حكم صلاة التسابيح [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فقد مر معنا أن ذكرنا أن من العلماء من ضعف صلاة التسابيح كالإمام ابن تيمية والإمام الشوكاني، وأما الإمام النووي فاضطرب النقل عنه فتارة يحسن الحديث الوارد في صلاة التسابيح وتارة يضعفه، والصواب في هذه المسألة أن الحديث صحيح، وأن صلاة التسبيح سنة مستحبة ويدل على هذا ثلاثة أمور:

أولها: الحديث صححه أئمتنا عليهم رحمة الله، وقد نص على التصحيح كما تقدم عدد من الحفاظ الجهابذة، وما اعترض به على هذا الحديث جميع هذه الاعتراضات لا تثبت ولا تقوى، ولا يوجد راوٍ تكلم فيه في رجال إسناد ابن عباس وأقل ما نعت بأنه صدوق، وحديثه في درجة الحسن، هذا أقل راو.

إذاً: لا يوجد من تكلم فيه بقادح بحيث ينزله عن الحسن.

يضاف إلى هذا: طرق متعددة زادت على العشرة، كما قال الحافظ ، أما يقتضي ذلك تصحيح الحديث وتحسينه؟ بلى ثم بلى، ولذلك الذين نظروا في الإسناد على حسب الصناعة الحديثية ما ترددوا في تصحيح الحديث أو تحسينه، أما بعد ذلك قد يتأمل طريقاً من الطرق فيرى فيها كلاماً فيقدح بناء على هذه الطريق المفردة، أما الحديث إذا أردت أن تبحث فيه بطرقه، وأن تستوعب، فالحديث ليس في إسناده كلام بحيث ينزله عن درجة الحسن والعلم عند الله جل وعلا، يضاف إلى هذا كثرة الطرق التي روي بها حديث صلاة التسبيح.

الأمر الثاني: صلاة التسبيح عمل بها التابعون ومن بعدهم، وهي سنة مشهورة منتشرة في هذه الأمة.

فإن قيل: قلت: عمل بها التابعون ولم تقل: عمل بها الصحابة؟ نقول: الصحابة عملوها، كذلك فقد علمها النبي عليه الصلاة والسلام للعباس ولـجعفر ولـابن عباس ولصحابة متعددين، لكن الكلام الآن حول تعليم النبي عليه الصلاة والسلام لهم هل هو ثابت أم لا؟

من صحح الحديث وعمل به من السلف

لكن نحن لنوضح هذا بجلاء ووضوح نقول: هذا الفعل الذي علمه النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة تنوقل إلى التابعين فعملوا به، وهذا ثابت بأسانيد صحيحة كالشمس، من أئمتنا الأبرار الذين عملوا بصلاة التسبيح واستحبوها، وكانوا يوصون بها ويعلمونها المسلمين، أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي البصري ، ثقة، توفي سنة ثلاث وثمانين للهجرة، حديثه مخرج في الكتب الستة، وقد روى عن أمنا عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين.

وهو من العباد، ومن الصالحين في هذه الأمة، كان يقول: ما لعنت شيئاً قط، ولا أكلت طعاماً ملعوناً قط، ولا آذيت أحداً قط، ولا ماريت أحداً قط، وكان يقول كما في الحلية وطبقات ابن سعد : لأن أصحب الخنازير أحب إليّ من أصحب أهل الأهواء، وكان قوياً، كما يقول الذهبي في السير في الجزء الرابع صفحة واحد وسبعين وأربعمائة: قوياً بالمرة، حيث إنه كان يواصل أسبوعاً، فلا يأكل ولا يشرب، وإذا أمسك ساعد الشاب يكاد أن يكسره.

قال الإمام الذهبي بعد أن سرد بعض الأخبار المتقدمة: انظر إلى هذا السيد واقتد به.

ونقل الدارقطني في جزء صلاة التسبيح عنه: أنه كان يستحب صلاة التسبيح ويأمر بها، وهذا ثابت عنه بسند صحيح، وهو تابعي.

تصحيح ابن أبي رواد لحديث صلاة التسابيح

وجا من بعده أتباع التابعين، وعمل بها أئمتنا وتناقلوها، وهذا شيء ورثه الخلف عن السلف، منهم عبد العزيز بن أبي رواد وأبو رواد ميمون وقيل: أيمن، قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق عابد ربما وهم، ورمي بالإرجاء، وبدعة الإرجاء كما سيأتينا تحمل على بدعة مقيتة، وعلى بدعة لفظية لا تضر من نعت بها.

خرج حديثه البخاري في صحيحه تعليقاً، وأهل السنن الأربعة، وقال عنه الحافظ كما تقدم: صدوق عابد، وتقدم معنا ذكر ولده في الموعظة الماضية وهو: عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ، وتقدم معنا أن الابن توفي سنة ست ومائتين للهجرة، وأما هذا فتوفي سنة تسع وخمسين ومائة للهجرة، وتقدم معنا أن الابن حديثه في صحيح مسلم والسنن الأربعة، وأما هذا ففي السنن الأربعة وفي البخاري تعليقاً. عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد كان يقول: من أراد الجنة فعليه بصلاة التسبيح -اللهم إنا نريدها، ونسألك أن توفقنا لصلاة التسبيح، وأن تتقبلها منا- وهو إمامٌ من أئمة الإسلام الكبار، نعته الذهبي بأنه شيخ الحرم المكي في زمانه، قال عنه شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك : كان من أعبد الناس، بقي أربعين سنةً لم يرفع بصره إلى السماء حياءً من ربه جل وعلا، كان مرةً يطوف حول بيت الله الحرام ووراءه أبو جعفر المنصور فنخسه بإصبعه فالتفت فقال: علمت أنها طعنة جبار، قال الذهبي: ذهب بصره عشرين سنة، ولم يعلم أهله ولا ولده به؛ لأنه كتم مصيبته، رحمه الله ورضي الله عنه.

قال الإمام أحمد : كان مرجئاً رجلاً صالحاً، قال الذهبي : قلت: كان كثير المحاسن، لكنه كان مرجئاً، أما الإرجاء الذي نعت به فلا ضير عليه فيه إن شاء الله، وإن كنا نرى أنه لو تنزه عن كذلك كان خيراً له وأحسن.

والإرجاء معناه: التأخير، يقال: نرجئ نؤخر.

هناك إرجاءٌ بدعي القائل به ضال وهو الذي يقول: العمل ليس من الإيمان، بمعنى: أنك إن فعلته لا تنتفع، وإن تركته لا تتضرر، وإذا قلت: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله عليه الصلاة والسلام، واعتقدت هذا بقلبك، فأنت من أهل الجنة، والنار محرمة عليك، وسيختم لك بالإيمان وانتهى الأمر، وأما العمل فهذا ليس من الإيمان، هذا إرجاء البدعة، وحاشا أئمتنا الكرام من هذا الإرجاء، أبو حنيفة في ترجمته كان مرجئاً، أي: يرى أن الإيمان إقرارٌ باللسان واعتقادٌ بالجنان، وأما العمل فيقول: ليس من الإيمان، وحتماً هذا خلاف ما عليه جمهور أهل السنة الكرام، لكنه خلاف لفظي، فـأبو حنيفة يقول: إن عمل صار صديقاً، وإن لم يعمل صار فاسقاً، وأهل السنة الكرام يقولون: إذا عمل صار صديقاً، وإذا لم يعمل صار فاسقاً، إذاً ما بينكم إلا خلاف في اللفظ، فأنتم تقولون: الإيمان: اعتقادٌ بالجنان، تصديقٌ باللسان، عملٌ بالأركان، هو يقول: لا، الإيمان: اعتقادٌ بالجنان، وإقرارٌ باللسان، والعمل ليس من مسمى الإيمان، وهؤلاء الذين قالوا هذا القول لئلا يرد عليهم شبهٌ أخذ بها المعتزلة والخوارج، ومن فروخهم الإباضية قالوا: إذا قلتم: العمل من الإيمان، وتخلف العمل فينبغي أن تخرجوا العاصي من الإيمان، كأن تقولوا: إنه كافر كما قال الخوارج، أو أن تقولوا: ليس بكافر ولا مؤمن كما قال المعتزلة والإباضية، فتبعوا في هذا القول المعتزلة، ولم يتبعوا أصلهم وهم الخوارج، فهؤلاء قالوا: نقول: العمل ليس من مسمى الإيمان، لكن فعله قربة وتقى، وتركه معصية وفسق.

إذاً: الخلاف لفظي وهذا لا يضر، وهذا الذي حققه أئمتنا في كتب التوحيد.

وعبد المجيد بن أبي رواد كان مرجئاً، وعبد العزيز والده كان مرجئاً، وعدد من أئمتنا كانوا على الإرجاء، لكنه إرجاءٌ في اللفظ، والذي يقول بذاك لا نقول عنه: ضال، نعم القول الحق أن الإيمان: إقرار واعتقاد وعمل، ولكن تخلف العمل يلس كتخلف الإقرار والاعتقاد.

يقول الإمام الذهبي في الجزء التاسع في السير في صفحة خمسٍ وثلاثين وأربعمائة في ترجمة عبد المجيد لا في ترجمة عبد العزيز ، وكأن الذهبي ما أراد أن يذكر هذه التعليقة في ترجمة الوالد لجلالة قدره، فجاء للولد فذكر هذه التعليقة، وقال: قال هارون بن عبد الله الحمال : ما رأيت أخشع لله من وكيع ، وكان عبد المجيد بن أبي رواد أخشع منه، قلت: خشوع وكيعٍ مع إمامته في السنة جعلته مقدماً، بخلاف خشوع هذا المرجئ، عفا الله عنه، وأعاذنا الله وإياكم من مخالفة السنة، وقد كان على الإرجاء عددٌ كثيرٌ من علماء الأمة، ومن أقوالهم: وهو قولهم: أنا مؤمنٌ حقاً عند الله الساعة، يعني: في هذه الساعة أنا مؤمن، مع اعترافهم بأنهم لا يدرون بما يموت عليه المسلم من كفرٍ أو إيمان، وهذه قولةٌ خسيسة، وإنما الصعب من قول غلاة المرجئة: إن الإيمان هو الاعتقاد بالأفئدة، وإن تارك الصلاة والزكاة وشارب الخمر وقاتل النفس والزاني وجميع هؤلاء يكونون مؤمنين كاملي الإيمان، ولا يدخلون النار، ولا يعذبون أبداً، فردوا أحاديث الشفاعة المتواترة، وجسّروا كل فاسقٍ وقاطع طريقٍ على الموبقات، نعوذ بالله من الخذلان، فهذا هو الصعب، وهذا هو البلاء، أما الإرجاء الذي وصف به هذا العبد الصالح فلا يضر ولا يضير إن شاء الله.

تصحيح ابن المبارك لحديث صلاة التسابيح

توفي سنة واحدة وثمانين ومائة للهجرة، إذاً: عبد العزيز بن أبي رواد توفي سنة تسعٍ وخمسين ومائة كان يقول بصلاة التسبيح، وقبله شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك كان يستحب صلاة التسبيح، ويفعلها، ويوصي أتباعه بها، وهو كما نعته أئمتنا، كما قال الحافظ في التقريب على اختصاره: ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عالمٌ جوادٌ مجاهدٌ، جمعت فيه خصال الخير.

قال الذهبي في السير في ترجمته: هو الإمام شيخ الإسلام، عالم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته، الحافظ الغازي، أحد الأعلام، حديثه حجةٌ بالإجماع، قيل له وكان يكثر القعود في بيته وخلوته: ألا تستوحش؟ قال: كيف استوحش ومعي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟! عندما يقرأ علمهم وحديثهم وسيرهم وأخبارهم، هل يستوحش من هو مع النبي عليه الصلاة والسلام؟ وإذا نام رأى النبي عليه صلوات الله وسلامه، ولما تبعه أهل بغداد وأهل مرو ونظر هارون إلى تبعية الناس له، فقال: هذا هو الملك، وأما نحن فلا نجمعهم إلا بأعوانٍ وشرطة، يعني: حب الله يجمعهم مع هذا الإمام الصالح المبارك، وكان إذا دخل إلى السوق يغلق أهل السوق سوقهم ويمشون وراءه، وكان على غايةٍ من الأدب مع شيوخه، ومع كبار العلماء في زمانه، سئل عن مسألةٍ في حضرة سفيان بن عيينة ، وهو أعلم من شيخه، لكن انظر للأدب والتوقير، قال: نهينا أن نتكلم بحضرة أكابرنا، أي: سفيان بن عيينة أبو محمد هو الذي يتكلم ويجيب.

والرد على كلام شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عندما يقول: هذه الكيفية ما كان يوصي بها عبد الله بن المبارك . يقول الحاكم في المستدرك في الجزء الأول صفحة ستة عشر وثلاثمائة: مما يستدل به على صحة هذا الحديث استعمال الأئمة من أتباع التابعين، ولو قال: من التابعين لكان أصح- فمن بعدهم، إلى عصرنا هذا -أي: إلى عصر الحاكم ، المتوفى سنة خمسٍ وأربعمائة للهجرة- ومواظبتهم عليه، وتعليمهم الناس، منهم شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه -هذا كلام الحافظ الحاكم في المستدرك- وقد سأله أبو وهب محمد بن مزاحم وهو صدوقٌ، توفي سنة تسعٍ ومائتين للهجرة، وهو ثقةٌ من رجال الإمام الترمذي ، سأل شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك عن صلاة التسبيح، فنعتها له بالكيفية التي ذكرتها وذكر التسبيح قبل القراءة، خمس عشرة مرة، وهذا ثابتٌ في حديثٍ رواه البيهقي في الجزء الثالث صفحة اثنتين وخمسين، عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً، قال البيهقي : غير أنه جعل التسبيح خمس عشرة مرة قبل القراءة، يعني: على خلاف حديث ابن عباس ، وجعل ما بعد السجدة الثانية بعد القراءة، بحيث لا يسبح بعد السجدة الثانية، والكيفيتان كما قلت: منقولتان.

يقول الحاكم بعد أن روى هذا السؤال، وهذا موجود في سنن الترمذي، وسنن البيهقي، والمستدرك، وشرح السنة للبغوي : إن أبا وهب محمد بن مزاحم سأل شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك عن صلاة التسبيح فأجابه بالذي تقدم، قال الحاكم : رواة هذا الحديث عن ابن المبارك ثقات أثبات، ولا يُتهم عبد الله أن يعلمه ما لم يصح عنده سنده، يعني أن عبد الله بن المبارك عندما سأله أبو وهب محمد بن مزاحم علمه صلاة التسبيح، ولا يتهم عبد الله أن يعلم أبا وهب ما لم يصح عنده سنده.

وقال الترمذي : رأى عبد الله بن المبارك وغير واحدٍ من أهل العلم صلاة التسبيح، وذكروا الفضل فيه، وقاله البغوي في شرح السنة في الجزء الرابع صفحة ثمانٍ وخمسين ومائة، وهو في سنن البيهقي ، قال البيهقي : كان يفعلها شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك ، وتداولها الصالحون بعضهم عن بعض، وفيه تقويةٌ للحديث المرفوع.

مجمل كلام الأئمة في صلاة التسابيح

وقد قلت: النووي موقفه مضطرب، لكن انظر لأئمة الشافعية، قال القاضي حسين وصاحبا التهذيب والتتمة والروياني في أواخر كتاب الجنائز من كتابه البحر: يستحب صلاة التسبيح للحديث الوارد فيها، وجاء النووي فقال: في هذا الاستحباب نظر، بعد أن قال في التهذيب: حديثها حسن وهي سنةٌ مستحبة، وقد ذكرنا أن في كلام الإمام الروياني تقوية لقول عبد الله بن المبارك ، وأنه إذا سها لا يقول التسبيح في سجود السهو عشر مرات، ونقلنا كلام ابن قدامة : أنه إن فعلها فلا بأس؛ للحديث الوارد فيها، وكلام المذاهب قد نقلناه.

لا نقول: لمَ لم تمر عليهم هذه الأشياء؟

لأن هناك أشياء كثيرة لم تمر عليهم، فـأبو حنيفة عليه رحمة الله مات ومذهبه أن ما أخرجت الأرض فيه العشر قل أو كثر فلو عندك في بيتك قطعة متر في متر تزرعها بقدونس فينبغي أن تخرج عشرها، فلا تقل: هل بلغه أو لم يبلغه؟ هذا موضوعٌ آخر؛ لأن مثل هذا لا يستدل له ويسكت عنه، هو لكن لو حذر لو قال أبو حنيفة : بدعة لكان لنا كلام آخر، أما مسألتنا هذه فما تكلم فيها أحدٌ من الأئمة الأربعة إلا الإمام أحمد ، ثم رجع، أما بعد ذلك ما هو رأي المذاهب؟ فهذا أمر آخر فقد جاء أتباع المذاهب ونقلوا لنا هذا، فنقل فقهاء الشافعية الذين تقدموا القول بالاستحباب، وابن قدامة في المغني يقول: لا بأس، وكذلك أئمة الإسلام الذين ذكرناهم كـابن حجر وغيره، أوليس هم يميلون إلى المذاهب الأربعة؟ والواحد منهم يصحح الحديث ويقول: أنا أعمل به، فالمذاهب الأربعة أي الذين تنتسب إليهم المذاهب الأئمة ما نقل عن واحدٍ منهم كلامٌ فيها إلا الإمام أحمد ، والإمام أحمد كما يقول الحافظ : اختلف النقل عنه على قولين، وهذا موضوعٌ آخر، فالإمام أحمد عليه رحمة الله كان لا يرى أن يقرأ الإنسان على المقابر عند الدفن، كما في المغني، لكنه رجع عندما أخبر بالأثر؛ لأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين كان يستحب أن يقرأ عند دفن الميت بفاتحة البقرة وخاتمتها، والأثر إسناده جيد في سنن البيهقي ، فالإمام أحمد لم يعلمه، وقال: القراءة بدعة، فلما ذكر به تذكر، أما الأئمة الآخرون فما واحدٌ منهم تكلم في هذه المسألة.

وكذلك السلام الذين سيأتينا في الصلاة، وسيأتينا كلام الإمام الزهري الذي هو أعلم أهل زمانه بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، أنه كان يرى أن صلاة الجنازة لا يسلم فيها إلا سلامٌ واحد، ولما سلم إنسانٌ سلامين واعترض عليه قال له: أكل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحطت به؟ قال: لا، قال: ثلثيه؟ قال: لا، قال: نصفه؟ قال: أرجو، قال: ضع هذه في النصف الذي لم تحط به.

أما ابن الجوزي فمعارضته لا قيمة لها مع احترامنا له، لتساهله ولحكمه على أحاديث في صحيح مسلم بأنها موضوعة، ولا خلاف عند أئمتنا بأنه تساهل، لكن بعد ذلك الذين ضعفوا غيره، أما الباعث الحثيث لـابن أبي شامة ما ذكر عنده إلا أنه يقلد من سبقه، والإمام ابن تيمية ما ذكر ولا شيئاً، مع جلالة قائله، وما أحد أورد حججاً ورد عليه بها إلا الإمام ابن الجوزي ، فقد أورد حججاً شبهاً، بأن الحديث ليس بصحيحٍ وإنما هو ضعيف إلى آخره.

الحديث عن رجال إسناد حديث صلاة التسابيح

أما رجال الإسناد فسأتكلم الآن عليهم، فـعكرمة مولى ابن عباس يحتج به البخاري في صحيحه كثيراً، وجمهور أهل الحديث، وتكلم فيه بما هو مندفعٌ باحتجاج البخاري به، وكان من بحور العلم، ولا إشكال فيه، وأما الحكم بن أبان فوثقه يحيى بن معين ، وأحمد بن عبد الله العجلي ، وجماعة، واحتج بهم النسائي وغيره، وقال النسائي : ثقة، ولينه ابن المبارك ، وكان الإمام أحمد ممن يحتج به، وقال العجلي : كان ثقةً صاحب سنة، إذا هدأت العيون يقف في البحر إلى ركبتيه يذكر الله حتى يصبح.

وأما موسى بن عبد العزيز شيخه فقليل الحديث، قال ابن معين والنسائي : ليس به بأس، ولم يضعفه أحدٌ، والذهبي يقول في ترجمته في الميزان: لم يورده أحدٌ في الضعفاء، وساقه ابن الجوزي من طريق الدارقطني وقال في آخره: لا يثبت، يعني: في آخر الحديث موسى بن عبد العزيز انتهى، وهذا مردودٌ عليه، فقد أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وصححه، وطريق هؤلاء ليست ضعيفة فضلاً عن أن يقال: موضوع، وقوله: موسى بن عبد العزيز مجهولٌ عندنا، فاعلم أن الجهل عند المحدثين على قسمين: جهل العين، وجهل الحال، وموسى المذكور ليس بمجهول العين، ولا مجهول الحال، وغاية ما قيل فيه: إنه شيخٌ قليل الحديث، وهذا لا يثبت جهلاً فيه، كيف وقد روى عنه بشر بن الحكم ، وابنه عبد الرحمن ، وإسحاق بن أبي إسرائيل ، وزيد بن المبارك الصنعاني ، ومحمد بن أسد ، وتقدم قول ابن معين والنسائي : ليس به بأس، وهذا يفيد الاحتجاج بالرجل، ورفع الجهالة عنه بلا خلاف، وقد رد الأئمة عليه في إيراد هذا الحديث من هذا الطريق في الموضوعات، وأورد الحافظ ابن حجر هذا الحديث في كتاب الخصال المكفرة، وقال: رجال إسناده لا بأس به.

إذاً: عكرمة احتج به البخاري ، والحكم صدوق، وموسى بن عبد العزيز قال فيه ابن معين : لا أرى به بأساً، وقال النسائي نحو ذلك، وقال ابن المديني : ضعيف، فهذا الإسناد من شرط الحسن؛ لأن له شواهد تقويه، وقول ابن الجوزي : إن موسى مجهول مردودٌ عليه؛ لأنه يوثقه ابن معين والنسائي ، ولا يضره أن يجهل حاله من جاء بعدهما، يقول: وأحسن الأسانيد ما أخرجه الدارقطني ، وبدأ يورد الكلام على كل إسناد، وأما الإمام أحمد عليه رحمة الله في أول الأمر قال: لا يعجبني، ونفض يده، فلما ذكر له إسناد الحديث قال: ثقة ورجع.

كلام أئمة المذاهب الأربعة في صلاة التسابيح

أما الأئمة الآخرون يعني: الشافعي ومالك وأبو حنيفة فلم ينقل عنهم كلام في صلاة التسبيح، يقول الإمام الشافعي وهذا نص كلامه في الرسالة، أمران لا يحيط بهما إلا المعصوم: الحديث واللغة، وأجمع المسلمون أن من استبانت له سنة النبي عليه الصلاة والسلام فليس له أن يدعها لقول أحدٍ كائناً من كان.

فالحديث لا يحيط به إلا من نطق به، وهو نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن كما قلت: أتباع المذاهب نقلوا الاستحباب عن عددٍ من أئمة الشافعية من القاضي حسين وصاحب التممة، وصاحب البحر وغيرهم، والإمام النووي قرر هذا في الأذكار، وقرره في تهذيب الأسماء واللغات، أما هنا فقال: هذا الاستحباب فيه نظر، فصار خلاف بين أتباع المذاهب، الإمام ابن تيمية يقول: الأئمة ما ذكروه، وكيف يقال ذلك وهذه أقوالٌ نقلتها عنهم، وليس كل مسألةٍ يقال فيها: هات لنرى فيها رأي الإمام أبي حنيفة وماذا قال فيها؟ هل بلغه الحديث أو ما بلغه؟ وهل تكلم فيه؟ فقد يكون شيء بلغه، ولم يقرره ذهولاً عنه.

والمقصود أنه لا يوجد عندهم كلام في الرد إلا من هذا الإمام المبجل أحمد بن حنبل عليهم جميعاً رحمة الله، والنقل عنه مختلف كما قرر أئمتنا.

إذاً هؤلاء الأئمة الذين تتابعوا على القول بصلاة التسبيح منهم: أبو الجوزاء تابعي، وعبد العزيز بن أبي رواد من أتباع التابعين، وشيخ الإسلام عبد الله بن المبارك .

تصحيح أبي عثمان النيسابوري لحديث صلاة التسابيح

والرابع: أبو عثمان الحيري ، وإنما اخترتهم على الترتيب، لنرى أن هذا متداول عند الصحابة والتابعين وأتباع التابعين إلى أن وصل الأمر للقرن الثالث الهجري سنة ثمانٍ وتسعين ومائتين حيث توفي أبو عثمان الحيري ، وهو سعيد بن إسماعيل ، من أئمتنا الكبار الأتقياء الهداة، كان يقول: من أمّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمّر البدعة والهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة، ثم تلا قول الله: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54] .

قال الإمام الذهبي معلقاً على قوله: قلت: وقال تعالى: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]، يعني: كما أن من أطاع الرسول عليه الصلاة والسلام يهتدي وينطق بالحكمة فإن من اتبع الهوى ضل وغوى.

يقول الذهبي في ترجمته: هو الشيخ الإمام المحدث الواعظ القدوة شيخ الإسلام، الأستاذ أبو عثمان الحيري الصوفي ، أما كلمة الصوفي فأرجو ألا يتأثر أحد منكم يعني بهذا الاصطلاح، وسيأتينا إن شاء الله كلامٌ على الصوفية وتحقيق الكلام فيهم بعون رب البرية، ننصفهم فلا نحملهم وزر من ضل منهم، ولا أيضاً نبرئ من اشتط منهم، وينبغي أن نزن بالقسطاس المستقيم، وإنما هذا كلام الإمام الذهبي شيخ الإسلام ينعته بهذه الألفاظ، ثم قال: الصوفي، كان إذا بلغته سنة -كما في الحلية وغيرها- لم يعمل بها، يقف حتى يعمل بها، أي: إذا بلغته سنة ولم يعمل بها ولم يستعملها يتوقف عن كل عمل حتى ينفذ هذه السنة ويقوم بها، ومن صفاته الطيبة في القصة التي ذكرتها في بعض المواعظ، وهي في تاريخ بغداد في ترجمته في الجزء التاسع صفحة تسعٍ وتسعين، والمنتظم لـابن الجوزي في الجزء السادس صفحة ستٍ ومائة، وفي صفة الصفوة له في الجزء الرابع صفحة مائة وخمسة، وفي البداية والنهاية في الجزء الحادي عشر صفحة مائة وخمس عشرة في حوادث سنة ثمان وتسعين ومائتين للهجرة -قصة المرأة العوراء العرجاء القرعاء مشوهة الخلق التي جاءت إليه وهو في معتكفه في المسجد، وقالت: أبا عثمان ! الله الله فيّ، فإن قلبي متعلقٌ بك! قال: وماذا تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد أن تتزوجني، قال: ومن والدك؟ قالت: فلان البقال. قال: يكون خيراً، اذهبي، ثم خرج من معتكفه إلى والدها وخطب ابنته، فطار والدها فرحاً؛ عرجاء قرعاء عوراء مشوهة الخلق، يخطبها شيخ الإسلام في زمنه، فزوجه، فلما دخل عليها لم يجد في رأسها شعرة قائمة، فقال: اللهم لك الحمد على ما قدرت لي، يعني: هذا شيء لا يطاق، لكن ما أعمل؟ يقول: فكان أهلي يلوموني ويقولون لي: نزوجك ونزوجك، فكنت أخالفهم وأزيد في إكرامها وبرها، وهي أثقل على قلبي، يقول: وكنت إذا ذهبت إلى الدرس توقفني على الباب تقول: أبا عثمان ! قلبي متعلقٌ بك فاترك درسك من أجلي، يقول: فأطيعها وأجلس معها وأترك الدرس جبراً لخاطرها.

يقول: فبقيت عندي ثماني عشرة سنة، ثم توفيت، فلما احتضر قيل له: حسن ظنك بربك؛ رحمة الله واسعة، قال: أرجو أن يغفر الله لي بما جرى لي مع زوجتي.

أبو عثمان رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، كان يقول: ما رأيت للشدائد والهموم والغموم مثل صلاة التسبيح، أي: إذا جاءتك شدائد وهموم وغموم ونكبات فصل لله صلاة التسبيح؛ لأن فيها مغفرة الذنب المتقدم والمتأخر، الأول والآخر، الظاهر والباطن، القليل والكثير كما تقدم معنا، وإذا غفر لك ذنبك بت مرضياً عند الله ويزول همك وغمك.

ترجمة أبي عثمان النيسابوري

قال الإمام الذهبي في ترجمته نقلاً عن الحاكم في كتاب

لكن نحن لنوضح هذا بجلاء ووضوح نقول: هذا الفعل الذي علمه النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة تنوقل إلى التابعين فعملوا به، وهذا ثابت بأسانيد صحيحة كالشمس، من أئمتنا الأبرار الذين عملوا بصلاة التسبيح واستحبوها، وكانوا يوصون بها ويعلمونها المسلمين، أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي البصري ، ثقة، توفي سنة ثلاث وثمانين للهجرة، حديثه مخرج في الكتب الستة، وقد روى عن أمنا عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين.

وهو من العباد، ومن الصالحين في هذه الأمة، كان يقول: ما لعنت شيئاً قط، ولا أكلت طعاماً ملعوناً قط، ولا آذيت أحداً قط، ولا ماريت أحداً قط، وكان يقول كما في الحلية وطبقات ابن سعد : لأن أصحب الخنازير أحب إليّ من أصحب أهل الأهواء، وكان قوياً، كما يقول الذهبي في السير في الجزء الرابع صفحة واحد وسبعين وأربعمائة: قوياً بالمرة، حيث إنه كان يواصل أسبوعاً، فلا يأكل ولا يشرب، وإذا أمسك ساعد الشاب يكاد أن يكسره.

قال الإمام الذهبي بعد أن سرد بعض الأخبار المتقدمة: انظر إلى هذا السيد واقتد به.

ونقل الدارقطني في جزء صلاة التسبيح عنه: أنه كان يستحب صلاة التسبيح ويأمر بها، وهذا ثابت عنه بسند صحيح، وهو تابعي.