البدعة - الاجتهاد في الإسلام


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين، ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد: معشر الإخوة الكرام! تقدم معنا أن البدعة من أسباب سوء خاتمة الإنسان، وقلت: إننا سنتدارس هذا المبحث الخطير ضمن ثلاثة أمور:

أولها: في تعريف البدعة.

وثانيها: في النصوص المحذرة من البدعة.

وثالثها: في أقسام البدعة.

ولازلنا في المبحث الأول، في أول هذه الأمور الثلاثة، وتقدم معنا أن البدعة: هي الحدث في الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان، مع الزعم بذلك التقرب إلى الرحمن، ولا تشهد لذلك نصوص الشرع الحسان، ولا يحتمل هذا الحدث قواعد الإسلام. هذا هو تعريف البدعة.

وتقدم معنا أن التعريف السديد الرشيد ضل نحوه فرقتان من الأنام: فرقة غلت وأفرطت ووسعت مفهوم البدعة فأدخلت فيها ما ليس منها، فحكمت بالبدعة والتضليل على ما احتمله الدليل، وقام به إمام جليل. وفرقة فرطت وقصرت فألغت البدعة من الدين كلاً أو بعضاً، والفريقان -كما تقدم معنا- على ضلال، ودين الله بين الغالي والجافي.

إخوتي الكرام! وقد ناقشنا الفرقة الأولى وبينا شططها وانحرافها وغلوها بأمثلة حكموا عليها بالبدعية وهي مقررة عندنا في الشريعة الإسلامية، وكان -كما قلت- ينبغي أن ننتقل إلى الفرقة الثانية لنتدارس أيضاً تفريطها وتقصيرها لنحذرها، لكنني قلت: سأضع معالم بعد دراسة الفرقة الأولى وانحرافها، ثم سأبدأ الرد على الفرقتين.

وهذه المعالم -كما ذكرت- هي ثلاثة معالم:

المعلَم الأول: أن تشريع الشرائع من اختصاص الإله الخالق سبحانه وتعالى.

والمعلم الثاني: أن أركان هداية الإنسان ركنان متينان: شرع قويم وعقل سليم. وتقدم معنا: أنه لا يتعارض عقل صريح مع نقل صحيح.

والمعلَم الثالث الذي ينبغي أن نعيه: منزلة الاجتهاد في الإسلام.

إخوتي الكرام! تقدم الكلام على الأمرين المتقدمين الأوليين: على أن الشرائع من اختصاص الله جل وعلا، فهو الذي لا يشرك في حكمه أحداً، وعلى موقف العقل من النقل، وختمت الكلام بأن أهل السنة الكرام أسسوا دينهم على المنقول وجعلوا المعقول تبعاً، وقد عكس أهل البدع هذا الأمر فأسسوا دينهم على المعقول وجعلوا المنقول تبعاً، وبينت فساد طريقتهم فيما سبق.

إخوتي الكرام! إن العقل مع النقل كالجاهل مع العالم، وكالعامي مع المفتي، ولذلك إذا توهم معارضة بين عقل الإنسان وشرع الرحمن فالواجب على الإنسان أن يطرح عقله وأن يقدم شرع ربه.

نعم، إن العقل إذا كان ذكياً فإنه لا يمكن أن يتعارض مع شرع الله جل وعلا، لكن لو قدر أنه قامت معارضة؛ لوجود لوثة في العقل فيطالب الإنسان في هذا الوقت أن يجعل عقله تبعاً لشرع الله جل وعلا، فالله قد ضمن العصمة لشرعه ووحيه ولم يضمن العصمة لعقولنا، وقلت: إن هذا الأمر ليس من باب ازدراء العقل واحتقاره، إنما هذا من باب حفظ العقل وضبطه؛ لئلا يزل الإنسان؛ ولئلا يبتعد عن الحق والصواب.

بحث العقل في الماديات وما يلزم مراعاته أثناء ذلك

إخوتي الكرام! إن العقل مع النقل كالجاهل مع العالم. وأما الميادين التي يسرح فيها العقل ويمرح، ويصول ويجول والله جل وعلا ترك له حرية التقرير؛ ليثبت ما يشاء وليقرر ما يشاء، وهذا يكون في المسائل المادية البحتة الخالصة، كما هو الحال في علم الجيولوجيا، وفي علم الفلك وفي علم الكيمياء وفي علم الرياضيات وفي علم الفيزياء وفي علم الطب وفي غير ذلك من الأمور، إذاً: العقل هو مكلف بأن يبحث ويجد، وهو يقرر ما يتوصل إليه ولا حجر عليه في ذلك.

إن الأمور المادية هي مجال بحث العقل ليقرر ما يشاء وليثبت ما شاء، لكنه عندما يبحث في هذه الأشياء فغاية ما عنده أنه يثبت المشاهدات، ويستطيع أن يقف على كيفية عمل الأشياء، لكن حقيقة هذه الأشياء وكنهها لا يعلمها إلا الذي خلقها سبحانه وتعالى، ويبقى قول الله جل وعلا لن يتخلف فينا: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].

العلم للرحمن جل جلاله وسواه في جهلائه يتغمغم

لا للتراب وللعلوم وإنما يسعى ليعلم أنه لا يعلم

إذاً: ابحث ما شئت في هذه الأمور المادية، وقرر ما شئت فلا حظر عليك ولا حجر، لكن مع ذلك لابد أن تعلم أن غاية ما تستطيع أن تثبته هو مشاهدات وكيف تعمل الأشياء، لكن حقيقة هذه الأشياء لا يعلمها إلا رب الأرض والسماء: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].

والواجب علينا عندما تبحث عقولنا في هذه الأمور المادية البحتة التي لا تتدخل فيها شرائع الله المطهرة أن نبحثها بطريقة شرعية؛ لأن هذا الكون هو خلق الله ونحن عبيد الله، ولا يجوز أن نتصرف في هذا الكون إلا بمشيئة الله وباسمه، ونطلب المعونة منه في جميع أمورنا.

ولذلك إذا أراد الإنسان أن يبحث في هذه الأمور المادية فليفتتح بحثه باسم خالقها وخالقه وخالق كل شيء (وكل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر أجذم) أي: ممحوق البركة.

ثم بعد ذلك ينبغي أن تكون الطريقة التي يحصل الإنسان فيها هذه العلوم المادية تتصف بأمور:

الأمر الأول: ينبغي أن تكون الطريقة شرعية، فليس هناك اختلاط بين الرجال والنساء عندما نتلقى هذه العلوم المادية وعندما نبحث فيها، فمن أشنع الأشياء في شريعتنا الغراء أن يختلط الرجال بالنساء، وخلطة النساء بالرجال في شرعنا من أقبح الخصال، وسمة الفساق والجهال في كل وقت، وعلى كل حال، ومن أكبر موجبات الطرد.

والأمر الثاني: أن نفتتح هذه العلوم باسم الله، بطريقة شرعية يرضاها الله.

والأمر الثالث: أن نجعل هذه العلوم وسيلة لخدمة الشرع المطهر، فالرياضيات وغيرها عندما نذللها نجعلها لخدمة الدين وخدمة المسلمين.

والأمر الرابع: أن نعتبر بهذه العلوم عندما نتعلمها، فإذا درسنا الفلك ودرسنا الجيولوجيا، ودرسنا التشريح فكل هذا عندما ندرسه ونقوم به ينبغي أن نعتبر بما جعل الله في هذا الكون وفي هذه المخلوقات من أسرار عظيمة تدل على عظيم قدرته سبحانه وتعالى.

عظيم صنع الله بخلقه الأسنان للإنسان وما في ذلك من العبرة

أخي الكريم! إذا كنت تبحث في الطب وهو علم مادي بحت، تقرر بعد ذلك ما يتعلق ببدن الإنسان عن طريق التجارب التي تجريها، وعندما تبحث في هذا وغيره من العلوم تأمل الأسرار التي أودعها الله في بدن هذا الإنسان، فإذا كنت تبحث في طب الأسنان مثلاً، فلا ينبغي أن تمر على الأسنان -كما يقال- مرور الكرام، لا ثم لا، انظر ما في هذه الأسنان من عبر عظيمة تدل على عظيم قدرة ذي الجلال والإكرام، حيث جعل الله جل وعلا في فم الإنسان اثنين وثلاثين ما بين سن وضرس، اثنا عشر سناً وعشرون ضرساً، وهي موزعة كالآتي: ثنايا أربعة: اثنان في الفك الأعلى واثنان في الفك الأسفل، ثم يليها بعد ذلك الرباعيات وهي أربعة أيضاً: اثنان في الفك الأعلى واثنان في الفك الأسفل، يليها الأنياب وهي أربعة أيضاً: اثنان في الفك الأعلى واثنان في الفك الأسفل، يليها بعد ذلك الضواحك، -إذا تبسم الإنسان ظهرت- وهي أول الأضراس وتلي الأنياب وهي أربعة أيضاً: اثنان في الفك الأعلى واثنان في الفك الأسفل، يليها الطواحن وهي اثنا عشر طاحناً، جعلها الله لتطحن الطعام بعد أن قطعته الأسنان، وآخر شيء النواجذ وهي أربعة: اثنان في الفك الأعلى واثنان في الفك الأسفل.

تأمّل يا عبد الله ما في هذه الأسنان من عظيم العجائب التي تحار فيها الأذهان، فالأسنان جعلها الله محددة تقطع كالسكاكين الحادة، وشد أصولها سبحانه وتعالى، والأضراس جعلها الله جل وعلا أرحاء -جمع رحى، أرحاء وأرحية- تطحن هذا الطعام بعد أن قطعته الأسنان، ثم انظر لعظيم التركيب وبهي المنظر وجميل الصنعة في هذه الأسنان، زين الله بها فم الإنسان، جعلها منظومة مرتبة بيضاء مشرقة، كأنها عقد من اللؤلؤ، أو كأنها لؤلؤ منظوم.

ثم انظر يا عبد الله! في هذه الأسنان عندما تطحن هذا الطعام بعد أن يقطع، جعل الله جل وعلا الأسنان في الفكين، وجعل الفك الذي يتحرك هو الفك الأسفل، ولا يوجد رحى على وجه الأرض يتحرك أسفلها ويثبت أعلاها، إنما الرحى التي تطحن هي العليا والسفلى ثابتة. وهذه الرحى أو الطاحون على العكس مما يصنعها بنو آدم، فالفك الأسفل هو الذي يتحرك وهو الذي يقطع الطعام ويطحنه، والفك الأعلى ثابت لا يتحرك؛ وذلك لأسرار عظيمة:

أولها: هذا أجمل بحال الإنسان عندما يأكل الطعام.

وثانيها: إن الفك الأعلى يكون فوقه ويكون في أعلاه أعضاء خطرة شريفة جليلة لو تحرك الفك الأعلى لأدى ذلك إلى وقوع خطر عليها، فيلي الفك الأعلى حاسة الشم، والعين، والدماغ، والسمع، وهذا كله يكون في الفك الأعلى، فلو أن الفك الأعلى يتحرك لحصل ارتجاج لهذه الأعضاء وربما تأثرت. ألا تعتبر بهذا عندما تدرس هذه العلوم؟!

من الذي جعل الأسنان بهذه الكيفية ويليها الأضراس وبعد ذلك فك أسفل يتحرك وفك أعلى ثابت على خلاف المعروف في أرحية بني آدم؟

ثم انظر يا عبد الله! إلى هذه الأسنان كيف جعل الله عليها حائطين، أو طبقين يغطيانها، شفتان: شفة سفلى وشفة عليا، وانظر لحكمة الحكيم العليم، شفتان لا عصب فيهما ولا عظم ليسهل انطباقهما وانفتاحهما، وليسهل مص الماء وشربه بهما. هذا تقدير العزيز العليم.

فيا عجباً! كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد؟!

وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد

وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، سبحانه وتعالى هو الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ [السجدة:7].

فميادين العقل ومجالاته التي يسرح فيها ويمرح ويصول ويجول ميادينه الأمور المادية الخالصة البحتة، وكما قلت: ليبحث فيها ما شاء، وليقرر ما شاء بعد أن يحقق هذه الأمور الأربعة: يفتتحها باسم الله الذي خلقها وخلق كل شيء، ويدرسها ويحصلها بطريقة شرعية، ويجعلها مطية للعلوم الشرعية ولخدمة المسلمين، ويعتبر بما جعل الله فيها من أسرار تدل على أن موجدها إله عظيم سبحانه وتعالى، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].

ولذلك -إخوتي الكرام- عندما جعل الشرع العقل تابعاً له جعل الله بعد ذلك للعقل ميداناً يسرح فيه ويمرح، ألا وهو الأمور المادية البحتة الخالصة، وأما ما يتعلق بسلوك الإنسان -كما تقدم معنا- من حلال وحرام، وفضيلة ورذيلة، وخير وشر، ومعروف ومنكر فمرد ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، له الحكم ولا يشرك في حكمه أحداً.

إخوتي الكرام! هذا كله يتعلق بالأمرين المتقدمين: تشريع الشرائع من خصائص الله الخالق، ولابد لهداية الإنسان من شرع قويم وعقل سليم، ولا يتعارض عقل صريح مع نقل صحيح.

إخوتي الكرام! إن العقل مع النقل كالجاهل مع العالم. وأما الميادين التي يسرح فيها العقل ويمرح، ويصول ويجول والله جل وعلا ترك له حرية التقرير؛ ليثبت ما يشاء وليقرر ما يشاء، وهذا يكون في المسائل المادية البحتة الخالصة، كما هو الحال في علم الجيولوجيا، وفي علم الفلك وفي علم الكيمياء وفي علم الرياضيات وفي علم الفيزياء وفي علم الطب وفي غير ذلك من الأمور، إذاً: العقل هو مكلف بأن يبحث ويجد، وهو يقرر ما يتوصل إليه ولا حجر عليه في ذلك.

إن الأمور المادية هي مجال بحث العقل ليقرر ما يشاء وليثبت ما شاء، لكنه عندما يبحث في هذه الأشياء فغاية ما عنده أنه يثبت المشاهدات، ويستطيع أن يقف على كيفية عمل الأشياء، لكن حقيقة هذه الأشياء وكنهها لا يعلمها إلا الذي خلقها سبحانه وتعالى، ويبقى قول الله جل وعلا لن يتخلف فينا: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].

العلم للرحمن جل جلاله وسواه في جهلائه يتغمغم

لا للتراب وللعلوم وإنما يسعى ليعلم أنه لا يعلم

إذاً: ابحث ما شئت في هذه الأمور المادية، وقرر ما شئت فلا حظر عليك ولا حجر، لكن مع ذلك لابد أن تعلم أن غاية ما تستطيع أن تثبته هو مشاهدات وكيف تعمل الأشياء، لكن حقيقة هذه الأشياء لا يعلمها إلا رب الأرض والسماء: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].

والواجب علينا عندما تبحث عقولنا في هذه الأمور المادية البحتة التي لا تتدخل فيها شرائع الله المطهرة أن نبحثها بطريقة شرعية؛ لأن هذا الكون هو خلق الله ونحن عبيد الله، ولا يجوز أن نتصرف في هذا الكون إلا بمشيئة الله وباسمه، ونطلب المعونة منه في جميع أمورنا.

ولذلك إذا أراد الإنسان أن يبحث في هذه الأمور المادية فليفتتح بحثه باسم خالقها وخالقه وخالق كل شيء (وكل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر أجذم) أي: ممحوق البركة.

ثم بعد ذلك ينبغي أن تكون الطريقة التي يحصل الإنسان فيها هذه العلوم المادية تتصف بأمور:

الأمر الأول: ينبغي أن تكون الطريقة شرعية، فليس هناك اختلاط بين الرجال والنساء عندما نتلقى هذه العلوم المادية وعندما نبحث فيها، فمن أشنع الأشياء في شريعتنا الغراء أن يختلط الرجال بالنساء، وخلطة النساء بالرجال في شرعنا من أقبح الخصال، وسمة الفساق والجهال في كل وقت، وعلى كل حال، ومن أكبر موجبات الطرد.

والأمر الثاني: أن نفتتح هذه العلوم باسم الله، بطريقة شرعية يرضاها الله.

والأمر الثالث: أن نجعل هذه العلوم وسيلة لخدمة الشرع المطهر، فالرياضيات وغيرها عندما نذللها نجعلها لخدمة الدين وخدمة المسلمين.

والأمر الرابع: أن نعتبر بهذه العلوم عندما نتعلمها، فإذا درسنا الفلك ودرسنا الجيولوجيا، ودرسنا التشريح فكل هذا عندما ندرسه ونقوم به ينبغي أن نعتبر بما جعل الله في هذا الكون وفي هذه المخلوقات من أسرار عظيمة تدل على عظيم قدرته سبحانه وتعالى.

أخي الكريم! إذا كنت تبحث في الطب وهو علم مادي بحت، تقرر بعد ذلك ما يتعلق ببدن الإنسان عن طريق التجارب التي تجريها، وعندما تبحث في هذا وغيره من العلوم تأمل الأسرار التي أودعها الله في بدن هذا الإنسان، فإذا كنت تبحث في طب الأسنان مثلاً، فلا ينبغي أن تمر على الأسنان -كما يقال- مرور الكرام، لا ثم لا، انظر ما في هذه الأسنان من عبر عظيمة تدل على عظيم قدرة ذي الجلال والإكرام، حيث جعل الله جل وعلا في فم الإنسان اثنين وثلاثين ما بين سن وضرس، اثنا عشر سناً وعشرون ضرساً، وهي موزعة كالآتي: ثنايا أربعة: اثنان في الفك الأعلى واثنان في الفك الأسفل، ثم يليها بعد ذلك الرباعيات وهي أربعة أيضاً: اثنان في الفك الأعلى واثنان في الفك الأسفل، يليها الأنياب وهي أربعة أيضاً: اثنان في الفك الأعلى واثنان في الفك الأسفل، يليها بعد ذلك الضواحك، -إذا تبسم الإنسان ظهرت- وهي أول الأضراس وتلي الأنياب وهي أربعة أيضاً: اثنان في الفك الأعلى واثنان في الفك الأسفل، يليها الطواحن وهي اثنا عشر طاحناً، جعلها الله لتطحن الطعام بعد أن قطعته الأسنان، وآخر شيء النواجذ وهي أربعة: اثنان في الفك الأعلى واثنان في الفك الأسفل.

تأمّل يا عبد الله ما في هذه الأسنان من عظيم العجائب التي تحار فيها الأذهان، فالأسنان جعلها الله محددة تقطع كالسكاكين الحادة، وشد أصولها سبحانه وتعالى، والأضراس جعلها الله جل وعلا أرحاء -جمع رحى، أرحاء وأرحية- تطحن هذا الطعام بعد أن قطعته الأسنان، ثم انظر لعظيم التركيب وبهي المنظر وجميل الصنعة في هذه الأسنان، زين الله بها فم الإنسان، جعلها منظومة مرتبة بيضاء مشرقة، كأنها عقد من اللؤلؤ، أو كأنها لؤلؤ منظوم.

ثم انظر يا عبد الله! في هذه الأسنان عندما تطحن هذا الطعام بعد أن يقطع، جعل الله جل وعلا الأسنان في الفكين، وجعل الفك الذي يتحرك هو الفك الأسفل، ولا يوجد رحى على وجه الأرض يتحرك أسفلها ويثبت أعلاها، إنما الرحى التي تطحن هي العليا والسفلى ثابتة. وهذه الرحى أو الطاحون على العكس مما يصنعها بنو آدم، فالفك الأسفل هو الذي يتحرك وهو الذي يقطع الطعام ويطحنه، والفك الأعلى ثابت لا يتحرك؛ وذلك لأسرار عظيمة:

أولها: هذا أجمل بحال الإنسان عندما يأكل الطعام.

وثانيها: إن الفك الأعلى يكون فوقه ويكون في أعلاه أعضاء خطرة شريفة جليلة لو تحرك الفك الأعلى لأدى ذلك إلى وقوع خطر عليها، فيلي الفك الأعلى حاسة الشم، والعين، والدماغ، والسمع، وهذا كله يكون في الفك الأعلى، فلو أن الفك الأعلى يتحرك لحصل ارتجاج لهذه الأعضاء وربما تأثرت. ألا تعتبر بهذا عندما تدرس هذه العلوم؟!

من الذي جعل الأسنان بهذه الكيفية ويليها الأضراس وبعد ذلك فك أسفل يتحرك وفك أعلى ثابت على خلاف المعروف في أرحية بني آدم؟

ثم انظر يا عبد الله! إلى هذه الأسنان كيف جعل الله عليها حائطين، أو طبقين يغطيانها، شفتان: شفة سفلى وشفة عليا، وانظر لحكمة الحكيم العليم، شفتان لا عصب فيهما ولا عظم ليسهل انطباقهما وانفتاحهما، وليسهل مص الماء وشربه بهما. هذا تقدير العزيز العليم.

فيا عجباً! كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد؟!

وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد

وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، سبحانه وتعالى هو الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ [السجدة:7].

فميادين العقل ومجالاته التي يسرح فيها ويمرح ويصول ويجول ميادينه الأمور المادية الخالصة البحتة، وكما قلت: ليبحث فيها ما شاء، وليقرر ما شاء بعد أن يحقق هذه الأمور الأربعة: يفتتحها باسم الله الذي خلقها وخلق كل شيء، ويدرسها ويحصلها بطريقة شرعية، ويجعلها مطية للعلوم الشرعية ولخدمة المسلمين، ويعتبر بما جعل الله فيها من أسرار تدل على أن موجدها إله عظيم سبحانه وتعالى، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].

ولذلك -إخوتي الكرام- عندما جعل الشرع العقل تابعاً له جعل الله بعد ذلك للعقل ميداناً يسرح فيه ويمرح، ألا وهو الأمور المادية البحتة الخالصة، وأما ما يتعلق بسلوك الإنسان -كما تقدم معنا- من حلال وحرام، وفضيلة ورذيلة، وخير وشر، ومعروف ومنكر فمرد ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، له الحكم ولا يشرك في حكمه أحداً.

إخوتي الكرام! هذا كله يتعلق بالأمرين المتقدمين: تشريع الشرائع من خصائص الله الخالق، ولابد لهداية الإنسان من شرع قويم وعقل سليم، ولا يتعارض عقل صريح مع نقل صحيح.

وأما الأمر الثالث: وهو الاجتهاد في الإسلام، وإنما ذكرته -إخوتي الكرام- لأنه قد يقول قائل: إن النصوص الشرعية لم تنص على كل جزئية وقضية في هذه الحياة، وقلنا نحن: إن العقل ينبغي أن يكون تابعاً للشرع، فما لا نص فيه ما هو الحكم فيه؟ وما هو الموقف نحوه؟ يأتي معنا منزلة الاجتهاد، ولابد من البحث في هذه القضية لنكون على علم بها.

إخوتي الكرام! الاجتهاد معناه كما قرر علماؤنا اللغويون: افتعال من الجهد وهو الوسع والطاقة، ويعرف في اللغة بأنه: بذل الوسع، أو بذل الطاقة، أو بذل الجهد لتحصيل أمر ما، وفي الغالب لا يقال: اجتهد إلا إذا بذل جهداً شاقاً مضنياً في تحصيل أمر صعب.

والمراد بالاجتهاد عندنا في شريعة الله المطهرة: بذل الوسع والجهد في النظر في الأدلة الشرعية المعتبرة للوصول إلى القطع أو الظن بحكم شرعي في شريعة الله المطهرة. فيبذل الإنسان جهده في الأدلة الشرعية ليقيس النظير على النظير, والمثيل على المثيل، والشبيه على الشبيه، ليصل بعد ذلك إلى قطع أو غلبة ظن بحكم من الأحكام بأن هذا الحكم ثابت في شريعة الرحمن.

هذا معنى الاجتهاد: أن يبذل الإنسان ما في وسعه وجهده وطاقته بحثاً في الأدلة الشرعية المعتبرة؛ ليصل عن طريق القطع أو الظن بحكم شرعي مقرر في شريعة الله المطهرة.

لقد جعل أئمتنا الكرام الاجتهاد ثلاثة أقسام، ولا بد من وعي هذا، لا سيما في هذه الأيام؛ لنرى موقعنا وكيف نتعامل مع أئمتنا الكرام.

القسم الأول: المجتهد المطلق: وهو الذي يستقل بنفسه في معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، هذا يقال له: مجتهد مطلق، ولابد من أن توجد فيه ستة شروط بعد وجود مناط التكليف فيه، أعني: ركني التكليف: العقل والبلوغ، فإذا كان عاقلاً بالغاً فينبغي أن توجد فيه ستة شروط؛ ليكون مجتهداً مطلقاً ينظر في أدلة الشرع، ويستنتج منها حكماً شرعياً لواقعة من الوقائع، فهذا هو المجتهد المطلق.

والشروط الستة هي:

أولها: أن يحيط بالنصوص الشرعية من الآيات القرآنية وأحاديث نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام، وما بني على هذين الأمرين من إجماع حق، وقياس صدق.

ثانيها: أن يعلم أقوال السلف الطيبين -من صحابة ومن تابعين رضوان الله عليهم أجمعين- في هذه القضية وفي مسائل الدين؛ لأن خير من فهم القرآن وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام وعمل بهما هم سلفنا الكرام، من صحابة وتابعين عليهم جميعاً رحمات ورضوان رب العالمين.

ثالثهما: مما ينبغي أن يكون في هذا المجتهد المطلق: أن يكون على إلمام واسع بلغة العرب، فيعرف مدلول الكلام، ويعلم ما يتعلق باللغة من نحو وبلاغة وصرف.

رابعها: أن يكون على علم تام بعلم الأصول، وأريد بالأصول هنا: الأصول الثلاثة: أي: أصول الدين وأصول الفقه وأصول الحديث، أي: علم المصطلح.

خامسها: أن يكون على فطنة وذكاء، فإذا نظر إلى اللفظ الشرعي يعلم ما وراءه من دلالة شرعية معتبرة، ويعرف مراد المتكلم من كلامه؛ لما وهبه الله من ذكاء لا يوجد عند كثير من الناس.

سادسها: أن يكون -هذا المجتهد- فيه صفة الطهارة والصدق والذكاء، فبعد أن وجد فيه الذكاء والألمعية ينبغي أن يوجد فيه الإخلاص لرب البرية سبحانه وتعالى، فإذا اجتمعت هذه الأمور الستة فيه فهذا هو المجتهد المطلق الذي -كما قلت- ينظر في الأدلة التفصيلية فيستنبط منها الأحكام الشرعية، وهو على هدى في جميع أحواله كما سيأتينا ضمن مراحل البحث.

إذاً: هو مجتهد مطلق أحاط بالنصوص الشرعية، وعلم بعد ذلك -كما قلت- أقوال السلف الكرام -ليستضيء بأقوالهم وليعلم محل الإجماع لئلا يخالفه؛ لأن مخالف الإجماع ضال- وعلم بعد ذلك لغة العرب.

وكيف سيفقه نصوص الشرع إذا كان لا يستطيع أن يفهم لغة العرب؟ ولا يميز بين الفاعل والمفعول؟ فحاله في عداد الأعاجم ثم هو مع ذلك يريد أن يتسور على كلام الله جل وعلا، لا ثم لا، وحال من أراد أن يستنبط أحكاماً شرعية من النصوص الشرعية دون أن يحيط علماً باللغة العربية حاله كما قال الإمام الواحدي في البسيط -وهو كتاب كبير في التفسير للإمام الواحدي - يقول: حال من أراد أن يفسر كلام الله، ويشرح حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ويستنبط الأحكام منهما دون علم بلغة العرب كحال من شهد الهيجاء بغير سلاح، وكحال من رام أن يطير في الهواء بغير جناح.

فهذا شهد المعركة ولا سلاح عنده، أو أراد أن يطير ولا جناح له، وهذا أراد أن يستنبط أحكاماً شرعية من هذه النصوص الحقة الثابتة الشرعية وليس عنده علم باللغة العربية.

والإمام الشافعي عليه رحمة الله -في كتابه الرسالة- أفاض في بيان هذا الشرط، وبين أن جُمل القرآن وأحكامه لا تُفهم إذا لم يحط الإنسان علماً بلغة العرب وأساليبهم.

ورحمة الله على الإمام الأصمعي عندما يقول: تعلموا العربية فإن النصارى كفروا بسبب خطئهم في حرف واحد، قال الله لنبيه وروحه وكلمته عيسى -على نبينا وعلى آله الصلاة والسلام- يا عيسى! أنت نبي وأنا ولّدتُك. -يعني: أخرجتك من بطن أمك، والله جل وعلا على كل شيء قدير، وكونه في بطن أمه دون أن يحصل اتصال عادي كما هو المعروف بين البشر يدل على كمال قدرة الله سبحانه وتعالى- (أنت نبي وأنا ولّدتُك). قال الأصمعي : فخففوها (أنت نبي وأنا ولدتك)، يعني: أنت نبي وأنت ولدي فكفروا بحرف واحد.

ولذلك لابد من إدراك لغة العرب.

والأمر الرابع-كما قلت إخوتي الكرام- أن يحيط بعلم أصول الدين وأصول الفقه وأصول الحديث.

والخامس: أن يكون على ذكاء وألمعية، والناس لا يستوون في هذا، فالله جعل للحديث رجالاً وجعل للفقه رجالاً، وجعل للصنفين رجالاً، وكل واحد ينبغي أن يقف عند حدِّه.

الفرق بين منزلة المحدثين والفقهاء

وإذا كان الإنسان يعنى بالحديث وليست عنده ملكة فقهية فينبغي له أن يقف عند حده وإلا سيخبط في دين ربه.

ولذلك -إخوتي الكرام- كان للمحدثين منزلة، وكان للفقهاء منزلة، ومنزلة الفقهاء كمنزلة الأطباء، كما أن منزلة المحدثين كمنزلة الصيادلة، وهذا يقوله أئمة الحديث أنفسهم عندما كانوا يجتمعون مع فقهاء هذه الأمة المباركة المرحومة.

وما يقوله بعض الناس في هذه الأيام: كيف يعلم الإنسان الحديث وهو لا يعلم الفقه؟ وأي غرابة في ذلك؟! لو علمت الحديث لما أوردت هذا الكلام فهو من لهو الحديث. أما بلغك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( رب حامل فقه ليس بفقيه )، أما بلغك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( رُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه )، والحديث صحيح متواتر: رواه الإمام أحمد في المسند، والترمذي في سننه، وابن ماجه في سننه، وابن حبان في صحيحه من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ورواه الإمام أبو داود في سننه والترمذي في سننه، وابن ماجه في سننه أيضاً وابن حبان في صحيحه، ورواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة من رواية زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه في سننه والحاكم في مستدركه من رواية جبير بن مطعم ، ورواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه من رواية أنس بن مالك ، وروي عن أبي هريرة وغيره، وقد نص أئمتنا على تواتره كما بينت سابقاً.

ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )، إذاً: قد يكون الإنسان محدثاً ويحمل الحديث وليس عنده ملكة الفقه، وليس عنده درجة الاستنباط، فليقف عند حده.

وسأذكر ثلاث قصص وقعت في الزمن القديم بين الفقهاء والمحدِّثين رضوان الله عليهم أجمعين، وكيف أن فيها هذه الدلالة وهي: أن حامل الفقه قد لا يكون فقيهاً، وأن من يحمل الحديث قد لا يكون عالماً بمدلوله وبمراد نبينا صلى الله عليه وسلم منه.

قصة الأعمش المحدث مع أبي حنيفة الفقيه

القصة الأولى: يذكرها شيخ الإسلام الإمام ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله في الجزء الثاني صفحة إحدى وثلاثين، جرت بين إمامين: بين شيخ الإسلام في زمنه في الحديث بلا نزاع ألا وهو الإمام الأعمش سليمان بن مهران ، الذي توفي سنة سبع وأربعين ومائتين للهجرة، والإمام الثاني: فقيه هذه الأمة وهو أول الفقهاء الأربعة، وهو الإمام المبجل المبارك أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

اجتمعا فسُئل الإمام الأعمش عن مسألة فأحالها على أبي حنيفة فأجاب فيها فقال: من أين لك هذا يا نعمان ؟! قال: مما حدثتناه أنت، ثم روى له الحديث، فقال: أنتم الأطباء ونحن الصيادلة. فـأبو حنيفة يقول للأعمش : أنت حدثتني بحديث يدل على هذه القضية، فقال الأعمش : أنتم الأطباء ونحن الصيادلة.

وقبل هذه القصة يذكر الإمام ابن عبد البر أيضاً في الكتاب المشار إليه في نفس الصفحة أنه جرى نظير هذه القصة مع الإمام الأعمش وتلميذ أبي حنيفة أبي يوسف يعقوب رحمة الله ورضوانه عليه وعليهم أجمعين، فعندما أجاب أبو يوسف قال له الأعمش : من أين لك هذا يا يعقوب ؟! قال: مما حدثتني أنت، فقال: والله إنني أعلم هذا الحديث قبل أن يجتمع أبواك، أي: قبل أن يتزوج أبواك وأنا أعلم هذا الحديث، لكن هذه الدلالة ما لاحت لي ولا ظهرت لي.

نعم، إن المحدِّثين كانوا يقرّون بهذا، فلابد من ملكة فقهية، والله يعطي الحكمة لمن يشاء سبحانه وتعالى.

قصة أبي سليمان الدمشقي المحدث مع أبي جعفر الطحاوي الفقيه

القصة الثانية: ويذكرها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، في الجزء السادس عشر صفحة أربعين وأربعمائة، وهي مذكورة في تذكرة الحفاظ في ترجمة العبد الصالح أبي سليمان الدمشقي ، وتوفي سنة تسع وسبعين وثلاثمائة للهجرة، وهو محمد بن عبد الله بن أحمد أبو سليمان الدمشقي ، اجتمع مع إمام الفقهاء الحنفية في زمنه الإمام أبي جعفر الطحاوي ، واستعار منه كتبه في الحديث، ونظر فيها فأُعجب بها أبو جعفر ، ثم قال لهم: أنتم معشر المحدثين صيادلة، ونحن معشر الفقهاء أطباء. وهذا ما أقر به -كما قلت- جهابذة المحدثين.

قصة ابن معين المحدث مع أبي ثور الفقيه

أختم هذه القصص بالقصة الثالثة: يرويها الإمام الرامهرمزي الذي توفي سنة ستين وثلاثمائة للهجرة، في كتابه: المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، في صفحة خمسين ومائتين، خلاصتها: أن امرأة كانت تغسل الموتى -من مات من نساء المسلمين- فجاءت إلى مجلس أبي زكريا يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل في هذه الأمة، وهو قرين وصاحب الإمام أحمد رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين للهجرة. فجاءت هذه المرأة إلى مجلس أبي زكريا يحيى بن معين فقالت: يا أبا زكريا ! هل يجوز للحائض أن تُغسِّل الموتى؟ أي: إذا ماتت امرأة مسلمة، وهذه المُغسِّلة حائض فهل يجوز لها أن تغسِّلها؟ قال: لا أدري، لكن عليكِ بهذا الرجل، ويريد به أبا ثور إبراهيم بن خالد الذي توفي سنة أربعين ومائتين للهجرة، وهو من أبرز تلاميذ الإمام الشافعي ومن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.

عليكِ بهذا الرجل، ثم عودي إليّ فأخبريني، فذهبت إلى أبي ثور فقالت: يا أبا ثور ! هل يجوز للحائض أن تغسل الموتى؟ قال: نعم يجوز. قالت: وما دليلك؟ قال: حديثان عن نبينا عليه الصلاة والسلام، الحديث الأول: ثابت في المسند، ورواه أهل الكتب الستة إلا سنن الإمام الترمذي ، وهو في موطأ الإمام مالك ومسند الدارمي ، وهو أيضاً في السنن الكبرى للإمام البيهقي ، وهو حديث صحيح، ولفظ الحديث: عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ( ناوليني الخمرة ) وهي شيء صغير بحجم الكف يظفر من خوص أو خرق يضع الإنسان جبهته عليها عندما يسجد في الأيام الحارة، ومن المعروف أن مسجد نبينا عليه الصلاة والسلام في العصر الأول ومساجد المسلمين منها ما لم تفرش، وكانوا يُصلّون على البطحاء وعلى الحصى، وإذا اشتد الحر يؤذي الجبهة غاية الأذى، فكانوا أحياناً يسجدون على هذه الخمرة؛ ليقوا الجبهة من الحر.

قال: ( ناوليني الخُمرة، فقالت أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها: إنني حائض، فقال عليه الصلاة والسلام: إن حيضتكِ ليست في يدكِ )، ولفظ (الحيضة) هنا بالفتح وهو المعتمد، والمراد: الدفعة من الدم، وليس المراد كما قال بعض علماء اللغة: (إن حِيضتك) وهي الحالة التي تعتري الحائض، لا، بل هذا وهم كما قال الإمام الخطابي عليه رحمة الله.

فقوله: ( إن حيضتكِ ) أي: إن هذا الدم الذي يخرج ليس في يدكِ، وإذا أنتِ مُنعتِ بعد ذلك من الصلاة والصيام لأمر شاءه الرحمن ليس معنى هذا أنكِ نجسة.

والحديث الثاني: رواه الإمام أحمد أيضاً في المسند وأهل الكتب الستة -الصحيحان وأهل السنن الأربعة- ورواه أيضا الإمام مالك في الموطأ، والإمام الدارمي في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى، وأبو داود الطيالسي في مسنده أيضاً عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكأ في حجري، فكنت أرجل رأسه وأنا حائض )، فقال أبو ثور : الحيضة ليست في اليد، وإذا أبيح للحائض أن ترجل وتسرح شعر الحي فيباح لها أن تغسل بدن الميت.

قالت: جزاك الله خيراً أبا ثور ، ثم ذهبت إلى أبي زكريا إمام الجرح والتعديل في هذه الأمة فقال لها: ماذا قال لكِ هذا الرجل الإمام؟ قالت: يجوز؛ لهذين الحديثين، قال: أحفظ كلاً منهما من كذا وكذا طريقاً، وبدأ يورد الطرق هو وأصحابه لهذين الحديثين، فلما انتهوا من سرد الطرق ومن استحضار حفظهم نحو هذين الحديثين قالت المرأة: فأين كنتم آنفاً عندما سألتكم؟ أي: سألتكم وبدأت بكم أين كنتم؟ تحفظون هذه الروايات ولا تستنبطون منها هذه الأحكام.

وانظر لشهادة الإمام المبجل شيخ أهل السنة في هذه الأمة الإمام أحمد رحمة الله ورضوانه عليه، وهو أخبر الناس بقرينه أبي زكريا يحيى بن معين ، وهو أخبر الناس بشيخه أبي عبد الله الإمام الشافعي رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

قيل للإمام أحمد : إن ابن معين ينال من الشافعي ويقول: إن الشافعي ليس بثقة، فقال الإمام أحمد : إن ابن معين لا يعرف الشافعي ولا يفقه ما يقول الشافعي ، أي: إذا تكلم الإمام الشافعي في الفقه فـابن معين لا يعي هذا، ولا يدركه، فهل يؤخذ بكلامه في هذا الإمام العظيم المبارك؟

قال الإمام ابن عبد البر معلقاً على هذا في جامع بيان العلم وفضله: وقد سئل ابن معين عن مسألة في التيمم فلم يعرفها.

هذه منزلة الفقهاء، ولذلك قال الإمام ابن عبد البر : وما مثال من يقع في الإمام الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد إلا كما قال الأعشى :

كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

فالوعل إذا جاء إلى صخرة من أجل أن يُفتِّتها، وضربها بقرونه فإنه ينكسر قرنه والصخرة هي هي.

يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

والله لو اجتمع أهل الحديث قاطبة على النيل من الإمام الشافعي لما زاده إلا رفعة وقدراً، فإذا كانوا لا يعلمون الفقه فليقفوا عند حدهم، فالإمام ابن معين عندما جرى منه ما جرى -وهو معذور ونسأل الله أن يغفر لنا وله- يقول قرينه تلميذ الإمام الشافعي الإمام أحمد يقول: اعذروه، هو لا يعرف الشافعي ولا يفقه ما يقول الشافعي ، وعليه فكلامه في هذا الإمام العظيم لا قيمة له.

نعم، إخوتي الكرام! لا بد من فطنة، لابد من ذكاء، لابد من ملكة، فالله فاوت بين خلقه في هذه الأمور وكما فاوت بين أبدانهم فقد فاوت بين عقولهم، فينبغي أن نضع الأمر في موضعه الشرعي. هناك أطباء وهناك صيادلة، ولا يجوز أن تذهب إلى الصيدلي ليعالجك وليجري لك عملية جراحية، فلن تُحصِّل بعد ذلك إلا السقم والموت، إنما هذا اختصاص الطبيب. وينبغي أن يستعان على كل صنعة بصالح أهلها.

إخوتي الكرام! هذا هو المجتهد المطلق الذي يستقل بنفسه في معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية؛ لأنه أحاط بالنصوص الشرعية وما بُني عليها من إجماع صحيح، وقياس صدق؛ لأنه أحاط بقول السلف الكرام من صحابة وتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، علم اللغة وأساليبها واستعمالاتها، علم أصول الدين وأصول الفقه وأصول الحديث، وهبه الله ذكاء وفطنة يعلم ما وراء اللفظ من معنى، فإذا كانت أمنا عائشة رضي الله عنها تُرجل رأس نبينا عليه الصلاة والسلام وهي حائض فيجوز للحائض أن تُغسّل الموتى.

والأمر السادس في هذا الفقيه -الذي هو مجتهد مطلق كما قلت-: أن فيه طهارة وذكاء، فمن كان فيه ذكاء وفيه طهارة، وفيه صدق، وفيه إخلاص لرب الأرض والسماء فهذا هو المجتهد المطلق.

وأول من يدخل في هذا التعريف أئمتنا الكرام، سادتنا رضوان الله عليهم أجمعين: الفقهاء الأربعة: وأولهم فقيه هذه الأمة بلا نزاع وكل من تفقه بعده فهو عيال عليه: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين. فكل واحد منهم مجتهد مطلق.

وإذا كان الإنسان يعنى بالحديث وليست عنده ملكة فقهية فينبغي له أن يقف عند حده وإلا سيخبط في دين ربه.

ولذلك -إخوتي الكرام- كان للمحدثين منزلة، وكان للفقهاء منزلة، ومنزلة الفقهاء كمنزلة الأطباء، كما أن منزلة المحدثين كمنزلة الصيادلة، وهذا يقوله أئمة الحديث أنفسهم عندما كانوا يجتمعون مع فقهاء هذه الأمة المباركة المرحومة.

وما يقوله بعض الناس في هذه الأيام: كيف يعلم الإنسان الحديث وهو لا يعلم الفقه؟ وأي غرابة في ذلك؟! لو علمت الحديث لما أوردت هذا الكلام فهو من لهو الحديث. أما بلغك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( رب حامل فقه ليس بفقيه )، أما بلغك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( رُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه )، والحديث صحيح متواتر: رواه الإمام أحمد في المسند، والترمذي في سننه، وابن ماجه في سننه، وابن حبان في صحيحه من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ورواه الإمام أبو داود في سننه والترمذي في سننه، وابن ماجه في سننه أيضاً وابن حبان في صحيحه، ورواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة من رواية زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه في سننه والحاكم في مستدركه من رواية جبير بن مطعم ، ورواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه من رواية أنس بن مالك ، وروي عن أبي هريرة وغيره، وقد نص أئمتنا على تواتره كما بينت سابقاً.

ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )، إذاً: قد يكون الإنسان محدثاً ويحمل الحديث وليس عنده ملكة الفقه، وليس عنده درجة الاستنباط، فليقف عند حده.

وسأذكر ثلاث قصص وقعت في الزمن القديم بين الفقهاء والمحدِّثين رضوان الله عليهم أجمعين، وكيف أن فيها هذه الدلالة وهي: أن حامل الفقه قد لا يكون فقيهاً، وأن من يحمل الحديث قد لا يكون عالماً بمدلوله وبمراد نبينا صلى الله عليه وسلم منه.

القصة الأولى: يذكرها شيخ الإسلام الإمام ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله في الجزء الثاني صفحة إحدى وثلاثين، جرت بين إمامين: بين شيخ الإسلام في زمنه في الحديث بلا نزاع ألا وهو الإمام الأعمش سليمان بن مهران ، الذي توفي سنة سبع وأربعين ومائتين للهجرة، والإمام الثاني: فقيه هذه الأمة وهو أول الفقهاء الأربعة، وهو الإمام المبجل المبارك أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

اجتمعا فسُئل الإمام الأعمش عن مسألة فأحالها على أبي حنيفة فأجاب فيها فقال: من أين لك هذا يا نعمان ؟! قال: مما حدثتناه أنت، ثم روى له الحديث، فقال: أنتم الأطباء ونحن الصيادلة. فـأبو حنيفة يقول للأعمش : أنت حدثتني بحديث يدل على هذه القضية، فقال الأعمش : أنتم الأطباء ونحن الصيادلة.

وقبل هذه القصة يذكر الإمام ابن عبد البر أيضاً في الكتاب المشار إليه في نفس الصفحة أنه جرى نظير هذه القصة مع الإمام الأعمش وتلميذ أبي حنيفة أبي يوسف يعقوب رحمة الله ورضوانه عليه وعليهم أجمعين، فعندما أجاب أبو يوسف قال له الأعمش : من أين لك هذا يا يعقوب ؟! قال: مما حدثتني أنت، فقال: والله إنني أعلم هذا الحديث قبل أن يجتمع أبواك، أي: قبل أن يتزوج أبواك وأنا أعلم هذا الحديث، لكن هذه الدلالة ما لاحت لي ولا ظهرت لي.

نعم، إن المحدِّثين كانوا يقرّون بهذا، فلابد من ملكة فقهية، والله يعطي الحكمة لمن يشاء سبحانه وتعالى.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
البدعة - عبادة الدعاء والابتداع فيه 3766 استماع
البدعة - زيارة النساء للقبور 3653 استماع
البدعة - الاجتهاد وموقعه من التشريع 3153 استماع
البدعة - الابتداع في الذكر 2815 استماع
البدعة - حياة الأنبياء في البرزخ 2763 استماع
البدعة - عبادة الذكر والابتداع فيه 2669 استماع
البدعة - تعريفها وضوابطها 2597 استماع
البدعة - ما يصل للميتين باتفاق المسلمين 2587 استماع
البدعة - التشريع لله وحده 2454 استماع
البدعة - إهداء القربات البدنية للأموات 2182 استماع