شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: صلاة الجمعة ].

المسألة الأولى: أن الجمعة من شعائر الإسلام الظاهرة التي ذكرها الله تعالى في كتابه وأمر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأذن للصحابة أن يجمعوا قبل أن يهاجر إلى المدينة، فجمع بهم مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه وأرضاه في مكان يقال له: نقيع الخضمات في المدينة المنورة، وكره الأنصار أن يؤم بعضهم بعضاً فأمهم مصعب بن عمير، وكانت الجمعة في الجاهلية تسمى العروبة، فسميت في الإسلام بهذا الاسم الشريف: الجمعة، وهو يوم فاضل، هو أفضل أيام الأسبوع، هو الذي فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه، وهو عيد الأسبوع، وقد جاء في الجمعة فضائل وخصائص كثيرة جداً أفردها العلماء بالكتابة والتصنيف، ومن أشهر من كتب في ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في الجزء الأول من كتابه زاد المعاد، وكذلك الإمام السيوطي في كتابه اللمعة في خصائص يوم الجمعة، وهي تنطق بضم الجيم والميم كما ذكر الله تعالى: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة:9]، وقد تسكن الميم تخفيفاً فيقال: الجُمْعة.

المسألة الثانية: [ كل من لزمته المكتوبة لزمته الجمعة ] أي: أن كل من وجبت عليه الصلاة المفروضة وجبت عليه الجمعة أيضاً؛ لأنها في مقام إحدى الصلوات المكتوبات، وقد أمر الله تعالى بها وبالسعي إليها، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، فدل ذلك على وجوب المشي إلى الجمعة وأدائها وصلاتها، وهذا ظاهر جداً في فرضيتها ولزومها على كل مكلف من المكلفين إلا من استثني.

وقد جاء في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليطبعن الله على قلوبهم ) أي: عن تركهم الجمعة ( أو ليطبعن الله على قلوبهم )، وفي حديث عند أبي داود وأهل السنن وسنده صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً طبع على قلبه فكان من الغافلين ) .

قال: [ كل من لزمته المكتوبة لزمته الجمعة ] هذا حكم عام.

اشتراط الاستيطان في حق من تلزمهم الجمعة

ثم انتقل رحمه الله إلى بيان الشروط.

فقال في المسألة الثالثة: [ إن كان مستوطناً ببنائه ] أي: أنها لا تجب إلا على المستوطنين ببناء، والمقصود مطلق البناء يعني: سواء كان من طين، أو حجر، أو آجر، أو كلس، أو خشب، أو خوص، أو غيره، إذ إن نوع البناء ليس له تعلق بالحكم الشرعي، وإنما المقصود الاستيطان والاستقرار.

أما الرحل كالبدو الذين ليس لهم مقام، وإنما يتتبعون المرعى والكلأ والعشب، فيقيمون اليوم في هذا المكان، ثم يظعنون إلى غيره، فمثل هؤلاء ليس عليهم جمعة، ولهذا أقام النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة في المدينة، وكان حول المدينة بادية كثير وفي صحراء العرب، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً منهم بإقامة الجمعة، ولم ينقل أن أحداً منهم أقام الجمعة عبر العصور كلها، فدل على أنها إنما تجب في المدن والقرى والمساكن المستقرة السالفة.

وبناءً عليه أسأل: تلك المخيمات التي تقام من خيام أو خرق أو غيرها، ولكنها تحمل طابع الاستقرار والديمومة والثبات، ويجلس أهلها فيها عشرات السنين من غير تنقل ولا ظعن، إلا أن ينقلهم أو يظعن بهم حاكم أو ملك، أو عدو يطردهم من تلك وينقلهم إلى غيرها، هؤلاء هل يجب عليهم أن يقيموا الجمعة في مخيماتهم أم لا؟

نعم. ظاهر أنه يجب عليهم أن يقيموا الجمعة، لأن العذر ليس بنوع البناء الذي يسكنون فيها من ورق، أو خوص، أو قصب، أو لبن، أو حجارة أو غير ذلك، وإنما العبرة بطبيعة سكناهم، فإذا كانت سكنى استقرار وثبات وديمومة؛ وجبت عليهم الجمعة واعتبروا مستوطنين، واعتبر ما هم فيه بناء ولو كان من قصب، أو من خرق، أو من خوص، أو من أي مادة أخرى، فهذه هي العبرة، فهؤلاء يلزمهم في الظاهر، وهو القول المعتمد في المذهب -مذهب الإمام أحمد - وجمهور أهل العلم أنه يلزمهم أن يقيموا صلاة الجمعة .

اشتراط قدر المسافة الذي يلزم به المكلف حضور الجمعة

المسألة الرابعة وذكر فيها الشرط الثاني فقال: [ بينه وبين الجامع فرسخ فما دون ذلك ] أي: أن الجمعة لا تلزم إلا من كان بينه وبين الجامع فرسخ، ولم يرد في الفرسخ حديث أو أثر، وإنما هو استقراء من بعض الفقهاء، فإنهم قالوا: إن الجمعة تلزم من يسمع النداء، كما روى أبو داود عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إنما الجمعة على من سمع النداء )، وهذا الحديث يعتضد بالأحاديث الأخرى في صلاة الجماعة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أهل السنن وإسناده جيد: ( من سمع النداء فلم يجب -أو فلم يأت- فلا صلاة له إلا من عذر. قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض ) .

والأحاديث في هذا الباب معلومة، فقالوا: كما تجب الجماعة بذلك تجب به الجمعة، وقالوا: إنه بالاستقراء تبين أنه ليس المقصود مطلق سماع النداء، فقد يكون الإنسان قريباً من المؤذن، ولكنه لا يسمع إما لانخفاض الصوت، أو للريح، أو لثقل سمعه هو، أو لغير ذلك، أو لكونه منشغلاً في شيء.

فالمقصود في ذلك ليس حقيقة النداء، وإنما المقصود أن يحدد ذلك بمقدار لا يختلف، والموضع الذي يمكن أن يسمع منه الإنسان النداء في الوقت المعتاد الغالب، دون أن يكون هناك مؤثرات أخرى إضافية هو قدر فرسخ أو ما قاربه.

وبناءً عليه نقول: إن التحديد بفرسخ ليس تحديداً شرعياً، بحيث نقول: ما زاد على فرسخ لا يجب عليه، وما نقص عنه فإنه يجب عليه، وإنما نقول: الجمعة على من سمع النداء كما تجب الجماعة، فمن وجبت عليه الجماعة كما ذكر المؤلف قبل وجبت عليه الجمعة، والتحديد بالفرسخ مما لا دليل عليه ولا نص، فينبغي أن يكون الأمر مطلقاً كما أطلقه الشرع، ومن سمع النداء وجب عليه أن يجيب .

ثم انتقل رحمه الله إلى بيان الشروط.

فقال في المسألة الثالثة: [ إن كان مستوطناً ببنائه ] أي: أنها لا تجب إلا على المستوطنين ببناء، والمقصود مطلق البناء يعني: سواء كان من طين، أو حجر، أو آجر، أو كلس، أو خشب، أو خوص، أو غيره، إذ إن نوع البناء ليس له تعلق بالحكم الشرعي، وإنما المقصود الاستيطان والاستقرار.

أما الرحل كالبدو الذين ليس لهم مقام، وإنما يتتبعون المرعى والكلأ والعشب، فيقيمون اليوم في هذا المكان، ثم يظعنون إلى غيره، فمثل هؤلاء ليس عليهم جمعة، ولهذا أقام النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة في المدينة، وكان حول المدينة بادية كثير وفي صحراء العرب، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً منهم بإقامة الجمعة، ولم ينقل أن أحداً منهم أقام الجمعة عبر العصور كلها، فدل على أنها إنما تجب في المدن والقرى والمساكن المستقرة السالفة.

وبناءً عليه أسأل: تلك المخيمات التي تقام من خيام أو خرق أو غيرها، ولكنها تحمل طابع الاستقرار والديمومة والثبات، ويجلس أهلها فيها عشرات السنين من غير تنقل ولا ظعن، إلا أن ينقلهم أو يظعن بهم حاكم أو ملك، أو عدو يطردهم من تلك وينقلهم إلى غيرها، هؤلاء هل يجب عليهم أن يقيموا الجمعة في مخيماتهم أم لا؟

نعم. ظاهر أنه يجب عليهم أن يقيموا الجمعة، لأن العذر ليس بنوع البناء الذي يسكنون فيها من ورق، أو خوص، أو قصب، أو لبن، أو حجارة أو غير ذلك، وإنما العبرة بطبيعة سكناهم، فإذا كانت سكنى استقرار وثبات وديمومة؛ وجبت عليهم الجمعة واعتبروا مستوطنين، واعتبر ما هم فيه بناء ولو كان من قصب، أو من خرق، أو من خوص، أو من أي مادة أخرى، فهذه هي العبرة، فهؤلاء يلزمهم في الظاهر، وهو القول المعتمد في المذهب -مذهب الإمام أحمد - وجمهور أهل العلم أنه يلزمهم أن يقيموا صلاة الجمعة .

المسألة الرابعة وذكر فيها الشرط الثاني فقال: [ بينه وبين الجامع فرسخ فما دون ذلك ] أي: أن الجمعة لا تلزم إلا من كان بينه وبين الجامع فرسخ، ولم يرد في الفرسخ حديث أو أثر، وإنما هو استقراء من بعض الفقهاء، فإنهم قالوا: إن الجمعة تلزم من يسمع النداء، كما روى أبو داود عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إنما الجمعة على من سمع النداء )، وهذا الحديث يعتضد بالأحاديث الأخرى في صلاة الجماعة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أهل السنن وإسناده جيد: ( من سمع النداء فلم يجب -أو فلم يأت- فلا صلاة له إلا من عذر. قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض ) .

والأحاديث في هذا الباب معلومة، فقالوا: كما تجب الجماعة بذلك تجب به الجمعة، وقالوا: إنه بالاستقراء تبين أنه ليس المقصود مطلق سماع النداء، فقد يكون الإنسان قريباً من المؤذن، ولكنه لا يسمع إما لانخفاض الصوت، أو للريح، أو لثقل سمعه هو، أو لغير ذلك، أو لكونه منشغلاً في شيء.

فالمقصود في ذلك ليس حقيقة النداء، وإنما المقصود أن يحدد ذلك بمقدار لا يختلف، والموضع الذي يمكن أن يسمع منه الإنسان النداء في الوقت المعتاد الغالب، دون أن يكون هناك مؤثرات أخرى إضافية هو قدر فرسخ أو ما قاربه.

وبناءً عليه نقول: إن التحديد بفرسخ ليس تحديداً شرعياً، بحيث نقول: ما زاد على فرسخ لا يجب عليه، وما نقص عنه فإنه يجب عليه، وإنما نقول: الجمعة على من سمع النداء كما تجب الجماعة، فمن وجبت عليه الجماعة كما ذكر المؤلف قبل وجبت عليه الجمعة، والتحديد بالفرسخ مما لا دليل عليه ولا نص، فينبغي أن يكون الأمر مطلقاً كما أطلقه الشرع، ومن سمع النداء وجب عليه أن يجيب .

المسألة الخامسة: قال: [ إلا المرأة والعبد والمسافر والمعذور]. .

المرأة

أما المرأة فإنه ليس عليها جمعة ولا جماعة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي هريرة المتفق عليه: ( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة مع الجماعة، فأحرق عليهم بيوتهم )، وقد علم أن الجمعة إنما هي على الذكور دون الإناث، أما المرأة فالأفضل في حقها أن تصلي في بيتها سواء صلت منفردة أو صلت بجماعة.

وهذا مما لا يختلف فيه المسلمون: أنه لا تجب على المرأة الجماعة، وإن ذهب بعضهم -كما ذهب ابن حزم - إلى أن الأفضل في حقها أن تصلي في المسجد مع الرجال مخالفاً بذلك جماهير أهل العلم من السلف والخلف، وظواهر النصوص والأحاديث في قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن )، فالمرأة الأفضل في حقها بيتها في الجمعة والجماعة .

العبد

السادسة: قال: [ والعبد ] أي: أن العبد لا تلزمه الجمعة ولا تجب عليه، إما مطلقاً كما هو مذهب الجمهور، وإما أنها لا تجب عليه إلا بإذن سيده كما قواه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

وقد جاء في ذلك حديث مرفوع رواه أبو داود وغيره عن طارق بن شهاب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض )، والحديث ذكره أبو داود وقال: طارق بن شهاب -راوي الحديث- أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه.

وهذا ظاهره: أن يكون الحديث مرسل صحابي، ومرسل الصحابي حجة عند جمهور أهل العلم، ومع ذلك فقد جاء عند الحاكم أن طارق بن شهاب روى هذا الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وقد صححه الحاكم قال: صحيح الإسناد. وكذلك العراقي والشوكاني والذهبي وغيرهم.

وللحديث شاهد عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة، إلا امرأة، أو عبد، أو مسافر، أو مريض ), والحديث رواه البيهقي والدارقطني وغيرهما.

وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة جداً ذكرها البزار والطبراني وأحمد وغيرهم، وساق شيئاً منها الهيثمي في مجمع الزوائد، وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً، فتدل على أن العبد لا تجب عليه الجمعة، سواء أذن له سيده بذلك أو لم يأذن له .

المسافر

السابعة قال: [والمسافر].

فإن المسافر لا تلزمه الجمعة ولا الجماعة، والمقصود: أنه إذا كان جاداً به السفر أو كان سفره يقتضي ألا يصلي الجمعة، أو كان لا يسمع النداء، أما إن كان المسافر مقيماً بين الناس في المصر وسمع النداء، فالأظهر أنه يجب عليه إجابته؛ لعموم الحديث السابق: ( إنما الجمعة على من سمع النداء )، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر ).

والمقصود إذا كان المسافر مقيماً في المصر أو في القرية، أما إن كانوا جماعة مسافرين، فإن مذهب الجمهور وهو الصحيح أنه ليس عليهم جمعة؛ خلافاً للظاهرية والشوكاني، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سافر أسفاراً طويلة وغزا غزوات كثيرة تزيد على عشرين غزوة، وسافر للحج وللعمرة وغير ذلك، فلم ينقل عنه قط أنه صلى الجمعة في سفر، ولا أنه جهر فيها بالصلاة صلاة الظهر، ولا أنه خطبهم قبل الصلاة، فعلم أن المسافر ليس عليه جمعة، وأن جماعة المسافرين لا يشرع لهم أن يصلوا، ولهذا قلنا قبل -كما قال المؤلف رحمه الله-: إنها إنما تجب على من كان مستوطناً ببنائه.

المعذور بمرض أو مطر أو خوف

الثامنة: قال: [ والمعذور بمرض أو مطر أو خوف ]، فإنها تسقط عنه صلاة الجمعة كما تسقط عنه صلاة الجماعة.

فأما المرض فهو ظاهر، وقد جاء هذا في الحديث السابق حديث طارق بن شهاب الذي رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حق واجب، إلا على أربعة ) وذكر منهم المريض، فإن المريض الذي يشق عليه المجيء إلى الجمعة، أو يؤخر برأه، أو يتسبب له في المضاعفة، أو يزيد في مرضه لا يجب عليه الصلاة.

كمن يكون مريضاً يشق عليه المشي إليها، أو يؤذيه البقاء في المسجد، أو تكون الروائح الطيبة في الجمعة تتسبب في مضاعفة آلامه أو ما أشبه ذلك؛ فإنه ليس عليه صلاة الجمعة.

وقد سبق أن الجمعة كصلاة الجماعة، فإن المريض معذور بترك الجماعة، فهو معذور أيضاً بترك الجمعة، وإن كانت الجمعة آكد من الجماعة، وقد سبق عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن لهم في ترك الجماعة في أحوال معلومة.

ومن العذر أيضاً المطر، فإنه مما يؤذن فيه بترك الجماعة، ويباح فيه الجمع أيضاً، فلهذا يعذر فيه بترك الجمعة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر مناديه أن ينادي في الليلة المطيرة: ألا صلوا في رحالكم، الصلاة في الرحال، وهكذا الأمر في شأن الجمعة فإنه يجوز لهم أن يتركوها إذا كان ثمة مطر شديد.

ومثل المطر الشديد ما يشبهه في لحوق المشقة على الناس كالريح والعواصف الشديدة، ومثل ذلك البرد الشديد غير المعتاد والذي يشق على الناس فيه الخروج للصلاة، وكل أمر فيه مشقة عظيمة تلحق الناس، فإنهم يعذرون فيه بترك الجمعة والجماعة.

ومن الأعذار أيضاً: الخوف فإنه عذر في ترك الجمعة والجماعة كما هو معروف، قال الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239].

وقال: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102] الآية.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه الذي ذكرته قبل قليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سمع النداء فلم يمنعه من الاتباع عذر لم يقبل الله تعالى منه تلك الصلاة التي صلى، قالوا: وما العذر يا رسول الله؟! قال: خوف أو مرض )، فهذا يصلح دليلاً للمرض كما ذكرته قبل قليل، ويصلح دليلاً للخوف أيضاً.

والخوف مطلق هاهنا (خوف أو مرض) فيشمل الخوف في حال الحرب والمعارك، ويشمل الخوف على المال من حاكم أن يجتال ماله أو لص، فيرى أنه يبقى ليحرس ماله ويحافظ عليه، أو الخوف على ماله أن يلحقه ضرر عظيم بمغادرته له، كأن يكون عنده شغل متعلق بهذا المال كإصلاح له أو صناعة في أمر ماله، فيخاف عليه من حريق أو نحو ذلك، فهذا عذر له في ترك الجمعة والجماعة.

ومثله أيضاً الخوف على الأهل أو الولد أو الأتباع أو غيرهم من الناس والرفقة أن يضيعوا أو يضيع عنهم في مثل تلك الحال، فإذا كان ذلك خوفاً حقيقياً جاز له ترك الجمعة، بل ربما يتعين ويجب عليه تركها إذا كان يترتب على ذلك خوف على معصوم من هلاك، أو خوف على مال عظيم أن يجتاح، أو يترتب على ذلك فوات نفس أو مال أو ولد أو نحو ذلك .

حكم صلاة الجمعة للمرأة والعبد والمسافر إذا حضروها

التاسعة: قال: [ وإن حضروها أجزأتهم ولم تنعقد بهم ] يعني: إن حضرها هؤلاء الذين ذكر كالمرأة والعبد والمسافر والمريض أيضاً أجزأتهم ولم تنعقد بهم، أي: أنها تجزئهم فلا يحتاجون إلى أن يصلوا صلاة الظهر.

ولكنها لا تنعقد بهم، أي: لا يعدون من ضمن العدد الذي تنعقد به صلاة الجمعة بناءً على أنها لا تنعقد إلا بأربعين رجلاً فما فوق، كما سوف يأتي، وسيأتينا ذلك وأنه لا يشترط للجمعة عدد.

حكم الجمعة على المعذور إذا حضرها

المسألة العاشرة، قال: [ إلا المعذور فإنه إذا حضرها وجبت عليه وانعقدت به ].

يعني: المعذور بمرض أو مطر أو خوف ممن هو من أهل التكليف أصلاً، فهو حر بالغ عاقل لكنه عذر في ترك الجمعة بمرض فتحامل على نفسه وجاء، أو بمطر، أو خوف فغلب جانب السلامة وحضر.

فقال: هؤلاء إذا حضروها انعقدت بهم؛ لأنهم في الأصل من أهل التكليف، وكان سقوطها عنهم لدفع المشقة، فإذا حضروا زالت المشقة عنهم بالحضور ووجبت عليهم الجمعة حينئذ وانعقد بهم تمام العدد.

هذا -كما قلت- بناء على أنه يشترط للجمعة عدد.

أما المرأة فإنه ليس عليها جمعة ولا جماعة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي هريرة المتفق عليه: ( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة مع الجماعة، فأحرق عليهم بيوتهم )، وقد علم أن الجمعة إنما هي على الذكور دون الإناث، أما المرأة فالأفضل في حقها أن تصلي في بيتها سواء صلت منفردة أو صلت بجماعة.

وهذا مما لا يختلف فيه المسلمون: أنه لا تجب على المرأة الجماعة، وإن ذهب بعضهم -كما ذهب ابن حزم - إلى أن الأفضل في حقها أن تصلي في المسجد مع الرجال مخالفاً بذلك جماهير أهل العلم من السلف والخلف، وظواهر النصوص والأحاديث في قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن )، فالمرأة الأفضل في حقها بيتها في الجمعة والجماعة .

السادسة: قال: [ والعبد ] أي: أن العبد لا تلزمه الجمعة ولا تجب عليه، إما مطلقاً كما هو مذهب الجمهور، وإما أنها لا تجب عليه إلا بإذن سيده كما قواه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

وقد جاء في ذلك حديث مرفوع رواه أبو داود وغيره عن طارق بن شهاب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض )، والحديث ذكره أبو داود وقال: طارق بن شهاب -راوي الحديث- أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه.

وهذا ظاهره: أن يكون الحديث مرسل صحابي، ومرسل الصحابي حجة عند جمهور أهل العلم، ومع ذلك فقد جاء عند الحاكم أن طارق بن شهاب روى هذا الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وقد صححه الحاكم قال: صحيح الإسناد. وكذلك العراقي والشوكاني والذهبي وغيرهم.

وللحديث شاهد عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة، إلا امرأة، أو عبد، أو مسافر، أو مريض ), والحديث رواه البيهقي والدارقطني وغيرهما.

وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة جداً ذكرها البزار والطبراني وأحمد وغيرهم، وساق شيئاً منها الهيثمي في مجمع الزوائد، وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً، فتدل على أن العبد لا تجب عليه الجمعة، سواء أذن له سيده بذلك أو لم يأذن له .

السابعة قال: [والمسافر].

فإن المسافر لا تلزمه الجمعة ولا الجماعة، والمقصود: أنه إذا كان جاداً به السفر أو كان سفره يقتضي ألا يصلي الجمعة، أو كان لا يسمع النداء، أما إن كان المسافر مقيماً بين الناس في المصر وسمع النداء، فالأظهر أنه يجب عليه إجابته؛ لعموم الحديث السابق: ( إنما الجمعة على من سمع النداء )، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر ).

والمقصود إذا كان المسافر مقيماً في المصر أو في القرية، أما إن كانوا جماعة مسافرين، فإن مذهب الجمهور وهو الصحيح أنه ليس عليهم جمعة؛ خلافاً للظاهرية والشوكاني، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سافر أسفاراً طويلة وغزا غزوات كثيرة تزيد على عشرين غزوة، وسافر للحج وللعمرة وغير ذلك، فلم ينقل عنه قط أنه صلى الجمعة في سفر، ولا أنه جهر فيها بالصلاة صلاة الظهر، ولا أنه خطبهم قبل الصلاة، فعلم أن المسافر ليس عليه جمعة، وأن جماعة المسافرين لا يشرع لهم أن يصلوا، ولهذا قلنا قبل -كما قال المؤلف رحمه الله-: إنها إنما تجب على من كان مستوطناً ببنائه.

الثامنة: قال: [ والمعذور بمرض أو مطر أو خوف ]، فإنها تسقط عنه صلاة الجمعة كما تسقط عنه صلاة الجماعة.

فأما المرض فهو ظاهر، وقد جاء هذا في الحديث السابق حديث طارق بن شهاب الذي رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حق واجب، إلا على أربعة ) وذكر منهم المريض، فإن المريض الذي يشق عليه المجيء إلى الجمعة، أو يؤخر برأه، أو يتسبب له في المضاعفة، أو يزيد في مرضه لا يجب عليه الصلاة.

كمن يكون مريضاً يشق عليه المشي إليها، أو يؤذيه البقاء في المسجد، أو تكون الروائح الطيبة في الجمعة تتسبب في مضاعفة آلامه أو ما أشبه ذلك؛ فإنه ليس عليه صلاة الجمعة.

وقد سبق أن الجمعة كصلاة الجماعة، فإن المريض معذور بترك الجماعة، فهو معذور أيضاً بترك الجمعة، وإن كانت الجمعة آكد من الجماعة، وقد سبق عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن لهم في ترك الجماعة في أحوال معلومة.

ومن العذر أيضاً المطر، فإنه مما يؤذن فيه بترك الجماعة، ويباح فيه الجمع أيضاً، فلهذا يعذر فيه بترك الجمعة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر مناديه أن ينادي في الليلة المطيرة: ألا صلوا في رحالكم، الصلاة في الرحال، وهكذا الأمر في شأن الجمعة فإنه يجوز لهم أن يتركوها إذا كان ثمة مطر شديد.

ومثل المطر الشديد ما يشبهه في لحوق المشقة على الناس كالريح والعواصف الشديدة، ومثل ذلك البرد الشديد غير المعتاد والذي يشق على الناس فيه الخروج للصلاة، وكل أمر فيه مشقة عظيمة تلحق الناس، فإنهم يعذرون فيه بترك الجمعة والجماعة.

ومن الأعذار أيضاً: الخوف فإنه عذر في ترك الجمعة والجماعة كما هو معروف، قال الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239].

وقال: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102] الآية.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه الذي ذكرته قبل قليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سمع النداء فلم يمنعه من الاتباع عذر لم يقبل الله تعالى منه تلك الصلاة التي صلى، قالوا: وما العذر يا رسول الله؟! قال: خوف أو مرض )، فهذا يصلح دليلاً للمرض كما ذكرته قبل قليل، ويصلح دليلاً للخوف أيضاً.

والخوف مطلق هاهنا (خوف أو مرض) فيشمل الخوف في حال الحرب والمعارك، ويشمل الخوف على المال من حاكم أن يجتال ماله أو لص، فيرى أنه يبقى ليحرس ماله ويحافظ عليه، أو الخوف على ماله أن يلحقه ضرر عظيم بمغادرته له، كأن يكون عنده شغل متعلق بهذا المال كإصلاح له أو صناعة في أمر ماله، فيخاف عليه من حريق أو نحو ذلك، فهذا عذر له في ترك الجمعة والجماعة.

ومثله أيضاً الخوف على الأهل أو الولد أو الأتباع أو غيرهم من الناس والرفقة أن يضيعوا أو يضيع عنهم في مثل تلك الحال، فإذا كان ذلك خوفاً حقيقياً جاز له ترك الجمعة، بل ربما يتعين ويجب عليه تركها إذا كان يترتب على ذلك خوف على معصوم من هلاك، أو خوف على مال عظيم أن يجتاح، أو يترتب على ذلك فوات نفس أو مال أو ولد أو نحو ذلك .


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية 3987 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 3926 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة 3854 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض 3846 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين 3672 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 3625 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض 3615 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع 3552 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج 3517 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها 3444 استماع