شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [17]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. ورضي الله عن الصحابة الطيبين, وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً, وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين!

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك! سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك!

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

لا زلنا نتدارس الباب الرابع عشر من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

وعنوان هذا الباب باب: ما جاء في كراهية ما يستنجى به. وقد أورد الإمام الترمذي في هذا الباب حديثاً بسنده إلى سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظم؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن ).

قال أبو عيسى : وفي الباب عن أبي هريرة وسلمان وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

وقد تقدم معنا أن هذا الحديث -باختصار- يدل على أمرين:

على أن الجن إخوان لنا، وأن طعامهم يختلف عن طعامنا. وقلت: لا بد من التعرف على هذه الأمة التي تقابل أمة الإنس.

وقد تقدم معنا أننا سنتدارس أحوالهم ضمن ثلاثة مباحث:

أولها: فيما يتعلق بخلقهم ووجودهم. وقد انتهينا من هذا.

وثانيها: فيما يتعلق بتكليفهم وجزائهم. وقد انتهينا من هذا.

ثم شرعنا في المبحث الثالث: في صلتنا بهم وأوجه الاتفاق والافتراق بين الإنس والجن, وقلت: هذا المبحث سنتدارسه ضمن ثلاثة أمور أيضاً:

الأمر الأول: في أوجه الاتفاق بيننا وبينهم, وذكرت لهذا أربعة أمثلة, أولها: فيما يتعلق بخلقهم وموتهم، فيشابهوننا ونشابههم في ذلك، فنحن وهم مخلوقون, وكلنا إلى الموت صائرون. نسأل الله حسن الخاتمة.

والمثال الثاني: فيما يتعلق بالتكليف، فهم مكلفون, ونحن كذلك.

والمثال الثالث: في انقسامهم نحو ما كلفوا به إلى مؤمن وكافر, وطائع وعاص، وهذا موجود فينا.

والمثال الرابع: في جزائهم في الآخرة كجزائنا تماماً.

ثم انتقلت إلى - الأمر الثاني- إلى أوجه الافتراق والاختلاف بيننا وبينهم، وقلت: سأقتصر أيضاً على أربعة أمور:

أولها: فيما يتعلق بأصل خلقهم, فإنه يختلف عن أصل خلقنا.

وثانيها: في رؤيتهم لنا وعدم رؤيتنا لهم.

وثالثها: في تشكلهم. وهذا وما قبله قد تقدم الكلام عليه.

ورابع الأمور التي يخالفوننا فيها: طعامهم كما تقدم معنا.

وشرعنا في مدارسة هذا في الموعظة الماضية، وسأكمله في هذه الموعظة إن شاء الله.

والأمر الثالث كما قلت فيما مضى سنتدارس فيه صلتنا بهم وصلتهم بنا.

أيضاً: سنتدارس أربعة أمور كما تقدم معنا: الاستعانة بهم, حصول المناكحة بينهم وبين الإنس، تلبسهم بالإنس، رابعها التحصن منهم.

إذاً: نحن الآن في الأمر الرابع من المبحث الثاني من هذا المبحث، ألا وهو طعام الجن. تقدم معنا أن هذه القضية سنبحث فيها أيضاً ضمن أمرين:

أولها: في إثبات أن الجن يأكلون ويشربون كما نأكل ونشرب عن طريق المضغ والبلع, كما هو فينا تماماً.

وثانيها: في بيان نوع وماهية طعامهم.

أما القضية الأولى فتدارسناها، وقد قررت بالأحاديث الكثيرة أن الجن يأكلون كما نأكل، وأن النبي عليه الصلاة والسلام جعل من جملة طعامهم أنه زودهم بأن كل عظم يعود أوفر ما كان عليه من اللحم. وقلت: إن سمي الله على ذلك العظم وعلى تلك الذبيحة عند الأكل فيكون غذاء لمؤمني الجن، وإن لم يسم عليه رب العالمين فيكون غذاءً للعصاة من الجن، كما جمعنا بين الرواية الثابتة في صحيح مسلم وسنن الترمذي فيما مضى.

ثم قررت هذا، وقلت: إن الذي يظهر والعلم عند الله من النصوص الشرعية أن كل طعامٍ خبيث يأكله عتاة الجن .. المردة منهم .. الكفار والشياطين، فيأكلون الخبائث, كما أن عتاة الإنس يأكلون هذه الأشياء من الميتة وما لم يذكَ، وما لم يذكر اسم الله عليه، ويشربون المسكر.

وقلت: إن الشيطان دنيء, وصورة أكله قبيحة, فيأكل بشماله, ويلتقط ما يقع من القصعة، ويلعق القصعة إذا لم تلعقها. فهم يأكلون قطعاً وجزماً, ولا خلاف في هذا كما تقدم معنا.

سقوط القول بأن الجن لا يأكلون

وما يحكيه بعض المتأخرين ممن لا يحققون الأمور من أن هذه المسألة خلافية، وأن لأئمتنا في أكل الجن أقوال، منهم من قال: يأكلون، ومنهم من قال: لا يأكلون، هذا كلام باطل، وإذا أراد الإنسان أن يذكر الأقوال فلا بد من أن يحقق الكلام.

نعم قيلت أقوال هزيلة ضعيفة, لا تشهد لها نصوص, وهي مردودة على قائليها. والمعتمد والحق الذي لا يقبل غيره أنهم يأكلون كما نأكل، كما هو ظاهر الأحاديث الكثيرة الصحيحة المتواترة عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه, ومن ذلك ما جاء في بذل المجهود في شرح سنن أبي داود للشيخ خليل بن أحمد السهارنفوري من علماء الهند، وعلق على الكتاب أيضاً الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي , يقول عند مبحث أصل الجن استنباطاً من بعض الأحاديث التي ذكرها، وهي حديث الوحشية وسيأتينا في الجزء السادس عشر صفحة 97 , يقول: استدل بذلك من قال إنَّ الجن يأكلون, ثم قال: والمسألة خلافية. هذا كلام باطل، وكلام مرذول, لا خلاف في ذلك، ولا يعذر المخالف, ولو قال إنسان: إن الجن لا يأكلون يضلل؛ لأنه خلاف ما نطقت به الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه. وتقدم معنا أن الإمام النووي والسيوطي ومن تبعهما قالوا: إن هذا القول ساقط, يصادم الأحاديث الصحيحة الصريحة بأنهم يأكلون.

ثم قال: ومال بعضهم إلى أنهم أصناف, بعضهم يأكل وبعضهم لا يأكل.

وكل هذا بناء على أثر وهب بن منبه , والأثر لا قيمة له على الإطلاق، فهو منقول عن أخبار أهل الكتاب، ولو لم يرد في ديننا ما يقرر هذا وما يرده لتوقفنا فيه, فلا نصدق ولا نكذب، كيف وقد ورد في ديننا ما يرده ويثبت خلافه، أفنقدم أثر وهب على كلام نبينا عليه الصلاة والسلام؟ هذا لا يمكن أن يقال، هذا كلام كله لا تحقيق فيه. وهذا هو شأن وديدن المتأخرين، جمع بدون تحقيق من هاهنا وهاهنا, ثم يقول: مؤلفه أنا، وليته حقق القضية.

لكن انظر إلى كلام المتقدمين, وقارن بين ما في بذل المجهود كما في المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج , لشيخ الإسلام النووي.

دلالة العقل على أن الجن يأكلون

يقول الإمام النووي في شرحه على مسلم في الجزء الثالث عشر صفحة 190: الصواب الذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف من المحدثين والفقهاء والمتكلمين أن هذا الحديث وما يشبهه في أكل الشيطان - وأورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وسيأتينا إن شاء الله، وهي محمولة على ظواهرها، وأن الشيطان يأكل حقيقة؛ إذ العقل لا يحيله، والشرع لا ينكره، بل أثبته, فوجب قبوله واعتقاده. وكل ما لم يحيله العقل وورد به السمع وجب الإيمان به إذا كان الإنسان عاقلاً، فإذا كان مجنوناً فهذه قضية ثانية.

أمر لا يحيله العقل، فالعقل يقول: يمكن أن يكون ويمكن ألا يكون، فهو في دائرة الإمكان وفي دائرة الجواز, وورد السمع به وجب تصديقه والإيمان به.

وقلت: إنكار ما هو جائز ممكن مما ورد به الشرع سفاهة في العقل قبل أن يكون فسقاً في الشرع؛ لأنك لم تحترم عقلك، فعقلك لا ينكر ولا يعارض، وورد به السمع الذي لا ينطق عن الهوى، فكيف ترده؟

وقد تقدم معنا أنه لا يمكن أن يتعارض عقل صريح مع نقل صحيح. فقارن بين كلام المتقدمين والمتأخرين! ذلك يقول: المسألة خلافية، والإمام النووي عليه رحمة الله يقول: هذا هو الصواب الذي قرره السلف والخلف من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، وهذا لا ينكره العقل وورد به السمع وأثبته، فوجب الإيمان به.

والعجيب أن بعض سفهاء هذا الزمان من حدثاء الأسنان في هذه البلاد لم يبلغ من العمر عشرين سنة يقول: إن الصحابة رضوان الله عليهم أفضل منا، ولكن نحن أعلم منهم. يقول: هم في الفضل أفضل منا، ونحن أعلم لأنه توسعت عندنا العلوم، والكتب انتشرت.

نعم قل كلام الصحابة؛ لأنه إنما يتكلم الواحد منهم بكلمة تحتاج إلى أن نشرحها في مجلد, لأنهم يتكلمون بكلام جزل فصل, محكم يدل على أمور مقررة عندهم. ونحن غارقون في الجمود والفوضى.

أحضر لي بعض الناس خطبة جمعة لبعض الخطباء، سمعتها من أولها إلى آخرها، فلم يكن فيها عن نبينا حديث واحد. فقلت: كلام ساذج لا يسمن ولا يغني من جوع، لذلك ترى المجلد مما نكتبه لا يسمن ولا يغني من جوع، فقط كلام لا معنى له. هذا هو حالنا في هذه الأيام. وهذا كأنه خدع بهذا الكلام, فقال: الصحابة أفضل منا, لكن نحن أعلم منهم. لما نسينا الله نسينا أنفسنا، فلم يعرف الواحد منا قدر نفسه، وحالنا كما قال القائل:

وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا

للإمام ابن رجب الحنبلي - وكلام هذا العبد الصالح والله دواء للقلوب- له رسالة صغيرة في حدود أربعين صفحة إلى خمسين بعنوان فضل علم السلف على علم الخلف. يقول: نعم كثر كلام المتأخرين, لكن بلا فائدة، وقل كلام المتقدمين, وكله حكم, لذلك كلام الله جل وعلا في مجلد واحد, وهو القرآن، والدين من أوله إلى آخره مرتبط بهذا الكلام، وهذا هو الكلام المحكم الجزل الفصل الذي لا حشو فيه ولو أردت أن تحذف منه حرفاً واحداً لتغير واختل معنى الآية. وكلامنا كثير من غير فائدة.

دلالة الشرع على أن الجن يأكلون وذكر الآثار في ذلك

الجن يأكلون حقيقة. وآخر ما وقفت عليه حديث حذيفة ، وقلت: إنه حديث ثابت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ، ورواه أبو داود والنسائي في السنن الكبرى وفي كتاب عمل اليوم والليلة أيضاً صفحة 258، ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة، ورواه الحاكم في المستدرك في الجزء الرابع صفحة 108، وصححه وأقره عليه الذهبي , وقلت: إنه في صحيح مسلم ، فلا داعي لإيراده في المستدرك. ولفظ الحديث عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وعن سائر الصحابة الكرام قال: ( كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده ). هذا هو أدب الصحابة مع سيدهم وسيدنا حبيب الله, على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه. إذا اجتمعوا في طعام لا يمد واحد يده حتى يمد النبي عليه الصلاة والسلام يده, وهم له تبع.

قال: ( وإنا حضرنا معه مرة طعاماً فجاءت جارية كأنها تُدفع ), كأن شيئاً يدفعها بقوة, وهذا من قِبل الشيطان؛ من أجل أن تمد يدها دون تسمية؛ ليستحل الشيطان ذلك الطعام. ( كأنها تدفع )، وفي رواية في صحيح مسلم : ( كأنها تُطرد ) كأن شيئاً يطردها ويزجرها ويدفعها بقوة. ( فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ), وأمسكها, ولم يجعلها تمد يدها إلى هذا الطعام..

قال حذيفة : ( ثم جاء أعرابي كأنما يُدفع ), وفي رواية: ( كأنما يُطرد ). وإنما جاء الشيطان بهذه الجارية لأنها لا تعرف آداب الطعام، وهكذا الأعرابي الذي هو حديث عهد بلقاء النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وإلا فلو قدر أن صحابياً مد يده لقال: بسم الله.

( فذهب ليضع يده في الطعام فأخذ نبينا عليه الصلاة والسلام بيده، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه ). وليس المراد من الاستحلال أنه يصبح حلالاً له، إنما يستحله بمعنى: يستطيع ويتمكن من أكله, كأنه صار حلالاً له، وكأنه شيء يملكه ( وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها, فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به, فأخذت بيده. والذي نفس محمد بيده إن يده ), أي: يد الشيطان ( في يدي مع يدها ) مع الجارية. وفي رواية: ( ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اسم الله وأكل ). وفي رواية في حديث أبي داود قدم فيها الأعرابي على الجارية وقال: ( إن يده في يدي مع أيديهما )، يخبرنا عن ذلك من لا ينطق عن الهوى.

فهو يرى ما لا نرى: ( ثم سمى نبينا عليه الصلاة والسلام وأكل من الطعام, فأكل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ).

فالحديث نص صريح بأن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه.

هذه الرواية الأولى.

الرواية الثانية: ما جاء في مسند الإمام أحمد , والحديث في مجمع الزوائد في الجزء الخامس صفحة 23، قال الإمام الهيثمي في حكمه على إسناد هذا الحديث: في إسناده حبيب بن أوس وراشد بن جندل , كلاهما ليس له إلا راو واحد، وبقية رجاله رجال الصحيح, خلا ابن لهيعة , وحديثه حسن. وما ذكره لا يعتبر مضعفاً لإسناد الحديث أبداً. أما راشد بن جندل فهو راشد بن جندل اليافعي المصري , ثقة، أخرج له الإمام الترمذي في شمائله، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة في الكتب الستة، فقول الإمام الهيثمي : كلاهما ليس له إلا راو واحد -فيما يظهر- غير مسلم، فالذي يظهر أن له أكثر من راو، ولذلك وثق؛ لأنه لو لم يكن له إلا راو واحد لكان في حديثه جهالة. وهذا حكم الحافظ عليه في التقريب: ثقة. وذكر في تهذيب التهذيب في الجزء الثالث صفحة 25 أنه وثقه ابن حبان وابن معين عليهم جميعاً رحمات رب العالمين. هذا فيما يتعلق بـراشد بن جندل .

وأما حبيب بن أوس الثقفي المصري أيضاً فهو مقبول، وأخرج له الإمام الترمذي أيضاً في الشمائل، وقد روى عنه راشد بن جندل مولاه, ووثقه ابن حبان ، فالجهالة مرتفعة عنه إن شاء الله.

ولفظ الحديث من رواية أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقرب طعاماً، فلم أر طعاماً كان أكثر بركة منه أول ما أكلناه، ولا أقل بركة في آخره ). الطعام في البداية نأكل منه ولا يظهر عليه أثر النقصان، بركته كثيرة، ثم في نهاية الطعام كلما مددنا أيدينا إلى الطعام رأيناه كأنه ينقص، وكأنه يرفع شيء منه من غير الحاضرين، قلنا: ( كيف هذا يا رسول الله )! عليه الصلاة والسلام طعام مبارك في أوله, وفي الآخر رفعت البركة منه، فقال عليه الصلاة والسلام: ( لأنا ذكرنا اسم الله فيما أكلنا، ثم قعد بعد من أكل ولم يسم فأكل معه الشيطان ). نحن لما جلسنا في البداية سمينا الله، فحصَّنَّا هذا الطعام, فما امتدت إليه يد الشيطان، ثم أتى الشيطان بإنسان آخر, فجلس ولم يسم، فلما أكل استحل الشيطان هذا الطعام, فرفعت البركة منه. سيأتينا من كلام الشيخ أبي الخير بن الجزري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا أن التسمية سنة عينية, وليست كفائية. والقول بأن التسمية سنة هو قول الجمهور، وذهب بعض أئمتنا وحكي هذا عن الإمام الشافعي نقله الإمام عبد الرحيم العراقي في شرح سنن الترمذي أن التسمية واجبة على سبيل العينية, لا على سبيل الكفاية.

وعليه فكل واحد ينبغي أن يسمي، فإذا لم يسم عصى الله, واستحل الشيطان هذا الطعام بواحد فقط لم يسم.

والأطفال يسمي عنهم والدهم، ويعلمهم ذلك، لكن لو قدر أنه لا يعي، وأنه لا زال دون سن التمييز مثلاً سنتين أو نحوها, يمد يده وعندما يأكل تقول أنت: بسم الله، فأنت نائبه. كما تنوب عنه في نية الإحرام نب عنه في التسمية على الطعام، فلا تترك هذا الأمر يحصل من غير تسمية.

إذاً: هذا حديث ثانٍ، وهو أيضاً حديث صحيح.

حديث ثالث يقرر هذا المعنى رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير وفي معجمه الأوسط بسند رجاله ثقات كما في المجمع في المكان المشار إليه آنفاً، ورواه ابن حبان في صحيحه كما في موارد الضمآن في صفحة 326، ورواه ابن السني في كتاب عمل اليوم والليلة، ولفظ الحديث من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نسي أن يذكر اسم الله في أول طعامه فليقل حين يذكر: بسم الله في أوله وآخره؛ فإنه يستقبل طعاماً جديداً، ويمنع الخبيث ما كان يصيب منه ).

ورجال الحديث ثقات أئمة أثبات, كما قال الإمام الهيثمي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

وقوله: ( فإنه يستقبل طعاماً جديداً ) ظاهر الحديث والعلم عند الله أن الطعام يحصن من تسميته فيما بعد، وأن غفلته عن التسمية في البداية لا تمنع من طرد الشيطان في وسط الطعام إذا تذكر البسملة وأتى بها، فإذا نسي في البداية فاستحل الشيطان الطعام، فهذا الاستحلال لا يكون إلى آخره إذا تدارك الإنسان الأمر فأتى بالتسمية في وسط الطعام.

وهذا فيما يظهر أقوى ما يمكن أن يوجه به هذا الحديث.

ويمكن أن يوجه توجيهاً آخر: وهو أنه يستقبل طعاماً جديداً، أي: كأنه يأكل من البداية، وأن ما أخذه الشيطان يعود إلى هذا الطعام بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، فيبارك في هذا الطعام، والشيطان كما سيأتي معنا يتقيأ عندما يسمي الناسي أثناء الطعام، ولا يلزم من تقيئه أن يقع ذلك الطعام في القصعة، ولو قدر أنه وقع فهذا من أمور الغيب, يحصل له كيفية أخرى, فلا يتنجس الطعام, ولا يحتاج إلى رميه، ولا إلى غسل القصعة, كما أورد بعض المتأخرين هذه الاعتراضات. هذه كلها أمور غيبية, فلا داعي للبحث في هذه القضية.

إنما هو سيتقيأ بحيث يستخرج منه ما أكله ويعود، ويحيله الله إلى طعام جديد, والله على كل شيء قدير، كما يحيل لهم العظام التي نلقيها عارية إلى مكسوة بأوفر ما كان عليها من اللحم، فإن سمي عليها أكلها مؤمنو الجن، وإلا أكل هذا اللحم عصاة الجن كما تقدم معنا. ولا مانع إذا تقيأ الشيطان أن يستحيل ذلك الطعام الذي تقيأه، فالله إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون، أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259].

فإذا ورد الأمر عمن لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه فأقِرّه وأمِرّه, ولا تبحث في الكيفيات. وهل سيقع ما يتقيؤه في القصعة؟ إن قدر أنه وقع فإنه ينقلب ويستحيل كما كان, والله على كل شيء قدير، وإن قدر أنه استقاء بغير ذلك فإن الله يبارك في الطعام بحيث تعود إليه البركة التي كانت من بدايته. وعليه فإنه يستقبل طعاماً جديداً، ثم إنه يحصن الطعام بتسميته، أو كأن الطعام من البداية حصن ببركة البسملة التي كانت في وسطه. والأمران معتبران، والثاني فيه زيادة فضيلة لهذه التسمية, وأنها تعيد البركة التي فاتته إذا لم تسم نسياناً وذهولاً ثم تداركتها في وسط الطعام.

ثم قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ويمنع الخبيث ما كان يصيب منه ), أي الشيطان يمنعه من الأكل بعد التسمية.

والحديث نص صريح بأنه يأكل، وعندما تسمي تمنع الخبيث ما كان يصيب منه. والمسألة ليست خلافية كما قال من قال، كل مسألة خلافية؟ هذا كلام باطل، لا بد من تحقيق القول في أمور الشرع، ولا بد من بيان ما تحتمله الأدلة وقال به إمام معتبر، ومن القول الذي لا تحتمله الأدلة ولم ينقل عن إمام معتبر، القول بأن الجن لا يأكلون أو أن أكلهم تسمم، كل هذا قول ساقط لا قيمة له. والعلم عند الله جل وعلا. بل لهم أكل ومضغ وبلع كما يحصل فينا بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها.

وما يحكيه بعض المتأخرين ممن لا يحققون الأمور من أن هذه المسألة خلافية، وأن لأئمتنا في أكل الجن أقوال، منهم من قال: يأكلون، ومنهم من قال: لا يأكلون، هذا كلام باطل، وإذا أراد الإنسان أن يذكر الأقوال فلا بد من أن يحقق الكلام.

نعم قيلت أقوال هزيلة ضعيفة, لا تشهد لها نصوص, وهي مردودة على قائليها. والمعتمد والحق الذي لا يقبل غيره أنهم يأكلون كما نأكل، كما هو ظاهر الأحاديث الكثيرة الصحيحة المتواترة عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه, ومن ذلك ما جاء في بذل المجهود في شرح سنن أبي داود للشيخ خليل بن أحمد السهارنفوري من علماء الهند، وعلق على الكتاب أيضاً الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي , يقول عند مبحث أصل الجن استنباطاً من بعض الأحاديث التي ذكرها، وهي حديث الوحشية وسيأتينا في الجزء السادس عشر صفحة 97 , يقول: استدل بذلك من قال إنَّ الجن يأكلون, ثم قال: والمسألة خلافية. هذا كلام باطل، وكلام مرذول, لا خلاف في ذلك، ولا يعذر المخالف, ولو قال إنسان: إن الجن لا يأكلون يضلل؛ لأنه خلاف ما نطقت به الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه. وتقدم معنا أن الإمام النووي والسيوطي ومن تبعهما قالوا: إن هذا القول ساقط, يصادم الأحاديث الصحيحة الصريحة بأنهم يأكلون.

ثم قال: ومال بعضهم إلى أنهم أصناف, بعضهم يأكل وبعضهم لا يأكل.

وكل هذا بناء على أثر وهب بن منبه , والأثر لا قيمة له على الإطلاق، فهو منقول عن أخبار أهل الكتاب، ولو لم يرد في ديننا ما يقرر هذا وما يرده لتوقفنا فيه, فلا نصدق ولا نكذب، كيف وقد ورد في ديننا ما يرده ويثبت خلافه، أفنقدم أثر وهب على كلام نبينا عليه الصلاة والسلام؟ هذا لا يمكن أن يقال، هذا كلام كله لا تحقيق فيه. وهذا هو شأن وديدن المتأخرين، جمع بدون تحقيق من هاهنا وهاهنا, ثم يقول: مؤلفه أنا، وليته حقق القضية.

لكن انظر إلى كلام المتقدمين, وقارن بين ما في بذل المجهود كما في المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج , لشيخ الإسلام النووي.

يقول الإمام النووي في شرحه على مسلم في الجزء الثالث عشر صفحة 190: الصواب الذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف من المحدثين والفقهاء والمتكلمين أن هذا الحديث وما يشبهه في أكل الشيطان - وأورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وسيأتينا إن شاء الله، وهي محمولة على ظواهرها، وأن الشيطان يأكل حقيقة؛ إذ العقل لا يحيله، والشرع لا ينكره، بل أثبته, فوجب قبوله واعتقاده. وكل ما لم يحيله العقل وورد به السمع وجب الإيمان به إذا كان الإنسان عاقلاً، فإذا كان مجنوناً فهذه قضية ثانية.

أمر لا يحيله العقل، فالعقل يقول: يمكن أن يكون ويمكن ألا يكون، فهو في دائرة الإمكان وفي دائرة الجواز, وورد السمع به وجب تصديقه والإيمان به.

وقلت: إنكار ما هو جائز ممكن مما ورد به الشرع سفاهة في العقل قبل أن يكون فسقاً في الشرع؛ لأنك لم تحترم عقلك، فعقلك لا ينكر ولا يعارض، وورد به السمع الذي لا ينطق عن الهوى، فكيف ترده؟

وقد تقدم معنا أنه لا يمكن أن يتعارض عقل صريح مع نقل صحيح. فقارن بين كلام المتقدمين والمتأخرين! ذلك يقول: المسألة خلافية، والإمام النووي عليه رحمة الله يقول: هذا هو الصواب الذي قرره السلف والخلف من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، وهذا لا ينكره العقل وورد به السمع وأثبته، فوجب الإيمان به.

والعجيب أن بعض سفهاء هذا الزمان من حدثاء الأسنان في هذه البلاد لم يبلغ من العمر عشرين سنة يقول: إن الصحابة رضوان الله عليهم أفضل منا، ولكن نحن أعلم منهم. يقول: هم في الفضل أفضل منا، ونحن أعلم لأنه توسعت عندنا العلوم، والكتب انتشرت.

نعم قل كلام الصحابة؛ لأنه إنما يتكلم الواحد منهم بكلمة تحتاج إلى أن نشرحها في مجلد, لأنهم يتكلمون بكلام جزل فصل, محكم يدل على أمور مقررة عندهم. ونحن غارقون في الجمود والفوضى.

أحضر لي بعض الناس خطبة جمعة لبعض الخطباء، سمعتها من أولها إلى آخرها، فلم يكن فيها عن نبينا حديث واحد. فقلت: كلام ساذج لا يسمن ولا يغني من جوع، لذلك ترى المجلد مما نكتبه لا يسمن ولا يغني من جوع، فقط كلام لا معنى له. هذا هو حالنا في هذه الأيام. وهذا كأنه خدع بهذا الكلام, فقال: الصحابة أفضل منا, لكن نحن أعلم منهم. لما نسينا الله نسينا أنفسنا، فلم يعرف الواحد منا قدر نفسه، وحالنا كما قال القائل:

وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا

للإمام ابن رجب الحنبلي - وكلام هذا العبد الصالح والله دواء للقلوب- له رسالة صغيرة في حدود أربعين صفحة إلى خمسين بعنوان فضل علم السلف على علم الخلف. يقول: نعم كثر كلام المتأخرين, لكن بلا فائدة، وقل كلام المتقدمين, وكله حكم, لذلك كلام الله جل وعلا في مجلد واحد, وهو القرآن، والدين من أوله إلى آخره مرتبط بهذا الكلام، وهذا هو الكلام المحكم الجزل الفصل الذي لا حشو فيه ولو أردت أن تحذف منه حرفاً واحداً لتغير واختل معنى الآية. وكلامنا كثير من غير فائدة.