أرشيف المقالات

منهج الإسلام في تدريب جنده

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
منهج الإسلام في تدريب جنده

قال تعالى في سورة التوبة: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 111-112].
♦ ♦ ♦
 
كلما تطاوَل عمر الدنيا - فتعقدت مشاكلها، واستحكمت أزماتها - ظهَر صدق القرآن الكريم في كل قضية قرَّرها، وشرعة دعا إليها، ووضحت صلاحيته لكل مشكلة، وتفريج أيَّة أزمة تعترض الناس أينما كانوا، وفي أي زمان وُجِدوا، واستبان معنى قوله تعالى: ﴿ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [الجاثية: 20].
 
وما ادَّعى قوم لأنفسهم ما ادَّعاه أبناء هذا القرن من أنهم تسنموا غارب المدنية، واقتعدوا ذروتها، وأنهم أوتوا هذه المدنية على علم عندهم، لا يعترفون في تحصيلها لدين، ولا يتتلمذون لرسول، فلقد سخروا العلم، فغاصوا به تحت الماء، وسبحوا به في جو السماء، وانزوت به لهم الأرض، فأصبحت قاراتها الخمس كأنها قارة واحدة، ليُسن الوصول إلى أقطارها، وصار التخاطب بين أقصاها شمالًا إلى أقصاها جنوبًا كلمح البصر أو هو أقرب، وابتدعوا لأيام السلم ملاهي أغنتهم عن الجنة وما أُعد فيها للمتقين، واخترعوا لأيام الحرب مدمرات لم تخطر ببال الأولين.
 
وهذه دعوى لا مبالغة فيها؛ من حيث تبريزهم في المدنية المادية، ولكنها عندما أفلتت من أيديهم، فلم يقيدوها بزمام من عقل أو دين، انقلبت عليهم، فحطمتهم تحطيمًا، وأذاقتهم عذابًا أليمًا، حتى كادوا يكونون بعد قليل؛ كما قال الله تعالى في أمثالهم: ﴿ فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 25]، أو كما قال جل شأنه: ﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [النمل: 52].
 
وإن لنا في هذه الحرب لعبرة، فأنت تعلم أن الذي أوقد نارها هم سادة أهل الأرض اليوم الذين يدعون أنهم فوق طبقة البشر في كل ناحية من نواحي شؤونهم؛ ولون من ألوان حياتهم، وأنهم الذين ابتكروا جميع نظم الحياة في السلم والحرب، فقلدهم الناس فيها طوعًا أو كرهًا، فانظر كيف يقاتل بعضهم بعضًا، وانظر كيف تمزق ذلك الغشاء الإنساني الكاذب الذي كانوا يخدعون به الناس، وظهرت من ورائه الغرائز الحيوانية الثائرة، والطباع الوحشية المكبوتة، فعرف الناس وجهة نظرهم في هذه الحرب، وكيف أوقدوها لإذلال الشعوب وامتلاك بلادهم ظلمًا وعدوانًا، لا يبالون في سبيل تحقيق الغاية بنوع الوسيلة، بل كلما أوصلهم إلى غايتهم فهو الخلال المشروع، وحسبك دليلًا على فظاعة ما يأتونه ما تطالعك به الصحف عنهم صباحَ مساءَ.
 
ومن يقوم بتنفيذ هذه المآسي غير الجندي الذي ربوه كما يريدون، ودرَّبوه على تقتيل العباد، وتخريب البلاد، وصيَّروه كريح عاد العقيم التي ﴿ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾ [الذاريات: 42].
 
نعم إن الذي يترجم عن أخلاق هذه الأمم المتمدنة هو (جنديها) الذي أخذ بتلابيب أمته في الإنسانية، فلا يدع أحدهما أخاه إلا صريعًا لا لغاية، إلا لاختطاف اللقمة من فيه، واستعباد بلده ومن فيه.
 
كل أمة من هذه الأمم المتمدنة - بزعمها - ربَّت جنديها على منهج وحشي خال من كل معاني الإنسانية، فحرَّق وأغرق، وأتلف فأسرف، في نظير ما سحرته به من حب الوطن، واكتساب الذكر الحسن، وله عليها أن تمده بكل ما يشتهي من مأكل ومشرب، وما إلى المأكل والمشرب من شهوات النفس الجامحة التي يغني التلميح فيها عن التصريح!!
فهو كبش الفداء تسمنه ثم تسوقه إلى المذبح، ولها عليه حق الطاعة العمياء، تسوقه فينساق، ولا يسألها فيمَ أو لِمَ؟
 
أما وقد علِمت أن خلاصة أخلاق هذه الأمم تركزت في جنديها الذي عرفت بعض صفاته، فتعال معي ننظر كيف يدرب الإسلام (جنديه) على أقوم المناهج وأظهر الأخلاق، وأرفع الآداب؛ وذلك لاختلاف الغايتين، وللبون الشاسع بين الغرضين.
 
أما هذه الأمم التي تصدر في تصريف أمورها عن مدنية كاذبة، فقد أيقنت أن قتال بعضها بعضًا إنما هو لمجرد القهر والجبرية، واستعباد الناس وانتهاب ما في أيديهم، لا لمثل عالٍ، لا لقصد شريف؛ إذ الكل في الظلم تجمعهم قافلة، وهم في العقيدة على شاكلة، ولكن الإسلام لم يفرض القتال حبًّا في قهر الناس والتصرف في شؤونهم، ولكنه فريضة للضرورة وعلى قدر الحاجة، وتوضيح ذلك أن الإسلام جاء لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، بعد ترديهم في بؤر المخازي طوال القرون التي سلفت قبله، واختار الله عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم للاضطلاع بهذه المهمة، فحمل مشعل الهداية ليستضيء به الناس، ثم تعاقب في حمله من بعده صحابته، ومن بعدهم تابعوهم بإحسان ومشوا به، فمن وقف في سبيله صادًّا عن نوره، زُحزح بالحسنى، وإلا فبالقوة حتى يكون الدين لله، وذلك معنى الجهاد في الإسلام، لا يُبادئ بالشر أحدًا، ولكن يجب أن تسير دعوته في الدنيا حُرَّة طليقة، تعرض بضاعتها على الناس، فمن قبلها كان من أهلها، ومن أبى من غير صد ولا مناهضة، أقر على ما هو عليه، ومن أبى معاجزًا فله جزاء الظالمين.
 
وكذلك يريد من جنديه أن يحمل هذا المشعل أنى توجه، وبالتالي يريده غازيًا للقلوب والأرواح قبل أن يكون فاتحًا للبلاد غازيًا للأشباح، فهو يريد منه أولًا جهادًا في سبيله، ومن خصائص الجهاد الدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن أعجزته الوسائل السلمية، برز فيه مضطرًّا معنى القتال.
 
ولأن الإسلام يعد جنديه لأنبل غاية وأشرف مقصد، تراه قد شرط عليه شروطًا كثيرة وشديدة، لا يستقل بها إلا أولو العزم، فهو ما اكتفى منه بإقرار الصفقة التي تمت بينه وبين ربه، ببذل روحه وماله في سبيله في مقابل دخوله الجنة، مع تسجيل هذا العقد في كتبه المقدسة الثلاثة، نعم، ما اكتفى منه بذلك فحسب، بل أوجب عليه أن ينفذ بقية المنهج الوارد في عجز الآية: ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 112]، وباختتام هذه الآية الكريمة بقوله ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 112] يكون قد أتم تجريبه العسكري الصالح الذي صار به مرشدًا للناس، وقدوة عملية يقتدون بها إذا دخل بلدًا من بلادهم في الأمانة والعفة، وإتمام العقود والوفاء بالعهود، وفي صدق القول وحسن المعاملة، والقيام بالقسط وتحريم الظلم، وما إلى ذلك مما يجب أن يتوفر فيمن ورث حمل المشكاة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ومشى بها في الناس، وما المشكاة إلا القرآن يتمثل في حامله أولًا، ثم يفيض منه بعد ذلك على الناس هداية وعرفانًا.
 
هذا هو منهج الإسلام في الجندية، ذلك الدين الذي تنكر له أهله وعقَّه أبناؤه، وجعلوه وراءهم ظهريًّا، ثم لجؤوا إلى الأمم الأجنبية يستجدون منها العلوم والشرائع، ولو أنهم أحيوا من تفكيرهم ما أماتوه، واستعملوا من عقولهم ما عطَّلوه، لاستدلوا بتناحر هذه الأمم بهذه الكيفية الشنيعة على فساد نُظُمها، وعقم شرائعها، ولرجعوا إلى نُظُم دينهم؛ يُصلحون به ما رثَّ من حالهم، ويجددون به ماضي عزهم:
فإنه لن يعود العز ثانية   ♦♦♦ أو يرجعوه عزيزًا مثل ما كانا
 
ونحن إذا ضربنا مثلًا بنظام الجندية في الإسلام، فقد عرَّفناهم كيف عالج دينهم بالرفق والأناة أخطرَ حالة تعترض البشرية في حياتها، وهي حالة الحرب، فتزل أمامها أثبت الأقدام، وتطيش عندها أرجح الأحلام؛ حيث جعل من ممارسها أداة بناء وتعمير، لا معول خراب وتدمير، بتدريبه على الأخلاق الفاضلة والآداب العالية، وفي مقدمتها التضحية ونكران الذات.
 
أما بعد، فإن القرآن حجة الله على الخلق أجمعين - مسلمين كانوا أو غير مسلمين - إن اهتدوا به كانوا من الناجين، وإن خاصموا فقد مضت سنة الأولين، وما أصدق وعيده اليوم في قوله: ﴿ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [النمل: 93].
 
مجلة الهدي النبوي - المجلد السادس - العدد (23-24) - ذو القعدة سنة 1361هـ

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١