كيف نستفيد من رمضان


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

إنزال القرآن وتشريع التكاليف فيه

أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى يختار من خلقه ما يشاء، وقد اختار مواسم للزمان والمكان شرفها بأن أضافها إلى نفسه إضافة تشريف، وخصها بمزيد من الفضل، وجعلها مكاناً للعبادة، وأعان فيها عباده على طاعته، وضاعف لهم الأعمال فيها، ومن هذه المواسم هذا الشهر الكريم الذي خصه الله بكثير من الخصائص، منها أنه أنزل فيه القرآن، وشرفه بهذا التشريف العظيم، فقال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].

ومنها أنه عمل لعباده فيه بأن يتشبهوا بالملائكة الكرام، فشرع لهم الصيام في نهاره، والقيام في ليله، ليعمروا وقت هذا الشهر الكريم كله بعبادته سبحانه وتعالى، ومن المعلوم أن الإنسان بين عنصرين يحفان به: عنصر أسمى منه، وهو جنس الملائكة، وعنصر أدنى منه وهو الحيوان البهيم، فالملائكة شرفهم الله بالتكاليف، ولم يمتحنوا بالشهوات، والحيوان البهيم سلط الله عليه الشهوات، ولم يمتحنه بالتكاليف، والإنسان بين هذين الصنفين، فإن هو أدى التكاليف، ولم يتبع الشهوات؛ التحق بالصنف الأسمى منه وهم الملائكة، وإن هو ضيع التكاليف واتبع الشهوات؛ التحق بالصنف الأدنى منه وهو الحيوان البهيم، إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].

وتشبه الإنسان بالملائكة يتم من خلال حبسه نفسه على طاعة الله عز وجل، فالملائكة عباد مكرمون، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، والإنسان إذا كان كذلك فحبس نفسه عن معصية الله، وقصرها على طاعته، ولم يجعل للشهوات مكاناً، فإنه قد التحق بالملائكة واتصل بهذا الصنف، وأجره في ذلك أعظم؛ لأنه قد سلطت عليه الشهوات، فاستطاع التغلب على نوازعه وكبح جماح نفسه.

وكذلك من خصائص هذا الشهر التي خصه الله بها أن جعل فيه ليلة القدر، وهي ليلة عظيمة جعلها الله سبحانه وتعالى ميزةً لهذه الأمة حين علم قصر أعمالها، وضعف أبدانها، فزاد أعمارها في كل سنة بهذه الليلة، فمن وفق لقيامها كأنما ازداد عمره في تلك السنة بأربع وثمانين سنةً وأربعة أشهر على الأقل، هذا أقل منه حظاً، فهي خير من ألف شهر، وهذه الخيرية غير محصورة، ومنهم من تعد له هذه الليلة بآلاف الشهور، فيكون عمره في مضاعفة غير منتهية.

شهر الصبر

كذلك من خصائص هذا الشهر التي خصه الله بها أن جعله شهر الصبر، فيتعود فيه الإنسان على الصبر عن معصية الله، والصبر على طاعته سبحانه وتعالى، والكف عما حرم عليه، وهذا الصبر جند من جنود الله، يثبت الله به المؤمنين، فإن للشيطان جندين: أحدهما: جند الشهوات، والثاني: جند الشبهات. ولله سبحانه وتعالى جندين: أحدهما: يسمى بالصبر، والثاني: يسمى باليقين.

فالصبر يقضي على الشهوات، واليقين يقضي على الشبهات، فإذا جمع الإنسان بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين، ولهذا قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، حين جمعوا بين الصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين.

انتصار الإنسان بالصبر على الجبهات التي تواجهه

وبالصبر ينتصر الإنسان على جبهة عظيمة من الجبهات الخمس المفتوحة عليه، فالإنسان بين خمس جبهات من أعدائه:

الجبهة الأولى: جبهة إبليس، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:6]، وهذه الجبهة أعاننا الله عليها في رمضان بتقييد المردة من الشياطين، فإنهم يصفدون إلى صلاة العيد، والمردة هم أقوى الشياطين، فالواحد منهم ينوب مناب مائة وعشرين مما سواهم، وتصفيدهم عون عظيم على طاعة الله، وبذلك يعان الإنسان على هذه الجبهة، ولا تسد جبهة الشيطان مطلقاً، بل لا بد أن يبقى فيها بعض جنود إبليس من شياطين الإنس والجن، ولهذا يقع الوسواس في رمضان، وتقع المعصية في رمضان، ويقع الجنون في رمضان، لكنه لا يقع من المردة الذين هم أقوى الجن، فهم مصفدون، وإنما يقع ممن دونهم من ضعفة الجن ومن شياطين الإنس.

ثم الجبهة الثانية: هي جبهة إخوان السوء، الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].

والإنسان له ثلاثة أنواع من أنواع الخلان:

النوع الأول: أخ كالغذاء لا يستغني عنه الإنسان أبداً، وهو الذي يعينه على أمور الدين.

والثاني: أخ كالدواء، يستغني عنه الإنسان في أحيان كثيرة، ولكنه إذا احتاج إليه لا يسد غيره مسده، وهذا هو الذي يعينه على أمور الدنيا.

الثالث: أخ كالداء، لا يعين الإنسان على أمر دين ولا دنيا، بل يكون جائحةً تصيب وقته، ومضرةً تذهب بعض أوقاته الثمينة، وتذهب ببعض عمره هباءً منثوراً، وهؤلاء الإخوان أعداء، وقد أعان الله عليهم في هذا الشهر بانشغال الإنسان عن مجالس إخوان السوء، ففي النهار يتذكر الصائم صومه، فهو في حريم الصيام لا يعتدي عليه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم ).

وصح عنه صلى الله عليه وسلم كذلك أنه قال: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )، فإذا دخل الإنسان في حريم الصوم وحيزه، فإن ذلك يعصمه من إخوان السوء، ويحول بينه وبينهم.

ثم بعد هذا الجبهة الثالثة: هي جبهة الأهل والأموال، وقد حجب عنهم الإنسان كذلك بالصيام، فإن أكثر وقته صرف في الطاعة، فهو في النهار صائم وفي الليل قائم، وبذلك لا تجد هذه الجبهة سبيلاً عليه، فبصيامه يزهد في الدنيا لعلمه أن الدنيا قيمتها شربة ماء، وكذلك بقيامه يزهد في أهله لاستغنائه بالأنس بالله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه، وبهذا يعلم أن الدنيا لا قيمة لها، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلو كانت تساوي عنده جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، وبذلك أيضاً ينتصر على الجبهة الرابعة، وهي مفاتن الدنيا وشهواتها.

ثم الجبهة الخامسة: حظوظ النفس، إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53]، وهذا الشهر معين على كبح جماح النفوس، وإمساكها عن الوقوع في المعصية؛ لأن الإنسان إذا أحس بالمنافسة، ورأى الآخرين مقبلين على الله سبحانه وتعالى في ليلهم ونهارهم، وعلم أنهم جميعاً إنما يأتون يحملون ما عملوا، ويقدمون على ما قدموا، وأن التنافس محله في هذا الشهر، فمن أدرك رمضان فلم يغفر له فهو محروم، وأدرك هذا الفضل العظيم الذي يتنافس الناس فيه، فإن نفسه إذا كانت من أنفس الرشد لا يمكن إلا أن تكون عوناً له على المسارعة إلى الطاعة، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [المائدة:48]، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، وبهذا ينتصر الإنسان على هذه الجبهات كلها.

راحة السنة وفرحتها

ثم من خصائص هذا الشهر كذلك: أن الله سبحانه وتعالى جعله راحةً في السنة، فالإنسان طيلة سنته يكد ويتعب وينصب، والمؤمن راحته إنما هي بالفرحة بلقاء الله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه، وللصائم في هذا الشهر فرحتان: فرحة عند فطره، إذ قد فات الشيطان بيوم كامل، أخلص فيه لله، وأدى فيه ما افترض الله عليه، فيفرح حين انتصر على الشيطان وغلبه، وفرحة عند لقاء ربه؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى خصص باباً من أبواب الجنة للصائمين سماه باب الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق، فلم يدخل منه أحد.

سهولة الإقبال على القرآن فيه

إن هذه الخصائص العظيمة في هذا الشهر كله يمتاز كذلك معها بخصائص أخرى منها: سهولة الإقبال على القرآن، فإن هذا الشهر أنزل فيه القرآن، كما قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، وكما قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، فيسهل مدارسة القرآن فيه، ومراجعة الحفظ، والتدبر لمعانيه، وحفظ حروفه وحدوده، وهذا عون من الله سبحانه وتعالى للمؤمن، ( فالقرآن أشد تفلتاً من الصدور من الإبل في عقلها )، ويحتاج إلى مراجعة ومذاكرة دائمة، فسهل الله مراجعته ومذاكرته في هذا الشهر الكريم، وجعل الارتباط به في آناء الليل وأطراف النهار، فلا بد أن يكون للمؤمن الصائم ورد من القرآن في يومه، وصلاة بالقرآن في ليله، وبهذا يجمع الثقلين، وطرفي الزمان، فيستغل الليل والنهار معاً لمدارسة القرآن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن في النهار، ثم يأتي جبريل في الليل فيدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان.

الاتصال بكتاب الله وفوائده

ومن فوائد الاتصال بكتاب الله سبحانه وتعالى: تحلي النفس بقيم الإيمان الرفيعة، التي من أعظمها التوكل على الله سبحانه وتعالى وحده، والقناعة بما يعطي عما لدى الآخرين، والسعي كذلك للتقرب إليه سبحانه وتعالى بأوجه الخيرات كلها، والجود والبذل في سبيله، وهذه القيم كلها تقتضيها مخالطة القرآن، فالذي يخالط هذا الكتاب يستغني به عن غيره، ويتذكر أنه هو الباقي، وأن ما سواه من الهبات زائلة، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46]، فالباقيات الصالحات التي هي خير ثواباً وخير أملاً وخير مرداً هي الحسنات التي يرشد إليها هذا القرآن ويعين عليها، فهي خير من كل ما سواها من الهبات، فلو ملك الإنسان الدنيا بحذافيرها، ثم جاء يوم القيامة صفر اليدين من الباقيات الصالحات، فإن ذلك لا يغني عنه من الله شيئاً، ويتمنى لو كانت له الدنيا وأضعافها معها؛ ليفتدي بها من عذاب يوم القيامة، ولم يتقبل ذلك منه، وإذا أتى الإنسان بالباقيات الصالحات والحسنات الراجحات فلا يضره ما فاته من هذه الدنيا، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يؤتى بأسعد أهل الدنيا حالاً )، وفي رواية: ( بأنعم أهل الدنيا حالاً، فيصبغ صبغةً واحدةً في النار، فيقال: يا عبد الله! أرأيت خيراً قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك ما رأيت خيراً قط. ويؤتى بأبأس أهل الدنيا حالاً فيصبغ صبغةً واحدةً في الجنة، فيقال: يا عبد الله! أرأيت شراً قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك ما رأيت شراً قط ).

فكل ما يجده الإنسان في هذه الدار من الهوان والجوع والمرض والألم والنصب باللحظة الأولى التي يناله فيها شيء من روح الجنة وريحانها يزول عنه كل ما كان يجده، وقد صح عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: واعلموا أنه لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة.

ثم إن الاتصال بالقرآن يقتضي من الإنسان البذل والجود في سبيل الله؛ لأن هذا القرآن يحث على ذلك، لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7]، وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النور:22].

وقد حض الله سبحانه وتعالى في كتابه على الإنفاق والبذل في سبيل الله بما يجده الإنسان، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنفاق من الإقتار، أي: مع الفقر، مما لا يغل عليه قلب المؤمن، فهو مما يزيد الإيمان، ويقوي الصلة بالله سبحانه وتعالى، ويمحو السيئات، ( فإن الصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار )؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود الناس في سائر الأزمنة، ولم يكن يسأل شيئاً قط فيقول: لا، إن كان عنده أعطاه، وإلا رد بميسور من القول، مع هذا يدرك من يخالطه أنه يزداد جوده في شهر رمضان، ولذلك أخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ).

تدرج ليالي رمضان في الخير

كذلك فإن الله سبحانه وتعالى جعل رمضان متدرجاً، فخيره العشر الأواخر منه، فيها ليلة القدر، وفيها ليلة العتق، وهما ليلتان متباينتان، فليلة القدر متنقلة في العشر، ومظنتها الغالبة في أوتارها، لكن ليالي العشر كلها أوتار، فإذا حسبت من أولها كانت الأوتار ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين وليلة خمس وعشرين وليلة سبع وعشرين وليلة تسع وعشرين، وإذا حسبت من آخر هذه الليالي التي تبقى كانت الأوتار ليلة ثلاثين، وليلة ثمان وعشرين، وليلة ست وعشرين، وليلة أربع وعشرين، وليلة اثنتين وعشرين، فكل ليالي العشر بهذا المعنى أوتار، وهي مظنة لليلة القدر فإنها تتنقل فيها، أما ليلة العتق فهي الليلة الأخيرة من رمضان، إن كان رمضان تماماً تعينت أن تكون ليلة الثلاثين، وإن كان رمضان ناقصاً لم يعرف الناس نقصانه إلا بعد ذهابها وهي ليلة التاسع والعشرين منه، فبذلك يعلم أن ليلة العتق هي الأخيرة من ليالي رمضان، والله تعالى جعل في كل ليلة من ليالي رمضان عتقاء من النار، يخصهم بذلك، لكنه في الليلة الأخيرة من ليالي رمضان يعتق من لم يشمله العتق من الصائمين الذين يتقبل الله منهم، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، فهذه الليلة فيها تعلن النتائج، فيتفاوت الناس تفاوتاً عظيماً في نتائج صيامهم، وفي نتائج امتحانهم في مدرسة رمضان، فمنهم من يعلن من الفائزين المقبولين عند الله سبحانه وتعالى، فيبشر برحمة من الله ورضوان، لا يقع ذنبه بعد ذلك إلا مغفوراً، ويعان على الطاعات فيما بقي من عمره، ويحال بينه وبين المعاصي، ويحسن خلقه، ويستشعر هو في نفسه بعد نهاية الشهر أنه قد تغير، وأنه قد تجاوز العقبة، ومنهم من حظه من صيامه الجوع والعطش، وحظه من قيامه النصب والسهر، وهؤلاء يرجعون من رمضان شراً مما بدءوا، نسأل الله السلامة والعافية.

فإذا عرفنا هذه النتائج الكبيرة التي تنتظر نهاية هذا الشهر وإنما تعلن ليلة العتق وهي آخر ليلة من رمضان كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله يعتق رقاب الصائمين في رمضان في آخر ليلة منه. فقيل: يا رسول الله! أليلة القدر هي؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره عند نهاية عمله ).

الذكرى والاعتبار في شهر رمضان

كذلك من خصائص هذا الشهر: أن الله سبحانه وتعالى جعله ذكرى للمعتبرين، فكم تشاهدون الآن من الذين كانوا منشغلين منهمكين في الدنيا، فيأتون المساجد قبل الأذان، وينتظرون الصلاة بعد الصلاة، وترونهم مقبلين على الذكر والقرآن، وكم نشاهد كذلك ممن كان سيئ الخلق، عاقاً بوالديه، أو سيئ التعامل مع أهله وأولاده، أو سيئ الخلق في معاملة الآخرين، يكون في شهر رمضان صاحب رحمة، وصاحب حسن خلق.

أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى يختار من خلقه ما يشاء، وقد اختار مواسم للزمان والمكان شرفها بأن أضافها إلى نفسه إضافة تشريف، وخصها بمزيد من الفضل، وجعلها مكاناً للعبادة، وأعان فيها عباده على طاعته، وضاعف لهم الأعمال فيها، ومن هذه المواسم هذا الشهر الكريم الذي خصه الله بكثير من الخصائص، منها أنه أنزل فيه القرآن، وشرفه بهذا التشريف العظيم، فقال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].

ومنها أنه عمل لعباده فيه بأن يتشبهوا بالملائكة الكرام، فشرع لهم الصيام في نهاره، والقيام في ليله، ليعمروا وقت هذا الشهر الكريم كله بعبادته سبحانه وتعالى، ومن المعلوم أن الإنسان بين عنصرين يحفان به: عنصر أسمى منه، وهو جنس الملائكة، وعنصر أدنى منه وهو الحيوان البهيم، فالملائكة شرفهم الله بالتكاليف، ولم يمتحنوا بالشهوات، والحيوان البهيم سلط الله عليه الشهوات، ولم يمتحنه بالتكاليف، والإنسان بين هذين الصنفين، فإن هو أدى التكاليف، ولم يتبع الشهوات؛ التحق بالصنف الأسمى منه وهم الملائكة، وإن هو ضيع التكاليف واتبع الشهوات؛ التحق بالصنف الأدنى منه وهو الحيوان البهيم، إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].

وتشبه الإنسان بالملائكة يتم من خلال حبسه نفسه على طاعة الله عز وجل، فالملائكة عباد مكرمون، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، والإنسان إذا كان كذلك فحبس نفسه عن معصية الله، وقصرها على طاعته، ولم يجعل للشهوات مكاناً، فإنه قد التحق بالملائكة واتصل بهذا الصنف، وأجره في ذلك أعظم؛ لأنه قد سلطت عليه الشهوات، فاستطاع التغلب على نوازعه وكبح جماح نفسه.

وكذلك من خصائص هذا الشهر التي خصه الله بها أن جعل فيه ليلة القدر، وهي ليلة عظيمة جعلها الله سبحانه وتعالى ميزةً لهذه الأمة حين علم قصر أعمالها، وضعف أبدانها، فزاد أعمارها في كل سنة بهذه الليلة، فمن وفق لقيامها كأنما ازداد عمره في تلك السنة بأربع وثمانين سنةً وأربعة أشهر على الأقل، هذا أقل منه حظاً، فهي خير من ألف شهر، وهذه الخيرية غير محصورة، ومنهم من تعد له هذه الليلة بآلاف الشهور، فيكون عمره في مضاعفة غير منتهية.

كذلك من خصائص هذا الشهر التي خصه الله بها أن جعله شهر الصبر، فيتعود فيه الإنسان على الصبر عن معصية الله، والصبر على طاعته سبحانه وتعالى، والكف عما حرم عليه، وهذا الصبر جند من جنود الله، يثبت الله به المؤمنين، فإن للشيطان جندين: أحدهما: جند الشهوات، والثاني: جند الشبهات. ولله سبحانه وتعالى جندين: أحدهما: يسمى بالصبر، والثاني: يسمى باليقين.

فالصبر يقضي على الشهوات، واليقين يقضي على الشبهات، فإذا جمع الإنسان بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين، ولهذا قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، حين جمعوا بين الصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين.

وبالصبر ينتصر الإنسان على جبهة عظيمة من الجبهات الخمس المفتوحة عليه، فالإنسان بين خمس جبهات من أعدائه:

الجبهة الأولى: جبهة إبليس، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:6]، وهذه الجبهة أعاننا الله عليها في رمضان بتقييد المردة من الشياطين، فإنهم يصفدون إلى صلاة العيد، والمردة هم أقوى الشياطين، فالواحد منهم ينوب مناب مائة وعشرين مما سواهم، وتصفيدهم عون عظيم على طاعة الله، وبذلك يعان الإنسان على هذه الجبهة، ولا تسد جبهة الشيطان مطلقاً، بل لا بد أن يبقى فيها بعض جنود إبليس من شياطين الإنس والجن، ولهذا يقع الوسواس في رمضان، وتقع المعصية في رمضان، ويقع الجنون في رمضان، لكنه لا يقع من المردة الذين هم أقوى الجن، فهم مصفدون، وإنما يقع ممن دونهم من ضعفة الجن ومن شياطين الإنس.

ثم الجبهة الثانية: هي جبهة إخوان السوء، الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].

والإنسان له ثلاثة أنواع من أنواع الخلان:

النوع الأول: أخ كالغذاء لا يستغني عنه الإنسان أبداً، وهو الذي يعينه على أمور الدين.

والثاني: أخ كالدواء، يستغني عنه الإنسان في أحيان كثيرة، ولكنه إذا احتاج إليه لا يسد غيره مسده، وهذا هو الذي يعينه على أمور الدنيا.

الثالث: أخ كالداء، لا يعين الإنسان على أمر دين ولا دنيا، بل يكون جائحةً تصيب وقته، ومضرةً تذهب بعض أوقاته الثمينة، وتذهب ببعض عمره هباءً منثوراً، وهؤلاء الإخوان أعداء، وقد أعان الله عليهم في هذا الشهر بانشغال الإنسان عن مجالس إخوان السوء، ففي النهار يتذكر الصائم صومه، فهو في حريم الصيام لا يعتدي عليه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم ).

وصح عنه صلى الله عليه وسلم كذلك أنه قال: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )، فإذا دخل الإنسان في حريم الصوم وحيزه، فإن ذلك يعصمه من إخوان السوء، ويحول بينه وبينهم.

ثم بعد هذا الجبهة الثالثة: هي جبهة الأهل والأموال، وقد حجب عنهم الإنسان كذلك بالصيام، فإن أكثر وقته صرف في الطاعة، فهو في النهار صائم وفي الليل قائم، وبذلك لا تجد هذه الجبهة سبيلاً عليه، فبصيامه يزهد في الدنيا لعلمه أن الدنيا قيمتها شربة ماء، وكذلك بقيامه يزهد في أهله لاستغنائه بالأنس بالله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه، وبهذا يعلم أن الدنيا لا قيمة لها، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلو كانت تساوي عنده جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، وبذلك أيضاً ينتصر على الجبهة الرابعة، وهي مفاتن الدنيا وشهواتها.

ثم الجبهة الخامسة: حظوظ النفس، إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53]، وهذا الشهر معين على كبح جماح النفوس، وإمساكها عن الوقوع في المعصية؛ لأن الإنسان إذا أحس بالمنافسة، ورأى الآخرين مقبلين على الله سبحانه وتعالى في ليلهم ونهارهم، وعلم أنهم جميعاً إنما يأتون يحملون ما عملوا، ويقدمون على ما قدموا، وأن التنافس محله في هذا الشهر، فمن أدرك رمضان فلم يغفر له فهو محروم، وأدرك هذا الفضل العظيم الذي يتنافس الناس فيه، فإن نفسه إذا كانت من أنفس الرشد لا يمكن إلا أن تكون عوناً له على المسارعة إلى الطاعة، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [المائدة:48]، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، وبهذا ينتصر الإنسان على هذه الجبهات كلها.

ثم من خصائص هذا الشهر كذلك: أن الله سبحانه وتعالى جعله راحةً في السنة، فالإنسان طيلة سنته يكد ويتعب وينصب، والمؤمن راحته إنما هي بالفرحة بلقاء الله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه، وللصائم في هذا الشهر فرحتان: فرحة عند فطره، إذ قد فات الشيطان بيوم كامل، أخلص فيه لله، وأدى فيه ما افترض الله عليه، فيفرح حين انتصر على الشيطان وغلبه، وفرحة عند لقاء ربه؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى خصص باباً من أبواب الجنة للصائمين سماه باب الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق، فلم يدخل منه أحد.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع