حكم الغناء والموسيقى [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، سبحانك ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

الأحاديث التي دلت على تحريم الغناء كثيرة ومجموعها يفيد التواتر، وهو الثبوت القطعي عن النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ساق الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه: إغاثة اللهفان، ثلاثة عشر حديثاً منها عن ثلاثة عشر صحابياً عن نبينا صلى الله عليه وسلم، سأقتصر منها على حديثين فيهما الدلالة الواضحة على تحريم الغناء، على تحريم التغني والاستماع إليه.

حديث: (ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير...)

الحديث الأول: ثبت في أصح كتاب بعد كتاب الله، في صحيح الإمام البخاري عليه رحمة الله، أورده في كتاب الأشربة، وبوَّب عليه باباً فقال: باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، ثم ساق بسنده إلى أبي مالك الأشعري أو إلى أبي عامر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ، والحرير، والخمر، والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم تروح عليهم بسارحة، يأتيهم -يعني الفقير- لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة).

هذه معجزة من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام، وعلم من أعلام نبوته، يشير إلى ما سيقع في هذه الأمة: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ) أي: الفروج، يستحلون الزنا بالتأويلات الضالة الباطلة، (يستحلون الحر والحرير والخمر) فيسمونها بغير اسمها، من بيرة أو نبيذ أو وسكي أو مشروبات روحية نجسة أو غير ذلك، (ويستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم) أي: إلى جنب جبل، يذهبون للنزهة والسياحة والفسحة، وهم بطرانون، (تروح عليهم بسارحة)، أي: يأتيهم خدامهم ومعهم المواشي ليأخذوا حظهم منها كما يريدون، وهم بجانب ذلك الجبل، لكنهم بطرانون في شهوات أنفسهم، وأما في حق الإحسان إلى الفقراء فهم في أعظم شح وبخل، يأتيهم الفقير ويطلب منهم مساعدة فيقولون: ارجع إلينا غداً، مماطلة لينصرف عنهم.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم مخبراً عما سيحل بهؤلاء الناس الذين سيستحلون هذه الأمور: الحِرَ والحرير والخمر والمعازف، (فيبيتهم الله) أي: ينيمهم في الليل ويدخل عليهم الليل، (ويضع العلم) أي: يدكه ويسويه بالأرض، أي: هذا الجبل العظيم، (ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة) هؤلاء الذين يستحلون المعازف.

قال الإمام ابن حجر في فتح الباري عليه رحمة الله: المعازف هي آلات الملاهي والغناء، (يستحلون المعازف) أي: يستحلون آلات الملاهي والعزف، من زمارة ومزيكة وطبل وغير ذلك، والغناء أيضاً.

وقال الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ عندما أورد هذا الحديث: المعازف اسم لكل ما يعزف به من طنبور أو شبابة أو غير ذلك من آلات الملاهي.

وقال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: المعازف هي آلات اللهو كلها بلا خلاف.

إخوتي الكرام! لو كانت المعازف حلالاً، ولو كان الغناء حلالاً، لما ذمهم نبينا صلى الله عليه وسلم باستحلالها، ولما جعل عقوبتهم كعقوبة من يستحل الخمر، فمن يستحل الغناء كمن استحل الخمر، يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، فلو كانت مباحة وحلالاً لما أُوعدوا هذا الوعيد على استحلالها، فلو كانت مباحة، كيف تترتب عليها عقوبة، إنما هي محرمة كالخمر، ولذلك هم يستحلون ما حرم الله، فيعاقبهم الله جل وعلا بهذه العقوبة.

قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم الغناء وآلات الملاهي، فأقل ما في ذلك أنها شعار الفساق وشربة الخمور. من الذي يزاول الغناء، ومن الذي يستعمل آلات الملاهي وغيرها من البلاء؟ إنهم الفساق وشربة الخمور، أقل ما فيها مشابهتهم بهذا الأمر، فما ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريمها.

قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: وقد ورد في الأحاديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في آخر هذه الأمة مسخ وقذف وخسف، يمسخون قردة وخنازير كما هو في حديث البخاري ، وتخسف بهم الأرض، ويرسل عليهم حجارة من السماء، قال: وهو في أكثر الأحاديث مقيد في صنفين، بشربة الخمور والمغنين، وفي بعض الأحاديث مطلق، أي: سيكون في هذه الأمة هذه العقوبة، فمن زاول الغناء فهو مهدد بهذه العقوبة الفظيعة، بمسخه قرداً أو خنزيراً.

قال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله: ولو استحلوا هذه المحارم مع جزمهم بأن النبي عليه الصلاة والسلام حرمها لكانوا كفاراً، ولو فعلوا هذه المعاصي دون استحلال لها لأوشك ألا يعاقبوا بهذه العقوبة كما لا يعاقب سائر العصاة في هذه الأمة، إنما استحلوا الغناء بنوع تأويل كما هو الحاصل من أهل التضليل والأباطيل في هذا العصر، يقولون: الغناء صوت المطرب يحدث لذة في النفس، ما الداعي لتحريمه؟ يشبه أصوات الطيور والبلابل؟ فإذا كانت تلك الأصوات مباحة فالغناء كذلك، لكن يقال لهم: تهييج النفوس على الأدناس والأنجاس والمسكرات والمخدرات والعهر، هذا ألا تذكرونه؟ ليس في الغناء الصوت المطرب فقط، ففيه أيضاً الفحش والبلاء، إنما يزين لهم الشيطان هذا، فهم يستحلونه بنوع تأويل، أما لو استحلوه مع اعتقادهم أن النبي عليه الصلاة والسلام حرمه فهؤلاء مرتدون خارجون عن حظيرة الإسلام، إنما يستحلونه بنوع تأويل، كما هو حال أهل الأباطيل في هذا العصر الهزيل، يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف.

بيان خطأ ابن حزم وغيره في زعمهم أن أحاديث تحريم الغناء غير صحيحة

إخوتي الكرام! والحديث -كما قلت- صحيح ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام في أصح كتاب بعد كتاب الله، وقد دندن ابن حزم غفر الله له حول صحة الحديث دندنة منكرة، وزعم أن الحديث معلق وليس بمتصل، فـالبخاري قال: وقال هشام بن عمار حدثني ... ثم ساق السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مردود على ابن حزم ، فـهشام بن عمار من شيوخ البخاري ، والتلميذ إذا روى عن شيخه بصيغة: (سمعت أو قال أو عن أو أن) كل هذه الروايات بحكم واحد ومحمولة على الاتصال، ما لم يكن الراوي مدلساً، ولم يصف أحد من خلق الله البخاري بالتدليس، فإذا روى عن شيخه هشام بن عمار بصيغة (سمعت أو قال أو أن) كان هذا محمولاً على الاتصال، كما قال الإمام الأثري الشيخ عبد الرحيم زين الدين عليه رحمة الله:

ولو إلى آخره أما الذي عزا لشيخه بقال فكذي

أي: حكم من قال حكم عن.

عنعنة كخبر المعازف لا تصغ لابن حزم المخالف

وقال أئمتنا في الرد على ابن حزم عند بحث المزامير:

واجزم على التحريم أي جزم والحزم ألا تتبع ابن حزم

فهذا من زللـه وهفواته غفر الله له.

وأما ما يقوله بعض دعاة التحلل في هذا الوقت، ويرتبون أنفسهم في صفوف الدعاة إلى الله، ويحملون حملة منكرة على أحكام الإسلام باسم الإسلام، فيقولون: إن أحاديث الغناء كلها مثخنة بالجراح لا يثبت منها شيء، لمَ هذا الكلام المزور؟ ولمَ هذا الكلام المنمق الذي لا حقيقة له؟ حديث يثبت في صحيح البخاري ، ويُروى عن ثلاثة عشر صحابياً، وبعد ذلك يقولون: هذه كلها مثخنة بالجراح! ثم يقول هذا المشار إليه: ولا بأس من سماع الغناء ولا مانع أن تصحبه الموسيقى غير المثيرة! كذبت يا باغي على دين الله!

آلات العزف بجميع أشكالها محرمة بإجماع العلماء، الموسيقى غير المثيرة تصحب الغناء، تقول هذا لتضلل عباد الله سبحانه وتعالى، (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف).

إخوتي الكرام! قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: ومن لم يمسخ منهم في حياته مُسخ في قبره. ولا يبعد أننا سنستيقظ في يوم من الأيام والناس يتناقلون الأخبار بأنه خُسف ببيت فلان، وقُذف بيت فلان، ومسخ آل فلان قردة وخنازير، ولسنا على الله جل وعلا بأكرم من بني إسرائيل إذا تعدينا حرماته وتجاوزنا حدوده، لما اعتدوا في السبت قال الله لهم كونوا قردة خاسئين، ونحن نعتدي في أيام الأسبوع كلها، ونحارب الله بغنائنا في النهار وفي الليل، وهذه العقوبة مؤقتة بمشيئة الله، فإن شاء أن ينزلها ببعض عباده عاجلاً رأينا ذلك، وإن لم نر هذا بأعيننا فآمنا وصدقنا، ومن مات ولم يمسخ في حياته سيمسخ في قبره.

إخوتي الكرام! أذكر لكم قصة جرت من ثلاث سنين في الرياض، حدثني عنها بعض الإخوة الكرام الطيبين في المدينة المنورة، عن ذاك الرجل الذي حصل له هذا الأمر، يقول: كان بينه وبين رجل مودة، ثم قضى الله على ذلك الرجل بالموت، يقول: فلما دفناه ورجعت إلى بيتي ونمت رأيت ذلك الرجل في المنام، فرأيت على وجهه سواداً، وعليه أثر عذاب وتعب وبلاء ونكد، فقلت: مالك يا عبد الله؟! كنت تصلي معنا في المسجد، وفيك وفيك، قال: والله منذ أن وُضعت في قبري صب الله العذاب عليَّ، قال: وبأي شيء؟ قال: بالمزامير والمعازف والآلات التي في البيت، فأسألك بالله أن تخبر أهلي وأولادي أن يرفعوا هذا من بيتي، فأنا أُعذب بسبب ذلك.

والناقل رجل صالح لا زال على قيد الحياة في الرياض، يقول: فارتاع الرجل وتأثر وهاب أن يخبر أهل الميت بهذا الخبر الذي يقطع القلوب، يقول: وفي اليوم التالي رأى أخاه بهيئته، وجهه مسود، وعليه أثر البلاء والكرب، فقال: يا أخي! أما بلغت أهلي؟ يقول له في الرؤيا: فقلت له: لا، قال: نسيت المودة، ونسيت المعروف، أسألك بالله أن تخبر أهلي ليخلصوني مما أنا فيه، يقول: فهبت أن أخبرهم، ففي الليلة الثالثة رأيته بتلك الحالة وهو يعتب عليَّ أشد العتب، يقول: فأخبرت أهله بعد الرؤيا الثالثة، فقالوا: والدنا وأبونا يُعذب ونحن ننعم على هذه الأجهزة، فأخذتهم الحمية وكسروها، يقول: فرأيته في الليلة الرابعة وعليه ثياب بيضاء، ووجهه منور مشرق، وقال: فرج الله عنك كما فرجت عني.

من لم يمسخ في حياته سيمسخ في قبره ويعذب، (ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة).

حديث: (إن إبليس لما نزل الأرض وطرده الله...)

الحديث الثاني: رواه الطبراني وابن أبي الدنيا عن أبي إمامة ، ورواه الطبراني عن ابن عباس ، قال الإمام ابن القيم : ولكل فقرة من فقراته وجملة من جمله شواهد ثابتة في الكتاب والسنة، فالحديث في درجة القبول، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبليس لما نزل إلى الأرض وطرده الله قال: يا رب! أنزلتني إلى الأرض وجعلتني رجيماً، فاجعل لي بيتاً، قال: بيتك الحمام)، ولذلك الحشوش مملوءة بالشياطين، وإذا دخل الإنسان الحمام يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، أي: من ذكران الشياطين وإناثهم، وإذا ما قال الإنسان هذا ينظر الشيطان إلى سوأته ويلعب بها، لأن هذا بيته، فإذا أردت أن تستر نفسك من نظره فقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، من ذكران الشياطين وإناثهم، قال: (فقال: اجعل لي مجلساً، قال: مجالسك الأسواق)، فمجالسه الأسواق التي فيها اللغو والرفث والكلام والغش والخيانة، قال: (اجعل لي طعاماً، قال: طعامك كل ميتة وكل ما لم يذكر اسم الله عليه، قال: اجعل لي شراباً، قال: شرابك كل مسكر، قال: اجعل لي مؤذناً، قال: مؤذنك الغناء والمزمار).

وهذا كقوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء:64]، اجعل لي مؤذناً أناديهم لطاعتي وللصلاة التي سأنصبها لهم، قال: مؤذنك الغناء والمزمار، ( قال: اجعل لي قرآناً، قال: قرآنك الشعر) وهو الغناء، الشعر القبيح وهو القسم الثاني من الشعر، (قال: اجعل لي كتاباً، قال: كتابك الوشم)، والوشم: أن يأخذ الإنسان حبراً أو نيلة أو شيئاً أزرق أو أخضر بإبرة، ثم يطعن به في الجلد ليخضر ما تحت الجلد ويصبح بلون أزرق أو أخضر أو ما شاكل هذا، ثم يجمد الدم، فيصبح على جلده نقط بلون أزرق أو أخضر أو ما شاكل هذا، هذا يفعله بعض الجاهلين في هذا الوقت ممن ينتسبون إلى الإسلام، ويسمونها دقدقة، يُتزين بها، ويغير خلق الله سبحانه وتعالى وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119].

( قال: اجعل لي حديثاً، قال: حديثك الكذب، قال: اجعل لي رسلاً، قال: رسلك الكهنة، قال: اجعل لي مصائد، قال: مصائدك النساء، فأنت تفتنهن وتفتن بهن) والنساء سهم الشيطان الذي يرمي بهن ولا يخطئ.

إذاً: المزمار أذان الشيطان، والغناء قرآن الشيطان.

قال الإمام ابن القيم : في كون المزمار أذاناً للشيطان في غاية المناسبة؛ لأن الغناء قرآن الشيطان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام إخباراً عن إبليس: (اجعل لي قرآناً، قال: قرآنك الغناء)، فقرآن الشيطان الغناء، وصلاة الشيطان وأتباع الشيطان الرقص والتصفيق، يجتمعون يغنون يقرؤون قرآن الشيطان، ويصلون وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال:35] تصفيقاً وتصفيراً، ولابد للصلاة من مؤذن، فالمؤذن هو المزمار الذي يجمع الناس، والإمام هو المغني، والتلاوة هي الغناء، والمأموم هم السامعون، وأتباع الشيطان يصلون كما أن حزب الرحمن يصلون، ولكن من الذي يخشع في صلاته أكثر؟ أصحاب الشيطان أم أدعياء حزب الرحمن في هذا الوقت؟

ترى التمثيليات التي تقام تأخذ ثلاث ساعات على أقل تقدير، وعندما تنتهي كل واحد يتمنى لو طالت؛ لأنهم في منتهى الخشوع والإنصات والتفاعل مع قرآن الشيطان، ويجيبونه (لبيك لبيك) تلبية تامة، ونحن ندعي أننا من حزب الله، وإذا أطال الإمام الصلاة نقيم الدنيا ونقعدها.

هذا في غاية المناسبة إذا كان للشيطان صلاة فلابد -إذاً- من آذان يؤذن للناس ويدعوهم، وهو المزمار والمزيكا والطبل والدربكة والعود والناي فيسمعون ويأتون، فيقوم المغني وهو الإمام ويتلو قرآن الشيطان لا قرآن الرحمن، فيخشعون ويتفاعلون ويتمايلون عندما يستمعون هذا القرآن.

ورحمة الله على الإمام ابن القيم عندما يقول:

تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة لكنه إطراق ساه لاهِ

وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا والله ما رقصوا لأجل اللهِ

دف ومزمار ونغمة شادنٍ فمتى رأيت عبادة بملاهي

أقول لهم قول عبد نصوح وحق النصيحة أن تُستمع

متى علم الناس في ديننا بأن الغنا سنة تتبع

وأن يأكل المرء أكل الحمار ويرقص في الجمع حتى يقع

فقالوا سكرنا بحب الإله وما أسكر القوم إلا القصع

كذاك البهائم إن أُشبعت يرقصها ريها والشِبع

ويسكره الناي وحب الغنا و(يس) لو تُليت ما انصدع

وقد حرم علماؤنا الرقص والغناء والتصفيق والتصفير، بل قالوا بكفر من استحل ذلك.

ومن يستحل الرقص قيل بكفره لاسيما بالدف يلهو ويزمر

الرقص نقص والسماع رقاعة وكذا التمايل خفة بالراس

والله ما رقصوا لطاعة ربهم بل بالذي طحنوه بالأضراس

هذا حال أتباع الشيطان، عندما يغني المغني يتواجدون، ويرقصون، ويحركون أيديهم وأرجلهم ويخشعون لقرآن الشيطان.

إخوتي الكرام! أذكر لكم قصة مريرة تفري الأكباد، وقعت من قرابة عشرين سنة، وكنت إذ ذاك في المرحلة الثانوية:

ذهبت إلى آخر قرية في بلاد الشام من جهة المشرق إلى قرية جرابلس، تشرف على حدود تركيا وعلى نهر الفرات، أيام الصيف في إجازة في دعوة إلى الله سبحانه وتعالى، بقيت في تلك القرية قرابة ثلاثة أشهر ولكن كما قال القائل: يصيح في واد وينفخ في رماد، ويستجيب لك الواحد بعد الثاني في هذه الفترة الطويلة.

أراد بعد ذلك بعض الطغاة أن يجعل سبيلاً للشيطان لا للرحمن، أن يحضر مغنيتين من بعض البلاد من هناك لتغني للناس على حساب الشيطان, وفي ليلة واحدة جمع المغنيتان ما لم يجمعه من يدعو إلى الإسلام في ثلاثة أشهر، لم يبق ذكر ولا أنثى، كبير ولا صغير، إلا خرج ليمتع عينيه بالنظر إلى هاتين الفاجرتين، سبحان ربي العظيم! وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ [الأنعام:128] أتيتم بكل هؤلاء الأتباع أغويتموهم، سبحان ربي العظيم! من يتبعون قرآن الشيطان أكثر ممن يتبعون قرآن الرحمن، فعزيت نفسي بقول الرحمن: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100]، وعزيت نفسي بحديث نبينا عليه الصلاة والسلام وهو ثابت في الصحيح: (يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد)، وعزيت نفسي بقول القائل:

تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها: إن الكرام قليل

خبيثتان فاجرتان جمعتا أهل البلدة في ليلة، وداع إلى الله في ثلاثة أشهر لا يجتمع إليه إلا أفراد قليلون، وهذا واقع في كل مدينة ومصر، إذا أقيمت حفلة غناء ورقص لبعض السفيهات والسفهاء، وإذا كانت مجاناً سبيلاً على حساب الشيطان، فالذين يحضرون لا يُحصون، وبعض حفلات المباراة التي تقام في بعض البلاد، وحفلات الرقص، يحصى عدد الحضور فيزيدون على نصف مليون, نصف مليون يحضرون مباراة أو حفلة رقص، وأحياناً يجاوزن هذا الحد، سبحان ربي العظيم!

هذا هو حال أتباع الشيطان.

إخوتي الكرام! ومن نظر في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام لا يرتاب في صحتها وفي أنها تدل على تحريم الغناء.

الحديث الأول: ثبت في أصح كتاب بعد كتاب الله، في صحيح الإمام البخاري عليه رحمة الله، أورده في كتاب الأشربة، وبوَّب عليه باباً فقال: باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، ثم ساق بسنده إلى أبي مالك الأشعري أو إلى أبي عامر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ، والحرير، والخمر، والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم تروح عليهم بسارحة، يأتيهم -يعني الفقير- لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة).

هذه معجزة من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام، وعلم من أعلام نبوته، يشير إلى ما سيقع في هذه الأمة: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ) أي: الفروج، يستحلون الزنا بالتأويلات الضالة الباطلة، (يستحلون الحر والحرير والخمر) فيسمونها بغير اسمها، من بيرة أو نبيذ أو وسكي أو مشروبات روحية نجسة أو غير ذلك، (ويستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم) أي: إلى جنب جبل، يذهبون للنزهة والسياحة والفسحة، وهم بطرانون، (تروح عليهم بسارحة)، أي: يأتيهم خدامهم ومعهم المواشي ليأخذوا حظهم منها كما يريدون، وهم بجانب ذلك الجبل، لكنهم بطرانون في شهوات أنفسهم، وأما في حق الإحسان إلى الفقراء فهم في أعظم شح وبخل، يأتيهم الفقير ويطلب منهم مساعدة فيقولون: ارجع إلينا غداً، مماطلة لينصرف عنهم.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم مخبراً عما سيحل بهؤلاء الناس الذين سيستحلون هذه الأمور: الحِرَ والحرير والخمر والمعازف، (فيبيتهم الله) أي: ينيمهم في الليل ويدخل عليهم الليل، (ويضع العلم) أي: يدكه ويسويه بالأرض، أي: هذا الجبل العظيم، (ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة) هؤلاء الذين يستحلون المعازف.

قال الإمام ابن حجر في فتح الباري عليه رحمة الله: المعازف هي آلات الملاهي والغناء، (يستحلون المعازف) أي: يستحلون آلات الملاهي والعزف، من زمارة ومزيكة وطبل وغير ذلك، والغناء أيضاً.

وقال الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ عندما أورد هذا الحديث: المعازف اسم لكل ما يعزف به من طنبور أو شبابة أو غير ذلك من آلات الملاهي.

وقال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: المعازف هي آلات اللهو كلها بلا خلاف.

إخوتي الكرام! لو كانت المعازف حلالاً، ولو كان الغناء حلالاً، لما ذمهم نبينا صلى الله عليه وسلم باستحلالها، ولما جعل عقوبتهم كعقوبة من يستحل الخمر، فمن يستحل الغناء كمن استحل الخمر، يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، فلو كانت مباحة وحلالاً لما أُوعدوا هذا الوعيد على استحلالها، فلو كانت مباحة، كيف تترتب عليها عقوبة، إنما هي محرمة كالخمر، ولذلك هم يستحلون ما حرم الله، فيعاقبهم الله جل وعلا بهذه العقوبة.

قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم الغناء وآلات الملاهي، فأقل ما في ذلك أنها شعار الفساق وشربة الخمور. من الذي يزاول الغناء، ومن الذي يستعمل آلات الملاهي وغيرها من البلاء؟ إنهم الفساق وشربة الخمور، أقل ما فيها مشابهتهم بهذا الأمر، فما ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريمها.

قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: وقد ورد في الأحاديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في آخر هذه الأمة مسخ وقذف وخسف، يمسخون قردة وخنازير كما هو في حديث البخاري ، وتخسف بهم الأرض، ويرسل عليهم حجارة من السماء، قال: وهو في أكثر الأحاديث مقيد في صنفين، بشربة الخمور والمغنين، وفي بعض الأحاديث مطلق، أي: سيكون في هذه الأمة هذه العقوبة، فمن زاول الغناء فهو مهدد بهذه العقوبة الفظيعة، بمسخه قرداً أو خنزيراً.

قال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله: ولو استحلوا هذه المحارم مع جزمهم بأن النبي عليه الصلاة والسلام حرمها لكانوا كفاراً، ولو فعلوا هذه المعاصي دون استحلال لها لأوشك ألا يعاقبوا بهذه العقوبة كما لا يعاقب سائر العصاة في هذه الأمة، إنما استحلوا الغناء بنوع تأويل كما هو الحاصل من أهل التضليل والأباطيل في هذا العصر، يقولون: الغناء صوت المطرب يحدث لذة في النفس، ما الداعي لتحريمه؟ يشبه أصوات الطيور والبلابل؟ فإذا كانت تلك الأصوات مباحة فالغناء كذلك، لكن يقال لهم: تهييج النفوس على الأدناس والأنجاس والمسكرات والمخدرات والعهر، هذا ألا تذكرونه؟ ليس في الغناء الصوت المطرب فقط، ففيه أيضاً الفحش والبلاء، إنما يزين لهم الشيطان هذا، فهم يستحلونه بنوع تأويل، أما لو استحلوه مع اعتقادهم أن النبي عليه الصلاة والسلام حرمه فهؤلاء مرتدون خارجون عن حظيرة الإسلام، إنما يستحلونه بنوع تأويل، كما هو حال أهل الأباطيل في هذا العصر الهزيل، يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف.

إخوتي الكرام! والحديث -كما قلت- صحيح ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام في أصح كتاب بعد كتاب الله، وقد دندن ابن حزم غفر الله له حول صحة الحديث دندنة منكرة، وزعم أن الحديث معلق وليس بمتصل، فـالبخاري قال: وقال هشام بن عمار حدثني ... ثم ساق السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مردود على ابن حزم ، فـهشام بن عمار من شيوخ البخاري ، والتلميذ إذا روى عن شيخه بصيغة: (سمعت أو قال أو عن أو أن) كل هذه الروايات بحكم واحد ومحمولة على الاتصال، ما لم يكن الراوي مدلساً، ولم يصف أحد من خلق الله البخاري بالتدليس، فإذا روى عن شيخه هشام بن عمار بصيغة (سمعت أو قال أو أن) كان هذا محمولاً على الاتصال، كما قال الإمام الأثري الشيخ عبد الرحيم زين الدين عليه رحمة الله:

ولو إلى آخره أما الذي عزا لشيخه بقال فكذي

أي: حكم من قال حكم عن.

عنعنة كخبر المعازف لا تصغ لابن حزم المخالف

وقال أئمتنا في الرد على ابن حزم عند بحث المزامير:

واجزم على التحريم أي جزم والحزم ألا تتبع ابن حزم

فهذا من زللـه وهفواته غفر الله له.

وأما ما يقوله بعض دعاة التحلل في هذا الوقت، ويرتبون أنفسهم في صفوف الدعاة إلى الله، ويحملون حملة منكرة على أحكام الإسلام باسم الإسلام، فيقولون: إن أحاديث الغناء كلها مثخنة بالجراح لا يثبت منها شيء، لمَ هذا الكلام المزور؟ ولمَ هذا الكلام المنمق الذي لا حقيقة له؟ حديث يثبت في صحيح البخاري ، ويُروى عن ثلاثة عشر صحابياً، وبعد ذلك يقولون: هذه كلها مثخنة بالجراح! ثم يقول هذا المشار إليه: ولا بأس من سماع الغناء ولا مانع أن تصحبه الموسيقى غير المثيرة! كذبت يا باغي على دين الله!

آلات العزف بجميع أشكالها محرمة بإجماع العلماء، الموسيقى غير المثيرة تصحب الغناء، تقول هذا لتضلل عباد الله سبحانه وتعالى، (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف).

إخوتي الكرام! قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: ومن لم يمسخ منهم في حياته مُسخ في قبره. ولا يبعد أننا سنستيقظ في يوم من الأيام والناس يتناقلون الأخبار بأنه خُسف ببيت فلان، وقُذف بيت فلان، ومسخ آل فلان قردة وخنازير، ولسنا على الله جل وعلا بأكرم من بني إسرائيل إذا تعدينا حرماته وتجاوزنا حدوده، لما اعتدوا في السبت قال الله لهم كونوا قردة خاسئين، ونحن نعتدي في أيام الأسبوع كلها، ونحارب الله بغنائنا في النهار وفي الليل، وهذه العقوبة مؤقتة بمشيئة الله، فإن شاء أن ينزلها ببعض عباده عاجلاً رأينا ذلك، وإن لم نر هذا بأعيننا فآمنا وصدقنا، ومن مات ولم يمسخ في حياته سيمسخ في قبره.

إخوتي الكرام! أذكر لكم قصة جرت من ثلاث سنين في الرياض، حدثني عنها بعض الإخوة الكرام الطيبين في المدينة المنورة، عن ذاك الرجل الذي حصل له هذا الأمر، يقول: كان بينه وبين رجل مودة، ثم قضى الله على ذلك الرجل بالموت، يقول: فلما دفناه ورجعت إلى بيتي ونمت رأيت ذلك الرجل في المنام، فرأيت على وجهه سواداً، وعليه أثر عذاب وتعب وبلاء ونكد، فقلت: مالك يا عبد الله؟! كنت تصلي معنا في المسجد، وفيك وفيك، قال: والله منذ أن وُضعت في قبري صب الله العذاب عليَّ، قال: وبأي شيء؟ قال: بالمزامير والمعازف والآلات التي في البيت، فأسألك بالله أن تخبر أهلي وأولادي أن يرفعوا هذا من بيتي، فأنا أُعذب بسبب ذلك.

والناقل رجل صالح لا زال على قيد الحياة في الرياض، يقول: فارتاع الرجل وتأثر وهاب أن يخبر أهل الميت بهذا الخبر الذي يقطع القلوب، يقول: وفي اليوم التالي رأى أخاه بهيئته، وجهه مسود، وعليه أثر البلاء والكرب، فقال: يا أخي! أما بلغت أهلي؟ يقول له في الرؤيا: فقلت له: لا، قال: نسيت المودة، ونسيت المعروف، أسألك بالله أن تخبر أهلي ليخلصوني مما أنا فيه، يقول: فهبت أن أخبرهم، ففي الليلة الثالثة رأيته بتلك الحالة وهو يعتب عليَّ أشد العتب، يقول: فأخبرت أهله بعد الرؤيا الثالثة، فقالوا: والدنا وأبونا يُعذب ونحن ننعم على هذه الأجهزة، فأخذتهم الحمية وكسروها، يقول: فرأيته في الليلة الرابعة وعليه ثياب بيضاء، ووجهه منور مشرق، وقال: فرج الله عنك كما فرجت عني.

من لم يمسخ في حياته سيمسخ في قبره ويعذب، (ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة).




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
حكم الغناء والموسيقى [1] 4006 استماع
حكم صلاة التسابيح [2] 3071 استماع
حكم ما يدور في القلوب 3012 استماع
أحكام الاستعاذة [1] 2970 استماع
أحكام الاستعاذة [2] 2787 استماع
حكم الغناء والموسيقى [2] 2647 استماع
حكم صلاة التسابيح [1] 2031 استماع