خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/985"> د. راغب السرجاني . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/985?sub=8342"> سلسلة الصاحب والخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
سلسلة الصديق دروس من حياة الصديق
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم اغفر لنا وارحمنا واهدنا وعافنا وارزقنا واجبرنا وارفعنا، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارضنا وارض عنا، اللهم آتنا الحكمة وثبّتنا، واجعلنا هادين مهديين.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.
أما بعد.
فمع الدرس الأخير من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
ودروس الصديق رضي الله عنه لا تنتهي، ولكن أقصد أن هذه هي الحلقة الأخيرة في هذه المجموعة مجموعة الصديق الصاحب والخليفة.
وقد تحدثنا فيها عن صفات الصديق الرئيسية التي ميزت شخصيته عن الآخرين، وإن كان الحق أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه جمع خلال الخير كلها، وتفوق فيها على غيره، وكان بحق نِعم الصاحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونِعم الخليفة من بعده.
وتحدثنا أيضاً في هذه المجموعة عن مصيبة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكوارث التي أحاطت بالمدينة بعد موته صلى الله عليه وسلم، وكيف خرج المسلمون من هذا المأزق العنيف وهم مستمسكون بشرع الله عز وجل ومحتكمون إلى كتابه وإلى سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وتحدثنا أيضاً عن السقيفة وما دار فيها من أحداث وحوارات.
وتحدثنا عن أرقى عملية انتخاب على وجه الأرض.
وتحدثنا عن مقومات الصديق رضي الله عنه وأرضاه كخليفة، وعن رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلافه وإن كان لمح لذلك ولم يصرّح.
وأخيراً تحدثنا عن الشبهات التي آثارتها بعض طوائف الشيعة، وأثارها المستشرقون والمستغربون بعد ذلك، وفصّلنا في الرد عليها قدر المستطاع.
وبقيت لنا بعض الأمور المتعلقة بهذا الحدث، ولكن آمل أن تكتمل بها الصورة عند الجميع.
وهذه الأمور أربعة:
أولاً: الخطبة التي خطبها الصديق رضي الله عنه وأرضاه في اليوم الثاني لمبايعته، وكيف حدد فيها الصديق رضي الله عنه الخطوط العريضة لسياسته في الحكم.
ثانياً: خطة المحاضرات القادمة، وكيف سنكمّل الحديث عن بقية الجوانب الهامة في حياة الصديق رضي الله عنه.
ثالثاً: سألني بعض الإخوة عن المراجع التي رجعت إليها في هذا البحث، وإن شاء الله ستكون نقطة من نقاط هذه المحاضرة.
رابعاً: الدروس المستفادة من هذا الحدث الكبير، أو من هذه المجموعة بصفة عامة.
ونبدأ بعون الله وفضله في الأمر الأول وهو خطبة الصديق رضي الله عنه يوم أن بايعه العامة في اليوم الثاني لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذه الخطبة على قصرها وإيجازها كانت بليغة وهادفة جداً، ومحددة لسياسة الصديق رضي الله عنه في الحكم، وشارحة للمسلمين وحكامهم الأصول الصحيحة للحكم في الإسلام..
والخطبة فعلاً عجيبة، فقد حوت معاني كثيرة جداً في كلمات قليلة جداً، ولذلك فالخطبة أتت في صورة بيان يلقيه زعيم الأمة في يوم استلامه للحكم، تلا فيه قواعد حكمه القاعدة تلو الأخرى.
قال الصديق رضي الله عنه في خطبته بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله: أما بعد:
أيها الناس! فإني قد ولّيت عليكم ولست بخيركم.
هذه هي القاعدة الأولى في بيان الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهي المساواة بين جميع أفراد الأمة، وأنه ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى، لا فرق بين الحاكم والمحكوم، ولا فرق بين الوزير والجندي، فالكبر مهلك، سواء الكبر في الحاكم أو الهيئة الحاكمة فإنه يُهلك الأمة بكاملها، والرسول صلى الله عليه وسلم عرف الكبر في الحديث فقال: (الكِبر بطر الحق وغمط الناس) بطر الحق: إنكار الحق، وغمط الناس: احتقار الناس، وانظر إلى قوله عز وجل في كتابه الكريم: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:45-47] هذا هو الكبر، فالكِبر: غمط الناس واحتقارهم واستصغار شأنهم، فكانت النتيجة: فَكَذَّبُوهُمَا [المؤمنون:48] وهذا هو بطر الحق، أنكروا الحق لأنه أتى من قبل غيرهم، فكانت النتيجة النهائية والمحصلة النهائية للأمة: فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ [المؤمنون:48].
فالكبر مهلك، والصديق رضي الله عنه وأرضاه يضع قاعدة هامة لكل من تولى أمراً للمسلمين: لا تتكبر، فها هو أعظم رجال الأمة على الإطلاق بعد رسولها صلى الله عليه وسلم بشهادة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم يقول: قد ولّيت عليكم ولست بخيركم.
إذاً: كانت هذه هي القاعدة الأولى الهامة جداً في بيان الصديق .
القاعدة الثانية في بيان الصديق رضي الله عنه: فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني.
وهذه قاعدة هامة أصيلة نتجت عن القاعدة السابقة، فالحاكم والمحكوم كلاهما طرفان في منظومة واحدة تريد الوصول إلى الحق وإلى الصواب وإلى الخير لهذه الأمة، فالحاكم بشر معرض لكل ما يحدث في البشر، ومعرض للاجتهاد المصيب والاجتهاد الخاطئ، ومعرض للرأي السديد وغير السديد، والعلاقة بين الحاكم وشعبه ليست علاقة تنافسية، وليست علاقة تقوم على الحذر والرعب والإرهاب والخوف أبداً، فالعلاقة في الإسلام بين الحاكم والمحكوم علاقة لطيفة جميلة رقيقة، وكل من الطرفين يحب الآخر وكل من الطرفين يخاف على الآخر، فالحاكم إذا اجتهد فأصاب أعانه الشعب بكل طاقته، وإذا اجتهد فأخطأ -وهذا لا شك وارد في الحدوث، بل هو مؤكد الحدوث- فعلى الشعب التوجيه والتقويم والإرشاد، وعلى الحاكم أن يقبل النصح في غير ضجر ولا غضب، فالجميع كما يقولون: في سفينة واحدة، والجميع يريد لهذه السفينة السلامة والنجاة.
كما أن الصديق بهذا الكلام أرسى قاعدة هامة هي قاعدة الشورى، فالحاكم مهما بلغت درجة ذكائه وفطنته وورعه وتقواه فإنه يحتاج إلى الآخرين، ليس فقط للنصح ولكن لأخذ القرار وتنفيذه، ودائماً يجعل الله البركة في الجماعة وفي الشورى، والاجتماع دائماً على الأمر الأقل فضلاً خير من التفرق على أمر فاضل.
كانت هذه هي القاعدة الثانية من قواعد الحكم في بيان الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
القاعدة الثالثة في البيان الصديقي الرائع يقول: الصدق أمانة، والكذب خيانة.
هذه الكلمة ثقيلة جداً في الميزان الإسلامي وتستمد ثقلاً أكبر من كونها تأتي من الصديق رضي الله عنه، والذي كانت حياته كلها تشييداً لمعاني الصدق والوفاء، فيلتقي القول مع العمل فيحدث في القلب يقيناً كاملاً بما يسمع، فالصدق أمانة، والكذب خيانة، وآه من الحاكم الكذاب! فكم من التداعيات الخطيرة تحدث في بلده وفي شعبه نتيجة الكذب، وإن قام الحكم على الكذب والأباطيل والتصريحات الخادعة فلا أمل في القيام، ولا طموح في الصدارة، والمصارحة بين الحاكم وشعبه أساس رئيسي من أسس الحكم في الإسلام، وركن لا بديل عنه لضمان علو الأمة ورقيها.
روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر) أي: فقير يستكبر.
هؤلاء الثلاثة نُزعت منهم مقومات الفساد، ومع ذلك أفسدوا، فالشيخ الكبير يزني، والملك القوي القاهر يكذب، والعائل الفقير الضعيف يستكبر.
القاعدة الرابعة الأصيلة في البيان يقول: والضعيف فيكم قوي عندي حتى أُرجع إليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله.
والصديق هنا يرسي قاعدة في غاية الأهمية في بناء الأمم وفي قيادة الشعوب، وهي قاعدة العدل، فلا تقوم أمة بغير العدل، وابن تيمية له كلمة جميلة في هذا المعنى يقول: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الظالمة ولو كانت مسلمة، وقد ذكر ربنا عز وجل في كتابه الكريم في أكثر من موضع مصير الأمم الظالمة، قال الله عز وجل: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الأنبياء:11]، وقال: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو يضع أيدينا على أمر من الأمور المهلكة للأمم-: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله! لو أن
فلا واسطة في الأمة العادلة، ولا اعتبار لقرابة أو لمنصب أو لسطوة أو لمال أو لملك، فالاعتبار الوحيد هو العدل حتى مع من تكره، قال عز وجل: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].
فـالصديق يعطي درساً لا يُنسى في بناء الأمم، ويضع يده على مقومات الأمة الناجحة، هكذا في بساطة وفي سهولة في هذا البيان العجيب.
القاعدة الخامسة الرائعة في بيان الصديق : لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل.
هذه كلمات تكتب بماء الذهب، قالها بلسانه وصدّقها بعمله رضي الله عنه وأرضاه، فمن أول يوم تولى فيه الخلافة وهو يجعل الجهاد سبيله، ومن أول يوم تولى فيه الخلافة وهو عزيز وأمته عزيزة؛ لأنه لم يعدل عن الجهاد أبداً.
كانت هذه هي أول كلماته عند استلام الحكم، ثم كانت آخر كلماته هي تحفيز عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه على استنفار الناس للجهاد في أرض فارس مع المثنى بن حارثة كما ذكرنا من قبل؛ عمل ذلك لأنه تعلم دروساً لا تقدر بثمن من معلمه ومعلم البشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى أبو داود وصححه الألباني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة -والعينة نوع من الربا- وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع -أي: في زمن الجهاد- وتركتم الجهاد..) ماذا سيحدث للأمة يا رسول الله! لو تركت الجهاد وقالت: نحن سنزرع ونبني؟ قال صلى الله عليه وسلم: (سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم).
فلا بد للأمة الناجحة من أعداء، ولا بد للحق من باطل يحاربه، ولا بد أيضاً للحق من قوة تحميه.. هكذا فقه الصديق ، وهكذا نجحت الأمة في زمانه.
القاعدة السادسة الهامة في خطاب الصديق : ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمّهم الله بالبلاء.
وهذه قاعدة أخرى أصيلة في بناء الأمم: الذنوب مهلكة، وما أكثر ما ربط الله عز وجل في كتابه الكريم بين هلكة الأمم وبين ارتكاب الذنوب، كما قال عز وجل: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ [الأنعام:6] وهذا تمكين كبير جداً، ثم يقول عز وجل: فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام:6] وقد تكررت هذه المقولة كثيراً في كتاب الله عز وجل فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ .
وهكذا لا تقوم الأمة التي تنتشر فيها الذنوب والميوعة والخلاعة والفاحشة، وهذا عام على كل أهل الأرض وبصورة أكبر في أمة الإسلام؛ فقد تظهر الأمة في أعين الناس قوية صلبة منيعة ومع ذلك فالذنوب تنخر في عظامها، حتى إذا أراد الله عز وجل لها الهلكة حدث السقوط المروع والانهيار الكامل، وأصابهم الله بأنواع من البلاء ما خطرت على أذهانهم، ولا مرت ببالهم.
روى ابن ماجه وصححه الألباني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا) فظهرت الأمراض التي لم يكن يُسمع بها قبل ذلك، فظهر الإيدز وغيره من الأمراض التي لم يكن يسمع بها.
القاعدة السابعة والأخيرة في بيان الصديق هي أهم قاعدة في كل البيان، وعلى أساس هذه القاعدة يفرّق بين العدل والظلم، وبين الكبر والتواضع، وبين الصدق والكذب، وبين الجهاد والقعود، وبين الأفعال الحميدة والآثام القبيحة، هذه القاعدة السابعة تحدد المرجعية التي بها نعرّف كل هذه الأمور، أي: أنه أحياناً العدل في رأيي يكون مختلفاً عن العدل في رأيك، والعدل في مقياس أمة قد يكون ظلماً في مقياس أمة أخرى، ما تراه أمة ذنباً قد تراه أمة أخرى فضيلة، فإلى أي شيء نرجع؟ وإلى أي شيء نحتكم؟
يقول الصديق رضي الله عنه وأرضاه في إيجاز: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.
الصديق هنا يحدد ببساطة شديدة المرجعية للحاكم وللأمة، والمرجعية لا تكون إلا لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، أو قل: للكتاب والسنة، هكذا يحدد الصديق مصادر التشريع في أمته، ولا فلاح للأمة في الدنيا أو في الآخرة إلا باتباع الكتاب والسنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
إنها أصول ثوابت تربى عليها الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وخرجت من فمه ببساطة ويسر، ولو تدبرتها لعلمت أن معانيها تحتاج إلى مجلدات ومجلدات، وهكذا انتهت الخطبة الموجزة الرائعة، وانتهى البيان الجليل، ولم يستغرق سوى دقيقتين أو ثلاث.
ولنذكر البيان كاملاً كما قاله الصديق يوم الاستخلاف، وتخيلوا الصديق وهو يقف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة من حوله يستمعون بإنصات: يا أيها الناس! إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع إليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.
فبناء الأمة الإسلامية القوية ليس لغزاً من الألغاز وليس من دروب المستحيل، ولكن الصرح القوي العظيم يحتاج إلى أساس متين، وها هو الصديق يشرح لنا في إيجاز كيف يكون الأساس لهذا الصرح العظيم.
وبعد هذه الخطبة الجليلة وهذه المبايعة المباركة ستبدأ فترة جديدة في تاريخ الأمة الإسلامية، ستبدأ فترة عظيمة بكل ما تحمله الكلمة من معاني، ستبدأ حياة قصيرة جداً في أيامها طويلة جداً في أعمالها، ستبدأ فترة خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، والمدة الزمنية لهذه الفترة هي سنتان وثلاثة شهور فقط، أما الأعمال فلا تكفي القرون لأدائها.
وطبعاً في هذه المجموعة التي نتحدث فيها الآن من المستحيل أن نشرح كل هذه الأحداث، وقد كان الغرض من هذه المجموعة هو التعريف بـالصديق رضي الله عنه وأرضاه، وبيان مكانته وقدره في المنظور الإسلامي، وكان الغرض منها أيضاً هو شرح ما حدث في سقيفة بني ساعدة وما دار حولها من أحداث، وما ورد على ألسنة المستشرقين والشيعة من شبهات، وكيف يكون الرد عليهم، ولم نتعرض في هذه المجموعة لمعظم الأحداث التي تمت في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وليس هذا بالطبع تقليلاً لها ولكن فقط لضيق الوقت، وقد اتفقت مع الإخوة الأفاضل أن ينظموا عدة لقاءات أخرى لشرح ما تم في عهد الصديق رضي الله عنه وأرضاه من أحداث، وقد اتفقنا على جعل ذلك مقسّماً في ثلاث مجموعات من المحاضرات: المجموعة الأولى سنتحدث فيها عن حروب الردة، وسنحاول في هذه المجموعة أن نجيب على التساؤلات الآتية وغيرها إن شاء الله رب العالمين:
لماذا ارتدت جزيرة العرب بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية؟
وما هي الدوافع وراء هذا الارتداد المهول؟
ولماذا اشتهر بيننا أن الردة كانت فقط بمنع الزكاة مع أن مانعي الزكاة كانوا قلة في المرتدين؟
وهل كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه مخالفاً للشورى عندما قرر الحرب ضد المرتدين ولم ينزل على رغبة عموم الصحابة؟ وإن كان مخالفاً فكيف يخالف؟ وإن لم يكن كذلك فما هو التفسير الصحيح لموقفه؟
ولماذا أخرج الصديق 11 جيشاً إسلامياً في وقت متزامن لحرب المرتدين؟
وهل كانت الحكمة تستلزم ذلك، أم كان من الأفضل أن يُخرج جيشاً قوياً واحداً لحرب فريق من المرتدين، فإذا انتهى منه توجه إلى غيره؟
ومن هم القادة الذين اختارهم الصديق لقيادة هذه الجيوش العديدة؟
وما هو موقف خالد بن الوليد من مالك بن نويرة التميمي ومن زوجته؟ وما هي الشبهات التي أُثيرت حول هذا الموقف؟ وما هو الرد عليها؟
وكيف بدأ طليحة بن خويلد حياته مدعياً للنبوة ثم انتهى شهيداً في سبيل الله؟
ومن هو مسيلمة الكذاب ؟ وكيف تبعه الناس مع سفاهة كلامه؟
ومن هو الصحابي الذي ارتد وارتد بردته أربعون ألفاً؟
ومن هي سجاح المرأة التي ادعت النبوة؟ وكيف سار وراءها مائة ألف رجل؟ وكيف هُزمت دون قتال؟
وما هو المهر الذي عُرض عليها من مسيلمة ليتزوجها ووصف بأنه أسوأ مهر في التاريخ؟
وما سر هزيمة الجيش الإسلامي الثاني والثالث؟ وكيف انتصر الجيش الإسلامي الأول في معاركه كلها؟
وكيف قُلبت هزيمة الجيش الثاني والثالث إلى انتصار؟
وكيف انتصر الجيش السابع بالدعاء؟
وكيف ثبتت مكة على الإسلام بعد أن كانت على حافة الردة؟
ولماذا لم ترتد القبائل في شمال الجزيرة العربية مع قوتها ورغبتها في الارتداد؟
وما هي دلائل النبوة في ثبات هذه القبائل؟
ومن هو الأسود العنسي ؟ وكيف قتل في اليمن؟ وكيف وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في ساعة قتله والمسافة بين المدينة واليمن تزيد عن 1000 كيلو متر؟
وما هي تفاصيل أشرس موقعة في التاريخ الإسلامي موقعة اليمامة؟
وكيف حارب رجل مسلم بمفرده أربعين ألف مرتد؟
ومن هو الفجاءة ؟ ولماذا أمر الصديق بحرقه حياً؟
وكيف انتصر الجيش الثامن على مرتدي عمان مع كثرتهم؟ وما هي الحيلة الذكية التي قام بها الجيش التاسع لقمع الردة في حضرموت؟
وكيف أدار الصديق حروب الردة بعبقرية السياسي وبأخلاق الداعية؟
وأخيراً كيف خرجت الأمة الإسلامية من هذه الحروب الضارية أشد قوة وأقوى بأساً وأثبت قدماً؟
وكيف وضعت الأمة الإسلامية أقدامها على أول طريق المجد؟
وكيف ظهر المسلمون كقوة عالمية جديدة لا يثبت أمامها أحد؟
هذه التساؤلات وغيرها سنرد عليها -إن شاء الله- في المجموعة القادمة.
المجموعة الثانية من المحاضرات الخاصة بخلافة الصديق رضي الله عنه ستتحدث عن بدء الفتح الإسلامي لدولة فارس الكبرى.
وسنتحدث فيها -إن شاء الله- عن العمليات العسكرية الفذة للقائد الإسلامي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه، والتي نتج عنها فتح العراق بكامله تقريباً في عام واحد فقط، وسنتحدث فيها عن تفاصيل كل موقعة من المواقع الخمس عشرة التي قادها سيف الله المسلول خالد بن الوليد والذي لم يُهزم في واحدة منها.
وسنذكر ما هي الخطة العبقرية التي خطها الصديق على الرمال، وكانت سبباً في كسر شوكة فارس؟
ومن هو الرجل الذي يساوي عند الصديق ألف رجل؟
وما هو نهر الدم؟
ولماذا هدم خالد بن الوليد رضي الله عنه مدينة أمغشيا؟
وكيف فُتحت الحيرة؟ وما هي دلائل النبوة في فتحها؟
ولماذا سُمّيت موقعة الأبلة بذات السلاسل؟ ولماذا سميت موقعة الأنبار بذات العيون؟
وكيف تم فتح الحصن المنيع في عين التمر؟
ومن هو الذراع اليمنى لـخالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه في هذه المعارك؟ وكيف ورث عن خالد حكمته وعبقريته وخططه بعد ذلك؟
وغير ذلك من المواقف والأحداث والمعارك التي لا يتّسع المجال الآن لذكر ملخصها.
المجموعة الثالثة من المحاضرات الخاصة بخلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه ستكون عن فتوح الشام.
سنتحدث فيها عن قرار الصديق العجيب بتحريك الجيوش الإسلامية لفتح الشام في وقت متزامن مع فتح فارس، وكيف أخذ الصديق هذا القرار بعد خمسة شهور فقط من تحرك الجيوش الإسلامية لفتح فارس؟
ولماذا أخرج الصديق أربعة جيوش لفتح الشام؟ ومن كان على رأس هذه الجيوش؟
وما هي الوصايا الثمينة التي علمها الصديق لجيوشه؟
وسنتحدث أيضاً عن الهزيمة المفاجئة للمسلمين في أوائل الفتوح في موقعة مرج الصفّر، ثم كيف خطط الصديق لاستعادة زمام الأمور في الشام؟
وسنتحدث أيضاً عن صحراء السماوة المهلكة، وكيف عبرها البطل الإسلامي العجيب خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه؟
وسنتحدث أيضاً عن المواقع الإسلامية الخالدة التي تمت في زمن الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وعلى رأسها موقعة أجنادين، ثم بيسان، ثم الموقعة الإسلامية العظيمة اليرموك.
وما هي أبعاد العلاقة بين الصديق وبين خالد بن الوليد ؟ وبين الفاروق عمر وبين خالد بن الوليد رضي الله عنهم أجمعين؟
ولماذا أصر عمر بن الخطاب على عزل خالد ؟ وما هو موقف خالد ؟ وما هو موقف القائد الجديد أبي عبيدة بن الجراح ؟ وما هو موقف الجيش الإسلامي؟ وكيف عكس هذا الموقف صورة من أرقى صور الحضارة في التاريخ؟
وكيف انتصر المسلمون في موقعة اليرموك بأقل من أربعين ألفاً من الأبطال ضد أكثر من مائتي ألف رومي؟
وما هي تفاصيل الموقعة الخالدة؟ وما هي تبعاتها؟
وكيف كان حال الأمة الإسلامية عند تسلم الفاروق رضي الله عنه لمقاليد الحكم بعد الصديق رضي الله عنه؟
وبهذا نكون قد تحدثنا عن معظم أعمال الصديق رضي الله عنه وأرضاه في هذه السلاسل الأربع.
والسلسلة التي بين أيدينا الآن هي سلسلة الصديق الصاحب والخليفة، والثلاث السلاسل القادمة: حروب الردة، وفتح العراق، وفتح الشام.
ومع ذلك فوالله! إنه من المستحيل أن نوفي هذا الرجل حقه في التكريم والتبجيل، فكل ما ذكرناه هو ملخّص لطرف من حياته، ولست مبالغاً في قولي: إن دراسة كل يوم من أيام الصديق رضي الله عنه تعتبر أمراً حتمياً لفهم كيف يصلح المؤمنون في الدنيا والآخرة، ولفقه كيف تكون الأمم، وكيف تُصنع الحضارات.. وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول فيما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إن
النقطة الثالثة في المحاضرة: أحد الإخوة كان يسأل عن أهم المراجع التي رجعت إليها في هذا البحث في قضية استخلاف أبي بكر الصديق وفي التعريف بـأبي بكر الصديق بصفة عامة.
وفي الحقيقة المكتبة الإسلامية عامرة بالبحوث القيمة والدراسات الرائعة التي تتحدث عن الصديق رضي الله عنه وأرضاه وعن بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وكل ما نحتاجه هو أن نفرغ وقتاً مناسباً لدراسة هذه التفصيلات، وأن نعمل بما علمناه عن الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا البحث جاءت فيه آيات قرآنية كثيرة استعنت في تفسيرها غالباً بكتب ابن كثير والقرطبي والظلال، واستعنت ببعض التفاسير الأخرى في مواقف متفرقة.
ومن أهم المراجع في هذا البحث الكتب التي شرحت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك أحاديث كثيرة للرسول صلى الله عليه وسلم ومواقف متعددة للصديق رضي الله عنه وأرضاه جاءت في كتب الحديث، جاءت في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم وفي سنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجه ومسند الإمام أحمد بن حنبل وسنن البيهقي وموطأ مالك وغيرها.
وأهم الشروح التي رجعت إليها هي فتح الباري في شرح صحيح البخاري لـابن حجر رحمه الله، وهو من أهم المصادر لحياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، مع أن البحث فيه متعب قليلاً ما؛ لأنك تضطر أن تبحث بحثاً كاملاً عن كل الأحاديث التي جاءت في حق أبي بكر الصديق ثم تنظر إلى الشرح في هذه الأحاديث مفرقة بين كل صفحات الكتاب، لكنه من أروع ما كُتب عن الصديق ومن أوثق ما كُتب عن الصديق وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً شرح النووي لصحيح مسلم ، وأيضاً عون المعبود في شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي ، وأيضاً تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي لـعبد الرحمن مباركفوري .
ومن المراجع الهامة أيضاً في هذا البحث كتاب البداية والنهاية لـابن كثير ، والكتاب الذي رجعت إليه كان بتحقيق الأستاذ أحمد عبد الوهاب ، وكتاب الكامل في التاريخ لـابن الأثير ، وهناك أيضاً كتاب التاريخ الإسلامي للأستاذ المحقق محمود شاكر رحمه الله، وهو كتاب قيّم يتحدث عن التاريخ الإسلامي من أول عهد الخلفاء وحتى آخر عهد الدولة العثمانية.
وأيضاً رجعت إلى كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي ، وكتاب منهاج السنة لـابن تيمية رحمه الله، وهو كتاب هام في الرد على شبهات الشيعة، كذلك أيضاً كتاب العواصم من القواصم لـابن العربي ، وهو أيضاً للرد على الشبهات، وهناك أيضاً كتاب للرد على الشبهات وهو كتاب أباطيل يجب أن تُمحى من التاريخ للدكتور إبراهيم شعوط .
كذلك استعنت بمجموعة ضخمة من الكتب التي تحدثت عن الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ومن هذه الكتب كتاب: أبو بكر الصديق شخصيته وعصره للدكتور الصلابي ، وهو كتاب طيب جداً ومنظم ومرتب.
ومنها كتاب عبقرية الصديق للعقاد استفدت منه بعض التعليقات على بعض المواقف في حياة الصديق .
وأيضاً أخذت بعض التعليقات من كتاب استخلاف أبي بكر للدكتور جمال عبد الهادي .
وكذلك استفدت من مجموعة هامة من الكتب التي تحدثت عن حياة الخلفاء الأربعة مثل كتاب: الخلفاء الراشدون للدكتور عبد الوهاب النجار رحمه الله، وكتاب إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء للشيخ محمد الخضري .
وأيضاً أخذت ما ذُكر عن الصديق في الكتب التي تحدثت عن عموم الصحابة، مثل كتاب صفة الصفوة لـابن الجوزي وكتاب حياة الصحابة للكاندهلوي .. وغير ذلك من الكتب.
وكتب السيرة في غاية الأهمية في هذا الموضوع، وأهم الكتب التي رجعت إليها من كتب السيرة النبوية الرحيق المختوم للمباركفوري والسيرة النبوية لـابن هشام ، وكتاب الأساس في السنة، وهذا كتاب في الحقيقة في منتهى الروعة فهو كتاب قيم جداً ومحقق للأستاذ سعيد حوى رحمه الله.
بالإضافة إلى كتب الفقه والأحكام حسب الحاجة، مثل كتاب الأحكام السلطانية للماوردي ، ونيل الأوطار للشوكاني .
وهناك مواقف أخرى عابرة للصديق أخذتها من كتب الرقائق والأخلاق والعقيدة والسياسة الشرعية.. وغيرها.
هذه كانت أهم المراجع التي رجعت إليها في هذا البحث، ولا شك أن هناك المئات من الكتب القيمة التي تحدثت عن الصديق في المكتبة الإسلامية، وأنا لم أغفلها إهمالاً لها أو تقليلاً من شأنها ولكن فقط لضيق الوقت.
إلى هنا نكون قد انتهينا من ثلاث نقاط وهي:
النقطة الأولى: كانت عن خطبة الصديق رضي الله عنه.
النقطة الثانية: كانت عن المحاضرات التي ستأتي عن الصديق رضي الله عنه وأرضاه في المجموعات القادمة.
النقطة الثالثة: كانت عن المراجع.
ونأتي إلى النقطة الرابعة وهي من أهم النقاط في هذه المجموعة بكاملها وهي: الدروس المستفادة من هذه المجموعة، لا شك أن كل الحضور لهم تعليقات كثيرة واستنبطوا دروساً علمية، ودروس الصديق -كما قلنا- لا تنتهي فعلاً، لكن هنا لضيق الوقت فقط أشير إلى بعض الدروس والتعليقات، وأترك المجال لكم للزيادة عليها حسب ما رأيتم، وأسأل الله عز وجل أن ينفعنا وينفعكم بما علمناه من حياة هذا الرجل الجبل، ومن دراسة هذا الحدث الجليل، حدث استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقصة سقيفة بني ساعدة.
أعددت لكم من هذه الدروس والتعليقات عشرة دروس:
فلاح الأمة ونجاحها في اتباع الكتاب والسنة
الدرس الأول: لا فلاح ولا نجاح لهذه الأمة في الدنيا والآخرة إلا باتباع القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49] وهذا تحذير واضح عن التفريط في أي جزئية من جزئيات الشرع الإسلامي.
وقد سار الصحابة رضوان الله عليهم على هذا النهج ولم يخالفوا، ولذلك سبقوا ونجحوا.
ولا معنى لاتباع القرآن دون اتباع السنة، فالصحابة ما كانوا يفرقون بين حكم جاء في كتاب الله وحكم جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما دام قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن المؤكد أنه لن يتعارض مع القرآن، ومن المؤكد أنه سيكون وحياً من الله عز وجل، قال عز وجل: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].
فالسنة مفصلة لما أجمله القرآن الكريم، والسنة مقيدة لما أطلقه القرآن الكريم، والسنة شارحة لما خفي عن الناس من أحكام القرآن الكريم، بل وأحياناً تأتي في السنة أحكام ليست في كتاب الله عز وجل، والمسلمون مأمورون باتباعها كاتباع القرآن الكريم تماماً بتمام.
وعلى سبيل المثال رأينا في هذه المجموعة اتباع الصديق رضي الله عنه وأرضاه لكل أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، رأينا اتباعاً دقيقاً في كل خطوة، ورأينا إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما مع تعارضه مع عقول بعض الصحابة، لكن إذا أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فلابد أن الخير سيكون في تنفيذه، ورأينا اتباعه لأمره في صلح الحديبية مع اختلاف حسابات البشر عن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم رأينا بعد ذلك كيف كان الخير في ذلك الأمر.
ورأينا في السقيفة كيف انصاع الأنصار لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) وهو ليس من القرآن، لكن الصحابة ما كانوا يفرقون بين قرآن ولا سنة، فالقرآن والسنة مصدران متكاملان للتشريع، ولو ترك المسلمون أحدهما فإنهم سيضلون لا محالة.
جاء في موطأ الإمام مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم).
شمول الدين الإسلامي
الدرس الثاني في هذه المجموعة: أن هذا الدين ليس -كما يعتقد البعض- صلاة وصياماً وإيماناً بالله واليوم الآخر فقط، بل الإسلام دين متكامل يهتم بكل جزئية من جزئيات الحياة صغرت أو كبرت.. فالإسلام فيه شمول عجيب، لا يفسر إلا بكون هذا الدين نزل من لدن عزيز حكيم، وأنه دين يختلف كلية عن تشريعات الأرض والبشر، قال عز وجل: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38].
جاء في صحيح مسلم أنه دار بين أحد المشركين وبين سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه حوار، وجاء فيه تعجُب المشرك من أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم المسلمين كل شيء حتى دخول الخلاء! هكذا يقول المشرك لـسلمان الفارسي ، وفعلاً الرسول صلى الله عليه وسلم علمهم العقيدة والعبادة والمعاملات بينهم وبين بعضهم، وبينهم وبين الآخرين، وعلمهم القتال، وعلمهم السياسة، وعلمهم التجارة.. وعلمهم كل فن من فنون الحياة، ثم هو يعلمهم كل شيء في أدق دقائق حياتهم، يعلمهم كيف يكون الرجل في بيته، وكيف يتعامل مع زوجته وأولاده؟ وكيف يتعامل مع والديه وإخوانه وخدّامه؟ وكيف يأكل؟ وكيف يشرب؟ وكيف يغتسل؟ وكيف ينظّف نفسه؟ وكيف يهتم بجسده وهيئته؟
كل هذا أمر لافت للنظر جداً، وقد خاب قوم وخسروا حين قصروا الدين على بعض العبادات فقط وقالوا: دع ما لـقيصر لـقيصر وما لله لله!!
فنقول: أبداً، بل كل شيء في حياتنا يجب أن يكون لله عز وجل أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54].
ففي هذه المجموعة رأينا كيف اجتمع الصحابة في نضوج كامل ووعي دقيق يدبرون أمر دولتهم ويختارون زعيمهم على طريقة الكتاب والسنة، ويسمعون له ويطيعون بشرط اتباع الكتاب والسنة، ويديرون حياتهم بكاملها في ضوء الكتاب والسنة، هؤلاء الأطهار الذين اشتُهروا بطول القيام والصيام والذكر وقراءة القرآن وجدناهم يحكمون دولتهم، ثم يحكمون الأرض بعد ذلك في حكمة واقتدار، ورأينا هذا الرجل العجيب الصديق رضي الله عنه وأرضاه الذي كان معتاداً على الصيام وعلى عيادة المرضى وعلى شهود الجنائز وعلى إطعام الفقراء رأيناه يقف على المنبر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد أن بايعه الناس يخطب خطبة متوازنة رائعة بليغة حكيمة، يرسم فيها بوضوح خطوط سياسته وبرنامجه في الحكم.
ثم وجدناه بعد ذلك يعقد مجالس الحرب، ويسير الجيوش، ويفتح البلدان، ويجمع الخراج، وجدناه يضع الخطط العجيبة والتدابير المحكمة في حروبه مع المرتدين، ثم مع فارس والروم بعد ذلك.
وجدناه يهتم ببيت المال وتفيض الخيرات في زمانه على الناس مع كونه في معارك هائلة منذ أن تولى الخلافة وحتى مات، لكنه ترك اقتصاد بلده منتعشاً عظيماً متفوقاً على غيره.
وجدناه مع كل هذا التفوق في مجالات السياسة والحرب والاقتصاد والدعوة والمراسلات والوفود وجدناه لا ينسى أحداً من رعيته.
وجدناه ينزل بنفسه ليرعى العجوز العمياء في بيتها، ويكنس حجرتها ويعد طعامها.
وجدناه يحلب الشاة للضعفاء.
وجدناه ما زال عائداً للمريض متّبعاً للجنازة واصلاً للرحم، مهتماً بأولاده وزوجاته، عطوفاً حنوناً على خدمه.. فأي شمول؟ وأي كمال؟
وإن كنا رأينا في هذه المجموعة أن الصديق رجل عظيم فأعظم منه ذلك الدين الذي صنع من الصديق صدّيقاً، وأعظم معجزات الإسلام هي بناء الرجال وبناء الأمم، وفي أزمان قياسية ها هي القبائل البدوية المتفرقة والمشتتة والمتحاربة تكون في سنوات معدودات دولة حضارية عظيمة تحكم الأرض بقوانين السماء.
فشمول الإسلام وكماله درس لا يُنسى من دروس التاريخ الإسلامي، قال عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
الشورى في حياة المسلمين
الدرس الثالث والهام في هذه المجموعة: هو قضية الشورى في حياة المسلمين.
والشورى ليست أمراً جانبياً في حياة المسلمين، ولما وصف الله عباده المؤمنين في كتابه كان من صفاتهم الرئيسية: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38].
وقد رأينا كيف اجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة في اجتماع من اجتماعات الشورى الرائعة يقارعون الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، والدليل بالدليل.. فإذا اجتمعوا على رأي واتفقوا عليه كان هذا الرأي هو رأي الجماعة الذي لا يُتّبع غيره ولا يُعلن سواه.
وما سمعنا عن رجل خرج من السقيفة وقال: لقد اتفقوا على كذا وكذا بينما كان رأيي كذا وكذا، أو قال: رأيي كان صواباً ولم يأخذوا به.
فالمسلمون بعد الشورى لا يحدثون جيوباً داخلية داخل صفهم، وما سمعنا عن رجل خرج من السقيفة يقول رأياً مخالفاً لما اتفق عليه المسلمون بعد الشورى، وهذا هو عين الصواب.
وأيضاً هناك نقطة أخرى هامة جداً في موضوع الشورى وهي: أن الشورى لا تكون في الأحكام التي جاءت من الله عز وجل أو من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وهذا فرق هائل بين الديمقراطية والشورى.
فالديمقراطية كنظام يقوم على احترام آراء الأغلبية لا شك أنه نظام طيب بهذه النقطة، ويُعتبر من أفضل نظم الحكم في العالم الآن، لكن هناك فارق خطير بينها وبين الشورى وهو المرجعية، فنحن في شرعنا نرجع دائماً إلى الكتاب والسنة، وهم في الديمقراطية يرجعون إلى حكم الشعب فقط، ونحن في شرعنا لا يجوز أن يجتمع الشعب على ما يخالف حكم الله ولا حكم رسوله، وقد رأينا في السقيفة أن الأنصار تم استثناؤهم بالكامل من الترشيح للخلافة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش)، مع أن الأنصار كانوا يملكون من الحجج والأدلة والبراهين ما يكفي للنقاش والجدال، بل والصراع لشهور وسنوات، ولكن إذا كان الله قال أو إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قال فلا مجال إلا للطاعة، ولا مكان للشورى في هذا الرأي.
إذاً: درس الشورى في هذه المجموعة من أعظم الدروس المستفادة.
اتباع الشرع سعادة في الدنيا والآخرة
الدرس الرابع: هو أن اتباع الشرع لا يضمن سعادة في الآخرة فقط بل يضمن أيضاً سعادة في الدنيا.
فأي الشعوب أسعد: الشعب الذي تتصارع فيه الفرق المختلفة على سلطة وحكم وسيطرة، أم هذا الشعب الذي رأيناه في المدينة المنورة وهو يخرج مطمئناً راضياً سعيداً بالاختيار مع أنهم يمرون بكارثة ضخمة وهي وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي؟
فاتباع الشرع يورث في القلب اطمئناناً إلى جوار الله عز وجل، وإلى دفاع الله عن المؤمنين، وهذا ولا شك يورث في القلب سعادة.
واتباع الشرع يزرع في القلب الرضا بما قسمه الله عز وجل، والرضا بما حكم الله عز وجل، والرضا بما أمر به الله عز وجل، وهذا الرضا لا شك يورث في القلوب سعادة.
واتباع الشرع يرسّخ مشاعر الأخوة والألفة والمودة بين المسلمين، ولا شك أن هذا المجتمع المتحاب في الله مجتمع سعيد.
واتباع الشرع يكون سبباً في أن تحل البركة؛ البركة في المال، والبركة في الأرض، والبركة في الجيش، والبركة في الأولاد، والبركة في كل الأعمال، فتجد بركات كثيرة تنهمر على الأمة المتمسكة بكتاب ربها وسنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
أخي في الله! لو رأيت انهياراً في الاقتصاد، وضعفاً في الجيوش، وانحلالاً في الأولاد، وبواراً في الأرض، واحتقاراً من كل صغير وكبير، ومن كل قليل وكثير فاعلم أن هذا عقاب من الله عز وجل، قال عز وجل: وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
فطريق النجاح والرفعة والقوة والصدارة في الدنيا واضح ومعروف، قال عز وجل: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح:10]ماذا يحدث لو عدنا إلى ربنا واستغفرناه على ذنوبنا وتمسكنا بشرعنا؟ هل سيدخلنا ربنا عز وجل الجنة ويمتعنا في الآخرة فقط؟ لا، بل هناك شيء أقرب وجائزة سريعة، قال عز وجل: يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:11-12] كل هذا في الدنيا، وفوقه وأعظم منه نعيم الآخرة، فما أكرمه من إله! وما أحكمه من شرع!
اختيار الله عز وجل لصحابة نبيه صلى الله عليه وسلم
الدرس الخامس: هو أن الله عز وجل كما اختار نبيه محمد صلى الله عليه وسلم للرسالة فقد اختار هذا الجيل الذي عاصره للصحبة، وعلى قدر هذا الاصطفاء الجليل يجب أن يكون تقديرنا لهذا الجيل، وليس أبداً كما يقول بعض من قل أدبهم وانعدم حياؤهم: هم رجال ونحن رجال!
فهم جيل اختاره الله لحمل الأمانة ولتوصيل الرسالة، ولتعليم الأمة ولنشر الدين، فكما اختار الله عز وجل جبريل عليه السلام لينزل بالرسالة على محمد صلى الله عليه وسلم، واختار الرسول صلى الله عليه وسلم ليبلغ الناس بما أراده الله فإنه اختار هؤلاء الأصحاب لكي يسمعوا ويفهموا ويستوعبوا ويتحركوا بهذه الكلمات وهذه الأفعال التي نقلوها عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فخرج هذا الجيل كأرقى ما تكون الأجيال، وصُنع هذا الجيل على عين الله عز وجل، فهم ليسوا كغيرهم من البشر.
روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).
وروى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) والمد: ملء الكفين، فلو أن أحدنا ينفق مثل جبل أحد من الذهب فإنه لا يساوي إنفاق أحد الصحابة مثل ملء الكفين فقط، هذا قدرهم وهذه مكانتهم.
وقال الله تعالى في حقهم: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].
وطبعاً ليس من المعقول أننا في هذه العجالة سنوفي حق الصحابة، ولكن إن شاء الله أننا سنخصص محاضرة كاملة في ذكر فضل الصحابة، وسنذكرها في مجموعة الفتنة الكبرى بإذن الله، وأسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذلك.
بيان كون الصديق أعظم الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم
الدرس السادس: هو أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو أعظم رجال هذه الأمة على الإطلاق بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو أعظم أهل الأرض جميعاً بعد الأنبياء، ومن الواضح أننا لم نوف حقه بعد.
ومن الواضح أيضاً أن جل المسلمين لا يعرفون كثيراً عن حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقد يكون ذلك لقصر مدة حكمه رضي الله عنه، ولكن هذا ليس مبرراً أبداً لغفلتنا عن سيرة حياة هذا العملاق.
وقد تعرضنا في هذه المجموعة لجوانب محدودة في حياته رضي الله عنه، ولكنا رأينا فيها العجب، فكيف بنا بعد أن نعلم خطواته في حروب الردة وفارس والشام؟
لا شك أن دراسة تاريخ الصديق وأمثاله من عظماء المسلمين ستضرب أروع القدوات لنا ولأبنائنا من بعدنا، وخاصة أننا في زمان لا تعدو فيه قدوة كثير من أبنائنا على أن تكون لمطرب شرقي أو غربي، أو لكاتب علماني، أو لرجل لا يملك من مقومات النباهة إلا المال.
فماذا يعرف أبناؤنا عن الصديق ؟
وماذا يعرفون عن عمر وعن عثمان وعن علي رضي الله عنهم أجمعين؟
وماذا يعرفون عن حمزة وعن خالد وعن القعقاع وعن الزبير ؟
وماذا يعرفون عن موسى بن نصير وعن يوسف بن تاشفين وعن نور الدين محمود وعن صلاح الدين الأيوبي ؟
لا يكفي هنا أن يعرف اسمه وسطراً عن حياته أبداً، بل نريد معرفة كاملة لمناهج هؤلاء في حياتهم، وكيف وصلوا إلى أعلى درجات المجد في الدنيا؟
ونسأل الله عز وجل أن يكونوا جميعاً من أهل الجنة، ولا شك أن تاريخ هؤلاء الأبطال سيكون خير معين لنا على إصلاح أنفسنا ومجتمعاتنا.
أهمية دراسة التاريخ الإسلامي
الدرس السابع: دراسة التاريخ بصفة عامة والتاريخ الإسلامي بصفة خاصة تعتبر من الأساليب التي يتحتم على المسلمين أن يأخذوا بها إذا أرادوا القيام من جديد، وإذا رغبوا في إصلاح ما فسد من أحوالنا.
وكما ذكرنا من قبل فإن الله عز وجل جعل قريباً من ثلث كتابه العظيم القرآن قصصاً وتاريخاً، ولا شك أن هذا هو الأسلوب الأمثل لتربية الناس، ولابد أن تشتمل مناهجنا التربوية على جوانب ضخمة من التاريخ، فثلث المناهج يجب أن يكون تاريخاً، ولابد أن نقدمه بصورة شيّقة لطيفة يقبلها الصغير والكبير، ويقبلها الرجل والمرأة، ويقبلها المتخصص والعامي.
ولابد أيضاً أن ندرس التاريخ بأسلوب هادف يقوم بالأساس على استخلاص العبرة وعلى تربية الشعوب، قال عز وجل: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111] فلا يكفي أن نسرد الأحداث سرداً، بل لابد من تحليل كل نقطة، ولابد من استعراض تفاصيل كل موقف، ولابد من الوقوف على المسببات والنتائج، ولابد من ربط التاريخ في أي فترة من فتراته بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم، ولابد أيضاً من ربط التاريخ بواقعنا المعاصر، فعندها يصبح التاريخ حياً ينبض يُصبح التاريخ دليلاً يقود إلى المستقبل، ويُصبح التاريخ واقياً من الوقوع في الزلات والعثرات، ويُصبح أيضاً دافعاً للقيام بعد النكبات والسقطات.
هذا هو التاريخ الذي نريده، ولا نريد أن نقف في التاريخ على توافه الأمور وسفاسفها، بل نريد التاريخ الذي ينبني عليه عمل، ويستخرج منه عبرة، ويُهتدى بدراسته إلى طريق.
سنة الله عز وجل في وجود أعداء للدين إلى قيام الساعة
الدرس الثامن: أنه سيظل لهذا الدين أعداء إلى أن تقوم الساعة، وهذه سنة من سنن الله عز وجل، وسيظل الصراع بين الحق والباطل، وسيظل التزييف والتزوير والتحريف والتبديل من أقوى أسلحة الباطل، ولا يُعذر المسلمون الصادقون بالجهل في مثل هذه المواطن.
وهذه حرب صريحة معلنة ولا بد من الاستعداد لها، فكما زوروا وحرّفوا لابد أن يوجد من يصحح ويعدل، فتشويه الإسلام يحدث من أول أيام البعثة النبوية الشريفة، فقد قال الكافرون على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أقوالاً ما كانوا هم أنفسهم يصدّقونها، قالوا: ساحر، وقالوا: كاهن، وقالوا: شاعر، وقالوا: مجنون، لكن كان التوضيح والتعديل والتبيين مسايراً لهذا التزوير، بل ومتفوقاً عليه، فوقف الإسلام على قدميه، ومرت الأيام ودارت دورات التاريخ وظهر من يطعن في نزاهة الصحابة وفي أصول الدين، ظهرت فرق كثيرة ضالة أشاعت أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، وتصدى لها من المسلمين علماء أجلاء دافعوا عن الدين، ودافعوا عن رجاله، ثم ظهرت حركة الوضع في الأحاديث النبوية والافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعمّد الكذب عليه فظهر علماء الجرح والتعديل، وظهر علم الرجال، ونخلوا الأحاديث نخلاً.. فصححوا الصحيح، وحسّنوا الحسن، وضعّفوا الضعيف، واستبان المسلمون بذلك أمرهم، واهتدوا إلى الصراط المستقيم.
ثم ها هي حملة الاستشراق وحملة العلمانية وحملة الجهّال الذين يتكلمون في الدين بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ها هي تتناول تاريخ الإسلام ورجال الإسلام ودين الإسلام بكل ما هو قبيح وشنيع، ولابد للمسلمين الصادقين من وقفة كوقفة أسلافهم، فالدفاع عن تاريخ الإسلام وعن رجال الإسلام دفاع عن الدين، وعلى قدر جهد وفكر وإنفاق وإعداد المحاربين لهذا الدين لا بد أن يكون جهد المسلمين أو يزيد، ليس هذا هو جهد العلماء فقط، بل هو جهد الآباء والمدرسين وأساتذة الجامعات وأئمة المساجد والدعاة إلى الله عز وجل، والمتعلمين بصفة عامة، قال صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية)، وقال: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها فرب مبلّغ أوعى من سامع)، وقال: (من كان عنده علم فليظهره، ومن وصل إليه علم فليصل به إلى غيره)، قال عز وجل: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
عظم مقام الخلافة
الدرس التاسع: أن مقام الخلافة مقام عظيم.
رأينا اهتمام الصحابة بأمر الخلافة بصورة لا يتخيلها العقل، فمصيبة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أعظم مصيبة مرت بهم وبأمة الإسلام، ومع ذلك فإن هذه المصيبة على فداحتها لم تثنهم عن اختيار الخليفة في نفس اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل سعيد بن زيد رضي الله عنه: متى بويع أبو بكر ؟ قال: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة.
فانظر إلى فهم سيدنا سعيد بن زيد رضي الله عنه وقوله: كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة.
فالفرقة من أشد عوامل انهيار الأمم، وإنها طامة كبرى أن تتفرق الأمة الإسلامية إلى أكثر من ستين جزءاً، فمنذ أن أسقط الغرب واليهود الخلافة العثمانية وهم يزرعون في أعماقنا عن طريق التعليم والإعلام أن التجمع الأمثل للناس لا يكون إلا على أساس القوميات: عربي وكردي وبربري وباكستاني.. وغيره، ثم العرب: مصري وسوري وسعودي وأردني وفلسطيني.. وهكذا، والأصل الذي نسيه المسلمون أن التجمع في الإسلام لا يكون إلا على الإسلام.
وقد رأينا في هذه المجموعة كيف تجمع المسلمون من قبائل شتى ومناطق مختلفة على رباط واحد فقط، وهو رباط العقيدة والإسلام، مع أنهم كانوا قريبي عهد بجاهلية، وقريبي عهد بقبلية، لكن لا تصلح هذه الأمة بغير هذا، ونحن مع أننا مكثنا قروناً نتجمع على الإسلام إذا بنا نُصاب بغزو فكري في سنوات معدودات فيُهدم في داخلنا صرح بناه الأقدمون بجهد وعرق ودماء.
روى الإمام مسلم والنسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه -واللفظ هنا لـمسلم - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية).
قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: إنه مات على صفة أهل الجاهلية من حيث هم فوضى لا إمام لهم، فأهل الجاهلية هكذا فوضى لا إمام لهم.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن قاتل تحت راية عمّية) (أو عُمّية) والروايتان صحيحتان، قال أحمد بن حنبل رحمه الله يفسّر كلمة عمّية أو عُمّية: هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، أي: الرجل الذي لا يدري لأي سبب يقاتل ولأي هدف يقاتل، ثم يكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (ومن قاتل تحت راية عمّية يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية) أي: أن القتال للقومية والعصبية والعائلة والقبيلة وليس للإسلام ما الذي سوف يحدث لمن يقاتل من أجل هذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فقُتل فقتلة جاهلية) نسأل الله العافية، ونسأل الله عز وجل أن يجمع المسلمين تحت راية واحدة راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.
دور التربية في بناء الأمم والشعوب
الدرس العاشر والأخير: دور التربية في بناء الأمم والشعوب.
لا أعتقد أن أحداً من الممكن أن يقبل بما حدث في السقيفة إلا إذا كان على درجة عالية راقية من التربية، فالجهد الضخم الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية هذا الجيل سواء في فترة مكة أو في المدينة لم يصبح هباء منثوراً بموته صلى الله عليه وسلم أبداً، فمعجزة هذا الدين هي بناء الرجال، وليس من السهل أبداً أن يتنازل رجل مثل سعد بن عبادة عن الخلافة وهو يقف في عشيرته وسقيفته ومدينته، وليس من السهل أن يفزع الفاروق من الخلافة فيبعدها عنه إلى الصديق رضي الله عنه، وليس من السهل أن يتمنى الصديق رضي الله عنه أن لو حمل الأمر رجل غيره وكفاه تبعات الأمانة الثقيلة، وليس من السهل أن يتسابق الأنصار على بيعة قرشي، وليس من السهل أن يقبل أهل المدينة جميعاً وأهل الإسلام جميعاً برجل واحد دون اعتراض ولا تمرد.
هذا كله نتاج تربية، ولن يأتي هذا من فراغ ولن ينزل عليهم الورع فجأة.
وإذا أردنا أن نكون مثلهم فلابد من تربية جيل يعرف قيمة الدنيا ويزهد فيها، ويعلم قيمة الآخرة ويرغب فيها، لابد من تربية جيل يقدم رضا الله عز وجل على هوى نفسه، ويستجيب لشرع الله وإن تعارض مع مصلحته ورأيه، ولابد من تربية جيل يتنازل لأخيه عن أشياء يعتقد أنها قد تكون من حقه لا يتنازل عن ذلك إلا لله، ولا يرغب من وراء ذلك إلا رضا الله وجنته.
إن رُبي هذا الجيل فسيصبح أمر الخلافة والصدارة والمجد أمراً يسيراً إن شاء الله، وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
كانت هذه دروساً عشرة أسأل الله عز وجل أن ينفعني وينفعكم بها، وأن يجعلها في ميزان حسناتنا أجمعين.
وختاماً:
فوداعاً يا صديق ! ووداعاً يا خير الناس! بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وداعاً يا صاحب!
وداعاً يا خليفة!
فكم من اللحظات السعيدة مرت علي وأنا أقرأ عن الصديق ! وكم من الأيام والليالي مرت كدقائق قليلة وأنا أعيش معه في مكة والمدينة! وأكاد أجزم أني أراه وأعرفه، ووالله! يا صديق ! إني أحُبك في الله، وأسأل الله أن يجمعنا جميعاً معك في الفردوس الأعلى مع حبيبك وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
الدرس الأول: لا فلاح ولا نجاح لهذه الأمة في الدنيا والآخرة إلا باتباع القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49] وهذا تحذير واضح عن التفريط في أي جزئية من جزئيات الشرع الإسلامي.
وقد سار الصحابة رضوان الله عليهم على هذا النهج ولم يخالفوا، ولذلك سبقوا ونجحوا.
ولا معنى لاتباع القرآن دون اتباع السنة، فالصحابة ما كانوا يفرقون بين حكم جاء في كتاب الله وحكم جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما دام قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن المؤكد أنه لن يتعارض مع القرآن، ومن المؤكد أنه سيكون وحياً من الله عز وجل، قال عز وجل: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].
فالسنة مفصلة لما أجمله القرآن الكريم، والسنة مقيدة لما أطلقه القرآن الكريم، والسنة شارحة لما خفي عن الناس من أحكام القرآن الكريم، بل وأحياناً تأتي في السنة أحكام ليست في كتاب الله عز وجل، والمسلمون مأمورون باتباعها كاتباع القرآن الكريم تماماً بتمام.
وعلى سبيل المثال رأينا في هذه المجموعة اتباع الصديق رضي الله عنه وأرضاه لكل أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، رأينا اتباعاً دقيقاً في كل خطوة، ورأينا إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما مع تعارضه مع عقول بعض الصحابة، لكن إذا أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فلابد أن الخير سيكون في تنفيذه، ورأينا اتباعه لأمره في صلح الحديبية مع اختلاف حسابات البشر عن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم رأينا بعد ذلك كيف كان الخير في ذلك الأمر.
ورأينا في السقيفة كيف انصاع الأنصار لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) وهو ليس من القرآن، لكن الصحابة ما كانوا يفرقون بين قرآن ولا سنة، فالقرآن والسنة مصدران متكاملان للتشريع، ولو ترك المسلمون أحدهما فإنهم سيضلون لا محالة.
جاء في موطأ الإمام مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم).