شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [19]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحا بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

إخوتي الكرام! إن الشيطان يأكل أكلاً حقيقياً، وهو يأكل أيضاً بصفة ممتهنة ونفسه خسيسة مهينة، ويأكل بالشمال، ويلعق القصعة ويأكل اللقمة التي تسقط على الأرض، فهذا كله يقرر أكل الشيطان أكلاً حقيقياً عن طريق مضغ، وذلك كما هو فينا، وليس المراد من أكله التسنم والاسترواء كما تقدم، أو أنه يعجبه أن يأكل الإنسان بشماله فنسب ذلك إليه، فكل هذا كما قلت بعيد وباطل لا قيمة له.

ولذلك قال شيخ الإسلام الإمام ابن عبد البر فيما نقله عنه الإمام الشبلي في آكام المرجان صفحة واحد وثلاثين والإمام السيوطي في لفظ المرجان صفحة سبعٍ وعشرين، قال شيخ الإسلام أبو عمر ابن عبد البر : في هذه الأحاديث حديث أبي هريرة وما سبقه دليل على أن الشياطين يأكلون ويشربون، وقد حمله قوم على المجاز، يأكل بشماله يعني: يحب أن يأكل الإنسان بشماله فنسب ذلك إليه، وقال أبو عمر : وهذا عندي ليس بشيء ولا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز إذا أمكنت الحقيقة بوجه ما، وهكذا من قال: إنهم يتسنمون ويستريحون الطعام من جهة الشمال، وهذا أيضاً من جملة التأويلات الباطلة التي تقدمت معنا، وقلت مراراً: إذا أمكن حمل الكلام على حقيقته فلا يجوز إخراجه عن ذلك، وقلت: ما يتعلق بأمر الغيب حق على الوجه الذي يعلمه الله ولا نعلمه، فلا يجوز أن ندخل عقولنا فيه، وقلت: من أشنع العيب إدخال العقل في أمر الغيب فنقف عند هذا الأمر إننا نهينا عن الأكل بالشمال؛ لأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله فنحن نهينا عن الأكل بالشمال؛ لأننا نتفق مع من غضب الله عليه، فدائماً ينبغي أن يختلف أولياء الله عن أعداء الله في صفاتهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم، وأولئك لهم هدي في هذه الحياة ونحن لنا هدي في هذه الحياة، إذا كان هو يأكل بالشمال فنحن نأكل باليمين، فلو قدر أنه أكل هو أو الكفار باليمين فنقول: الفضيلة لنا أصالة وهم من ورائنا، فإذا وافقونا فليس معنى هذا أننا نخالفهم ونأكل بالشمال كما يقول بعض السفهاء من ضُلاَّل العلماء في هذه الأيام حول اللحية، قال: اللحية في هذه الأيام ينبغي أن تحلق؛ لأننا نتشبه بالقسس والرهبان، ويقول: كان المجوس في العصر الأول يحلقون اللحى ويوفرون الشوارب فأمر المسلمون بمخالفتهم بإعفاء اللحى وقص الشوارب، وأصبح الآن القسس والرهبان يوفرون اللحى، فينبغي أن نحلق اللحية.

وليته حلقها فقط، بل قال: لا يعني كلامي أن نرتكب مخالفة ورحمة الله واسعة، لكن أقول: هذه هي السنة، ومن يعفي اللحية في هذا الوقت يتشبه بالكفار. يقلب الأمر حقيقة هذا من الضالين، وبعضهم يعمل أيضاً في قسم السنة بمجمع البحوث، فناقش مرة بعض إخواننا في موضوع اللحية وقال له: الإمام ابن تيمية يقرر هذا، قال: في أي كتاب؟ قال: في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم قال: الآن أصحاب الجحيم يعفون اللحى فنحن نحلق اللحى، فقال له أخونا: أين قرر الإمام ابن تيمية أن حلق اللحى مطلوب؟ قال: عنوان الكتاب يدل على هذا، اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، فيقتضي منا إذا كنا من حزب الله أن نخالف أعداء الله.

إذاً: ما وجدت إلا القسس والرهبان يعفون، فالكفار الذين يحلقون لحاهم أضعاف أضعاف أضعاف الذين يعفون لحاهم من الكفار، يعني القسس والرهبان لعلهم واحد من مائة ألف أو من مليون من نسبة الكفار.

ثم إذا قدر أن الكفار عن بكرة أبيهم أعفوا لحاهم، فالفضيلة لنا ثابتة باتباع أمر نبينا عليه الصلاة والسلام، ومن خصالهم الرذيلة عدم إعفاء اللحى، ونحن لا يجوز أن نتشبه بهم عندما نحلق، فهذا هو الحكم الشرعي.

فكذلك إخوتي الكرام! نهينا عن الأكل بالشمال لئلا نتشبه بالشيطان، مما يدل على أن الشيطان يأكل بشماله، وكما قلت: إذا أمكن حمل الأمر على حقيقته فلا يجوز أن يؤول بما يخرجه عن حقيقته وظاهره، والعلم عند الله جل وعلا.

ذكر بعض الروايات في لعق القصعة والأصابع وأكل ما سقط من الطعام

لا زلنا ضمن هذا المبحث: ألا وهو الأمر الرابع في أمور الافتراق بيننا وبين الشيطان، طعامهم يختلف عن طعامنا، كما قلت: فالشيطان يأكل حقيقة، ويأكل بصورة ممتهنة مزرية، فيأكل بالشمال، ويأكل الفضلات التي تفضلها إن كانت في القصعة وإن وقعت منك لقمة، ولذلك أمرنا أن نلعق القصعة وألا نترك فيها شيئا، وأن نلعق الأصابع وألا نغسلها وفيها شيء من الطعام، من أجل ألا تذهب هذه البركة في المجاري وإلى الحمام، وهكذا القصعة لا نتركها للشيطان ليلعقها، فإن القصعة تخاصمك أمام الله إذا تركت فيها شيئاً من الطعام ولحسه الشيطان فتقول: أنت مكنت الشيطان مني، ولذلك إذا لحستها تستغفر لك حتى يوضع فيها طعام آخر؛ لأنك صنتها من هذا الخسيس الخبيث.

فإذاً: نلعق القصعة والأصابع كذلك، وإذا وقعت لقمة نأخذها ونميط ما بها من أذى ثم نأكلها، فإن عاب هذا بعض الناس فهذا من قصر عقولهم، ويكفينا أننا نطيع ربنا عز وجل سبحانه وتعالى.

والأحاديث في ذلك كثيرة، فإليكم بعض هذه الأحاديث التي تقرر هذه المعاني والآداب الشرعية التي أعرض عنها كثير من الناس.

رواية جابر بن عبد الله في لعق الصحفة والأصابع بعد الأكل

في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد ، ورواه الإمام الترمذي في سننه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم ، وأقره عليه الذهبي ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، ولفظ الحديث من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة ) وهي: القصعة أو الصحن الذي يوضع فيه الطعام، وقال: ( إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ) يعني: قد تكون هذه البركة التي تلتعق فيما بقي من لقيمات أو من طعام في القصعة، فتتركها للشيطان ولا تنتفع بها أنت.

وفي رواية: ( إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها، وليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان ) لأنه يأكل حقيقة، وهذه اللقمة -كما قلت- يأتي ويأكلها ولا يتركها: ( وليأكلها ولا يدعها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أي طعامه البركة ) قد تكون البركة في هذا الجزء الذي تركته لأخبث الأعداء.

وفي رواية أخرى: ( إن الشيطان يحضر أحدكم عند شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ فليلعق ) واللعق هو: اللحس والمص، ( فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة )، وهذه الروايات كلها في صحيح مسلم .

وفي رواية للترمذي أن النبي عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه قال: ( إذا أكل أحدكم طعاماً فسقطت لقمته ) لقمة من لقمته التي يرفعها إلى فيه، ( فسقطت لقمته فليمط ما بها من أذى ثم ليطعمها -أي: ليأكلها- ولا يدعها للشيطان ).

هذه الرواية الأولى من رواية سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، وقلت: هي في صحيح مسلم وغيره فلا تحتاج للتنصيص على صحتها، وقد رواها الحاكم وقال: على شرط مسلم، وتلك الرواية في صحيح مسلم .

رواية أنس بن مالك في لعق الأصابع وأكل ما سقط من الطعام

الرواية الثانية: رواها الإمام أحمد في المسند ومسلم في صحيحه أيضاً والترمذي وأبو داود وابن حبان أيضاً في صحيحه والبيهقي في السنن الكبرى من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاماً لعق أصابعه ) ولعق يلعق من باب فهم يفهم، ( إذا أكل طعاماً لعق أصابعه وقال: إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى، وليأكلها فلا يدعها للشيطان، وأمرنا أن نسلت القصعة -يعني: أن نمسحها بأصابعنا أو نلحسها- وقال: فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ).

وكما قلت: الحديث في صحيح مسلم وغيره، زاد رزين في روايته وسيأتينا لهذه الزيادة التي ذكرها رزين العبدري شواهد ثابتة في سنن الترمذي وغيرها، وسأتكلم على درجتها إن شاء الله ضمن خطوات البحث، زاد رزين في روايته كما في جامع الأصول في الجزء السابع صفحة أربعمائة: ( إن آنية الطعام لتستغفر للذي يلعقها ويغسلها ) لعقها ثم غسلها وما يترك فيها أثراً من الآثار، فالعق ثم اغسل حتى لا يأتي الشيطان يلعقها بعدك أيضاً، لأنك مهما لعقت سيبقى فيها آثار دسومة وآثار طعام، فلا تتركها لهذا الشيطان اللعين ( إن آنية الطعام لتستغفر للذي يلعقها ويغسلها، وتقول: أعتقك الله من النار كما أعتقتني من الشيطان ).

وسيأتينا أن القصعة تستغفر للاعقها، وهذا ثابتٌ في سنن الترمذي وغيره، وسأذكره ضمن خطوات البحث بإذن الله، وهو الحديث الآتي بعون الله.

رواية نبيشة في استغفار الصحفة لمن يلعقها بعد الأكل

رواية رزين هذه إخوتي الكرام! كما قلت: ورد ما يشهد لها، ورد ذلك في سنن الترمذي وسنن ابن ماجه ، ومسند الإمام أحمد وسنن الدارمي من رواية لبيثة الخير، وهو لبيثة الخير بن عمر بن عوف وكناه النبي عليه الصلاة والسلام بـلبيثة الخير، وقد ذكر أئمتنا في تراجم كتب الصحابة كما في أسد الغابة والإصابة أن لبيثة دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وعنده أسرى فقال لبيثة للنبي عليه وعلى وآله وصحبه صلوات الله وسلامه: (يا رسول الله! إما أن تمن عليهم وتطلق سراحهم، وإما أن تأخذ الفدية منهم)، يعني: ارفق بهم إما فدية وإما مَنٌ بالسراح والعتق، ولا تسترقهم ولا تقتلهم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (من صدقك أنت لبيثة الخير )، فهو مشهور بما فيه من رفق ويسر وسهولة نحو عباد الله.

إذاً لفظ الحديث -كما قلت- من رواية لبيثة الخير، وروت الحديث عنه أم عاصم، وهي أم ولد لـسنان بن سلمة قالت: (دخل علينا لبيثة الخير ونحن نأكل في قصعة فحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة ).

قال الإمام ابن الأثير في جامع الأصول الجزء السابع صفحة اثنتين وأربع مائة قال: وذكر رزين في أخرى: ( تقول له القصعة: أعتقك الله من النار كما أعتقتني من الشيطان ).

هذه الرواية التي رواها الإمام الترمذي وقال عقبها: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث المعلى بن راشد ، وقد روى يزيد بن هارون وغير واحد من الأئمة عن المعلى بن راشد هذا الحديث، والمعلى بن راشد وهو الراوي عنه من أجلهما حكم الإمام الترمذي على هذا الحديث بأنه غريب.

والمعلى بن راشد عندكم في التقريب ترجمه الحافظ ابن حجر فقال: إنه مقبول، وهو أبو اليمان النبال البصري ، وعليه يقبل حديثه عند المتابعة، ثم أشار إلى أنه من رجال الترمذي وابن ماجه.

وقلت: والحديث هنا خرجه من أهل الكتب الستة الترمذي وابن ماجه ، وهو من رجال الترمذي وابن ماجه وليس له إلا هذا الحديث في سنن الترمذي وابن ماجه .

إذاً: المعلى بن راشد الهذلي أبو اليمان النبال البصري مقبول من رجال الترمذي وسنن ابن ماجه ، لكن الإمام الذهبي في الكاشف قال: إنه صدوق.

وهكذا أم عاصم وهي الراوية عن لبيثة حكم عليها الحافظ في التقريب بأنها مقبولة، ولو رجع الإنسان إلى التهذيب في ترجمة هذين العبدين الصالحين المرأة الراوية وهي أم عاصم أم ولد لـسنان بن سلمة بن المحبق، وهكذا المعلى بن راشد لوجد ما يقوي أمرهما، وأن حالهما إن شاء الله حسن وما يعلم فيهما جرح، وانتبه مثلاً لترجمة المعلى بن راشد في تهذيب التهذيب في الجزء العاشر صفحة سبعٍ وثلاثين ومائتين، يقول الحافظ في ترجمة معلى بن راشد : الهذلي أبو اليمان النبال البصري روى عن جدته أم عاصم ، وميمون بن سيار ، والحسن البصري ، وزياد بن ميمون الثقفي ، وعنه يزيد بن هارون ، وعبد الله بن صالح العدلي وروح بن عبد المؤمن ، وأبو بشر بكر بن خلف ونصر بن علي الجهضمي وغيرهم.

قال أبو حاتم : شيخ يعرف بحديث حدث به عن جدته عن لبيثة الخير في لعق الصحفة، وعليه فإن المعلى بن راشد تكون هذه المرأة أم عاصم جدته، روى عن جدته عن لبيثة الخير ، وقال النسائي : ليس به ضعف، وذكره ابن حبان في الثقات، وله في السنن الحديث الذي أشار إليه أبو حاتم ، فهنا الجهالة منتفية عنه، فقد روى عنه أكثر من واحد، وهو هنا في الرواية روى عن جدته، وابن حبان وثقه وما علم فيه جرح، والنسائي قال: ليس به بأس، فالذي يظهر -والأمر عند الله- أن أمره محمول على القبول، وأن الحديث إن شاء الله في درجة الحسن بإذن الله.

وأما جدته وهي أم عاصم التي هي أم ولد لـسنان التي روت عن لبيثة الخير ، ستنظرونها في الكنى في التقريب في تراجم النساء في الكنى، أم عاصم يقول: مقبولة، كما قلت لكم، لكن لم حكم عليها بذلك؟ لا أدري، فانظر في التهذيب يقول: أم عاصم في الكنى من النساء جدة المعلى بن راشد والعلاء بن راشد وكانت أم ولد لـسنان بن سلمة بن المحبق روت عن سلمة بن المحبق ، ولبيثة الهذلي ، وعائشة أم المؤمنين ، والسوداء امرأة لها صحبة، وروى عنها المعلى بن راشد أبو اليمان النبال والحسن بن عمارة ، ونائلة الأزدية ، يعني أنها روت عن جمع وروى عنها جمع ولا يعلم فيها جرح وهي تابعية، وقلت لكم مراراً لاسيما في طبقة التابعين: من لم يعلم فيه جرح، وحتى لو لم يرو عنه إلا راوٍ واحد وما علم فيه جرح فأئمتنا قبلوا حالهم، فوجدتها في الكنى يقول: مقبولة، الذي يظهر والعلم عند الله -كما قلت- أن الحديث لا ينزل عن درجة الصحة، وهنا لفظه: ( من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة ) الحديث في الترمذي ، وسنن ابن ماجه ، وهو في المسند أيضاً والدارمي من طريق المعلى بن راشد ، عن جدته أم عاصم ، وهي أم ولد لـسنان بن سلمة عن لبيثة الخير رضي الله عنهم أجمعين.

وخلاصة الكلام من لعق القصعة استغفرت له، وفي رواية رزين العبدري التي لم أقف على إسنادها، أنها تقول له: ( أعتقك الله من النار كما أعتقتني من الشيطان )، وعليه؛ يستحب لك أن تلعقها، فإذا فرغت لا تتركها وتؤخر غسلها فتجعل فيها للشيطان نصيباً.

ورواية أبي هريرة في الراجح رواها الإمام مسلم في صحيحه والترمذي في سننه، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أيتهن البركة ) في الرواية التي تقدمت معنا زيادة، وهي أنه لا يترك شيئاً في الصحفة فليلعقها أيضاً لئلا يدعها للشيطان، وهنا فقط (ليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أيتهن البركة).

والحديث -كما قلت- في صحيح مسلم وسنن الترمذي وغيرهما.

رواية معقل بن يسار في أكل ما سقط من الطعام

آخر الروايات رواها الإمام ابن ماجه في سننه، وإسنادها صحيح إلا أن فيها انقطاعاً، فـالحسن البصري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا لم يسمع هذه الرواية من الصحابي وهو معقل بن يسار رضي الله عنهم أجمعين، وهي -كما قلت- في سنن ابن ماجه ، وبوب عليها الإمام ابن ماجه في كتاب الأطعمة كتاباً فقال: باب اللقمة إذا سقطت.

عن الحسن البصري عن معقل بن يسار ، والحسن ثقة فقيه فاضل، عدل رضا، لا خلاف في إمامته وتوثيقه، وإذا عنعن فالرواية لا يحكم باتصالها إلا أن يتبين لنا ثبوت السماع، وهو لم يرو الحسن عن معقل وروى هذه الرواية عنه بصورة العنعنة: الحسن عن معقل بن يسار . معقل بن يسار من الصحابة الأبرار، وممن شهد بيعة الرضوان، بل الحسن البصري عنده تدليس غريب، وكان أئمتنا أيضاً يحذرون منه فكان أحياناً يطلق التحديث، لكن لما علم هذا من عادته لا يعتبر جرحاً فيه أنه يكذب.

يقول: حدثنا ممن لم يسمع منه، ويقصد أنه حدث أهل البصرة التي هو ينتمي إليها، كما رجح ذلك الإمام البزار كما نقله الحافظ ابن حجر في كتابه التهذيب، فقال: يروي عن جماعة لم يسمع منهم فيقول: حدثنا وخطبنا فلان، ثم هو ما سمعه ولا حضره، وإنما حدث قومه يعني أهل البصرة الذي هو من جملتهم، وهذا تدليس. والأصل أنه إذا صرح المدلس بالتحديث ولم يسمع، يعتبر هذا فسقاً فيه وترد روايته.

وأما مسلك الحسن البصري في هذا -كما قلت- فله طريقةٌ خاصة علمها أئمتنا، فله حكم خاص بما يتعلق بروايته رضي الله عنه وأرضاه.

ولفظ الحديث عن معقل بن يسار قال: ( بينما هو يتغدى إذ سقطت منه لقمة، فتناولها فأماط ما كان فيها من أذىً فأكلها ) ومعقل بن يسار من الصحابة الكرام، ومن الأمراء الذين يسكنون في البصرة وله شأن، يعني تسقط منه لقمة فيأكلها أمام الناس، فكأنهم يتأسفون منه، تأخذ هذه اللقمة وتميط ما أصابها من أذى ثم تأكلها، قال: فتغامض به الدهقي، جمع دُهقان ودِهقان، بالضم والكسر، وهو رئيس القرية والمقدم على أصحاب المزارع يقال له دهقان، (فغمض به الدهقي فقيل: أصلح الله الأمير، إن هؤلاء الدهقيين يتغامزون من أخذك اللقمة وبين يديك هذا الطعام، فقال: إني لم أكن لأدع ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأعاجم)، فهل تترك سنة النبي عليه الصلاة والسلام لأجل أناس من العجم لا يفقهون ولا يعلمون (إنا كنا نأمر أحدنا إذا سقطت لقمته أن يأخذها، فيميط ما كان فيها من أذى ويأكلها ولا يدعها للشيطان).

وقوله: (كنا نأمر أحدنا) أي: نتواصى بذلك بناءً على تعليم النبي عليه الصلاة والسلام.

والحديث -كما قلت- في سنن ابن ماجه ، ورجال إسناده ثقات أثبات إلا أن فيه انقطاعاً، فـالحسن البصري لم يسمع هذا من معقل بن يسار والعلم عند الله جل وعلا.

وهذا يقرر ما تقدم معنا أن الجن يأكلون ويشربون كما نأكل ونشرب والعلم عند الله تعالى.

لا زلنا ضمن هذا المبحث: ألا وهو الأمر الرابع في أمور الافتراق بيننا وبين الشيطان، طعامهم يختلف عن طعامنا، كما قلت: فالشيطان يأكل حقيقة، ويأكل بصورة ممتهنة مزرية، فيأكل بالشمال، ويأكل الفضلات التي تفضلها إن كانت في القصعة وإن وقعت منك لقمة، ولذلك أمرنا أن نلعق القصعة وألا نترك فيها شيئا، وأن نلعق الأصابع وألا نغسلها وفيها شيء من الطعام، من أجل ألا تذهب هذه البركة في المجاري وإلى الحمام، وهكذا القصعة لا نتركها للشيطان ليلعقها، فإن القصعة تخاصمك أمام الله إذا تركت فيها شيئاً من الطعام ولحسه الشيطان فتقول: أنت مكنت الشيطان مني، ولذلك إذا لحستها تستغفر لك حتى يوضع فيها طعام آخر؛ لأنك صنتها من هذا الخسيس الخبيث.

فإذاً: نلعق القصعة والأصابع كذلك، وإذا وقعت لقمة نأخذها ونميط ما بها من أذى ثم نأكلها، فإن عاب هذا بعض الناس فهذا من قصر عقولهم، ويكفينا أننا نطيع ربنا عز وجل سبحانه وتعالى.

والأحاديث في ذلك كثيرة، فإليكم بعض هذه الأحاديث التي تقرر هذه المعاني والآداب الشرعية التي أعرض عنها كثير من الناس.

في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد ، ورواه الإمام الترمذي في سننه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم ، وأقره عليه الذهبي ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، ولفظ الحديث من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة ) وهي: القصعة أو الصحن الذي يوضع فيه الطعام، وقال: ( إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ) يعني: قد تكون هذه البركة التي تلتعق فيما بقي من لقيمات أو من طعام في القصعة، فتتركها للشيطان ولا تنتفع بها أنت.

وفي رواية: ( إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها، وليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان ) لأنه يأكل حقيقة، وهذه اللقمة -كما قلت- يأتي ويأكلها ولا يتركها: ( وليأكلها ولا يدعها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أي طعامه البركة ) قد تكون البركة في هذا الجزء الذي تركته لأخبث الأعداء.

وفي رواية أخرى: ( إن الشيطان يحضر أحدكم عند شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ فليلعق ) واللعق هو: اللحس والمص، ( فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة )، وهذه الروايات كلها في صحيح مسلم .

وفي رواية للترمذي أن النبي عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه قال: ( إذا أكل أحدكم طعاماً فسقطت لقمته ) لقمة من لقمته التي يرفعها إلى فيه، ( فسقطت لقمته فليمط ما بها من أذى ثم ليطعمها -أي: ليأكلها- ولا يدعها للشيطان ).

هذه الرواية الأولى من رواية سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، وقلت: هي في صحيح مسلم وغيره فلا تحتاج للتنصيص على صحتها، وقد رواها الحاكم وقال: على شرط مسلم، وتلك الرواية في صحيح مسلم .


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4045 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3979 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3906 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3793 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3787 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3771 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3570 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3486 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3465 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] 3417 استماع