حكم الغناء والموسيقى [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، سبحانك ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

إخوتي الكرام! إن الموعظة التي سنتدارسها في هذه الليلة تدور حول مسألة عظيمة، هدتنا شريعتنا القويمة فيها إلى الطريقة المحكمة المستقيمة، وقد أعرض الناس عن توجيه الشرع المطهر وهديه في هذه المسألة منذ أزمنة قديمة، فكيف بالناس في هذه العصور الوخيمة، لذلك أحببت أن نتذاكر هذه المسألة لنحيي تلك السنة القديمة، ونسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من أهل القلوب الأمينة، والألسن الصادقة السليمة، إنه أرحم الراحمين.

إخوتي الكرام! الموعظة تدور حول مسألة عظيمة كما قلت وهي: حكم الغناء في شريعة الله الغراء، وهذا السؤال قد وُجه إلى طلبة العلم كثيراً وكثيراً، فلابد من إعطاء الجواب الكافي عليه، وموضوعنا سيدور حول هذه المسألة، فأذكر في أول الأمر الأسباب التي دعتني للكلام على هذه المسألة، ثم سأفصل الكلام على المسألة ضمن خمسة أمور.

الأمر الأول: حول تعريف الغناء وبيان ماهيته.

الأمر الثاني: استعراض آيات القرآن الكريم التي تحدثت عن الغناء وبينت حكمه.

الأمر الثالث: استعراض بعض أحاديث نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، التي تحدثت عن هذه المسألة وبينت حكمها.

والأمر الرابع: يدور حول بيان أئمة ديننا وفقهاء شريعتنا، في بيان حكم الله في هذه المسألة، على ضوء ما تقدم من نصوص الكتاب والسنة.

والأمر الخامس: وهو آخر الأمور يدور حول المفاسد التي من أجلها حرم علينا ربنا الغناء.

إخوتي الكرام! أما سبب اختيار الكلام على هذا الموضوع في هذه الموعظة سيدور على ثلاثة أمور: ‏

اندراس العلم وتغير الحقائق عند الناس

الأمر الأول: تغيرت الحقائق في أذهان الناس منذ زمن بعيد، وهذا ليس بغريب، فقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كلما امتد بالناس الزمن يعرضون عن شرع الله المطهر، ويُحدثون في دين الله ما ليس منه.

ففي مسند الإمام أحمد ، وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه بسند صحيح، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة).

عليك صلوات الله وسلامه يا رسول الله! (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، ومن ألقى نظرة حول اختلاف الناس في هذه المسألة، لرأى ما يحير العقول، وصار كثير من الناس يهرفون بما لا يعرفون في مسألة الغناء، ونسأل الله السلامة من سخطه، ومن سائر أنواع البلاء.

إخوتي الكرام! نقل الإمام الخلال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن إمام أهل السنة الإمام أحمد نضَّر الله وجهه، أنه قال: إذا رأيتم شيئاً مستوياً مستقيماً فتعجبوا! أي: أن الناس يسيرون على الانحراف والزيغ والضلال والبلاء، فإذا رأيتم استقامة في الحياة فتعجبوا من هذه الاستقامة كيف لا زال الناس يمسكون بها ويأخذون بها! فماذا سوف يقول الإمام أحمد نوَّر الله قبره لو رأى زماننا؟

عظم مفسدة الغناء

الأمر الثاني الذي دعاني للكلام عن هذا الموضوع: أن مفسدة الغناء هي أم المفاسد، وهي منبع الرذائل، كل مفسدة تترتب عليها، فإذا أردنا أن نقضي على المنكرات فيتحتم علينا تحتماً لازماً أن نقضي على الغناء، لن يزال في الأمة مسكرات ومخدِّرات وعهر وكفر وزنى وفجور وقتل أنفس مادام الغناء يجلجل بين أفراد الأمة.

وقد قال أمير المؤمنين الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز لمعلم أولاده عليه رحمة الله: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بُغض الغناء، الذي مبدؤه من الشيطان، وعاقبته سخط الرحمن، فقد حدثني عدد من ثقات العلم أن سماع المزامير، واستماع الغناء واللهج به ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب.

فهذه المفسدة -كما قلت- هي منبع الرذائل وأمها، ورحمة الله على الإمام ابن القيم عندما يقول في مدارج السالكين: يستحيل في حكمة الحكيم الخبير أن يحرم مثل رأس الإبرة من المسكر -أي: من الخمر- لأنه يدعو إلى كثيره. الذي يدعو إلى المفاسد والمعاصي، فإذا سكر الإنسان وقع في كل بلية ومعصية.

يقول: يستحيل في حكمة الحكيم الخبير أن يحرم مثل رأس الإبرة من الخمر لأنه يدعو إلى كثيره، والكثير يدعو إلى سائر المفاسد، ثم يبيح ما هو أعظم سَوقاً إلى المفاسد من الخمر وهو الغناء! فالغناء أعظم من مفاسد الخمر! إي والله؛ لأن الإنسان لا يشرب الخمر إلا إذا غنى، فلا يشرب الخمر قارئ القرآن، ولا يدمن على المخدرات من يعكُف على حديث النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يعتدي على الأعراض من طهر قلبه بشرع الرحمن، إنما عندما تثور الشهوات في النفوس كأنها براكين من نار، يلجأ الإنسان لإطفائها بمسكر حسي أو مخدر حسي، أو بالاعتداء على أعراض الناس، لن يزال في الحياة مفاسد مادام الغناء منتشراً.

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم: أن الخمر مفتاح كل شر، كما ثبت هذا في مستدرك الحاكم بسند صحيح، وأقره عليه الذهبي ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا الخمر؛ فإنها مفتاح كل شر)، وورد تسميتها بأنها أم الخبائث، كما ثبت هذا في صحيح ابن حبان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اجتنبوا الخمر؛ فإنها أم الخبائث)، والأثر رواه الإمام البيهقي في سننه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وموقوفاً على عثمان رضي الله عنه.

فالخمر مفتاح كل شر، والخمر أم الخبائث، ومفتاح الخمر الغناء، مفتاح أم الشرور الغناء، وإذا غنى الإنسان سيشرب المسكرات، وسيتعاطى المخدرات، ولذلك فإن الإصابة بمرض الغناء أعظم بكثير من الإصابة بسائر الأمراض الأخرى الخبيثة من مسكر أو مخدر أو غير ذلك؛ لأن كل ذلك يزول إذا فُطمت النفس عن الغناء.

قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين

العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين

إذا أصيب الإنسان بجنون وصار أحياناً يُصرع، أما صاحب الغناء وصاحب العشق وصاحب البلاء فهو في سُكر دائم، وهذا السكر الدائم هو أشنع ما يُصاب به الإنسان في هذه الحياة.

إخوتي الكرام! ولذلك سيأتينا أن الله عندما ربّى هذه الأمة رباهم على طهارة القلوب، فحرم عليهم الغناء في مكة قبل أن تنزل الفرائض، وقبل أن تُشرع الحدود، وما حرم الله على المسلمين الخمر إلا في المدينة في العام الثامن للهجرة، أي: بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بواحد وعشرين سنة، أما الغناء فإنه حرم في بداية الأمر؛ لأنك إذا فطمت النفس عن الغناء وقلت له: ابتعد عن الخمر يقول: سمعاً وطاعة، وإذا ربيت القلوب على الغناء وأججت فيها البلاء, لو بذلت ما في وسعك لمنعه عن البلايا من مسكرات ومخدرات لن يجدي ذلك في الناس شيئاً؛ لأنهم إن امتنعوا ظاهراً خشية من العقوبة الحسية، فسيعكفون على ذلك في الخفاء وفي السر وفي الباطن، كما هو حال الناس في هذه الأيام.

ولذلك حرم الغناء على المسلمين في مكة قبل أن تُفرض الفرائض، قبل أن يفرض الصيام، وقبل أن تفرض الزكاة، وقبل أن تحرم سائر المحرمات من مسكر وغيره، وذلك ليشب القلب وليُبنى القلب على الطهارة والفضيلة من البداية، فإذا بُني على الطهارة والفضيلة وقيل له بعد ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91]، استفهام بمعنى الأمر (انتهوا)، فأجابوا إجابة رجل واحد: انتهينا.

ثبت في صحيح البخاري وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنت أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً الخمر قبل أن تُحرم، وإذا بمنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: ألا إن الخمر قد حُرمت، فقالوا: يا أنس أهرق عنا هذه القلال، وما عادوا إليها أبداً).

لقد صب لهم أنس الخمر في الأقداح، ورفعوا الأقداح إلى أفواههم، ولكن القلوب طاهرة، كانت تشرب هذه الخمر بحكم الإباحة الأصلية، فإذا حرمها الله سمعاً وطاعة، فهل أنتم منتهون؟ رفع القدح إلى فيه ما صب قطرة منه في فمه، طرحه وقالوا: انتهينا؛ لأن القلب طاهر، (وفي الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).

والله الذي لا إله إلا هو مادام الغناء معشعشاً في القلوب فلا انتفاع من موعظة، ولا تأثر بنصيحة، وصاحب الغناء ديوث، وبينه وبين الجنة حاجز منيع، وهذا الكلام يقرره نبينا عليه صلوات الله وسلامه، إذا أدخل الإنسان آلات المعازف والمزامير والملاهي التي فشت في بيوتنا، إذا أدخلها فليعلم أن الله سيحجبه يوم القيامة عن جنة النعيم.

ثبت في مستدرك الحاكم بسند صحيح وأقره عليه الذهبي ، والحديث في صحيح ابن حبان ، ومسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق، والديوث، ورَجِلة النساء)، أي: المترجلة من النساء، ومن باب أولى المخنث من الرجال.

وما عجب أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب

والديوث: هو الذي يقر الخبث في أهله، يحضر لهم الأجهزة التي تعرض ما حرم الله، فترى زوجته وبناته وأولاده راقصات يغنين أغنيات، لو سمعها العباد الزهاد لفسدوا، فكيف سيكون حالك يا عبد الله مع أولادك؟! إذا أدخل الإنسان لبيته شيئاً من هذا فالجنة عليه حرام، بكلام نبينا عليه الصلاة والسلام.

انتشار الغناء بين أوساط المسلمين

الأمر الثالث الذي دعاني لاختيار هذا الموضوع ومدارسته في هذا الوقت: أن هذه البلية مع شناعتها وبشاعتها وقبحها ودناءتها، أقبل عليها الكافة إلا ما رحم ربك، وقد فشت آلات الملاهي والبلاء في بيوت الخاصة، وبدأ بعض الغواة ممن يعد نفسه من الدعاة يتبجح بأن الغناء حلال، وأنه عندما يسمع صوت المطربة الخبيثة: (خذني لحناك خذني) يعتريه من الخشوع والوجل ما لا يعتريه عند سماع القرآن، هذا يقوله بعض الخاصة في هذا الوقت، يقولون: الغناء هو غذاء الروح، وهو بهجة النفس، وهو نور القلب، يقوله من يُعتبرون في صفوف الدعاة، لكنهم على الإسلام بغاة -سبحان ربي العظيم!- بدأت القلوب الخبيثة يعتريها خشوع عند سماع الغناء.

رضي الله عن عثمان بن عفان عندما يقول: والله لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام ربنا. لكنها قلوب نجسة تريد ما يناسبها من غناء وبلاء.

إخوتي الكرام! والأمة مع ما أصابها فيها خير، وأمة نبينا صلى الله عليه وسلم معدنها ذهب، مهما تراكم عليها من غبار وأوضار، إذا جليت هذا الغبار يتلألأ المعدن بهجة ونوراً وصفاء وإشراقاً.

وهذا الأمر كنت ذكَّرت به أخواتي الطالبات من ثلاث سنوات، عندما كنت أدرسهن توحيد رب الأرض والسموات، وأغرس في قلوبهن الفضيلة، وأغار عليهن كما أغار على بناتي وزوجي، وقد حصل منهن من الاستجابة ما حصل والحمد لله، وعدد من الطالبات يكتبن لي بأنهن كن يسمعن ويسمعن، وقطعن الأشرطة وصالحن الله جل وعلا.

وبلغ الحال ببعض الطالبات في هذه البلدة المباركة، أنها عندما أراد والدها أن يزوجها توقفت، فلما سألها عن السبب قالت: أقبل الزواج بشرط أن يكتب في العقد أنه لا يدخل لبيت الزوجية شيء من آلات الملاهي! هذا حال الأمة الإسلامية، ويخبرني عن هذا -علم الله- والد المرأة، وأخبر بهذا وكيل كلية الشريعة أمامي، وحدثنا بهذا الأمر كيف زوج ابنته، يقول: فبيَّنا للزوج هذا وكان مبتلى بما ابتُلي به كثير من الناس، فقال: هذا أمر يسير، وعسى الله أن يجعل هدايتي على يد زوجي، يقول: فغاب قليلاً فكسر ما عنده من أجهزة الملاهي ثم أحضر شريطاً من أشرطة الفيديو، وقال: يشهد الله ما بقي في بيتي إلا هذا الشريط، فلتقطعه خطيبتي ولتوافق على زواجي.

هذا حال الأمة الإسلامية، إذا وُجد من يبصرها ففيها خير كثير، وإذا كانت هذه هي همة النساء يشترطن ألا يدخل لبيوت الزوجية شيء من البلاء، فاتقوا الله يا معشر القوامين على النساء، اتقوا الله في زوجاتكم وفي بناتكم، اتقوا الله، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.

إخوتي الكرام! وتحدُثاً بنعمة الرحيم الرحمن، نشأت في بيت لا يعرف شيئاً من مزامير الشيطان، ومن آلات الملاهي، وقد توفي والدي نوَّر الله مرقده وفي غرف الجنان أرقده، وجزاه الله عني وعن المسلمين خيراً، وغفر له ولجميع موتى المسلمين، وقد زاد على تسعين سنة، ووالله ما مسك بيده جهاز المذياع، ولا يعرف كيف يستعمله، وهذا من فضل الله علينا وعليه، ونسأل الله أن يحفظنا مما انتشر في بيوت الناس، ومن سلم من هذه البلية فليحمد الله، ومن ابتُلي بها فليتدارك أمره ورحمة الله واسعة.

وأحدثكم قبل أن أتكلم عن الأمور الخمسة التي تبحث في موضوع الغناء عن رجل صالح سمع موعظة فيما يتعلق بالمزامير وغيرها، فأراد الرجل أن يتوب إلى العزيز الغفور سبحانه وتعالى، لكنه نشَّأ أسرته على الفساد، ولم يطاوعوه بسهولة، والرجل كان جزاراً، وأعرفه معرفة شخصية، فترك جزارته وقعد في بيته يبكي، فاجتمع عليه زوجه وبناته: مالك يا فلان؟ ندعو لك الطبيب؟ قال: لا، فيكم علتي وفيكم دوائي. قالوا: سبحان الله! نحن سبب علتك ومرضك؟ قال: نعم، وكيف نداويك، قال: اعلموا أننا نسير في طريق يوصلنا إلى جهنم، والدنيا منتهية مهما طالت، وأنا أغضبت الله في بيتي، وأسسته على حرب الله على قرآن الشيطان، وأسستكم بهذه الآلات والبليات التي عمت في كل حجرة، وقد ألقى الله في قلبي الهداية، وأنا إليه تائب، ومن هذه الأعمال بريء، فإن كنتم توافقونني على مسلكي فأنا كالجمل صحة وقوة ونشاطاً، وإلا فوالله لن أزال أبكي حتى تأتي منيتي، ويحكم الله بيني وبينكم وهو خير الحاكمين، قالوا: سبحان الله! إلى هذا الحد لعله بك جنون، أصابك مس، عندك نوع من الهيستيريا، خفِف على نفسك، الناس كلهم هكذا، قال: هذا الحل، هذه المزامير تُرفع، أنا طبيعي، والأمور بيننا كما كانت، ونلتزم بشرع الله، ونسير على هدى من الله، أما أن تظلوا عاكفين عليها فوالله لا ينقطع دمعي حتى أدخل قبري.

ولما رأوا منه الجِد، قالوا: أرواحنا فداؤك، وكسروا تلك الآلات وأنابوا إلى رب الأرض والسموات، فعاش الرجل بعد ذلك شهراً ثم لقي ربه، أعرفه معرفة حقيقية -علم الله-، وأسأل الله أن يختم لنا بخير، إنه أرحم الراحمين.

الأمر الأول: تغيرت الحقائق في أذهان الناس منذ زمن بعيد، وهذا ليس بغريب، فقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كلما امتد بالناس الزمن يعرضون عن شرع الله المطهر، ويُحدثون في دين الله ما ليس منه.

ففي مسند الإمام أحمد ، وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه بسند صحيح، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة).

عليك صلوات الله وسلامه يا رسول الله! (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، ومن ألقى نظرة حول اختلاف الناس في هذه المسألة، لرأى ما يحير العقول، وصار كثير من الناس يهرفون بما لا يعرفون في مسألة الغناء، ونسأل الله السلامة من سخطه، ومن سائر أنواع البلاء.

إخوتي الكرام! نقل الإمام الخلال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن إمام أهل السنة الإمام أحمد نضَّر الله وجهه، أنه قال: إذا رأيتم شيئاً مستوياً مستقيماً فتعجبوا! أي: أن الناس يسيرون على الانحراف والزيغ والضلال والبلاء، فإذا رأيتم استقامة في الحياة فتعجبوا من هذه الاستقامة كيف لا زال الناس يمسكون بها ويأخذون بها! فماذا سوف يقول الإمام أحمد نوَّر الله قبره لو رأى زماننا؟