شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب الحيض -1


الحلقة مفرغة

أما اليوم فعندنا باب الحيض والنفاس.

وهو باب طويل, وقد يكون فيه بعض الصعوبة لكن أحاول تسهيله بقدر المستطاع، والمسائل التي في باب الحيض والنفاس كثيرة، عندنا حوالي أربع وثلاثين مسألة تقريباً، فنحن مضطرون بالمقياس العادي إلى ألا تأخذ المسألة في المتوسط أكثر من دقيقتين. فنسأل الله تعالى الإعانة.

المسألة الأولى: قال المصنف رحمه الله: [ باب الحيض ].

الحيض مشتق من حاض الوادي إذا سال؛ فالحيض هو: السيلان، ودم الحيض دم طبيعة وجبلة يرخيه الرحم في أوقات معلومة، وهو أمر كتبه الله تعالى على بنات آدم كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـعائشة رضي الله عنها لما حاضت في الحج وضاق صدرها بذلك فطيب خاطرها عليه الصلاة والسلام بقوله: ( إن ذلك أمر كتبه الله تعالى على بنات آدم ).

وفي ذلك دليل على أن الحيض من خصائص النساء، فما يقوله بعضهم: من أن هناك طيوراً أو حيوانات تحيض فيه نظر لهذا الحديث، بل لا يحيض إلا بنات آدم كما دل عليه ظاهر الحديث، ولو خرج من بعض الحيوانات أو الطيور دم فإنه لا يسمى حيضاً، وإنما الحيض ما يخرج من النساء ويتعلق به أحكام معلومة كما سوف يأتي.

وهو دليل على أنه موجود في الأمم كلها منذ القدم فهو أمر فطري طبعي موجود في النساء منذ أول الدهر.

المسألة الثانية: قال المصنف: [ ويمنع عشرة أشياء ].

وفي ذلك دليل على أنه يترتب على الحيض أحكام كثيرة، في أشياء يجب الامتناع منها بعض العبادات والمعاشرة الزوجية والطلاق والعدة ونحوها، وهو أيضاً يوجب أشياء تجب بحدوث الحيض وبعضها تجب بانتهاء الحيض، وسوف يأتي تفصيل ذلك كله كما سرده المصنف رحمه الله، فهو يمنع أشياء ويوجب أشياء بحصوله، ويوجب أشياء بالانتهاء منه.

الأول: فعل الصلاة

المسألة الثالثة: قال المصنف: [ فعل الصلاة ].

أي: أن الحيض يمنع فعل الصلاة، وذلك أن الحائض لا يجوز لها أن تصلي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة كما في المتفق عليه: ( افعلي كما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، فإن الطواف صلاة؛ فإذا منع الطواف منعت الصلاة من باب أولى.

ومثله أيضاً قول عائشة رضي الله عنها لما سألتها امرأة فقالت: ( ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت عائشة رضي الله عنها لها: أحرورية أنت ) يعني: هل أنت من أهل حروراء وهم الخوارج وذلك لأنهم ينسبون إلى التنطع والتشدد في الدين ومخالفة الإجماع وما عليه الأمة، فقالت لها: هل أنت حرورية إذ تسألين هذا السؤال، هل أنت من أهل حروراء -وهو بلد في العراق - خرج فيه الخوارج ؟ قالت: لا لست بحرورية، ولكني أسأل أنا جاهلة أتعلم. فقالت لها عائشة رضي الله عنها: ( كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة )، فدل ذلك على أن الحائض ليس عليها صلاة، والحديث متفق عليه.

وكذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، فقامت امرأة سفعاء الخدين من سطة النساء وقالت: يا رسول الله! ما نقصان عقل المرأة وما نقصان دينها؟ فقال: أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ فذلك نقصان دينها )، فدل ذلك على أنه كان مستقراً عندهم أن الحائض لا تصوم ولا تصلي، وهو إجماع العلماء.. إجماع الأمة أن الحائض لا تفعل الصلاة وقت حيضتها، ولا تقضي الصلاة بعد ذلك.

هذا معنى قوله: [ فعل الصلاة ] أي: أنه لا يجوز لها أن توقع الصلاة حال الحيض، ومما يدل على ذلك أيضاً: أن المصلي لابد له من الطهارة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، والحيض حدث أكبر موجب ليس للوضوء فقط، بل هو موجب للغسل، فهو مانع بذاته من فعل الصلاة.

الثاني: وجوب الصلاة

المسألة الرابعة: قال: [ ووجوبها ].

أي: أن الحيض يمنع وجوب الصلاة أيضاً، ما معنى كونه يمنع وجوب الصلاة؟ أي: أن الصلاة غير واجبة عليها إن كانت حائضاً بل ولا جائزة منها.

فالحائض هل تجب الصلاة في ذمتها بحيث إذا طهرت تقضيها؟ لا، يعني: الآن المسألة الأولى قوله: (فعل الصلاة) أنه لا يجوز لها إيقاع الصلاة حال الحيض؛ لأنها محدثة فلا تصلي، لكن هل يجب إذا طهرت أن تقضي ما مضى كما هو الحال بالنسبة للصيام مثلاً؟ كلا لا يجب، هل يكفي أن نقول: لا يجب عليها أن تقضي الصلاة؟ لا يكفي، بل لا يجوز لها أن تقضي الصلاة، فلو أن امرأة قضت الصلاة التي عليها حال الحيض لكانت بذلك آثمة بهذا القضاء؛ لأن الصلاة غير واجبة عليها ولا جائزة منها حال الحيض فلا يجوز لها أن تقضيها بعد ذلك.

إذاً: هي غير واجبة في ذمتها، ولو كانت واجبة في ذمتها لقلنا: تقضيها إذا طهرت كما تقضي الصيام، ولهذا قال المصنف رحمه الله فيما يتعلق بالصلاة: قال: (إن الحيض يمنع فعل الصلاة ووجوبها)، يمنع فعل الصلاة ووجوب الصلاة، أما بالنسبة للصيام فقال: (يمنع فعل الصيام فقط)، لكن هل يمنع وجوب الصيام؟ لا يمنع وجوب الصيام، بل الصيام واجب في ذمة الحائض إذا طهرت.

الثالث: فعل الصيام

ولهذا كانت المسألة الخامسة: قول المصنف رحمه الله: [ وفعل الصيام ].

أي: أن الحيض يمنع فعل الصيام فلا يصح الصيام من الحائض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ).

وكذلك قالت المرأة لـعائشة : ( ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟! ).

فدل على أنه كان معروفاً عند المؤمنات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن الحائض لا تصوم أثناء حيضها ولكنها تقضيه.

وقالت عائشة أيضاً: ( كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة )، وهذا أيضاً إجماع أن الحائض لا تصوم أثناء حيضها ولكنها تقضيه بعد ذلك بعدد الأيام التي أفطرتها بسبب الحيض.. وفعل الصيام.

الرابع: الطواف بالبيت

المسألة السادسة: قال: [ والطواف ].

أي: أن الحيض يمنع الطواف والدليل على ذلك حديث عائشة المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري ) والحديث متفق عليه، وهو دليل على أن الحائض لا يجوز لها فعل الطواف، لماذا لا يجوز للحائض فعل الطواف؟

أولاً: لأن الطواف بالبيت صلاة، فتمنع منه كما تمنع من الصلاة.

ثانياً: لأن الطواف يكون في الحرم داخل المسجد، والحائض ممنوعة من البقاء في المسجد والمكث فيه، وبعضهم علل بالأمر الثاني فحسب، قال: لأن الحيض داخل المسجد فلا يجوز لها أن تطوف.

وعلى كل حال فهذا هو قول الجمهور وهو الرواية المعروفة في المذهب أن الحائض لا تطوف، لكن لو طافت فهل يجزئ ذلك منها أو لا يجزئ؟

قولان في المذهب: قيل: إن ذلك لا يجزئ وعليها إعادة الطواف؛ لأن الطهارة شرط له فلا يصح بغير طهارة كما لا تصح الصلاة بغير الطهارة.

وقيل: إن الطواف واجب وليس بشرط فيصح منها الطواف إذا طافت بغير طهارة يصح مع الإثم، وعليها أن تجبر طوافها بدم، والذي رجحه جماعة من أهل العلم أن المرأة إن طافت وهي حائض لضرورة أو حاجة شديدة أجزأها ذلك، كما لو كانت مع رفقة يذهبون ويتركونها فلا يمكن لها إلا أحد أمرين: إما أن تذهب مع رفقتها، ويبقى حجها ناقصاً لم تطف طواف الإفاضة الذي هو طواف الحج وهو ركن من أركان الحج، وإما أن تبقى فتفوتها الرفقة ولا تجد من يذهب بها فلا مخلص لها إلا أحد الأمرين أو أن تطوف وهي حائض، فقالوا في مثل هذه الحالة: تطوف وهي حائض ولا شيء عليها؛ لأن هذا من باب الضرورة.

وقد استظهر جماعة من أهل العلم كالأحناف وغيرهم وهو رواية في المذهب رجحها ابن تيمية رحمه الله تعالى أن الطهارة للطواف واجب وليس بشرط، وهذا هو الأقرب أن الطهارة للطواف لا يقال: إنها شرط لا يتم الطواف إلا به بل هي واجب يسقط بالعجز عنه، وهو إحدى الروايتين في مذهب الإمام أحمد اختاره جماعة من الحنابلة.

الخامس: قراءة القرآن

المسألة السابعة: [ وقراءة القرآن ].

أي: أن الحيض يمنع الحائض من قراءة القرآن، وذلك لأن الجنب ممنوع من قراءة القرآن، فالحائض من باب أولى؛ لأن حدثها أغلظ من حدث الجنب، وقد جاء في ذلك حديث عند أهل السنن: ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن )، لكن الحديث ضعيف لا يحتج به، فيبقى الاحتجاج بقياسها على الجنب، وقد سبق أن بينت ما في هذا القياس من النظر، فما هو الفرق بين الحائض والجنب في القياس؟

أن الجنب يستطيع رفع حدثه بالغسل، أما الحائض فحدثها ليس بيدها.. حيضتها ليست بيدها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة كما في الصحيح: ( إن حيضتك ليست في يديك ) على أحد الوجوه في تفسير الحديث، يعني: أن الحائض ليس بيدها أن ترفع حيضها، ولهذا كان في منعها من قراءة القرآن مشقة عظيمة، وقد كانت النساء تحيض في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرد أنهن كن يمنعن من قراءة القرآن، فدل ذلك على أن الحائض لها أن تقرأ القرآن في حال حيضها ونفاسها ولا دليل صحيحاً على منعها من ذلك، وهو مذهب الإمام مالك ورواية في مذهب الإمام أحمد والشافعي والأدلة تعزز ذلك وتعضده وتقويه أن للحائض والنفساء قراءة القرآن.

السادس: مس المصحف

المسألة الثامنة: قال: [ومس المصحف].

أي: أن الحائض لا يجوز لها أن تمس المصحف، كما أنه لا يجوز للجنب أيضاً أن يمس المصحف، واستدلوا لذلك بأدلة منها قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، بناء على أن الضمير في قوله: لا يَمَسُّهُ [الواقعة:79] راجع إلى قوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ [الواقعة:77-79] أي: القرآن الذي هو المذكور الأول الذي ترجع إليه المعاني كلها، فقالوا: إن المقصود القرآن الكريم، وذلك دليل على أنه لا يجوز أن يمس القرآن إلا طاهر متوضئ، هذا أحد الوجوه في تفسير الآية واختاره جماعة، وعضدوا هذا المعنى بحديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يمس القرآن إلا طاهر )، وقد جاء هذا عن جماعة من الصحابة رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مستفيض استفاضة شديدة تغني عن إسناده كما قال الحافظ ابن عبد البر، وجاء من طرق عديدة يقوي بعضها بعضاً، فهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يمس القرآن إلا طاهر ).

والمقصود بالطاهر: المتوضئ، فليس المقصود بالطاهر هاهنا المسلم، لأن هذا اسم عرفي لا يطلق على المسلم، فلو قلت: فلان طاهر، لم يفهم من ذلك أنه مسلم، ولا يفهم منه أيضاً الطهارة من الحدث الأكبر فحسب بل يفهم منه جميع ألوان الطهارة. هذا هو الأصل.

ولذلك أيضاً قرائن تدل عليه ليس هذا موضع بسطها، وكذلك جاء عن الصحابة كـسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وغيرهم أنهم كانوا يتقون مس المصحف إذا كانوا على غير طهارة، وهو إجماع الأئمة الأربعة وغيرهم أن القرآن لا يمسه إلا المتطهر المتوضي، فإذا كان هذا بالنسبة للجنب فالحائض من باب أولى، ولا حاجة هنا لها بمس المصحف لأنها تستطيع أن تقرأ القرآن من حفظها، ولو احتاجت إلى مس المصحف فإنها لا تمسه بيدها مباشرة؛ بل تمسه من وراء حائل كالمنديل مثلاً أو طرف الثوب أو القفازين أو ما أشبه ذلك.

السابع: اللبث في المسجد

التاسعة: [ واللبث في المسجد ].

فالحيض يمنع من اللبث في المسجد والمكث فيه للحائض؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم روي عنه أنه قال: ( لا أحل المسجد لحائض ولا جنب )، والحديث رواه أبو داود وسنده ضعيف، لكن مما يقوي ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43]، فقوله: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ [النساء:43] أي: ومواضع الصلاة، فنهى في الآية عن قربان المساجد وهي الصلوات للجنب إلا إذا كان عابراً حتى يغتسل فحينئذ يحل له المسجد بعد هذه الغاية فكذلك الحائض، ومما يدل على أن الحائض لا يجوز لها المكث في المسجد واللبث فيه ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعائشة وهو معتكف: ( ناوليني الخمرة -وهو فراش كان يقعد عليه صلى الله عليه وآله وسلم- فقالت: يا رسول الله! إني حائض، قال لها عليه الصلاة والسلام: إن حيضتك ليست في يدك )، والحديث دليل على أن الحائض لا يجوز لها اللبث في المسجد من وجوه:

الأول: قوله: ( ناوليني الخمرة )؛ لأن ذلك دليل على أنها باقية في حجرتها وتمد له الخمرة أو تناوله إياها وهي في المنزل وهو في المسجد عليه الصلاة والسلام.

الثاني: قول عائشة رضي الله عنها: ( إني حائض )؛ فإن ذلك دليل على أنه كان مستقراً عندها وعند غيرها من النساء -والله تعالى أعلم- أن الحائض لا يحل لها دخول المسجد.

الدليل الثالث أو الوجه الثالث.. الاستدلال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن حيضتك ليست في يدك ) على اعتبار أن المعنى أن الحيضة ليست في اليد، وإنما هي في أي موضع؟ الحيضة ليست في اليد، هل المرأة إذا حاضت تحيض بيدها؟ هل الحيض يقع في اليد؟ هل الدم يخرج من اليد؟ إنما يخرج الدم من أين؟ من الفرج، فقال لها: ( إن حيضتك ليست في يدك ) يعني: إذ مديت الخمرة فدخلت يدك إلى المسجد فإن هذا لا يضر، لماذا؟ لأن الحيضة ليست في اليد وإنما هي في الفرج، وما دام جسدك خارج المسجد وناولتني الخمرة بيدك فهذا لا يضر؛ لأن حيضتك ليست في يدك. وهذا هو المعنى الثاني في الحديث.

إذاً: الحديث كما سبق معنا له معنيان: من يذكرهما؟

المعنى الأول: أن حيضتها ليست بيدها، أي: ليست باختيارها وإرادتها وإنما هي بإرادة الله عز وجل، فهي لا تختار متى تحيض ومتى تطهر.

المعنى الثاني: أنها ليست بيدها بمعنى أن الدم لا يخرج من يدها ولا يضر أن تدخل يدها إلى المسجد؛ لأن الحيض في الفرج وليس في اليد.

وهذا المعنى الثاني يظهر لي -والله تعالى أعلم- أنه هو الظاهر لمناسبة الحال في الحديث.

ولهذا كان القول الراجح عند الحنابلة وغيرهم أن الحائض لا يحل لها اللبث في المسجد إلا إذا كان ثم حاجة لذلك.

الثامن: الوطء في الفرج

المسألة العاشرة: قال: [والوطء في الفرج].

تمنع الحائض من أن توطأ في فرجها، فلا يحل لزوجها أن يطأها، والدليل على تحريم وطء الحائض: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، فقوله: (فِي الْمَحِيضِ) يحتمل أن يكون المعنى في وقت الحيض.. في زمان الحيض، ويحتمل أن يكون المعنى حال الحيض، ويحتمل أن يكون المعنى في موضع الحيض، ثلاثة معان.

(فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) يعني: في وقت الحيض، ويحتمل أن يكون المعنى: فاعتزلوا النساء حال الحيض، حال كونهن حائضات، ويحتمل أن يكون المعنى: في موضع الحيض يعني: في الفرج: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) أي: في موضع الحيض وهو الفرج.

وأجمع أهل العلم على أن الحائض لا يجوز وطؤها؛ لصراحة الآية في ذلك.

وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي ساقه المصنف، ورواه مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح )، فلا يجوز للرجل أن يطأ امرأته وهي حائض، لكن ماذا يحل له منها حال الحيض؟ كيف يستمتع بها حال الحيض؟ قولان:

الأول: أنه يصنع كل شيء إلا النكاح، يجوز له أن يستمتع بكل شيء إلا النكاح، وهو الإيلاج، فهو غير جائز حال الحيض، والدليل على ذلك حديث مسلم : ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح )، وهذه رواية في مذهب الإمام أحمد وهي الراجح.

القول الثاني: أنه يحل له كل شيء إلا ما بين السرة والركبة، واستدلوا لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا كانت إحداهن حائضاً أمرها أن تأتزر فيباشرها )، وهذا ثبت من حديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما، وجاء في ذلك أحاديث، وفي رواية: ( أنه يأمرها فتلقي على فرجها ثوباً )، وهذا مذهب الشافعية، وهو رواية أيضاً في مذهب الإمام أحمد، والصحيح الأول: أن له أن يباشرها حتى فيما دون السرة وفوق الركبة، المهم: أنه يتقي الفرج.

التاسع: سنية الطلاق

المسألة الحادية عشرة: قال [وسنة الطلاق] فلا يجوز للرجل أن يطلق زوجته وهي حائض؛ لقول الله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، وفي قراءة: فطلقوهن لُقُبلِ عدتهن أي: في إقبال العدة، أي: لا يجوز لمسلم أن يطلق امرأته إلا في الوقت الذي تبدأ فيه العدة بمجرد إيقاع الطلاق عليها، فلا يجوز له أن يطلقها حال الحيض؛ لأنه إذا طلقها حائضاً، فهل تعتد بذلك الحيض الذي وقع فيه الطلاق؟ هل تبدأ العدة أثناء ذلك الحيض؟ لا تبدأ العدة، بل لا تبدأ عدتها إلا إذا انتهى هذا الحيض ثم بدأ الطهر، ثم بدأ الحيض بعد ذلك، والله تعالى يقول في الآية الأخرى أيضاً: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] أي: ثلاث حيض كما سوف يأتي، وقيل: ثلاثة أطهار، وعلى كلا المعنيين سواء كانت ثلاثة أطهار أو ثلاث حيض فإنها لا تبدأ بتلك الحيضة التي وقع فيها الطلاق، فيكون في طلاق المرأة أثناء حيضها تطويلاً للعدة ومشقة عليها، هذا من وجه.

الوجه الثاني: أن الرجل حال حيض المرأة قد يكون زاهداً فيها راغباً عنها؛ لوجود هذا المانع الشرعي والفطري الذي يمنع من كمال الاستمتاع بالمرأة، فربما تسرع في إيقاع الطلاق، ولهذا منع الشارع من إيقاع الطلاق حال الحيض؛ لأنه ربما إذا طهرت المرأة رجع الرجل عن هذه النية وعن هذه الرغبة وتمسك بالمرأة ولم يوقع الطلاق عليها.

والخلاصة: أن الرجل لا يجوز له أن يطلق المرأة حال حيضها.

لكن إذا أوقع الطلاق عليها.. إذا قال لها وهي حائض: أنت طالق، فهل يقع ذلك الطلاق أم لا يقع؟ قولان:

الأول: أنه يقع وهو مذهب الجمهور، واستدلوا بأنه طلق فوقع الطلاق عليها، كما استدلوا بحديث عبد الله بن عمر في صحيح البخاري : ( أنه طلق امرأته وهي حائض، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لـعمر رضي الله عنه: مره فليراجعها )، فقالوا: إن الرجعة لا تكون إلا عن طلاق، فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتد ذلك الطلاق واعتبره وأمر عبد الله بن عمر أن يراجع امرأته بعدما كان طلقها.

القول الثاني: وذهب إليه طائفة من السلف وهو رواية اختارها الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى ورجحها، أن الطلاق حال الحيض لا يقع؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، وفي رواية: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، فقالوا: إن الطلاق حال الحيض ليس بطلاق شرعي ولا يقع على المرأة.

والأقرب والله تعالى أعلم: أنه يقع؛ لأن الله تعالى سماه طلاقاً، وكذلك الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن الله تعالى قال: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1] أي: في قُبل عدتهن، فدل على أن هذا هو المأمور به، أن تطلق في قُبل العدة، ولكن يمكن أن يقع غير ذلك فتطلق في غير وقت العدة، ولو كان ذلك لا يمكن لما سمي طلاقاً، لو كان لا يمكن وقوع الطلاق إلا في قُبل العدة لم يكن للأمر به معنى، فدل على أن الطلاق في غير وقت السنة، يعني: الطلاق -مثلاً- في وقت الحيض يعد طلاقاً، وكذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنه: فإنه عده طلاقاً وأمره أن يراجعها ثم إن بدا له بعد ذلك أن يطلقها فليطلقها طاهراً من غير أن يمسها.

العاشر: الاعتداد بالأشهر

والمسألة الثانية عشرة: [الاعتداد بالأشهر].

فالحيض يمنع من الاعتداد بالأشهر، يعني: إذا طلقها، إذا فارقها في حال الحياة، فلو أن رجلاً طلق امرأته وهي لا تحيض كالصغيرة -مثلاً- التي لم تحض بعد، أو الآيسة التي انقطع عنها الدم، أو من انقطع عنها الدم انقطاعاً كلياً، فبماذا تعتد هذه المرأة التي لا تحيض مطلقاً.. بماذا تعتد؟ كيف تنقضي عدتها؟ بالأشهر، والدليل على أن عدة من لا تحيض الأشهر، ما هو؟ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4] ما معنى قوله: (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)؟ أي: واللائي لم يحضن، فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً، كالصغيرة التي لم يضربها الحيض بعد.

إذاً: المرأة التي لا يأتيها الحيض تعتد بالأشهر إذا طلقت، المفارقة في الحياة، فإذا جاء الحيض هل تعتد بالأشهر أم بالحيض؟ تعتد بالحيض لا بالأشهر، ولهذا قال: (والاعتداد بالأشهر) أي: ويمنع حصول الحيض الاعتداد بالأشهر، فإذا حدث الحيض أبطلنا الاعتداد بالأشهر للمفارقة في حال الحياة بالطلاق، وانتقلنا منه إلى الاعتداد بالحيض.

أما بالنسبة للمفارقة بالموت، فبماذا يكون الاعتداد؟ بالحيض أم بالأشهر؟ بالأشهر، والدليل؟ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، ففيما يتعلق بالمفارقة بالموت، يعني: عدة الموت، هذه أربعة أشهر وعشرة أيام، سواء كانت حائضاً أم صغيرة أم آيسة أم كبيرة أم غير ذلك، إلا التي لا تعتد به أربعة أشهر وعشرة أيام من هي؟

الحامل، فعدتها أن تضع حملها كما قال الله عز وجل: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، ولهذا أيضاً قلنا: بالنسبة للحامل إذا طلقت بماذا تعتد؟

عدتها بوضع الحمل، الحامل عدتها تنتهي بوضع الحمل، في الآية الكريمة وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4] سواء كانت عدة وفاة أو عدة طلاق، تنتهي عدتها بوضع الحمل؛ لقوله جل وعلا: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].

سؤال: لماذا لا تعتد الحامل بالحيض؟

الجواب: لأن العادة أن الحامل لا تحيض كما سوف يأتي.

المسألة الثالثة: قال المصنف: [ فعل الصلاة ].

أي: أن الحيض يمنع فعل الصلاة، وذلك أن الحائض لا يجوز لها أن تصلي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة كما في المتفق عليه: ( افعلي كما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، فإن الطواف صلاة؛ فإذا منع الطواف منعت الصلاة من باب أولى.

ومثله أيضاً قول عائشة رضي الله عنها لما سألتها امرأة فقالت: ( ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت عائشة رضي الله عنها لها: أحرورية أنت ) يعني: هل أنت من أهل حروراء وهم الخوارج وذلك لأنهم ينسبون إلى التنطع والتشدد في الدين ومخالفة الإجماع وما عليه الأمة، فقالت لها: هل أنت حرورية إذ تسألين هذا السؤال، هل أنت من أهل حروراء -وهو بلد في العراق - خرج فيه الخوارج ؟ قالت: لا لست بحرورية، ولكني أسأل أنا جاهلة أتعلم. فقالت لها عائشة رضي الله عنها: ( كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة )، فدل ذلك على أن الحائض ليس عليها صلاة، والحديث متفق عليه.

وكذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، فقامت امرأة سفعاء الخدين من سطة النساء وقالت: يا رسول الله! ما نقصان عقل المرأة وما نقصان دينها؟ فقال: أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ فذلك نقصان دينها )، فدل ذلك على أنه كان مستقراً عندهم أن الحائض لا تصوم ولا تصلي، وهو إجماع العلماء.. إجماع الأمة أن الحائض لا تفعل الصلاة وقت حيضتها، ولا تقضي الصلاة بعد ذلك.

هذا معنى قوله: [ فعل الصلاة ] أي: أنه لا يجوز لها أن توقع الصلاة حال الحيض، ومما يدل على ذلك أيضاً: أن المصلي لابد له من الطهارة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، والحيض حدث أكبر موجب ليس للوضوء فقط، بل هو موجب للغسل، فهو مانع بذاته من فعل الصلاة.

المسألة الرابعة: قال: [ ووجوبها ].

أي: أن الحيض يمنع وجوب الصلاة أيضاً، ما معنى كونه يمنع وجوب الصلاة؟ أي: أن الصلاة غير واجبة عليها إن كانت حائضاً بل ولا جائزة منها.

فالحائض هل تجب الصلاة في ذمتها بحيث إذا طهرت تقضيها؟ لا، يعني: الآن المسألة الأولى قوله: (فعل الصلاة) أنه لا يجوز لها إيقاع الصلاة حال الحيض؛ لأنها محدثة فلا تصلي، لكن هل يجب إذا طهرت أن تقضي ما مضى كما هو الحال بالنسبة للصيام مثلاً؟ كلا لا يجب، هل يكفي أن نقول: لا يجب عليها أن تقضي الصلاة؟ لا يكفي، بل لا يجوز لها أن تقضي الصلاة، فلو أن امرأة قضت الصلاة التي عليها حال الحيض لكانت بذلك آثمة بهذا القضاء؛ لأن الصلاة غير واجبة عليها ولا جائزة منها حال الحيض فلا يجوز لها أن تقضيها بعد ذلك.

إذاً: هي غير واجبة في ذمتها، ولو كانت واجبة في ذمتها لقلنا: تقضيها إذا طهرت كما تقضي الصيام، ولهذا قال المصنف رحمه الله فيما يتعلق بالصلاة: قال: (إن الحيض يمنع فعل الصلاة ووجوبها)، يمنع فعل الصلاة ووجوب الصلاة، أما بالنسبة للصيام فقال: (يمنع فعل الصيام فقط)، لكن هل يمنع وجوب الصيام؟ لا يمنع وجوب الصيام، بل الصيام واجب في ذمة الحائض إذا طهرت.

ولهذا كانت المسألة الخامسة: قول المصنف رحمه الله: [ وفعل الصيام ].

أي: أن الحيض يمنع فعل الصيام فلا يصح الصيام من الحائض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ).

وكذلك قالت المرأة لـعائشة : ( ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟! ).

فدل على أنه كان معروفاً عند المؤمنات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن الحائض لا تصوم أثناء حيضها ولكنها تقضيه.

وقالت عائشة أيضاً: ( كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة )، وهذا أيضاً إجماع أن الحائض لا تصوم أثناء حيضها ولكنها تقضيه بعد ذلك بعدد الأيام التي أفطرتها بسبب الحيض.. وفعل الصيام.

المسألة السادسة: قال: [ والطواف ].

أي: أن الحيض يمنع الطواف والدليل على ذلك حديث عائشة المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري ) والحديث متفق عليه، وهو دليل على أن الحائض لا يجوز لها فعل الطواف، لماذا لا يجوز للحائض فعل الطواف؟

أولاً: لأن الطواف بالبيت صلاة، فتمنع منه كما تمنع من الصلاة.

ثانياً: لأن الطواف يكون في الحرم داخل المسجد، والحائض ممنوعة من البقاء في المسجد والمكث فيه، وبعضهم علل بالأمر الثاني فحسب، قال: لأن الحيض داخل المسجد فلا يجوز لها أن تطوف.

وعلى كل حال فهذا هو قول الجمهور وهو الرواية المعروفة في المذهب أن الحائض لا تطوف، لكن لو طافت فهل يجزئ ذلك منها أو لا يجزئ؟

قولان في المذهب: قيل: إن ذلك لا يجزئ وعليها إعادة الطواف؛ لأن الطهارة شرط له فلا يصح بغير طهارة كما لا تصح الصلاة بغير الطهارة.

وقيل: إن الطواف واجب وليس بشرط فيصح منها الطواف إذا طافت بغير طهارة يصح مع الإثم، وعليها أن تجبر طوافها بدم، والذي رجحه جماعة من أهل العلم أن المرأة إن طافت وهي حائض لضرورة أو حاجة شديدة أجزأها ذلك، كما لو كانت مع رفقة يذهبون ويتركونها فلا يمكن لها إلا أحد أمرين: إما أن تذهب مع رفقتها، ويبقى حجها ناقصاً لم تطف طواف الإفاضة الذي هو طواف الحج وهو ركن من أركان الحج، وإما أن تبقى فتفوتها الرفقة ولا تجد من يذهب بها فلا مخلص لها إلا أحد الأمرين أو أن تطوف وهي حائض، فقالوا في مثل هذه الحالة: تطوف وهي حائض ولا شيء عليها؛ لأن هذا من باب الضرورة.

وقد استظهر جماعة من أهل العلم كالأحناف وغيرهم وهو رواية في المذهب رجحها ابن تيمية رحمه الله تعالى أن الطهارة للطواف واجب وليس بشرط، وهذا هو الأقرب أن الطهارة للطواف لا يقال: إنها شرط لا يتم الطواف إلا به بل هي واجب يسقط بالعجز عنه، وهو إحدى الروايتين في مذهب الإمام أحمد اختاره جماعة من الحنابلة.

المسألة السابعة: [ وقراءة القرآن ].

أي: أن الحيض يمنع الحائض من قراءة القرآن، وذلك لأن الجنب ممنوع من قراءة القرآن، فالحائض من باب أولى؛ لأن حدثها أغلظ من حدث الجنب، وقد جاء في ذلك حديث عند أهل السنن: ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن )، لكن الحديث ضعيف لا يحتج به، فيبقى الاحتجاج بقياسها على الجنب، وقد سبق أن بينت ما في هذا القياس من النظر، فما هو الفرق بين الحائض والجنب في القياس؟

أن الجنب يستطيع رفع حدثه بالغسل، أما الحائض فحدثها ليس بيدها.. حيضتها ليست بيدها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة كما في الصحيح: ( إن حيضتك ليست في يديك ) على أحد الوجوه في تفسير الحديث، يعني: أن الحائض ليس بيدها أن ترفع حيضها، ولهذا كان في منعها من قراءة القرآن مشقة عظيمة، وقد كانت النساء تحيض في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرد أنهن كن يمنعن من قراءة القرآن، فدل ذلك على أن الحائض لها أن تقرأ القرآن في حال حيضها ونفاسها ولا دليل صحيحاً على منعها من ذلك، وهو مذهب الإمام مالك ورواية في مذهب الإمام أحمد والشافعي والأدلة تعزز ذلك وتعضده وتقويه أن للحائض والنفساء قراءة القرآن.

المسألة الثامنة: قال: [ومس المصحف].

أي: أن الحائض لا يجوز لها أن تمس المصحف، كما أنه لا يجوز للجنب أيضاً أن يمس المصحف، واستدلوا لذلك بأدلة منها قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، بناء على أن الضمير في قوله: لا يَمَسُّهُ [الواقعة:79] راجع إلى قوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ [الواقعة:77-79] أي: القرآن الذي هو المذكور الأول الذي ترجع إليه المعاني كلها، فقالوا: إن المقصود القرآن الكريم، وذلك دليل على أنه لا يجوز أن يمس القرآن إلا طاهر متوضئ، هذا أحد الوجوه في تفسير الآية واختاره جماعة، وعضدوا هذا المعنى بحديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يمس القرآن إلا طاهر )، وقد جاء هذا عن جماعة من الصحابة رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مستفيض استفاضة شديدة تغني عن إسناده كما قال الحافظ ابن عبد البر، وجاء من طرق عديدة يقوي بعضها بعضاً، فهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يمس القرآن إلا طاهر ).

والمقصود بالطاهر: المتوضئ، فليس المقصود بالطاهر هاهنا المسلم، لأن هذا اسم عرفي لا يطلق على المسلم، فلو قلت: فلان طاهر، لم يفهم من ذلك أنه مسلم، ولا يفهم منه أيضاً الطهارة من الحدث الأكبر فحسب بل يفهم منه جميع ألوان الطهارة. هذا هو الأصل.

ولذلك أيضاً قرائن تدل عليه ليس هذا موضع بسطها، وكذلك جاء عن الصحابة كـسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وغيرهم أنهم كانوا يتقون مس المصحف إذا كانوا على غير طهارة، وهو إجماع الأئمة الأربعة وغيرهم أن القرآن لا يمسه إلا المتطهر المتوضي، فإذا كان هذا بالنسبة للجنب فالحائض من باب أولى، ولا حاجة هنا لها بمس المصحف لأنها تستطيع أن تقرأ القرآن من حفظها، ولو احتاجت إلى مس المصحف فإنها لا تمسه بيدها مباشرة؛ بل تمسه من وراء حائل كالمنديل مثلاً أو طرف الثوب أو القفازين أو ما أشبه ذلك.

التاسعة: [ واللبث في المسجد ].

فالحيض يمنع من اللبث في المسجد والمكث فيه للحائض؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم روي عنه أنه قال: ( لا أحل المسجد لحائض ولا جنب )، والحديث رواه أبو داود وسنده ضعيف، لكن مما يقوي ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43]، فقوله: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ [النساء:43] أي: ومواضع الصلاة، فنهى في الآية عن قربان المساجد وهي الصلوات للجنب إلا إذا كان عابراً حتى يغتسل فحينئذ يحل له المسجد بعد هذه الغاية فكذلك الحائض، ومما يدل على أن الحائض لا يجوز لها المكث في المسجد واللبث فيه ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعائشة وهو معتكف: ( ناوليني الخمرة -وهو فراش كان يقعد عليه صلى الله عليه وآله وسلم- فقالت: يا رسول الله! إني حائض، قال لها عليه الصلاة والسلام: إن حيضتك ليست في يدك )، والحديث دليل على أن الحائض لا يجوز لها اللبث في المسجد من وجوه:

الأول: قوله: ( ناوليني الخمرة )؛ لأن ذلك دليل على أنها باقية في حجرتها وتمد له الخمرة أو تناوله إياها وهي في المنزل وهو في المسجد عليه الصلاة والسلام.

الثاني: قول عائشة رضي الله عنها: ( إني حائض )؛ فإن ذلك دليل على أنه كان مستقراً عندها وعند غيرها من النساء -والله تعالى أعلم- أن الحائض لا يحل لها دخول المسجد.

الدليل الثالث أو الوجه الثالث.. الاستدلال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن حيضتك ليست في يدك ) على اعتبار أن المعنى أن الحيضة ليست في اليد، وإنما هي في أي موضع؟ الحيضة ليست في اليد، هل المرأة إذا حاضت تحيض بيدها؟ هل الحيض يقع في اليد؟ هل الدم يخرج من اليد؟ إنما يخرج الدم من أين؟ من الفرج، فقال لها: ( إن حيضتك ليست في يدك ) يعني: إذ مديت الخمرة فدخلت يدك إلى المسجد فإن هذا لا يضر، لماذا؟ لأن الحيضة ليست في اليد وإنما هي في الفرج، وما دام جسدك خارج المسجد وناولتني الخمرة بيدك فهذا لا يضر؛ لأن حيضتك ليست في يدك. وهذا هو المعنى الثاني في الحديث.

إذاً: الحديث كما سبق معنا له معنيان: من يذكرهما؟

المعنى الأول: أن حيضتها ليست بيدها، أي: ليست باختيارها وإرادتها وإنما هي بإرادة الله عز وجل، فهي لا تختار متى تحيض ومتى تطهر.

المعنى الثاني: أنها ليست بيدها بمعنى أن الدم لا يخرج من يدها ولا يضر أن تدخل يدها إلى المسجد؛ لأن الحيض في الفرج وليس في اليد.

وهذا المعنى الثاني يظهر لي -والله تعالى أعلم- أنه هو الظاهر لمناسبة الحال في الحديث.

ولهذا كان القول الراجح عند الحنابلة وغيرهم أن الحائض لا يحل لها اللبث في المسجد إلا إذا كان ثم حاجة لذلك.

المسألة العاشرة: قال: [والوطء في الفرج].

تمنع الحائض من أن توطأ في فرجها، فلا يحل لزوجها أن يطأها، والدليل على تحريم وطء الحائض: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، فقوله: (فِي الْمَحِيضِ) يحتمل أن يكون المعنى في وقت الحيض.. في زمان الحيض، ويحتمل أن يكون المعنى حال الحيض، ويحتمل أن يكون المعنى في موضع الحيض، ثلاثة معان.

(فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) يعني: في وقت الحيض، ويحتمل أن يكون المعنى: فاعتزلوا النساء حال الحيض، حال كونهن حائضات، ويحتمل أن يكون المعنى: في موضع الحيض يعني: في الفرج: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) أي: في موضع الحيض وهو الفرج.

وأجمع أهل العلم على أن الحائض لا يجوز وطؤها؛ لصراحة الآية في ذلك.

وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي ساقه المصنف، ورواه مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح )، فلا يجوز للرجل أن يطأ امرأته وهي حائض، لكن ماذا يحل له منها حال الحيض؟ كيف يستمتع بها حال الحيض؟ قولان:

الأول: أنه يصنع كل شيء إلا النكاح، يجوز له أن يستمتع بكل شيء إلا النكاح، وهو الإيلاج، فهو غير جائز حال الحيض، والدليل على ذلك حديث مسلم : ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح )، وهذه رواية في مذهب الإمام أحمد وهي الراجح.

القول الثاني: أنه يحل له كل شيء إلا ما بين السرة والركبة، واستدلوا لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا كانت إحداهن حائضاً أمرها أن تأتزر فيباشرها )، وهذا ثبت من حديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما، وجاء في ذلك أحاديث، وفي رواية: ( أنه يأمرها فتلقي على فرجها ثوباً )، وهذا مذهب الشافعية، وهو رواية أيضاً في مذهب الإمام أحمد، والصحيح الأول: أن له أن يباشرها حتى فيما دون السرة وفوق الركبة، المهم: أنه يتقي الفرج.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية 3986 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 3925 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة 3853 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض 3845 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين 3671 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 3624 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض 3614 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع 3551 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج 3516 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها 3444 استماع