأشياء الإنسية لا تسمى صيداً، وكذلك المحرم الذي لا يجوز أكله فإنه لا يسمى صيداً، والمحرم أنواع: منه ما يؤمر بقتله، كما في الخمس الفواسق في حديث عائشة وحفصة وغيرهما التي تقتل في الحل والحرم: كالغراب، والحدأة، والفأرة.. فهذه الأشياء ونحوها.. وليس المقصود بالخمس الحصر، وإنما كل ما كان مؤذياً؛ كالأسود الضواري، والذئاب.. ونحوها، فإنها تقتل في الحل والحرم كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس على قاتلها شيء، فهذا نوع مما ليس بمباح.

وهناك المباح الذي لا يؤذي: كالهر مثلاً ونحوه، فإن هذه الأشياء لا تعد صيداً وليس على قاتلها في الحرم ولا في غيره شيء.

طيب هناك أشياء قد يختلف فيها: هل هي من الصيد أم لا؟

فنقول: إن الأصل في هذه الأشياء المختلف فيها أنها ليست من الصيد، وإذا رجح أحد أنها صيد، فيلزم الفدية من صادها بحسب ترجيحه.

عقد النكاح .. والخلاف في ذلك

السابع من محظورات الإحرام: عقد النكاح، والجمهور على أن عقد النكاح للمحرم لا يجوز، وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أحمد والشافعي ومالك، وحجتهم في ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا ينكح المحرم ولا ينكح )، وهو في صحيح مسلم من حديث عثمان رضي الله عنه.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز للمحرم أن يعقد النكاح، واحتج لذلك بما رواه ابن عباس، وهو أيضاً في مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم )، وهذا حديث صحيح، ولكن قال الإمام أحمد : هذا خطأ، يعني: وإن كان سنده صحيحاً، إلا أن الحديث خطأ، والصواب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، وممن روى هذا جماعة من الصحابة، بل قال أبو رافع : (وكنت السفير بينهما)، فالصواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهما حلال، ولا حجة في الحديث؛ لأنه خطأ يرد ولا يحتج به، لكن لو عقد النكاح فهل يلزمه فدية؟ نقول: لا، وإنما هو نكاح وقع باطلاً، فليس على من عقده شيء، مثله في ذلك مثل ما لو اشترى صيداً يحرم عليه شراؤه وهو محرم، فإننا نقول: البيع أو الشراء باطل، وليس عليه في ذلك فدية ويأثم إذا كان علم بذلك.

مباشرة المحرم لزوجته فيما دون الفرج

الثامن: من المحظورات: هو المباشرة بشهوة فيما دون الفرج، أما مسألة الجماع فقد ذكرناها تفصيلاً في الجلسة الماضية وحقها أن تكون الأخيرة، لكن بدأنا بها لوجود نوع من التفصيل فيها، فقلنا: نستغل إقبال الشباب ونشاطهم.

ننتقل الآن للمباشرة بشهوة فيما دون الفرج، يعني: ليس جماعاً، وإنما باشر زوجته بأن قبلها أو ضمها أو لمسها أو ما أشبه ذلك، وهذا ذكر غالب الفقهاء أنه من محظورات الإحرام، وإن لم يذكروا لهذا دليلاً خاصاً، إلا أنه قد يستدل لهم بقوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، فإن الرفث: هو ما يجري بين الرجل وزوجته من الأشياء التي تقع بينهما من القول أو الفعل، فهذا من الرفث المنهي عنه، وقد يطلق الرفث على الجماع أيضاً.

ولا شك أن الحاج مأمور بالبعد عن هذه الأشياء؛ أولاً: للخلاف القوي والروايات المشهورة عن أهل العلم في النهي عن ذلك.

وثانياً: لأن هذا قد يجر صاحبه إلى الوقوع في الجماع، فالمباشرة بشهوة فيما دون الفرج منهي عنها حال الإحرام كما ذكر المصنف.

ولهذا قال المصنف رحمه الله: [فإن أنزل بها]، يعني: قبل زوجته أو حتى نظر إليها وأدمن النظر، ثم أنزل [فعليه بدنة]، وفي فساد حجه قولان والصحيح أنه لا يفسد؛ لما ذكرناه سابقاً من كلام ابن المنذر أن العلماء أجمعوا على أنه لا يفسد الحج بشيء من المحظورات إلا بالجماع، إذا جامع قبل يوم عرفة .

وأما هذه المباشرة فإنها تضر حجه وتنقصه، وعليه بدنة عندهم، ولكن ليس حجه بفاسد، وعلى الرواية الصحيحة في مذهب الإمام أحمد، وهو القول المختار عند جمهور العلماء.

وإيجاب البدنة والشاة فيه الكلام الذي ذكرناه سابقاً، وقد ذكرنا قول عطاء أنه سئل عن ذلك، فقال: يستغفر ربه ولا يعود، فيما يتعلق بموضوع المباشرة وفيما يتعلق بموضوع الجماع قال: [إن عليه بدنة إن كان ذا ميسرة].