شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب أحكام المياه


الحلقة مفرغة

تعريف الطهور

قال المصنف رحمه الله: [خلق الماء طهوراً]، والطَهور بفتح الطاء، المقصود به صيغة مبالغة من الطهارة، مثل قولهم: السَّحور والوَجور والسَّعوط ونحوها، بفتح الفاء من هذا الاسم، بخلاف ما إذا كانت الفاء مضمومة: الطُّهور والسُّعوط ونحوها، فإنه حينئذ يكون مصدراً على ما هو معروف.

الطهورية هي الأصل في الماء

وقوله رحمه الله: (خلق الماء طهوراً) إشارة إلى أن أصل الماء الطهورية، فالماء الطهور هو: الماء النازل من السماء أو النابع من الأرض الباقي على أصل خلقته، فهذا هو الماء الطهور، وهو أصل الماء، فإذا لم يطرأ على الماء يقيناً شيء ينقله عن الطهورية فإنه يبقى على أصله طهوراً، كما قال الله عز وجل: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11]، وكما قال سبحانه: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: ( اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ).

تعريف الحدث والنجاسة وذكر الفرق بينهما

[ خلق الماء طهوراً، يطهر من الأحداث والنجاسات ]. هذا هو الماء الطهور، فما هو الفرق بين الأحداث والنجاسات، ما هي الأحداث وما هي النجاسات؟ أما الحدث فإنه: معنى يقوم بالإنسان يمنع من الصلاة والطواف ونحوهما، هذا هو الحدث، معنى يقوم بالإنسان يمنع من الصلاة ونحوها.

أما النجاسة أو النجاسات -كما ذكر المصنف- فهي: أعيان مستخبثة في الشرع منع الشرع المصلي من استصحابها، فمثلاً: لو أن الإنسان نقض وضوءه بحدث أو ريح أو نحوها، فحينئذ يمتنع عليه أن يصلي حتى يتوضأ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، فهذا يسمى حدثاً، سواء كان حدثاً أصغر يوجب الوضوء، أو حدثاً أكبر يوجب الغسل، هذه هي الأحداث.

وفي الواقع (معنىً)، بمعنى أنها ليست شيئاً عينياً، فالإنسان -مثلاً- إذا أحدث .. إذا نقض وضوءه، هل يوجد على بدن الإنسان شيء حسي يمنع من الصلاة؟ لا يوجد، إنما الذي منعه من الصلاة شيء معنوي، فهذا الشيء المعنوي يسمى حدثاً؛ كالجنابة مثلاً أو الحدث الأصغر.

أما بالنسبة للنجاسات فهي الأشياء الحسية.. عين النجاسة.. عين المستقذر في الشرع؛ كالبول مثلاً هذا يسمى نجاسة، أو الدم النجس أو الغائط أو لحم الميتة أو شحمها.. كل هذه الأشياء هي نجاسات؛ أعيان مستخبثة في الشرع يمنع المصلي من استصحاب حكمها، فالماء يطهر من الأحداث ويطهر من النجاسات.

فائدة كلمة (من) في قول المصنف: (يطهر من الأحداث والنجاسات)

سؤال: هل يصح أن نقول: خلق الماء طهوراً يطهر الأحداث والنجاسات فنحذف كلمة (من)، هل يصلح هذا؟

الجواب: لا يصلح؛ لأن النجاسات أيضاً لا يطهرها، بل يطهر منها، الماء يطهر منها لكن لا يطهرها، بمعنى: لو أن إنساناً أتى مثلاً بمادة نجسة كالغائط ثم صب عليه الماء، هل تتحول هذه المادة إلى شيء طاهر بصب الماء عليها؟ لا تتحول، بل هي نجسة، ما دامت موجودة فهي نجسة، فالماء يطهر منها؛ يطهر البدن، يطهر البقعة، يطهر الثوب، لكن لا يطهر العين ذاتها، بمعنى: أن عين النجاسة كالغائط مثلاً لا تتحول -ما دامت موجودة- من نجس إلى طاهر، إنما هي نجسة والماء يطهر منها ولا يطهرها، وكذلك بالنسبة للأحداث فهي أشياء معنوية ليس الماء يطهرها وإنما يطهر منها، هذه هي المسألة الأولى في الباب.

عدم حصول الطهارة بغير الماء من المائعات

ثم قال رحمه الله: [ولا تحصل الطهارة بمائع غيره]. الضمير في قوله: (غيره) يعود على الماء، لا تحصل الطهارة بمائع غير الماء.

طيب: إذاً: الطهارة عندنا طهارتان كما علم من المسألة السابقة، الطهارة الأولى: طهارة من الأحداث، والطهارة الثانية: طهارة من النجاسات.

طيب: إذاً: الطهارة بنوعيها الطهارة من الحدث والطهارة من النجاسات إنما تكون بشيء واحد هو الماء كما قرره المصنف.

(ولا تحصل بمائع غيره)، فهل يمكن أن يتطهر الإنسان مثلاً أو يتوضأ أو يزيل النجاسة بالبيبسي أو بالشاي أو باللبن؟ هذه كلها مائعات، هل تقوم مقام الماء في التطهير؟ يقول لك المصنف: لا يمكن هذا، وإنما تحصل الطهارة بمائع واحد هو الماء، لماذا؟ قال: لأن الله سبحانه وتعالى بين لنا أنه عند فقد الماء نلجأ إلى ماذا؟ إلى التيمم: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43] ما قال: فابحثوا عن مائع آخر غير الماء مثلاً، هذا فيما يتعلق بالوضوء: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43] والغسل كذلك، أما فيما يتعلق بإزالة النجاسة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأسماء كما في الحديث الصحيح لما سألته عن دم الحيض، قال: ( حتيه واقرصيه واغسليه بالماء )، فنص على استخدام الماء، هذا من حيث الدليل الشرعي النص.

أما من حيث المعنى والقياس، فإنهم يقولون: إن الماء سائل له خصوصية لا توجد في غيره؛ فهو أكثر وجوداً وانتشاراً من أي مائع آخر، وهو موجود في أصل الخلقة؛ في الأنهار، والبحار، والآبار، والأمطار.. وغيرها، وهو سائل لطيف جداً سهل الجريان، يدخل إلى الأماكن ويبلغ في التنظيف ما لا يبلغ غيره، وكذلك هو ليس له لون ولا طعم ولا ريح، فتميز بذلك عن جميع المائعات الأخرى، فلا يوجد مائع آخر يقوم مقامه؛ بهذه الأشياء كلها قالوا: لا يجزئ في رفع الحدث ولا في غسل النجاسات إلا شيء واحد هو الماء، هذا ما قرره المصنف رحمه الله تعالى.

أما ما يتعلق بالطهارة من الحدث، يعني: الوضوء أو الغسل فقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في شرح العمدة : هو كالإجماع عند أهل العلم أنه لابد من الماء، ولم يخالف في ذلك إلا الأحناف، ونقل عن بعض السلف أنهم يرون أنه يجزئ الإنسان أن يرفع الحدث بنبيذ التمر، ويستدلون لذلك بحديث رواه أهل السنن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ( كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فقال: أمعك وضوء؟ فقلت: ما معي إلا نبيذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تمرة طيبة وماء طهور، ثم أخذ النبيذ فتوضأ )، والنبيذ: هو ماء ينبذ فيه -يقذف فيه- التمر حتى يكون حلواً، ويتحلل التمر فيه فيتغير لونه وطعمه وريحه بذلك، ويسمى بالنبيذ، وقد يكون نبيذ التمر وقد يكون نبيذ العنب، وقد يكون.. الأنبذة مختلفة، لكن النص جاء في نبيذ التمر، ولكن هذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه أبا زيد الراوي عن ابن مسعود وهو مجهول، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أطبق علماء الحديث على ضعفه.

ومما يدل على ضعفه أنه جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود : ( أنه سئل: أكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة الجن؟ قال: لا )، فهذا حديث صحيح يدل على ضعف الحديث الأول، وعلى فرض صحته قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: على فرض صحته فإنه منسوخ لأنه متقدم، حيث كان بمكة، وقد جاءت بعد ذلك الأوامر باستعمال الماء، أو يكون هذا النبيذ إنما كان فيه تمرات يسيرات لم تحوله إلى نبيذ حقيقي، إنما كان فيه تمر خفيف لم يغير حقيقة الماء فيه، لكن هذا الخلاف ضعيف، فنبقى على الأصل أنه فيما يتعلق برفع الحدث من الوضوء أو الغسل لا يجزئ فيه إلا الماء هذه انتهينا منها.

ذكر ما تزال به النجاسة ويذهب أثرها

أما ما يتعلق بإزالة النجاسة فما قرره المصنف من أن النجاسة لا تزول إلا بالماء فقط قول مرجوح، والراجح أن النجاسة يطهر منها بكل ما يزيل عين النجاسة، فكل ما أزال عين النجاسة ترتب عليه الحكم، فلو أزلنا النجاسة بالماء يطهر الموضع أو لا يطهر؟ يطهر، بخلاف أو بغير خلاف؟ بغير خلاف، فالعلماء مجمعون على أن النجاسة إذا أزيلت بالماء زال حكمها وانتهى الأمر، لكن لو أزيلت النجاسة بغير الماء أيضاً كأن تزال مثلاً بالتراب، فهل تطهر أو لا تطهر؟ الراجح تطهر، كيف تزول النجاسة بالتراب؟

الاستجمار مثلاً، يتم إزالة النجاسة فيه بغير الماء، سواء بالأحجار أو بالمناديل أو بخرق أو بغيرها، فيطهر الموضع ولا يجب غسله بالماء كما هو معروف عند كافة أهل العلم.

كذلك لو فرض أن عندنا ماء -كما سوف يأتي- هذا الماء فيه نجاسة فيه بول أثر على لونه أو طعمه أو ريحه، فوضعنا على هذا الماء تراباً كثيراً، ثم بدأ الماء يخرج من فوق التراب يخرج نقياً صافياً أشبه ما يكون بعملية تنقية وتصفية وتقطير للماء، فوجدنا أن الماء خرج بعد ذلك ماء نقياً صافياً ليس فيه لون النجاسة ولا طعمها ولا ريحها، هل يطهر الماء حينئذ أو لا يطهر؟ يطهر؛ لأن النجاسة زالت.

مثال ثالث: لو أنك أعطيت ثوبك للغسال فغسله بالبخار، ثم أعطاك الثوب أبيض نقياً نظيفاً ليس فيه أي أثر للوسخ، هل يجزئ هذا أو لا يجزئ؟ يجزئ، ولا يشترط أن يتم غسله بالماء.

إذاً: القول الراجح فيما يتعلق بإزالة النجاسات، أن كل شيء يزيل النجاسة ويذهب أثرها يجزئ في ذلك ولا يشترط الماء.

أما ذكر الماء في بعض الأحاديث كحديث أسماء : ( ثم اغسليه بالماء )، وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصب على بول الأعرابي ذنوب من ماء، فهذا لا يدل على الحصر؛ يدل على أن الماء مجزئ وكافٍ وهذا إجماع لا شك فيه، لكنه لا يدل على نفي التطهير عن غيره، بل إن إزالة النجاسات المقصود منها أن تزول النجاسة أو يزول أثرها وليست أمراً تعبدياً بالماء، فإذا تحقق المطلوب بزوال عين النجاسة وذهابها فإنه يبنى على ذلك الحكم الشرعي.

حكم الماء إذا بلغ قلتين ووقعت فيه نجاسة

قال المصنف: [ فإذا بلغ الماء قلتين أو كان جارياً لم ينجسه شيء ]، وهذه الكلمة فيها مسألتان:

إذا بلغ الماء القلتين لم ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه، والدليل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث -وفي لفظ-: لم ينجس )، والحديث رواه أهل السنن، وقال الترمذي : حديث حسن، وهو كما قال، ( إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث )، أي: لم ينجس، إلا إذا تغير لون الماء أو طعمه أو ريحه فحينئذ ينجس بالإجماع.

إذاً: عندنا مسألة: وهي أن الماء إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة فإنه ينجس إجماعاً؛ إذا تغيرت أحد أوصافه الثلاثة: لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة فإنه ينجس بإجماع أهل العلم، وإن لم يكن في هذا حديث صحيح كما قال الإمام أحمد، ليس فيه حديث صحيح، ولكنه حينئذ تكون النجاسة ظاهرة موجودة فيه، فمن استعمل الماء استعمل النجاسة يقيناً؛ لأن أثر النجاسة ظاهر في الماء، فهو نجس بالإجماع، وقد جاء في هذا حديث رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما: ( إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه )، لكن هذا الحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به، لكن يكفي الإجماع.

والمعنى الذي بني عليه الإجماع ظاهر؛ وهو أن الإنسان إذا استعمل هذا الماء فقد استعمل النجاسة لظهور أثرها في الماء طعماً أو لوناً أو ريحاً، فالماء المتغير بالنجاسة نجس بالإجماع.

كذلك مما أجمع العلماء عليه: أن الماء الكثير المستبحر إذا وقعت فيه النجاسة بطبيعة الحال لم يظهر أثرها فيه لأنه كثير فإنه يظل طهوراً لا يتأثر بها.

ثم اختلفوا فيما عدا ذلك، فقسم كثير من الفقهاء الماء إلى قسمين: ما فوق القلتين وما دون القلتين، فقالوا: إذا بلغ قلتين فصاعداً لا ينجس بوجود النجاسة فيه إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه، أما إن كان أقل من قلتين فإنه ينجس، لمجرد وقوع النجاسة فيه، حتى ولو كانت يسيرة، حتى لو لم تؤثر في لونه ولا طعمه ولا ريحه، وعمدتهم الحديث السابق: ( إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث )، قالوا: مفهوم الحديث أن الماء إذا كان أقل من قلتين فإنه يحمل الخبث، أي: فإنه ينجس، هذا عمدتهم.

والصواب في ذلك وهذا القول هو الذي اختاره المؤلف رحمه الله، وهو المشهور المعتمد في المذهب، وهو الذي اختاره الإمام ابن تيمية أيضاً في شرح العمدة، ولكن المختار والصواب غيره، وأنه لا يفرق بين ما كان قلتين أو أكثر من قلتين أو أقل من قلتين، وإنما العمدة على شيء واحد هو التغير، فإذا تغير الماء بالنجاسة فهو نجس، وإذا لم يتغير الماء بالنجاسة فهو باق على أصل طَهوريته، سواء كان قلتين أو أقل من قلتين أو أكثر من قلتين.

إذاً: العبرة بماذا؟ العبرة بالتغير، فإذا تغير الماء بالنجاسة: لونه أو طعمه أو ريحه، فهو نجس إجماعاً، أما إذا وقعت فيه النجاسة، ولم يتغير بها سواء كان أقل من قلتين أو قلتين أو أكثر فهو باق على أصل طَهوريته، هذا هو القول الراجح، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بئر بضاعة، قال عليه الصلاة والسلام: ( الماء طهور لا ينجسه شيء ).

إذاً: أصل الماء طهور وأصل الماء أيضاً لا ينجسه شيء وقع فيه، لا نخرج من ذلك إلا ما تغير بالنجاسة، لماذا نخرجه من الحديث؟ لماذا نخرج ما تغير بالنجاسة من الحديث؟ لأنه نجس بالإجماع، فهذا لا كلام فيه، وما سوى ذلك فهو باق على أصله.

إذاً: قول المصنف: (فإذا بلغ الماء القلتين لم ينجسه شيء إلا ما غلب أو غير)، هذا عرف أن الراجح فيه أنه لا يفرق بين القلتين وما دون القلتين.

حكم الماء الجاري تقع فيه النجاسة

قال المصنف: [ أو كان جارياً لم ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه ]. هذا أيضاً من المصنف تفريق بين الماء الراكد الدائم الذي لا يجري، وبين الماء الذي يجري، فيقرر المصنف رحمه الله: أن الماء الجاري لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه، يعني: ظاهر كلام المصنف سواء كان الماء الجاري قلتين أو أقل؛ لأنه قال: (فإذا بلغ القلتين أو كان جارياً)، لماذا تميز الجاري عند المصنف ومن وافقه بأنه لا ينجس إلا بالتغير؟ لماذا خص الماء الجاري بأنه لا ينجس إلا بالتغير بخلاف الراكد فإنه ينجس إذا كان أقل من قلتين ولو لم يتغير؟

الجواب: لأن الماء الجاري له قوة يدفع بعضه بعضاً فيدفع النجاسة ويزيلها.

قالوا: والماء الجاري مثل الماء الذي يصب على النجاسة فيزيلها ويطهر موضعها، فإذا كان الماء إذا ورد على النجاسة طهرها ولا ينجس هو؛ لأنه لو نجَِس لَنَجَّسَ الموضع وما طهر، فقالوا: كذلك إذا وردت عليه النجاسة لا تنجسه، فالواردان واحد، سواء ورد هو على النجاسة أو وردت عليه النجاسة فإنه لا ينجس، هذه ميزة للماء الجاري، ولذلك قالوا: الماء الجاري لا ينجسه شيء إلا إذا تغير.

وثمة في الماء الجاري قول آخر في المذهب: أنه كالماء الدائم، إذا كانت جريته بمقدار قلة أو قلتين وهكذا، والصواب: أن الماء الجاري كغيره لا ينجس إلا إذا تغير، فإذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه تنجس، وإلا فهو طهور.

واستدل بعضهم للماء الجاري بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) في حديث بئر بضاعة، وهو صحيح كما قال الإمام أحمد .. حديث بئر بضاعة صحيح، استدلوا بهذا الحديث على الماء الجاري، وهذا لا يصح؛ لأن بئر بضاعة هل هي ماء جارٍ؟ لم يكن في المدينة آنذاك عيون جارية وإنما هي بئر فيها ماء ثابت راكد، وإنما يستدل للماء الجاري بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري )، ( ونهيه صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال في الماء الدائم الذي لا يجري )، مما يدل على أن الماء الجاري أقوى في دفع النجاسة من الراكد.

وعلى كل حال، فإذا كنا قررنا سابقاً أن الماء الدائم الباقي لا ينجس إلا بالتغير، فإن الماء الجاري من باب أولى لا ينجس إلا بالتغير، (إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه).

قال المصنف: [ وما سوى ذلك ينجس بمخالطة النجاسة ]، (وما سوى ذلك)، الإشارة في قوله: (ذلك) يعود على ما بلغ القلتين أو كان جارياً، وما سوى ذلك ينجس بمخالطة النجاسة. يعني: ما كان دون القلتين وهو غير جار، فإنه ينجس بمخالطة النجاسة، يعني: ولو لم يتغير.

أقوال العلماء في تحديد القلتين

قال: [ والقلتان ما قارب مائة وثمانية أرطال بالدمشقي ]، القلتان: جمع قلة، سميت قلة؛ لأن الإنسان يقلها بيده يعني: يرفعها بيده.

وقال بعضهم: إنما سميت قلة لضخامتها حتى كأنها تشبه رأس الجبل، يقال: قلة الجبل يعني: قمته ورأسه، وبينهما فرق كبير عظيم، فما تقله بيدك وترفعه يدل على أنه يسير خفيف، أما قلة الجبل فهي أمر عظيم، وما بينهما أقوال تزيد على ثمانية أقوال في تحديد القلة.

قال: [ما قارب مائة وثمانية أرطال بالدمشقي].

[قارب] لماذا؟ لأنهم بتحديدهم كما حدده الإمام ابن تيمية في شرح العمدة وغيره، يقول لك: مائة وسبعة أرطال وسبع رطل.. مائة وسبعة وسبع، لكن جبروا الكسر وقالوا: مائة وثمانية أرطال بالدمشقي. أما بالأرطال العراقية فهي خمسمائة رطل عراقي تقريباً، لماذا قال: ما قارب، يعني: تقريباً؟ لأنه لا يوجد نص شرعي على تحديد القلة، وإنما مدار كلامهم على قول ابن جريج، ابن جريج رحمه الله يقول: رأيت قلال هَجَر، فرأيت القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئاً. قالوا: (وشيئاً) احتمال أنه ربع أو ثلث، لكن نحملها على النصف؛ لأنه أكثر شيء.. على سبيل الاحتياط، وما وجب على سبيل الاحتياط فإنه يكون مفروضاً.

طيب هل كلام ابن جريج حجة شرعية؟ كلا.

هل الحديث فيه تحديد قلال هجر- قرية قرب المدينة، أو هجر المعروفة الأحساء -؟ هل في الحديث ما يدل على أن القلال المقصودة هي قلال هجر؟ القلال تختلف في بلاد العرب من مدينة إلى أخرى.

إذاً: لا يمكن أن نقول: إن المقصود بالشرع قلال هجر، ولا يمكن أيضاً أن نقول: إن قلال هجر مائة وثمانية أرطال بالدمشقي، أو خمسمائة رطل عراقي. ولا يمكن أن نقول: إنها قربتان أو قربتان وشيء؛ لأن هذا ليس فيه نص شرعي يمكن أن يتعبد الناس به.

هل يمكن أن يتعبد الناس بكلام ابن جريج رحمه الله تعالى؟ هل يمكن هذا؟ لا يمكن.

إذاً: هذا من أعظم الإيرادات على الكلام في القلتين.

ومن أعظم الأدلة على أنه لا ينبغي اعتبار القلتين حداً فاصلاً بين الكثير الذي لا ينجس إلا بالتغير، وبين القليل الذي ينجس بمجرد مخالطة النجاسة، لا يمكن اعتماد ذلك، وإنما نقول قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ) لم يخرج مخرج التحديد، وإنما معنى الحديث -والله تعالى أعلم- أن الماء الكثير لا ينجس بورود النجاسة عليه؛ لأنهم سألوه عن الماء الذي يكون بالفلاة من الأرض، وترده السباع والكلاب وغيرها، ماذا: هل يتوضئون فيه؟ فكأنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: أنتم ترون هذا الماء، وأنه ماء كثير لا يتغير بهذه الأشياء التي ترد عليه فهو طهور، توضئوا به واغتسلوا، وأزيلوا النجاسات به؛ لأنه ماء لم ينجس.. لم يتغير بالنجاسة. وليس المقصود التفريق بين قليل ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه ومخالطتها له، وبين كثير لا ينجس إلا بالتغير.

إذاً: عرف ما في تحديد القلتين من الكلام.

حكم الماء إذا خالطه غيره من الطاهرات

قال: [وإن طبخ في الماء ما ليس بطهور..] يعني: ما غلب على اسمه سلب طهوريته، يعني: لو طبخنا مع الماء مادة أخرى ليست هي الماء، وإنما هي مادة غير الماء، فغلبت على اسمه سلبته الطهورية. مثال: لو وضعنا مع الماء أوراق الشاي ثم طبخناه، فحينئذ إذا وضعناه في الإبريق وسكبناه في الإناء، ماذا نسميه؟ نسميه شاياً.

لو قال لك إنسان: هات لي ماءً. فأتيته بشاي، هل تكون نفذت أمره؟ كلا.

إذاً: الملاحظ حينئذ أنه تحول من مادة إلى مادة أخرى، فلا يسمى ماءً ولكنه يسمى شاياً، فغلب على اسمه شيء آخر، سواء طبخ معه أو وضع معه، ولهذا قال: [وكذلك ما خالطه فغلب على اسمه]، مثل ماذا لو خالطه من غير طبخ، يعني: يذوب في الماء ويغير لونه وماهيته، أي مادة تغير حقيقة الماء وتنقله إلى شيء آخر.

من الأمثلة الظاهرة: الناس في رمضان يضعون مع الماء مسحوقاً.. مسحوق العصير، ثم يحركونه حتى يتغير لونه إلى اللون الأصفر أو الأحمر، ويتغير طعمه وتتغير مادته وماهيته، ثم يشرب على أنه عصير.. عصير برتقال أو عصير ليمون أو ما أشبه ذلك. فهل هذا ماء؟ كلا؛ لأنه طبخ معه مادة أخرى؟

لا؛ بل لأنه خالطه مادة أخرى غلبت على اسمه، ونقلته من كونه ماء إلى كونه شيئاً آخر، حتى لو توسع الناس في الاستعمال فقالوا: هذا ماء عصير مثلاً، مثلما يقولون: ماء الورد.. ماء الزعفران.. ماء الباقلاء، هل هو ماء في الحقيقة؟ كلا؛ لأنه ليس ماءً مطلقاً، بل هو كما يقولون: ماء مضاف، والكلام هو في الماء المطلق.

إذاً: ما غلب على اسم الماء وغيَّر حقيقته فإنه يسلب الماء الطهورية.

لماذا سلبه الطهورية حينئذ؟ وهل نفهم من هذا أن الماء ثلاثة أقسام: طاهر، وطهور، ونجس. فهذا سلب الماء الطهورية وحوله إلى ماء طاهر بدلاً من كونه طهوراً؟

سلبه الطهورية لزوال اسم الماء عنه، وليس لأنه تحول من طهور إلى طاهر، لا، ولكنه لم يعد ماءً، وإنما أصبح شيئاً آخر غير الماء: شاياً أو عصيراً أو ما أشبه ذلك.

قال المصنف رحمه الله: [خلق الماء طهوراً]، والطَهور بفتح الطاء، المقصود به صيغة مبالغة من الطهارة، مثل قولهم: السَّحور والوَجور والسَّعوط ونحوها، بفتح الفاء من هذا الاسم، بخلاف ما إذا كانت الفاء مضمومة: الطُّهور والسُّعوط ونحوها، فإنه حينئذ يكون مصدراً على ما هو معروف.

وقوله رحمه الله: (خلق الماء طهوراً) إشارة إلى أن أصل الماء الطهورية، فالماء الطهور هو: الماء النازل من السماء أو النابع من الأرض الباقي على أصل خلقته، فهذا هو الماء الطهور، وهو أصل الماء، فإذا لم يطرأ على الماء يقيناً شيء ينقله عن الطهورية فإنه يبقى على أصله طهوراً، كما قال الله عز وجل: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11]، وكما قال سبحانه: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: ( اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ).

[ خلق الماء طهوراً، يطهر من الأحداث والنجاسات ]. هذا هو الماء الطهور، فما هو الفرق بين الأحداث والنجاسات، ما هي الأحداث وما هي النجاسات؟ أما الحدث فإنه: معنى يقوم بالإنسان يمنع من الصلاة والطواف ونحوهما، هذا هو الحدث، معنى يقوم بالإنسان يمنع من الصلاة ونحوها.

أما النجاسة أو النجاسات -كما ذكر المصنف- فهي: أعيان مستخبثة في الشرع منع الشرع المصلي من استصحابها، فمثلاً: لو أن الإنسان نقض وضوءه بحدث أو ريح أو نحوها، فحينئذ يمتنع عليه أن يصلي حتى يتوضأ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، فهذا يسمى حدثاً، سواء كان حدثاً أصغر يوجب الوضوء، أو حدثاً أكبر يوجب الغسل، هذه هي الأحداث.

وفي الواقع (معنىً)، بمعنى أنها ليست شيئاً عينياً، فالإنسان -مثلاً- إذا أحدث .. إذا نقض وضوءه، هل يوجد على بدن الإنسان شيء حسي يمنع من الصلاة؟ لا يوجد، إنما الذي منعه من الصلاة شيء معنوي، فهذا الشيء المعنوي يسمى حدثاً؛ كالجنابة مثلاً أو الحدث الأصغر.

أما بالنسبة للنجاسات فهي الأشياء الحسية.. عين النجاسة.. عين المستقذر في الشرع؛ كالبول مثلاً هذا يسمى نجاسة، أو الدم النجس أو الغائط أو لحم الميتة أو شحمها.. كل هذه الأشياء هي نجاسات؛ أعيان مستخبثة في الشرع يمنع المصلي من استصحاب حكمها، فالماء يطهر من الأحداث ويطهر من النجاسات.