شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب الغسل من الجنابة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب: الغسل من الجنابة ].

والغُسل بضم الغين، (الغُسل): اغتسل يغتسل اغتسالاً وغسلاً، فهو اسم مصدر مأخوذ من الفعل اللازم: اغتسل يغتسل اغتسالاً وغسلاً بضم الغين.

أما بفتحها (الغَسل) فهو مأخوذ من الفعل المتعدي تقول: غسله يغسله غسلاً، تقول مثلاً: غسل رأسه يغسله غسلاً، بفتح الغين، هذا هو الغالب، ولذلك يقال: الغَسل للشيء المتعدي، غسل رأسه مثلاً، ويقال: (الغُسل) بالضم للأمر اللازم، كما تقول: اغتسل اغتسالاً وغسلاً.

والغسل: هو تعميم البدن بالماء بنية، وقول المؤلف رحمه الله تعالى: باب: الغسل من الجنابة المقصود بالجنابة هو: ما يوجب الطهارة الكبرى، وقد يقال: إن المقصود بالجنابة أحد الأمرين: إما خروج المني أو التقاء الختانين؛ لأنه قد يوجب الطهارة الكبرى ما ليس بجنابة كما سوف يأتي بعد قليل.

وإنما سميت الجنابة جنابة؛ لأنها توجب للإنسان أن يجتنب ويبتعد أماكن العبادة، وكذلك يبتعد عن العبادات التي تشترط لها الطهارة: كالصلاة والطواف وقراءة القرآن ونحوها، يقال: رجل جنب وامرأة جنب ورجال جنب ورجلان جنب، فهو اسم لا يتغير في المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، وقد يتغير فيقال: رجل جنب ورجلان جنبان ورجال جنبون .. وهكذا، ولكن الأول هو المشهور عند أهل اللغة، وهو الأكثر في الاستعمال.

قال المصنف في المسألة الأولى: [ والموجب له خروج المني ].

وهذا يدل على أن هناك غسلاً واجباً وغسلاً غير واجب، فبدأ المصنف رحمه الله تعالى بالغسل الواجب، فنقول: الغسل قسمان: واجب ومستحب.

فأما الواجب فهو أربعة أقسام: أولها الغسل من الجنابة كما ذكر المصنف رحمه الله في ترجمة الباب، في عنوان الباب: الغسل من الجنابة؛ لقول الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، وقال تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43]، وكذلك قال جل وعز: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43]، فذكر الطهارة الصغرى والكبرى، ثم قال: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، والمقصود بالجنابة الأمران اللذان ذكرهما المصنف، وهما: خروج المني والتقاء الختانين هذا أولاً.

الغسل الثاني الواجب: هو غسل الحيض، والنفاس مثله أيضاً، ولذلك الله تعالى قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222] ثم قال: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، إذاً: ذكر في الآية شيئين، قال: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، فما المقصود بالطهر هاهنا؟

المقصود بالطهر هنا هو الطهارة من الحيض بانقطاع الدم أو رؤية القصة البيضاء، ثم قال: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222]، فذكر العمل الذي تقوم به المرأة بنفسها وهو التطهر، والمقصود به هاهنا الغسل، ولهذا استدل بالآية على أن الرجل لا يجوز له أن يجامع زوجته إذا طهرت من الحيض حتى تغتسل: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222].

وفي مسلم : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لبعض زوجاته أمرها إذا طهرت ألا تطوف بالبيت حتى تطهر، في قصة عائشة لما حاضت قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وفي رواية لـمسلم قال: ( حتى تغتسلي )، فدل على أنه لابد من الغسل من الحيض.

الثالث في الغسل الواجب: هو غسل الميت، وبالنسبة لغسل الميت هل يعبر عنه بالضم على الأغلب، فيقال: غُسل الميت، أو يعبر عنه بالفتح، فيقال: غَسل الميت على حسب القاعدة اللغوية التي ذكرتها في مطلع الكلام؟ أيهما أقوى أن يقال: غُسل الميت، أو غَسل الميت؟

غَسل الميت بالفتح، لماذا؟ لأنه فعل متعد، تقول: الميت هل هو يغسل نفسه، يقال: اغتسل الميت اغتسالاً وغسلاً أو يغسله غيره؟

يغسله غيره، ولهذا يعبر عنه بالضم؛ لأنه من غَسل رأسه، وغَسل الشيء غسلاً، فهو بالفتح أرجح وأصح.

وغُسل الميت ما هو الدليل على وجوبه؟ ولا أظن في المسألة خلافاً، لكن الدليل من السنة على غسل الميت قول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الرجل الذي وقصته دابته بعرفة -والحديث متفق عليه-: (اغسلوه بماء وسدر ).

ومن الأدلة أيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام لـأم عطية ومن معها من النساء: ( اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر ) إلى آخر الحديث، فهذا دليل على وجوب غسل الميت.

الغسل الرابع الواجب هو الغسل للدخول في الإسلام، وهذا هو المنصوص في مذهب الحنابلة، المنصوص من كلام الإمام أحمد أنه يجب على من دخل في الإسلام أن يغتسل سواء ارتد ثم عاد إلى الدين أو كان كافراً أصلياً دخل في الإسلام، فالمنصوص من المذهب أنه يجب عليه الغسل مطلقاً؛ وقولنا مطلقاً: يعني سواء أجنب في كفره قبل الإسلام أو لم يجنب، وسواء اغتسل أو لم يغتسل فإنه يجب عليه الغسل مطلقاً عند الحنابلة، واستدلوا لذلك بأدلة منها حديث قيس بن عاصم : ( لما أسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يغتسل بماء وسدر )، وحديث قيس رواه أبو داود وأحمد وغيرهم، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح، وصححه جماعة، قال النووي : هذا حديث حسن أيضاً، وقال ابن المنذر : هذا حديث ثابت.

فاحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغتسل بماء وسدر، ومثله أيضاً حديث ثمامة بن أثال وأصله في الصحيح، ولكن عند أحمد وفي مصنف عبد الرزاق : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغتسل ) وإلا فأصل الحديث في صحيح البخاري، فهذا دليل من قال بوجوب الاغتسال على من أسلم مطلقاً.

والقول الثاني: أنه لا غسل عليه مطلقاً، يعني: سواءً أجنب قبل الإسلام أم لم يجنب لا يجب عليه غسل، وهذا مذهب أبي حنيفة، واستدلوا بأن الإسلام يجب ما قبله، كما في حديث عمرو بن العاص وهو في صحيح مسلم : ( أن الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها )، فالإسلام يكفر عنه كل شيء.

والقول الثالث: التفصيل وهو مذهب الشافعية، قالوا: إن أجنب في حال كفره وجب عليه إذا أسلم أن يغتسل، ولا يجزئه لو كان اغتسل في الجاهلية؛ لأن ذلك الغسل ليس غسلاً شرعياً يرفع الحدث، وإن لم يجنب فلا غسل عليه، واختار الإمام ابن تيمية رحمه الله -كما في الاختيارات -: أنه إن أجنب ثم اغتسل في حال كفره ناوياً بذلك رفع الحدث ارتفع حدثه ولا يجب عليه أن يغتسل وإلا وجب عليه الغسل.

هذه هي الأقوال المشهورة في مسألة الاغتسال، والظاهر -والله تعالى أعلم- أنه لا يجب الغسل على من أسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسلم في زمنه الخلق الكثير الذين يعدون بعشرات الألوف من الصحابة رضي الله عنهم، وكلهم قارفوا في حال جاهليتهم وكفرهم ولم يؤمر أحد منهم بالاغتسال، اللهم إلا أن يكون قارف في حال كفره ما يوجب الاغتسال، فحينئذ يؤمر بالاغتسال له لا لكونه كان كافراً؛ لأن -مثلاً- الجنابة موجبة للطهارة، سواءً كان في حال إسلامه أو كفره، فإذا أسلم وجب عليه أن يغتسل ويرفع حدثه الأول، أما إن لم يرتكب ما يوجب الطهارة الكبرى فلا غسل عليه.

هذه هي الأشياء الأربعة الموجبة للغسل، أما الغسل المستحب فسوف يأتي في آخر المجلس.

الموجب الأول: خروج المني

المسألة الثانية: قال المصنف رحمه الله تعالى: [ خروج المني، وهو الماء الدافق ].

يعني هذا هو الموجب، وعرف المني بأنه هو الماء الدافق؛ والدليل على أن ذلك موجب للغسل قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري : ( إنما الماء من الماء )، ما هو المقصود بالماء؟

الماء الأول ماء الاغتسال، والماء الثاني ماء المني، ( إنما الماء من الماء )، وهذا كما يقول البلاغيون: فيه جناس تام، يعني: استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم لفظاً واحداً لمعنيين مختلفين، فالماء الأول هو ماء الطهارة.. ماء الغسل، والماء الثاني هو الماء الذي يخرج من الإنسان وهو المني.

ويشترط لكون خروج المني موجباً للغسل أن يخرج بشهوة، فلو خرج لغير شهوة، كما إذا خرج مثلاً لمرض أو لأبردة، وهو شيء يصيب الإنسان في جوفه فيتسبب في خروج المني منه فإنه لا غسل عليه حينئذ في المشهور من مذهب الحنابلة، وهو الراجح إن شاء الله تعالى، وكذلك إذا كان الماء -أعني: المني- خرج من غير دفق، والغالب أن الدفق ملازم للشهوة، فإنه إذا خرج من غير دفق لا يوجب الغسل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال له: ( إذا حذفت الماء فاغتسل )، وحديث علي رواه أحمد في مسنده، وسنده حسن، فقوله: ( إذا حذفت الماء ) يعني: قذفته، وهذا إشارة إلى الدفق، كونه دافقاً، ولا يكون الماء دافقاً إلا إذا خرج لشهوة، أما لو خرج لمرض أو أبردة أو غير ذلك فإنه لا يكون دافقاً، بل يخرج من غير دفق، وإذا خرج الماء -أعني: المني- في حال النوم فهل يوجب غسلاً؟

نعم يوجب غسلاً إذا خرج في حال النوم، وهو ما يسمى بالاحتلام، فإنه يوجب الغسل عند جميع أهل العلم، والدليل على ذلك ما روته أم سلمة : ( أن أم سليم سألت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، إذا رأت الماء ) والحديث متفق عليه، وهو دليل على أن الماء إذا خرج من الإنسان في حال النوم فإنه يوجب عليه الغسل، وقد خالف في ذلك النخعي فيما نقله عنه جماعة، والإسناد عنه حسن أو صحيح، يعني من الثابت أن النخعي شذ في هذه المسألة وخالفها، وهو محجوج بأمرين:

أولاً: الإجماع، فإن الإجماع انعقد قبله على وجوب الغسل من خروج المني حال النوم.

الثاني: الحديث السابق فإنه صريح في أن الإنسان إذا رأى الماء في منامه فإنه يجب عليه الاغتسال.

سؤال: إنسان رأى في منامه أنه جامع، ثم استيقظ فلم يجد بللاً، فماذا عليه؟

ليس عليه شيء، قولاً واحداً.

سؤال آخر: إنسان لا يذكر احتلاماً، ولكنه استيقظ فرأى أثر المني على بدنه وثيابه فماذا عليه؟

عليه أن يغتسل، أيضاً قولاً واحداً وبإجماع أهل العلم.

سؤال ثالث: إنسان استيقظ فرأى على ثيابه رطوبة لا يدري ما هي، لم يتيقن أنها مني أو غيره، فماذا عليه؟

نقول: ليس عليه غسل؛ لأن الأصل براءة الذمة ولا نقول بإيجاب الغسل إلا بيقين.

إذاً: هذا هو الموجب الأول، وهو خروج المني، وهو الماء الدافق كما قال المصنف.

الموجب الثاني: التقاء الختانين

المسألة الثالثة: قال: [ والتقاء الختانين ].

وإنما كان التقاء الختانين موجباً للغسل؛ لما رواه أبو هريرة وأخرجه الشيخان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل )، وفي لفظ: ( وإن لم ينزل )، فمجرد التقاء الختانين موجب للغسل حتى ولو لم يكن ثَمَّ إنزال، وما معنى التقاء الختانين، هل معناه أن يلامس الختان الختان؟ هل معنى التقاء الختانين يعني: ختان الذكر وختان الأنثى أن يلامس أحدهما الآخر، هل هذا هو المعنى؟

ليس معنى التقاء الختانين أن يلامس أحدهما الآخر، وإنما المعنى عند جميع أهل العلم أن يجاوز الختان الختان، ولهذا جاء في لفظ للحديث: ( إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل )، أما مجرد الملامسة فلا توجب غسلاً عند جميع المسلمين، وهذا من الأحكام التي تخفى على كثير من الناس، إنما الذي يوجب الغسل هو تغييب الحشفة، إذا غيّب الحشفة في فرج المرأة أو في غيره وجب عليه الغسل وعليها أيضاً، أما مجرد الملامسة كما قد يفهم من قوله: ( إذا التقى الختانان )، فلا يوجب غسلاً.

ومثله أيضاً لو غيب جزءاً من الحشفة فإن ذلك لا يوجب الغسل إلا على رأي ضعيف مرجوح، والصواب أنه لا غسل إلا بتغييب الحشفة كلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في اللفظ الآخر: ( إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ).

الجمع بين حديث: (الماء من الماء) وحديث: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)

طيب. هاهنا سؤال وهو مهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد الذي ذكرته قبل قليل: ( إنما الماء من الماء )، ومعنى الحديث: ( إنما الماء من الماء ) أن الغسل لا يجب إلا بماذا؟ إلا بالإنزال، هذا حديث، وحديث أبي هريرة الآن يقول: ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل وإن لم ينزل )، فكيف نجمع بين الحديثين؟

الجواب مكون من جزأين:

الأول: أن نقول: إن أحد الحديثين ناسخ للآخر، فأول الأمر: ( إنما الماء من الماء ) وكان في أول الإسلام لا يجب الغسل إلا بالإنزال، فلو أنه جامع امرأته ولم ينزل لم يجب عليه غسل، هذا كان في أول الإسلام، ثم نسخ هذا الحكم بالحكم الجديد، وهو: إيجاب الغسل بمجرد الإيلاج ولو لم يكن إنزال، وهذا هو المشهور عند أكثر أهل العلم.

الجواب الثاني: وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الماء من الماء ) خاص بحال الاحتلام، فإنه من المعلوم أن الإنسان النائم لا يجب عليه الغسل إلا إذا أنزل وخرج منه الماء.

فمن مجموع الأمرين يتكون الجواب وهو الجمع بين الحديثين.

وقد يقال: إن قوله: ( إنما الماء من الماء ) يعني: وإن كان هذا فيه الحصر في قوله: (إنما)، فيه الحصر، فهو صريح في حصر إيجاب الغسل بخروج الماء، وقد يقال: إنه مفهوم، وذلك الحديث الآخر منطوق فهو مقدم عليه، فهذا جواب ثالث وهو جيد أيضاً لا بأس أن يدرج.

إذاً: ذكر المصنف رحمه الله من موجبات الغسل اثنين:

الأول: خروج المني، وهو الماء الدافق.

والثاني: وهو التقاء الختانين، ولم يكمل ما بقي من موجبات الغسل كما أنه لم يكمل ما يتعلق بالأغسال المستحبة، فأما بقية الموجبات فذكرتها سابقاً، وأما الأغسال المستحبة فسوف أذكرها إن شاء الله تعالى.

المسألة الثانية: قال المصنف رحمه الله تعالى: [ خروج المني، وهو الماء الدافق ].

يعني هذا هو الموجب، وعرف المني بأنه هو الماء الدافق؛ والدليل على أن ذلك موجب للغسل قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري : ( إنما الماء من الماء )، ما هو المقصود بالماء؟

الماء الأول ماء الاغتسال، والماء الثاني ماء المني، ( إنما الماء من الماء )، وهذا كما يقول البلاغيون: فيه جناس تام، يعني: استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم لفظاً واحداً لمعنيين مختلفين، فالماء الأول هو ماء الطهارة.. ماء الغسل، والماء الثاني هو الماء الذي يخرج من الإنسان وهو المني.

ويشترط لكون خروج المني موجباً للغسل أن يخرج بشهوة، فلو خرج لغير شهوة، كما إذا خرج مثلاً لمرض أو لأبردة، وهو شيء يصيب الإنسان في جوفه فيتسبب في خروج المني منه فإنه لا غسل عليه حينئذ في المشهور من مذهب الحنابلة، وهو الراجح إن شاء الله تعالى، وكذلك إذا كان الماء -أعني: المني- خرج من غير دفق، والغالب أن الدفق ملازم للشهوة، فإنه إذا خرج من غير دفق لا يوجب الغسل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال له: ( إذا حذفت الماء فاغتسل )، وحديث علي رواه أحمد في مسنده، وسنده حسن، فقوله: ( إذا حذفت الماء ) يعني: قذفته، وهذا إشارة إلى الدفق، كونه دافقاً، ولا يكون الماء دافقاً إلا إذا خرج لشهوة، أما لو خرج لمرض أو أبردة أو غير ذلك فإنه لا يكون دافقاً، بل يخرج من غير دفق، وإذا خرج الماء -أعني: المني- في حال النوم فهل يوجب غسلاً؟

نعم يوجب غسلاً إذا خرج في حال النوم، وهو ما يسمى بالاحتلام، فإنه يوجب الغسل عند جميع أهل العلم، والدليل على ذلك ما روته أم سلمة : ( أن أم سليم سألت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، إذا رأت الماء ) والحديث متفق عليه، وهو دليل على أن الماء إذا خرج من الإنسان في حال النوم فإنه يوجب عليه الغسل، وقد خالف في ذلك النخعي فيما نقله عنه جماعة، والإسناد عنه حسن أو صحيح، يعني من الثابت أن النخعي شذ في هذه المسألة وخالفها، وهو محجوج بأمرين:

أولاً: الإجماع، فإن الإجماع انعقد قبله على وجوب الغسل من خروج المني حال النوم.

الثاني: الحديث السابق فإنه صريح في أن الإنسان إذا رأى الماء في منامه فإنه يجب عليه الاغتسال.

سؤال: إنسان رأى في منامه أنه جامع، ثم استيقظ فلم يجد بللاً، فماذا عليه؟

ليس عليه شيء، قولاً واحداً.

سؤال آخر: إنسان لا يذكر احتلاماً، ولكنه استيقظ فرأى أثر المني على بدنه وثيابه فماذا عليه؟

عليه أن يغتسل، أيضاً قولاً واحداً وبإجماع أهل العلم.

سؤال ثالث: إنسان استيقظ فرأى على ثيابه رطوبة لا يدري ما هي، لم يتيقن أنها مني أو غيره، فماذا عليه؟

نقول: ليس عليه غسل؛ لأن الأصل براءة الذمة ولا نقول بإيجاب الغسل إلا بيقين.

إذاً: هذا هو الموجب الأول، وهو خروج المني، وهو الماء الدافق كما قال المصنف.

المسألة الثالثة: قال: [ والتقاء الختانين ].

وإنما كان التقاء الختانين موجباً للغسل؛ لما رواه أبو هريرة وأخرجه الشيخان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل )، وفي لفظ: ( وإن لم ينزل )، فمجرد التقاء الختانين موجب للغسل حتى ولو لم يكن ثَمَّ إنزال، وما معنى التقاء الختانين، هل معناه أن يلامس الختان الختان؟ هل معنى التقاء الختانين يعني: ختان الذكر وختان الأنثى أن يلامس أحدهما الآخر، هل هذا هو المعنى؟

ليس معنى التقاء الختانين أن يلامس أحدهما الآخر، وإنما المعنى عند جميع أهل العلم أن يجاوز الختان الختان، ولهذا جاء في لفظ للحديث: ( إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل )، أما مجرد الملامسة فلا توجب غسلاً عند جميع المسلمين، وهذا من الأحكام التي تخفى على كثير من الناس، إنما الذي يوجب الغسل هو تغييب الحشفة، إذا غيّب الحشفة في فرج المرأة أو في غيره وجب عليه الغسل وعليها أيضاً، أما مجرد الملامسة كما قد يفهم من قوله: ( إذا التقى الختانان )، فلا يوجب غسلاً.

ومثله أيضاً لو غيب جزءاً من الحشفة فإن ذلك لا يوجب الغسل إلا على رأي ضعيف مرجوح، والصواب أنه لا غسل إلا بتغييب الحشفة كلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في اللفظ الآخر: ( إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ).

طيب. هاهنا سؤال وهو مهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد الذي ذكرته قبل قليل: ( إنما الماء من الماء )، ومعنى الحديث: ( إنما الماء من الماء ) أن الغسل لا يجب إلا بماذا؟ إلا بالإنزال، هذا حديث، وحديث أبي هريرة الآن يقول: ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل وإن لم ينزل )، فكيف نجمع بين الحديثين؟

الجواب مكون من جزأين:

الأول: أن نقول: إن أحد الحديثين ناسخ للآخر، فأول الأمر: ( إنما الماء من الماء ) وكان في أول الإسلام لا يجب الغسل إلا بالإنزال، فلو أنه جامع امرأته ولم ينزل لم يجب عليه غسل، هذا كان في أول الإسلام، ثم نسخ هذا الحكم بالحكم الجديد، وهو: إيجاب الغسل بمجرد الإيلاج ولو لم يكن إنزال، وهذا هو المشهور عند أكثر أهل العلم.

الجواب الثاني: وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الماء من الماء ) خاص بحال الاحتلام، فإنه من المعلوم أن الإنسان النائم لا يجب عليه الغسل إلا إذا أنزل وخرج منه الماء.

فمن مجموع الأمرين يتكون الجواب وهو الجمع بين الحديثين.

وقد يقال: إن قوله: ( إنما الماء من الماء ) يعني: وإن كان هذا فيه الحصر في قوله: (إنما)، فيه الحصر، فهو صريح في حصر إيجاب الغسل بخروج الماء، وقد يقال: إنه مفهوم، وذلك الحديث الآخر منطوق فهو مقدم عليه، فهذا جواب ثالث وهو جيد أيضاً لا بأس أن يدرج.

إذاً: ذكر المصنف رحمه الله من موجبات الغسل اثنين:

الأول: خروج المني، وهو الماء الدافق.

والثاني: وهو التقاء الختانين، ولم يكمل ما بقي من موجبات الغسل كما أنه لم يكمل ما يتعلق بالأغسال المستحبة، فأما بقية الموجبات فذكرتها سابقاً، وأما الأغسال المستحبة فسوف أذكرها إن شاء الله تعالى.

النية

قال: [ والواجب فيه النية ] هذه هي المسألة الرابعة، ودليله سبق، وهو حديث عمر رضي الله عنه: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، وهذا لا خلاف فيه أنه لابد أن ينوي رفع حدثه بالغسل، فلو نوى الإنسان غسلاً واجباً أجزأه عن المسنون، أي: لو أن الإنسان أجنب يوم الجمعة واغتسل عن هذه الجنابة أجزأه ذلك عن غسل الجمعة، ولا شك في ذلك وإن كان فيه خلاف، لكن يدخل المسنون في الواجب.

إنما لو نوى غسلاً مسنوناً فهل يجزئه عن الواجب، أي: أنه لو نسي أن عليه جنابة واغتسل بنية غسل الجمعة فهل يجزئه ذلك عن الغسل الواجب؟

روايتان في المذهب، قيل: يجزئه ذلك وهو الذي ذكره صاحب الزاد وغيره: وإن نوى غسلاً مسنوناً أجزأ عن واجب وكذا عكسه، وقيل: لا يجزئه لأنه لم ينو رفع الحدث بذلك. والله تعالى أعلم.

تعميم البدن بالغسل

قال في المسألة الخامسة: [ وتعميم بدنه بالغسل ] هذا أيضاً واجب؛ ويعني ذلك: أن يعمم الإنسان جميع بدنه بما في ذلك الشعر، وأن يغسل ظاهر بدنه كله وما في حكمه، كأن يروي أصول الشعر بالماء، فإن ذلك من تعميم البدن بالغَسل، وهذا هو معنى الغُسل، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة، منها حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اغتسل غسل يديه ثلاثاً.. إلى أن قالت: ثم روى بشرته -تعني: رأسه-، ثم أفاض عليه الماء، ثم غسل سائر بدنه )، فهذا دليل على تعميم سائر البدن بالغسل، ومثله أيضاً حديث ميمونة الذي ساقه المصنف وكلاهما في المتفق عليه، فهما دليلان على أنه لابد من تعميم البدن كله بالغَسل.

المضمضة والاستنشاق

قال في المسألة السادسة: [ مع المضمضة والاستنشاق ]، فأما المضمضة والاستنشاق فقد سبق أنهما واجبان في الطهارة الصغرى، ووجوبهما في الطهارة الكبرى أولى، هذا وجه.

الوجه الثاني: أن داخل الفم وداخل الأنف من ظاهر البدن الذي يجب غسله، كما سبق أن بينت ذلك في موضعه.

ثم إنه جاء في السنة ما يدل على ذلك كما في حديث علي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من ترك موضع شعرة من الجنابة عذبه الله بالنار كذا وكذا، قال علي رضي الله عنه: فمن ثم عاديت شعر رأسي وكان علي رضي الله عنه يحلق شعر رأسه )، وهذا الحديث رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وغيرهم.

قال الحافظ ابن حجر : وإسناده صحيح، وهو من رواية حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، وقد روى عنه وهو مختلط، ولكن هذا الحديث رُوي عنه قبل أن يختلط، ولذلك فإن القواعد والأصول أن هذا الحديث صحيح كما صححه ابن حجر وغيره، ولكن قال الحافظ : قيل إنه موقوف على علي رضي الله عنه.

وأقول: حتى ولو كان الحديث موقوفاً على علي رضي الله عنه فإنه في حكم المرفوع؛ لأن فيه وعيداً، والوعيد لا يكون إلا بتوقيف، أي: أن علياً رضي الله عنه لا يجرؤ على ذكر وعيد على خطأ إلا ويكون سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن ذلك مما لا يقال بالرأي، فإنه يقول: ( من ترك موضع شعرة من الجنابة عذبه الله بالنار كذا وكذا )، يعني: ذكر وعيداً نسيه الراوي رحمه الله.

إذاً: الظاهر أن الحديث متصل مرفوع صحيح الإسناد، وهو دليل على وجوب غسل أصول الشعر، وعلى وجوب إيصال الماء إلى الأنف؛ لأن في الأنف شعراً، ومثل ذلك الفم أيضاً، وهناك أدلةٌ أخرى غير هذه.

المقصود: أن المضمضة والاستنشاق واجب في الغسل كما هي واجب في الوضوء، وهذا أيضاً أحد الأقوال في المسألة، وقد سبق أن ذكرت غير ذلك في باب الوضوء.

قال: [ والواجب فيه النية ] هذه هي المسألة الرابعة، ودليله سبق، وهو حديث عمر رضي الله عنه: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، وهذا لا خلاف فيه أنه لابد أن ينوي رفع حدثه بالغسل، فلو نوى الإنسان غسلاً واجباً أجزأه عن المسنون، أي: لو أن الإنسان أجنب يوم الجمعة واغتسل عن هذه الجنابة أجزأه ذلك عن غسل الجمعة، ولا شك في ذلك وإن كان فيه خلاف، لكن يدخل المسنون في الواجب.

إنما لو نوى غسلاً مسنوناً فهل يجزئه عن الواجب، أي: أنه لو نسي أن عليه جنابة واغتسل بنية غسل الجمعة فهل يجزئه ذلك عن الغسل الواجب؟

روايتان في المذهب، قيل: يجزئه ذلك وهو الذي ذكره صاحب الزاد وغيره: وإن نوى غسلاً مسنوناً أجزأ عن واجب وكذا عكسه، وقيل: لا يجزئه لأنه لم ينو رفع الحدث بذلك. والله تعالى أعلم.

قال في المسألة الخامسة: [ وتعميم بدنه بالغسل ] هذا أيضاً واجب؛ ويعني ذلك: أن يعمم الإنسان جميع بدنه بما في ذلك الشعر، وأن يغسل ظاهر بدنه كله وما في حكمه، كأن يروي أصول الشعر بالماء، فإن ذلك من تعميم البدن بالغَسل، وهذا هو معنى الغُسل، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة، منها حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اغتسل غسل يديه ثلاثاً.. إلى أن قالت: ثم روى بشرته -تعني: رأسه-، ثم أفاض عليه الماء، ثم غسل سائر بدنه )، فهذا دليل على تعميم سائر البدن بالغسل، ومثله أيضاً حديث ميمونة الذي ساقه المصنف وكلاهما في المتفق عليه، فهما دليلان على أنه لابد من تعميم البدن كله بالغَسل.

قال في المسألة السادسة: [ مع المضمضة والاستنشاق ]، فأما المضمضة والاستنشاق فقد سبق أنهما واجبان في الطهارة الصغرى، ووجوبهما في الطهارة الكبرى أولى، هذا وجه.

الوجه الثاني: أن داخل الفم وداخل الأنف من ظاهر البدن الذي يجب غسله، كما سبق أن بينت ذلك في موضعه.

ثم إنه جاء في السنة ما يدل على ذلك كما في حديث علي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من ترك موضع شعرة من الجنابة عذبه الله بالنار كذا وكذا، قال علي رضي الله عنه: فمن ثم عاديت شعر رأسي وكان علي رضي الله عنه يحلق شعر رأسه )، وهذا الحديث رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وغيرهم.

قال الحافظ ابن حجر : وإسناده صحيح، وهو من رواية حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، وقد روى عنه وهو مختلط، ولكن هذا الحديث رُوي عنه قبل أن يختلط، ولذلك فإن القواعد والأصول أن هذا الحديث صحيح كما صححه ابن حجر وغيره، ولكن قال الحافظ : قيل إنه موقوف على علي رضي الله عنه.

وأقول: حتى ولو كان الحديث موقوفاً على علي رضي الله عنه فإنه في حكم المرفوع؛ لأن فيه وعيداً، والوعيد لا يكون إلا بتوقيف، أي: أن علياً رضي الله عنه لا يجرؤ على ذكر وعيد على خطأ إلا ويكون سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن ذلك مما لا يقال بالرأي، فإنه يقول: ( من ترك موضع شعرة من الجنابة عذبه الله بالنار كذا وكذا )، يعني: ذكر وعيداً نسيه الراوي رحمه الله.

إذاً: الظاهر أن الحديث متصل مرفوع صحيح الإسناد، وهو دليل على وجوب غسل أصول الشعر، وعلى وجوب إيصال الماء إلى الأنف؛ لأن في الأنف شعراً، ومثل ذلك الفم أيضاً، وهناك أدلةٌ أخرى غير هذه.

المقصود: أن المضمضة والاستنشاق واجب في الغسل كما هي واجب في الوضوء، وهذا أيضاً أحد الأقوال في المسألة، وقد سبق أن ذكرت غير ذلك في باب الوضوء.