شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب النفاس


الحلقة مفرغة

المسألة الواحدة والثلاثون، قال المصنف: [باب النفاس].

والنفاس سمي بذلك للدم الذي يخرج من المرأة؛ لأنه سبق معنا: أن الدم يسمى نفساً، كما جاء في: [باب ما لا نفس له سائلة] أي: ليس له دم يسيل، فالدم يسمى نفساً:

تسيل على حد الظبات نفوسنا وليست على غير الظبات تسيل

فالنفاس سمي بذلك؛ لأن المرأة النفساء يخرج منها الدم بسبب الوضع؛ ولذلك سمي نفاساً، وهو دم ترخيه الرحم بسبب خروج الولد، وللنفاس أحكام مثل أحكام الحيض فيما سبق، والمصنف قال في تعريفه: [وهو الدم الخارج بسبب الولادة].

قال: [وحكمه حكم الحيض فيما يحل ويحرم ويجب ويسقط].

وقد ذكرنا سابقاً أن هناك عشرة أشياء تمتنع منها الحائض أو يمتنع إيقاعها عليها، وأن هناك أشياء تحل بالاغتسال، وأشياء تحل بالطهارة وتوقف الدم، وأن هناك أشياء تجب على المرأة بالحيض أو بالطهر، وفي جميع هذه الأشياء تشارك الحائض النفساء فيها، إلا أشياء معلومة، فهناك أشياء تنفرد بها النفساء عن الحائض.

من الأشياء التي تميز بها النفساء عن الحائض -مثلاً- مما سبق: أنه يجوز طلاقها.

وكذلك يجوز إيقاع الطلاق على الحامل كما سبق بكل حال، وأنه تنتهي عدتها بوضع الحمل، حتى لو أنه طلقها قبل الولادة بساعة، ثم وضعت فإنها تخرج من عدتها بوضعها ولا يشترط لذلك مدة معلومة.

إذاً: فيما يتعلق بالطلاق هذا هو الحكم.

والبلوغ لا يقال فيه ما يقال في الحيض؛ لأن البلوغ عرف بالنسبة للحامل، بماذا عرفنا بلوغها؟

عرف بلوغها بالحمل، بالإنزال الذي ترتب عليه الحمل، وكذلك فيما سبق في موضوع الاعتداد بالأشهر عرف ما يتميز به.

قال في المسألة الثانية والثلاثين: [وأكثره أربعون يوماً] وذلك لأمرين، الأمر الأول ما جاء عن أم سلمة رضي الله عنها: ( أن النفساء كانت تجلس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم زمن نفاسها أربعين يوماً ).

وهذا الحديث رواه أهل السنن، وقال الترمذي : هذا حديث غريب، وحكم جماعة من أهل العلم بأن هذا الحديث ضعيف، وذلك لأنه حديث لا يخلو من اضطراب، وإن كان صححه آخرون، فممن حكم بصحته الحاكم في مستدركه ووافقه على ذلك الذهبي والنووي، لكن الأكثرون من أهل العلم على أنه ضعيف، بل أقول: النووي حكم بضعفه، وقال النووي رحمه الله في شرحه لـصحيح مسلم، وفي شرحه للمهذب في كتاب المجموع، وفي كتابه في الأحكام، قال: اتفق أهل العلم على أنه حديث ضعيف.

والواقع أنه ليس ثمة اتفاق، بل حكم بصحته أو حسنه جماعة من العلماء، منهم الحاكم والذهبي وغيرهما، وصححه جماعة من العلماء المعاصرين، ولكن الظاهر أن الحديث مضطرب ولا يثبت به حكم شرعي، هذا حديث أم سلمة رضي الله عنها: ( أن النفساء كانت تجلس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم زمان نفاسها أربعين يوماً )، فهذا عمدة من قالوا: إن أكثر مدة النفاس أربعون يوماً.

وقيل في ذلك: إن أكثر مدة النفاس خمسون يوماً، وقيل: ستون يوماً، وقيل: سبعون يوماً، وقيل: سبعة أيام كما ذهب إليه ابن حزم، والراجح والله تعالى أعلم: أن ذلك لا يتحدد، ليس لأكثر النفاس مدة معلومة، بل ما دام نفاساً متصلاً بأوصافه وأحواله فينبغي أن يعتبر حكمه حكم النفاس، إلا إذا خرج عن حد النفاس إلى الاستحاضة؛ فإنها حينئذ تعمل بأحكام المستحاضة، أما ما دام يمكن أن يكون نفاساً حتى لو استمر أكثر من أربعين يوماً فإنه ينبغي أن يعد نفاساً، فلو زاد على الأربعين -مثلاً- بسبعة أيام، وكان الدم هو الدم المعروف لم يتغير ولم ينقص ولم يضعف، فهو هو بلونه ورائحته وما يصاحبه، فينبغي أن يلحق بالحكم حينئذ.

إذاً: ليس لأكثر النفاس مدة معلومة، وقد تصاب المرأة بالنفاس فتجلس أول مرة أربعين يوماً، وفي الولد الثاني قد تجلس خمسين يوماً، وفي الثالث: قد تجلس خمسة وأربعين يوماً.. وهكذا. فليس لأكثر النفاس مدة معلومة على القول المختار؛ لعدم الدليل على ذلك.

أما غالب عادة النساء فهي أربعون، فقد علم بالاستقراء الواقعي والتاريخي أن أكثر النساء تجلس في نفاسها أربعين يوماً، وكان ذلك معروفاً عبر العصور كما قرره الفقهاء ودونوه، وهو الموجود اليوم في واقع الناس في جميع الأقطار والأمصار والشعوب، هذا هو الغالب؛ ولهذا كان مذهب جمهور العلماء أن أكثر مدة النفاس أربعين، هذا مذهب الجمهور، ذهب إليه الشافعي ومالك في رواية وأحمد في رواية، وأبو حنيفة وجمهور أهل الحديث وغيرهم؛ لأن ذلك هو الغالب؛ ولهذا من أخذ بأن أكثر المدة أربعين فلا حرج عليه في هذا؛ أولاً: لوجود الحديث الذي صححه جماعة، وثانياً: لأن هذا هو العادة المطردة الغالبة من أحوال النساء.

المسألة الثالثة والثلاثون قال: [ولا حد لأقله] أي: أنه ليس لأقل النفاس حد، فقد تجلس يوماً أو يومين أو أسبوعاً، أو قل من ذلك، بل قد يوجد من النساء من لا يأتيها الدم أصلاً، وقد ذكر ابن قدامة في المغني رحمه الله وغيره أن امرأة ولدت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينزل منها دم أصلاً، فسميت ذات الجفوف أو ذات الجفاف، أي: أنها ولدت دون أن ينزل منها دم، ومثل هذه بحث الفقهاء: هل يجب عليها الغسل أم لا يجب؟ فقال بعضهم: لا يجب عليها الغسل؛ لأنه لم يحدث له موجب، وموجب الغسل بالنسبة للنفساء نزول الدم وليس نزول الولد.

وقال آخرون: يجب عليها الغسل؛ لأن خروج الولد مظنة خروج الدم.

والصواب: أنه لو فرض جدلاً أن امرأة نفست وولدت دون أن ينزل منها دم مطلقاً فإنه لا يجب عليها غسل، فقد سبق أن بينا موجبات الغسل، وليس نزول الولد منها، فلو نزل الولد دون أن ينزل معها ولا قطرة دم واحدة فإنه لا يجب عليها الغسل، أما لو نزل ومعه دفقة دم واحدة، فما الحكم حينئذٍ؟ يجب عليها الغسل، لماذا؟ لأن هذه الدفقة تعد نفاساً؛ إذ لا حد لأقل النفاس.

المسألة الرابعة والثلاثون: قال: [ومتى رأت الطهر اغتسلت وهي طاهرة، وإن عاد في مدة الأربعين فهو نفاس أيضاً] أي: أن النفساء لو رأت الطهر بعد عشرة أيام -مثلاً- وجب عليها أن تغتسل ثم هي طاهرة تعمل بأحكام الطاهرات حتى ولو كانت في وقت النفاس، يعني: في وقت الأربعين، فإن عاودها الدم بعد ذلك، بعد أسبوع أو أقل أو أكثر، فإنه يعد نفاساً ملحقاً للأول، تجلس له.. وهكذا.

وكيف تعرف المرأة الطهر؟

النفساء هي كالحائض، تعرف الطهر بأحد أمرين: إما بانقطاع الدم بالكلية، فإذا انقطع عنها الدم بالكلية عرف أنها كانت طاهرة، فإن كانت ممن يرين القصة البيضاء فإنها تعرف انقطاع الدم بالقصة البيضاء، وهي: ماء أبيض يخرج عقب الحيض وعقب النفاس؛ ولهذا عائشة رضي الله عنها كانت النساء يبعثن إليها بالكرسف -يعني: القطن- فيه الدم فتقول لهن كما في صحيح البخاري : [ لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء ]، والقصة البيضاء: هي الماء الأبيض الذي يخرج عقب الحيض، وتعرف به كثير من النساء انقطاع الدم، فمن كانت عادتها رؤية القصة البيضاء تصبر حتى ترى القصة البيضاء، ومن كانت لا تراها -فإن كثيراً من النساء لا يعرفن القصة البيضاء أصلاً- فإنها تعرف انقطاع دم الحيض أو النفاس بالجفاف التام.

فإذا وضعت القطنة في فرجها ثم خرجت القطنة بيضاء ليس فيها أي أثر للدم واستمرت على ذلك يوماً وليلة، وقيل يوماً فقط، أو ليلة فقط، فإنه يعلم بذلك انقطاع دمها، هذا هو الذي يعلم به طهر النفساء، ومثله أيضاً طهر الحائض، هذا فيما يتعلق بأحكام الحيض والنفاس.

ومما ينبغي أن يعلم أن في ذلك أحكاماً كثيرة وتفاصيل ومشكلات طويلة عريضة، بل إن بعض أهل العلم ألفوا في حالة واحدة من حالات الحيض وهي ما تسمى بالمتحيرة ألفوا فيه مصنفاً كبيراً ضخماً، كما ذكر ذلك الإمام النووي في كتاب المجموع وفيه مشاكل لا تنتهي، لكن ينبغي أن يعلم أنه يرجع في ذلك إلى الأصل، فإذا أصاب المرأة دم حيض معلوم ثم شكت بعد ذلك فيما بعده، هل يعد حيضاً أم يعد طهراً، واستفتت، فإنه ينبغي أن يعلم أنه عند الشك يقال: يعاد هذا إلى الأصل الذي هو الحيض، فهي حائض لا تخرج من الحيض إلا بيقين.

ومثله أيضاً: لو كانت طاهرة فأصابها ما تشك في كونه حيضاً، فإنه حينئذٍ يعمل بالأصل الذي هو الطهارة ولا ينتقل من الطهارة إلا بيقين، أما ما جاء عن بعض الفقهاء أنهم يسمونه الشك، ويسمون المرأة المتحيرة، فهذا لا ينبغي أن يوجد؛ لأنه ليس في الشرع تحير ولا شك، فالنساء إما طاهر أو حائض، ولا يوجد حال ثالثة نقول: مشكوك فيها -مثلاً- أو متحيرة، بل ترجع المتحيرة والمشكوك فيها إلى أحد الأمرين إما إلى الطهارة وإما إلى الحيض.

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.