شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [11]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك.. سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فلا زلنا نتدارس الباب الرابع عشر من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وعنوان هذا الباب كما تقدم معنا في المواعظ السابقة: باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به، فقد روى الإمام الترمذي عليه رحمة الله في هذا الباب حديثاً عن شيخه هناد بن السري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظم، فإنه زاد إخوانكم من الجن ) ثم قال الإمام الترمذي : وفي الباب عن أبي هريرة وسلمان وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

إخوتي الكرام! كنا نتدارس المبحث الرابع من مباحث مدارستنا لحديث نبينا عليه الصلاة والسلام، والمبحث الرابع تقدم معنا في فقه الحديث وأن الحديث دل على أن الجن إخوان لنا، وأن طعامهم يختلف عن طعامنا، ولا يجوز أن نفسد عليهم طعامهم، وبالتالي لا يجوز أن نستنجي بالعظام ولا بالروث، وقلت: هذه القضية ينبغي أن نبحثها ضمن عدة مراحل ليحصل لنا التعرف على هذه الأمة التي تقابل أمة الإنس وعالم الإنس، وهم الجن، وقلت: إن البحث سيدور ضمن ثلاثة أمور:

أولها: في بيان خلقهم ووجودهم وانتهينا من هذا.

وثانيها: في بيان تكليفهم وجزائهم عند ربهم وانتهينا من هذا.

وثالثها: أوجه الاختلاف والافتراق بيننا وبين الجن، وقلت: سأذكر أربعة أمور مما نتفق فيه مع الجن، وأربعة أمور أيضاً مما نختلف فيه عنهم، وأذكر بعد ذلك أموراً أربعة في صلتنا بهم وصلتهم بنا، أما الأمور الأربعة التي نتفق فيها مع الجن فقد مضى الكلام عليها أيضاً.

يساووننا -كما قلت- في الخلق والملك وفي التكليف، وينقسمون إلى مؤمنٍ وكافر وطائعٍ وعاصٍ، ومآلهم في الآخرة كمآلنا، وأما الاختلاف بيننا وبينهم فيقع في أمور -كما قلت-: سأتكلم عن أربعة منها:

أولها: عنصر خلقهم يختلف عن عنصر خلقنا.

ثانيها: يروننا ولا نراهم.

ثالثها وهو الذي كنا نبحث فيه: قدرتهم على التشكل وليس هذا في وسعنا.

ورابع هذه الأمور التي يختلفون أيضاً بها عنا: طعامهم يختلف عن طعامنا كما سيأتي معنا.

وأما الأمور التي نتصل بها معهم ويتصلون معنا بها، وما حكمها؟ فهي أربعة أيضاً سيأتي الكلام عليها.

أول هذه الأمور: الاستعانة بهم، وثانيها: مناكحتهم، وثالثها: تلبسهم بالإنس، ورابعها: التحصن منهم.

وقد كنا في الأمر الثاني من الأمور التي يختلف بها الجن عن الإنس في النقطة الثالثة، ألا وهي: تشكل الجن، وقلت: إن الله أعطاهم القدرة على التشكل بأشكال مختلفة، سواء كانت تلك الأشكال في صورة بني آدم، أو في صورة الحيوانات والبهائم، بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، وهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.

وقلت: إن دراستنا لهذا المبحث يبين لنا عظيم قدرة الله، وكيف خلق هذه المخلوقات على أوجه مختلفة متباينة، فما في هذا المخلوق لا يوجد في هذا المخلوق، والله على كل شيء قدير، وسيأتينا ضمن مراحل البحث وهو مما يبين أيضاً عظيم قدرة الله عند تشكل الجن أنهم يتشكلون في الغالب بصور الحيات، وسيأتينا أنه يوجد نوع من الحيات يقال له: ذو الطفيتين، ونوع آخر يقال له: الأبتر، سيأتينا هذا عند قتل الحيات في النقطة الرابعة من الأمر الثاني الذي يختلف به الجن عنا، وسيأتينا أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرنا بقتل ذي الطفيتين من الحيات والأبتر، والحديث ثابت في الصحيحين من رواية أمنا عائشة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وعلل النبي عليه الصلاة والسلام هذا فقال: ( إنهما يطمسان البصر ويسقطان الحبل ) فإذا رأت الحبلى ذا الطفيتين، ورأت هذا الحيوان الذي يقال له: الأبتر، لا يزيد طوله عن الشبر -وهو نوع من الثعابين- وبمجرد أن تراه الحبلى يسقط جنينها.

وهذا من عظيم قدرة الله التي جعلها في هذه المخلوقات، وهكذا ذو الطفيتين إذا رآه المبصر وعمل حركة فقد الإنسان بصره، وهذا من المخلوقات التي خلقها رب الأرض والسماوات وفيها هذا الأمر ونحن عنه عاجزون، وهكذا الجن يتشكلون بأشكال مختلفة.

وآخر شيءٍ تكلمنا عليه ومر معنا في تشكل الجن بعدما انتهيت من تقرير تشكلهم أن الأخبار في ذلك متواترة ومتواردة كثيرة، وانتهيت من هذا، وقلت: سأذكر نماذج من تشكل الجن، وقلت: سأقتصر على بعض النماذج التي هي: تشكلهم بصورة الآدميين، إما آدمي من دون أن يكون له صفة معينة، أو يحمل صفة معينة ويدلل على أنه من جهة كذا، وسيأتينا مثال لهذا ولهذا، وسأذكر أيضاً تشكلهم بصورة الثعابين والحيوانات كما سيأتينا ضمن مراحل البحث.

آخر شيءٍ ذكرته ضمن هذه النقطة تشكل الشيطان في صورة شيخٍ نجدي، وقلت: حصل هذا عندما اجتمع المشركون في دار الندوة وأرادوا التآمر على النبي عليه الصلاة والسلام، فجاءهم إبليس في صورة شيخ نجدي، وإنما حصل منه هذا لأمرين معتبرين:

أولهما: ما أراد أهل الندوة أن يدخلوا أحداً معهم من بلاد تهامة؛ لأن ميلهم مع النبي عليه الصلاة والسلام.

والأمر الثاني: أن بيئة نجد هي مأوى الشيطان، وفيها يبسط سلطانه وينشر فساده، وتنتشر الدعوات الضالة المضلة، وعليه يريد أن ينتسب إلى الجهة التي له فيها مركز قوي، فقال: إنه شيخ نجدي، وقال للمتآمرين: عسى أن يبدي لهم رأياً سديداً إذا حضر معهم، فأحضروه وأدخلوه دار الندوة، فلما اقترح بعضهم أن يوثق نبينا عليه الصلاة والسلام بالحديد، اعترض الشيطان الذي هو في صورة شيخٍ نجدي على هذا، فلما قالوا: نسمح له بالخروج، وننفيه من البلاد، فاعترض على هذا، فلما اقترح أبو جهل أن يؤخذ من كل قبيلة شاب جلد، يعطى سيفاً قوياً صلتاً، ثم يضربون النبي عليه الصلاة والسلام ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل فترضى قبيلته بالدية، وتستريح -على تعبير أهل الندوة- قريش والعرب من محمد عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فالشيطان وافق على هذا وقال: هذا هو الرأي، وأنزل الله آية تتلى في الكتاب يشير بها إلى هذه القضية: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30] .

وقلت: سبق أن تصور وتشكل الشيطان في صورة الشيخ النجدي أيضاً عند اختلاف العرب في وضع الحجر الأسود، ولما رضوا بتحكيم النبي عليه الصلاة والسلام بينهم في ذلك قبل بعثته، وقالوا: هذا الصديق الأمين رضينا به -عليه صلاة الله وسلامه- ظهر الشيطان في صورة شيخ نجدي، وقال: يا معشر قريش! يا معشر الأشياخ! أترضون أن يلي هذا الفتى الشرف دون رؤسائكم وأشياخكم؟

إخوتي الكرام! عند هذا المبحث قلت: عندنا تنبيه لا بد من مدارسته قد يستغرق معنا وقتاً طويلاً من هذه الموعظة، وبعد الانتهاء أنتقل إلى تشكل الشيطان في صورة آدمي وأن له صفة معينة، كما حصل هذا في زمن الصحابة، وسأذكر قصة أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عند تشكل الشيطان له ليأخذ من تمر الصدقة، والقصة ثابتة في صحيح البخاري وغيره، وقد تكررت هذه القصة مع خمسة من الصحابة أيضاً عدا أبي هريرة رضي الله عنه، كما سأفصل في التشكل الثاني بعد أن ننتهي من التنبيه حول هذا.

قلت: وردت الأخبار والآثار عن نبينا المختار عليه صلوات الله وسلامه أن قرن الشيطان سيخرج وسيكون في جهة بلاد نجد، وسأذكر الأحاديث أولاً ثم أبين اللغط الذي أثير حولها، والتأويل الباطل المنكر الذي أولت به هذه الأحاديث، وأبين بعد ذلك القول الحق في ذلك إن شاء الله.

ثبت في المسند والصحيحين، والحديث في موطأ الإمام مالك وسنن الإمام الترمذي من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، والحديث ثبت في المسند أيضاً والصحيحين وسنن الترمذي من رواية أبي هريرة ، وعليه فهو من رواية ابن عمر ورواية أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين.

أما رواية عبد الله بن عمر فلفظها، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: ( ألا إن الفتنة هاهنا -يشير إلى المشرق- من حيث يطلع قرن الشيطان ) وفي رواية قال نبينا صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق: ( ها ) للتنبيه بمعنى: يا: ( ها إن الفتنة هاهنا -ثلاثاً- ) أي: في جهة الشرق، وفي رواية أخرى، قال ابن عمر رضي الله عنهما: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: ألا إن الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان )، وهذه الروايات كلها في الصحيحين في صحيح البخاري ومسلم .

وفي رواية للبخاري قال ابن عمر رضي الله عنهما: ( قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً، فأشار نحو مسكن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقال: هنا الفتنة -ثلاثاً- من حيث يطلع قرن الشيطان ).

وهذا فيه علم من أعلام نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام عندما وقف أمام مسكن أمنا عائشة ، وقد تقدمت الإشارة إلى ما حصل من أمنا عائشة عندما فارقت المدينة وشاركت في موقعة الجمل، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأمنا الطاهرة المطهرة ولزوجته الكريمة الفاضلة: انتبهي ففي تلك الجهة قرن الشيطان، وهناك فتن وبلايا فلا تذهبي إليها، ولكنها ذهبت ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.

إذاً: وقف أمام مسكن أمنا عائشة وهو مستقبل جهة المشرق، يقول: ( هنا الفتنة - ثلاثاً - من حيث يطلع قرن الشيطان) وفي روايةٍ للبخاري أيضاً عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم بارك لنا في شامنا ) وهي بلاد الشام المعروفة التي تشمل الآن في التقسيم الاصطلاحي الجاهلي سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، فهذه كلها بلاد الشام، لكن هذه قسمت على حسب تقسيم الاستعمار الذي فرق بين المسلمين الأبرار، وجعلهم وطنيات زادت وطنياتهم في هذه الأيام على ستين وطنية ما بين مملكةٍ وإمارةٍ ودولة وسلطنة ومشيخة وغير ذلك.

و للبخاري بزيادة في أوله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا) وهي بلاد اليمن المعروفة، وتأويل اليمن هنا بأن المراد منها أهل مكة أو الأنصار، وأن أصل الأنصار من اليمن، هذا كله تكلف؛ لأنه سيأتينا ضمن بعض الروايات أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أتاكم أهل اليمن أرق الناس أفئدةً ).

إذاً: هنا اليمن البلد المعروفة والجهة المعروفة والمكان الذي يسمى باليمن.

( قالوا: وفي نجدنا؟ قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: وفي نجدنا؟ ثانيةً، قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا: يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وفي نجدنا؟ -يعني: في الثالثة- قال: هنالك الزلازل والفتن، ومنها يطلع قرن الشيطان ) .

وفي روايةٍ أيضاً في البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى المشرق ويقول: ألا إن الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان ).

ما تقدم من الروايات في الصحيحين، وبعض الروايات في صحيح البخاري ، وفي روايةٍ لـمسلم -كل هذه الروايات من طريق عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه- قال: ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقال: رأس الكفر من هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان ) .

وفي روايةٍ أخرى في صحيح مسلم عن سالم ولد عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، أنه قال لأهل العراق: يا أهل العراق! ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة! تسألون عن دم البعوض ثم تقتلون بعد ذلك سيد شباب أهل الجنة الحسين ابن بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو ابن لرسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، سمعت أبي - يعني: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما - يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الفتنة تجيء من هاهنا -وأومأ بيده نحو المشرق- من حيث يطلع قرن الشيطان وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض ) يعني: أهل العراق.

وفي روايةٍ أخرى أيضاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام قام على المنبر، فقال: ( هاهنا أرض الفتن ) وأشار إلى المشرق من حيث يطلع قرن الشيطان، هذه الروايات فيها كما ترون: المشرق وفيها نجد، وصرح أيضاً بجهة العراق من كلام سالم بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين.

والحديث أيضاً رواه الإمام أحمد في المسند، والشيخان في الصحيحين من رواية أبي مسعود البدري ستأتينا إن شاء الله، وهذه غير رواية عبد الله بن عمر ورواية أبي هريرة وأبو مسعود البدري رضي الله عنه هو عقبة البدري الأنصاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من هاهنا جاءت الفتن نحو المشرق، والجفاء والقسوة وغلظ القلوب في الفدادين أهل الوبر عند أصول أذناب الإبل والبقر في ربيعة ومضر ) وفي رواية في حديث أبي مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بيده نحو اليمن، فقال: الإيمان هاهنا - وأشار بيده إلى اليمن - والقسوة وغلظ القلوب في الفدادين، عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر ) والحديث كما قلت في الصحيحين وغيرهما.

وأما رواية أبي هريرة فهي في المسند والصحيحين وسنن الترمذي وغير ذلك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أتاكم أهل اليمن أرق أفئدةً وألين قلوباً، الإيمان يمان والحكمة يمانية، ورأس الكفر قبل المشرق، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم ) وفي رواية أيضاً في الصحيحين من طريق أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الفخر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم، والإيمان يمانٍ والحكمة يمانية ).

وفي روايةٍ للبخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاكم أهل اليمن أضعف قلوباً وأرق أفئدةً، الفقه يمانٍ والحكمة يمانية ) وفي روايةٍ لـمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( جاء أهل اليمن هم أرق أفئدةً وأضعف قلوباً، الإيمان يمانٍ، والفقه يمانٍ، والحكمة يمانية ) وفي رواية الترمذي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الإيمان يمانٍ، والكفر قبل المشرق، والسكينة لأهل الغنم، والفخر والرياء في الفدادين أهل الخيل والوبر ).

الجمع بين الروايات الواردة في مكان خروج قرن الشيطان

هذه الروايات التي فيها أن قرن الشيطان والفتن والزلازل والبلايا والمشاكل في جهة الشرق والمشرق وفي جهة العراق وفي جهة نجد، هذه لا بد من الجمع بينها، نبينا عليه الصلاة والسلام أشار إلى أن جهة المشرق التي تبدأ من بلاد نجد، ونجد خلاف الغور وهو ما ارتفع من الأرض، وبلاد تهامة كلها غور ومنها مكة، ثم بعد تهامة وبعد الغور تأتي المرتفعات وهي بلاد نجد، نجد اليمامة في الشرق، وجهة الشرق هي جهة المشرق، والعراق في جهة المشرق، فهذه كلها مجتمعة محل قرن الشيطان وفيها الزلازل والفتن والبلايا والضلالات.

وجهة المشرق صرح بها في الأحاديث الكثيرة، قالوا: ( وفي مشرقنا ) و( في شرقنا )، والنبي عليه الصلاة والسلام يتجه إلى المشرق، ويقول: ( هاهنا الفتن والزلازل يطلع قرن الشيطان ) .. ( قرنا الشيطان ).

إذاً: جهة المشرق فيها فتن وبلاء ومحن، وقد صرح بذلك في الأحاديث الصحيحة صراحةً، ويدخل في تلك الجهة، أي: في جهة الشرق ما وقع التصريح به أيضاً من مثل بقعتين، مصرين، مكانين.

الأول: العراق يدخل في جهة الشرق وفي جهة المشرق، ففيها ما في جهة المشرق من فتن، وهي مكان خروج قرن الشيطان، والتخريص بأن بلاد العراق تدخل في ذلك تقدم معنا الإشارة إلى هذا من كلام سالم بن عبد الله فيما نقله عن والده عبد الله عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: إن جهة المشرق فيها بلاء وفتن وهي مكان قرن الشيطان، واستدل بجهة المشرق على دخول بلاد العراق في ذلك؛ لأنها تقع شرق المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه.

إذاً: جهة العراق داخلة، وعلى هذا فالعراق تدخل فيما تقدم لأنها من جهة الشرق، ولفظ النجد أيضاً يشملها، يعني: لفظ النجد شاملٌ لنجد العراق ولنجد اليمامة التي هي بلاد الرياض وبلاد نجد المعروفة، فهي تشمل هذه البقعة وهذه البقعة؛ لأن النجد كما قلت: هو ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور، أي خلاف المكان المنخفض، وتهامة كلها من الغور ومنها مكة المكرمة، وعليه فالمرتفعات بعد ذلك التي تبدأ من نجد اليمامة ونجد العراق كلها في جهة المشرق، وكلها يشملها هذا الحديث الشريف، وهذا ما أشار إليه سالم رضي الله عنه وأرضاه فيما رواه عن والده عن النبي عليه الصلاة والسلام.

وقد روي في بعض الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام -والرواية ثابتة في المسند بإسنادٍ صحيح- أشار إلى جهة العراق، قال وهو يؤم العراق، أي: يقصدها: ( ألا إن الفتن هاهنا ) فقلت: هذا لا ينافي ما تقدم معنا من أنها داخلة في جهة الشرق من المدينة، فنجد اليمامة ونجد العراق كلها جهة الشرق، فيشملها هذا الوصف الذي أشير إليه في الحديث الثاني.

الفهم الشرعي لأحاديث قرن الشيطان

روي في أحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام: أن الشيطان تمكن من بلاد العراق كما تمكن من غيرها، وهذه الأحاديث التي فيها هذه الإشارة إلى تمكن الشيطان من بعض البلاد ينبغي أن نفهمها على الفهم الشرعي، ولا يعني هذا الأمر: أن الشيطان تمكن من بلدة، وأنه يعشعش في بلدة، وأن قرنه فيها وسلطانه فيها، أن كل من فيها من الشريرين، ومن العتاة المفسدين، لا يعني هذا على الإطلاق، وغاية ما يعني هذا أن تلك البلاد فيها فساد، فإذا كنت فيها يا عبد الله فاحترس وانتبه للدعايات وللبدع التي تنتشر، كما أن الأحاديث التي وردت في فضل بعض البلاد غاية ما تشير إلى أن هذا مكان خير، فإذا كنت فيها فاغتنم هذا، وليس معنى هذا أنه لا شر فيها.

والله يقول عن المدينة على منورها صلوات الله وسلامه: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101] ويقول عن أشرف البقاع على الإطلاق وهي مكة المكرمة: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا [النساء:75] وهي مكة.

إذاً: عندما يشار إلى بقعة من البقاع أن فيها خيراً، فهذا يعني أنك إذا كنت فيها فازدد خيراً ونشاطاً وراع شرف البقعة: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56] وإذا كنت في بقعة فيها شر فانتبه لنفسك واحترس غاية الاحتراس، ولا يعني أنك في تلك البقعة شرير ولا يقدس الإنسان عند الله إلا عمله الصالح، كما أنه لا يدنسه إلا عمله الخبيث، فهذا معنى الحديث، ولذلك من كان جهة المشرق التي يستوطن الشيطان فيها، وهي محل إفساده ويرجف فيها وينشر فيها البدع والضلالات، فالمفروض عليه أن يحترس فقط، وليس المقصود أنه لا خير ولا بركة فيه.

وعندما بورك في بلاد الشام وفي بلاد اليمن وهكذا في بلاد الحجاز، فالمعنى أنك إذا كنت هناك فاغتنم هذه البركة، وقم بالخيرات، وليس معنى هذا أنك في هذه البلاد محصن؛ لأن هذا الحديث حينما لم يفهم على وجهه الشرعي بدأت الأهواء تدخل في التلاعب بمدلوله، ولو فهمناه كما أراد نبينا عليه الصلاة والسلام لما كان منه أي إشكال، ولا داعي بعد ذلك أن نقول: نجد اليمامة لا تدخل في هذا الحديث بل هذا خاص بنجد العراق؛ لأنها بلاد الشر والفساد والفتن، يعني: وغير العراق بلاد لأهل الكرامة والطهارة!

فلا بد من وعي الأمر كما أراد النبي عليه الصلاة والسلام، وسالم رضي الله عنه وأرضاه قال: يا أهل العراق! ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة؟! ثم استدل بقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( الفتن هاهنا نحو المشرق )، إلى أنه يدخل في هذا مصر العراق، كما يدخل غيره من الأمصار، وعندما سأله أهل العراق استدل بهذا الحديث على أنهم في جهة المشرق، قال: أنتم فيكم ما فيكم فاحترسوا؛ يقتل بعضكم بعضاً ويضرب بعضكم رقاب بعض، فانتبهوا فأنتم أهل فتن وفساد، وإذا كان الإنسان هناك فينبغي أن يحصن نفسه وألا يشارك في الفتن وفي الدعوات الضالة المضلة.

هذه الروايات التي فيها أن قرن الشيطان والفتن والزلازل والبلايا والمشاكل في جهة الشرق والمشرق وفي جهة العراق وفي جهة نجد، هذه لا بد من الجمع بينها، نبينا عليه الصلاة والسلام أشار إلى أن جهة المشرق التي تبدأ من بلاد نجد، ونجد خلاف الغور وهو ما ارتفع من الأرض، وبلاد تهامة كلها غور ومنها مكة، ثم بعد تهامة وبعد الغور تأتي المرتفعات وهي بلاد نجد، نجد اليمامة في الشرق، وجهة الشرق هي جهة المشرق، والعراق في جهة المشرق، فهذه كلها مجتمعة محل قرن الشيطان وفيها الزلازل والفتن والبلايا والضلالات.

وجهة المشرق صرح بها في الأحاديث الكثيرة، قالوا: ( وفي مشرقنا ) و( في شرقنا )، والنبي عليه الصلاة والسلام يتجه إلى المشرق، ويقول: ( هاهنا الفتن والزلازل يطلع قرن الشيطان ) .. ( قرنا الشيطان ).

إذاً: جهة المشرق فيها فتن وبلاء ومحن، وقد صرح بذلك في الأحاديث الصحيحة صراحةً، ويدخل في تلك الجهة، أي: في جهة الشرق ما وقع التصريح به أيضاً من مثل بقعتين، مصرين، مكانين.

الأول: العراق يدخل في جهة الشرق وفي جهة المشرق، ففيها ما في جهة المشرق من فتن، وهي مكان خروج قرن الشيطان، والتخريص بأن بلاد العراق تدخل في ذلك تقدم معنا الإشارة إلى هذا من كلام سالم بن عبد الله فيما نقله عن والده عبد الله عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: إن جهة المشرق فيها بلاء وفتن وهي مكان قرن الشيطان، واستدل بجهة المشرق على دخول بلاد العراق في ذلك؛ لأنها تقع شرق المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه.

إذاً: جهة العراق داخلة، وعلى هذا فالعراق تدخل فيما تقدم لأنها من جهة الشرق، ولفظ النجد أيضاً يشملها، يعني: لفظ النجد شاملٌ لنجد العراق ولنجد اليمامة التي هي بلاد الرياض وبلاد نجد المعروفة، فهي تشمل هذه البقعة وهذه البقعة؛ لأن النجد كما قلت: هو ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور، أي خلاف المكان المنخفض، وتهامة كلها من الغور ومنها مكة المكرمة، وعليه فالمرتفعات بعد ذلك التي تبدأ من نجد اليمامة ونجد العراق كلها في جهة المشرق، وكلها يشملها هذا الحديث الشريف، وهذا ما أشار إليه سالم رضي الله عنه وأرضاه فيما رواه عن والده عن النبي عليه الصلاة والسلام.

وقد روي في بعض الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام -والرواية ثابتة في المسند بإسنادٍ صحيح- أشار إلى جهة العراق، قال وهو يؤم العراق، أي: يقصدها: ( ألا إن الفتن هاهنا ) فقلت: هذا لا ينافي ما تقدم معنا من أنها داخلة في جهة الشرق من المدينة، فنجد اليمامة ونجد العراق كلها جهة الشرق، فيشملها هذا الوصف الذي أشير إليه في الحديث الثاني.

روي في أحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام: أن الشيطان تمكن من بلاد العراق كما تمكن من غيرها، وهذه الأحاديث التي فيها هذه الإشارة إلى تمكن الشيطان من بعض البلاد ينبغي أن نفهمها على الفهم الشرعي، ولا يعني هذا الأمر: أن الشيطان تمكن من بلدة، وأنه يعشعش في بلدة، وأن قرنه فيها وسلطانه فيها، أن كل من فيها من الشريرين، ومن العتاة المفسدين، لا يعني هذا على الإطلاق، وغاية ما يعني هذا أن تلك البلاد فيها فساد، فإذا كنت فيها يا عبد الله فاحترس وانتبه للدعايات وللبدع التي تنتشر، كما أن الأحاديث التي وردت في فضل بعض البلاد غاية ما تشير إلى أن هذا مكان خير، فإذا كنت فيها فاغتنم هذا، وليس معنى هذا أنه لا شر فيها.

والله يقول عن المدينة على منورها صلوات الله وسلامه: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101] ويقول عن أشرف البقاع على الإطلاق وهي مكة المكرمة: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا [النساء:75] وهي مكة.

إذاً: عندما يشار إلى بقعة من البقاع أن فيها خيراً، فهذا يعني أنك إذا كنت فيها فازدد خيراً ونشاطاً وراع شرف البقعة: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56] وإذا كنت في بقعة فيها شر فانتبه لنفسك واحترس غاية الاحتراس، ولا يعني أنك في تلك البقعة شرير ولا يقدس الإنسان عند الله إلا عمله الصالح، كما أنه لا يدنسه إلا عمله الخبيث، فهذا معنى الحديث، ولذلك من كان جهة المشرق التي يستوطن الشيطان فيها، وهي محل إفساده ويرجف فيها وينشر فيها البدع والضلالات، فالمفروض عليه أن يحترس فقط، وليس المقصود أنه لا خير ولا بركة فيه.

وعندما بورك في بلاد الشام وفي بلاد اليمن وهكذا في بلاد الحجاز، فالمعنى أنك إذا كنت هناك فاغتنم هذه البركة، وقم بالخيرات، وليس معنى هذا أنك في هذه البلاد محصن؛ لأن هذا الحديث حينما لم يفهم على وجهه الشرعي بدأت الأهواء تدخل في التلاعب بمدلوله، ولو فهمناه كما أراد نبينا عليه الصلاة والسلام لما كان منه أي إشكال، ولا داعي بعد ذلك أن نقول: نجد اليمامة لا تدخل في هذا الحديث بل هذا خاص بنجد العراق؛ لأنها بلاد الشر والفساد والفتن، يعني: وغير العراق بلاد لأهل الكرامة والطهارة!

فلا بد من وعي الأمر كما أراد النبي عليه الصلاة والسلام، وسالم رضي الله عنه وأرضاه قال: يا أهل العراق! ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة؟! ثم استدل بقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( الفتن هاهنا نحو المشرق )، إلى أنه يدخل في هذا مصر العراق، كما يدخل غيره من الأمصار، وعندما سأله أهل العراق استدل بهذا الحديث على أنهم في جهة المشرق، قال: أنتم فيكم ما فيكم فاحترسوا؛ يقتل بعضكم بعضاً ويضرب بعضكم رقاب بعض، فانتبهوا فأنتم أهل فتن وفساد، وإذا كان الإنسان هناك فينبغي أن يحصن نفسه وألا يشارك في الفتن وفي الدعوات الضالة المضلة.

روي في أحاديث أيضاً وردت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أن الشيطان له تسلط على بلاد العراق وعلى غيرها من بعض البلاد، بمعنى: أنه يفسد فيها، ويستوطنها أكثر من غيرها، وينشر الضلالات فيها، فإذا كنا في تلك البقاع فينبغي أن نحصن أنفسنا، وليس معنى هذا أننا من أتباع إبليس، فاستمع لهذا الحديث الذي رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير وفي معجمه الأوسط، وانظروا الحديث في المجمع الجزء (10/60)، وهو من رواية يعقوب بن عتبة بن الأخنس الثقفي عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولم يسمع منه، فالحديث منقطع، وجميع رجال إسناده كما سيأتينا ثقات أثبات.

ولذلك قال الهيثمي : رجاله ثقات ولم يسمع يعقوب من عبد الله بن عمر ويعقوب ثقة كما قال أئمتنا، قال الحافظ ابن حجر في التقريب: أخرج حديثه أهل السنن الأربعة إلا الترمذي ، وانظر ترجمته الطيبة -وهو من عباد الله الصالحين المحسنين الورعين- في سير أعلام النبلاء (6/124) .

وهذا الحديث الذي سأذكره من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، رواه أبو الفتح الأزدي وأبو الشيخ في كتاب العظمة كما في جمع الجوامع للإمام السيوطي في (1/520) وحسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة للإمام السيوطي في (1/16) -وهو في مجلدين- عزا هذا الحديث مع جمع الجوامع إلى أبي الفتح الأزدي وأبي الشيخ في العظمة.

والعزو إليه والحديث رواه الإمام ابن عساكر في تاريخ دمشق، كما في اللآلئ المصنوعة للإمام السيوطي أيضاً -وهذا كتاب ثالث له- في (2/465) وتنزيه الشريعة لـابن عراق في (2/50) ولفظ الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن إبليس دخل العراق فقضى حاجته منها ) يعني: حصل ما يريد، دخل إلى هناك وعشعش وتمكن وتصرف فيها وحاجته حصلها على أتم وجه، أفسد وأغوى وألقى العداوة والبغضاء، وهذا ما يريده الشيطان.. ( دخل العراق فقضى حاجته منها، ثم دخل الشام فطردوه منها حتى بلغ ميسان ) وميسان: بلدة بأسفل أرض البصرة كما في اللباب للإمام ابن الأثير في (3/282).

وقال الخزرجي في مراتب الاطلاع: هي بين البصرة وواسط، ويقال: فيها قبر العزير الذي يقال: إنه نبي عليه وعلى نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وهو الذي أشير إليه في الآية: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] وقيل: هو الذي مر على قريةٍ، فقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259] قيل: هو العزير والعلم عند الله، يقال: قبره في ميسان بين البصرة وواسط.

إذاً: دخل إلى الشام فطردوه، والطرد هنا ليس طرداً حسياً، يعني: أنه جاء ليفسد فما استجابوا له فانحسر عنهم وتوارى إلى أن وصل إلى ميسان.

( ثم دخل مصر فباض فيها وفرخ وبسط عبقريه) والعبقري كما قال علماء اللغة: نسبة إلى عبقر، وهي صفة لكل ما بولغ فيه، بحيث لا يفوقه شيء، ولذلك تطلق على السيد وعلى الكبير كما تطلق على النفيس من الديباج، كما تطلق على الطنافس الثخان الجيدة الثمينة: وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ [الرحمن:76] يعني: كل شيءٍ بولغ فيه بحيث لا يفوقه شيء من نوعه وجنسه يقال له: هذا عبقري.

وهذا الحديث رجال إسناده ثقات أثبات لكن فيه انقطاع فقط، وهذا يوجب الضعف فيه حتماً وجزماً، لكن روي له شواهد وستأتينا طرق أخرى، فتابعوا معي خطوات البحث.

هذا الحديث أورده الإمام ابن الجوزي في الموضوعات الجزء (2/58)، وقال: لا يصح هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام، وابن الجوزي واهم ومتساهل في ذلك وقد تعقبه أئمتنا، قال ابن الجوزي: لا يصح ثم علل هذا بأربعة أمور، قال: فيه عقيل بضم العين -مصغر- عقيل بن خالد بن عقيل الأيلي ، الأول بضم العين وجده كذلك، يقول ابن الجوزي في الموضوعات: قال الأزدي : يروي عن الزهري أحاديث مناكير.

قال: وفيه يحيى بن أيوب ، قال عنه أبو حاتم : لا يحتج به، وفيه ابن لهيعة وهو مطروح الحديث، وهذا حكم قاسٍ، وفيه أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال الخطيب : كان كذاباً، وليس كذلك كما سيأتينا، والأمور الأربعة لا يسلم له واحد منها.

تعقبه الإمام السيوطي في اللآلئ، فقال بعد قول ابن الجوزي : قلت: لا يصح.. قال: كلا، فانتبه لرد هذه الأمور الأربعة التي ضعف بها الحديث:

أولها: وبدأ بالأخير منها وهو أحمد بن عبد الرحمن ، قال: أما أحمد بن عبد الرحمن بن وهب فلقبه بحشل وهو ثقة من رجال مسلم ، وإذا كان من رجال مسلم فهل يجوز أن نقول ما قال عنه الخطيب : كان كذاباً، وقد حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه صدوق وتغير بآخره، وتوفي سنة (246) للهجرة، وهو من رجال مسلم أخرج له مسلم من أهل الكتب الستة فقط، قال الإمام السيوطي في اللآلئ: ولم ينفرد أحمد بن عبد الرحمن في هذه الرواية، بل تابعه حرملة في رواية معجم الطبراني الكبير.

إذاً: هو لم ينفرد فله متابعة.

وأما يحيى بن أيوب الغافقي فهو عالم مصر ومفتيها، وقد روى له الشيخان، فهل يجوز أن نقول عنه: لا يحتج به؟! وابن الجوزي يقول: لا يحتج به، وحكم عليه الحافظ في التقريب بأنه صدوق ربما أخطأ، وحديثه في الكتب الستة في الصحيحين والسنن الأربعة، وتوفي سنة 168 للهجرة.

وأما عقيل الذي هو ابن خالد بن عقيل ، فقال السيوطي : هو أحد الأثبات، وأعلم الناس بحديث الزهري ، قاله يونس بن يزيد الأيلي وله شاهد مرسل. يعني: هنا يقول: روى عن الزهري مناكير، والسيوطي يقول: هو أعلم الناس بحديث الزهري ، وهو من رجال الصحيحين أيضاً، بل أخرج حديثه أهل الكتب الستة أيضاً، وقال عنه الحافظ في التقريب: ثقة ثبت، توفي سنة 144 للهجرة.

وأما ابن لهيعة ، فتقدم معنا ترجمته وهو قاضي مصر، يقول الإمام السيوطي : وأما ابن لهيعة فأفرط فيه ابن الجوزي فهو من رجال مسلم وهو حسن الحديث، وقد تقدم معنا أن ابن لهيعة صدوق وتوفي سنة 174 للهجرة، وقد أخرج حديثه الإمام مسلم في صحيحه وأهل السنن الأربعة إلا سنن النسائي كما تقدم معنا.

ثم قال السيوطي : وله شاهد عند ابن عساكر من رواية إياس بن معاوية وقال: وله طريق أخرى مرفوعة وموقوفة، مرفوعة عن عبد الله بن عمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وموقوفة على عبد الله بن عمر من كلامه، ولذلك حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.

وختم السيوطي كلامه بأن عبد الله بن وهب عندما بلغه هذا الحديث، قال: أرى ذلك في فتنة عثمان يعني: تحقق مصداق هذا الحديث في فتنة عثمان حيث سلم أهل الشام في فتنة عثمان وشاركت الأمصار الإسلامية للخروج عليه في بلاد مصر وفي بلاد العراق، وحتى في بلاد الحجاز شاركوا في الفتنة التي وقعت، فكأن الشيطان عندما جاء إليهم من أجل أن يغريهم بالمفاسد ومنها قتل عثمان ما استجابوا له وطردوه حتى بلغ ميسان.

قال الإمام السيوطي : وهذا يدل على ثبوت الحديث عند عبد الله بن وهب وهو من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: كأن هذا الحديث فيه مناسبة خاصة، ليس على عمومه في سائر الأوقات، ويعني: أهل الشام ما استجابوا للشيطان في تلك الحادثة، وأهل العراق قضى الشيطان حاجته منهم، وأما أهل مصر فباض فيهم وفرخ وكانت النسبة الكبيرة ممن شارك في قتل عثمان من الثوار الأشرار الذين جاءوا من بلاد مصر.

فـعبد الله بن وهب يقول: أنا أرى تأويل هذا الحديث في فتنة قتل عثمان رضي الله عنه، وعلى كل حال هذا الحديث إن ثبت -وكما قلت: فيه انقطاع وله شاهد مرسل، وروي من طريق أخرى- عن نبينا عليه الصلاة والسلام ثبوتاً صحيحاً فغاية ما فيه: أن بعض الأمصار للشيطان فيها جولان وتصرفٌ، يجول ويصول أكثر من غيرها، وليس معنى هذا أن كل من كان في تلك الأماكن فهو شرير مفسد عاتٍ، فلا بد من ضبط هذا المعنى ووعيه.

وهذا الكلام حول هذا الحديث أورده الإمام الشوكاني في الفوائد المجموعة صفحة (433) مختصراً، فبعد أن نقل عن الإمام ابن الجوزي الحكم على الحديث بأنه لا يصح تعقبه بكلام الإمام السيوطي ، لكن مختصراً لكلاميهما أي: لكلام ابن الجوزي ولكلام الإمام السيوطي عليهم جميعاً رحمة الله.

قال المعلق على الفوائد المجموعة وهو الشيخ المعلمي قال: سند الحديث قوي لكن فيه انقطاع، وكما قلت لكم: إنه منقطع، لكن له شاهد مرسل، وروي كما قال الإمام السيوطي من طرق أخرى مرفوعة وموقوفة، فلعله يتقوى بذلك والعلم عند الله جل وعلا، وما رأيت أحداً من أئمتنا فيما راجعت حول هذا الحديث نص على تصحيحه صراحة، إنما السيوطي يقول: له شواهد، فالإسناد هنا صحيح، لكن الحسم والجزم بصحة الحديث ما رأيت أحداً فعل ذلك، وكما قلت: منقطع وإسناده ثقات، وهذا كلام الهيثمي وغيره.

لكن هذا الانقطاع هل يتقوى بحيث يزول الانقطاع؟ أي: هل يتقوى الإسناد بالمرسل الذي من طريق إياس بن معاوية ، وبالطرق الأخرى التي هي مرفوعة وموقوفة؟ العلم عند الله، فهذا يحتاج أن ينص عليه إمام من أئمتنا الكرام لنتبعه على ذلك، إنما هذا خلاصة كلامهم حول هذا الأمر.

إذاً: هنا الشيطان قضى حاجته من العراق، وباض في مصر وفرخ، وهل هذا ذم لمصر؟ قطعاً ويقيناً لا، وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة عن أهل مصر، وأمرنا بالوصية بهم وأن نرفق بهم، وأن نعتبر فضلهم فلهم نسب ومصاهرة مع أنبياء الله ورسله، على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وإذا كان كذلك فقدنا فيهم هذه الخصلة الطيبة، وكما أنه في كل بلاد شر وخير ففي مصر كذلك، كون الشيطان له تسلط كثير في ذلك المكان لا يعني أن كل من كان في بلاد مصر فهو على شر، وكون الشيطان تسلطه قليل على من هو في بلاد الشام أو في مكة أو المدينة لا يعني أن كل من سكن تلك البقاع الطاهرة فهو خير طاهر مبارك..، لا ثم لا، فافهم كلام النبي عليه الصلاة والسلام كما يريد نبينا صلى الله عليه وسلم.

أوصى نبينا عليه الصلاة والسلام بأهل مصر، ففي مستدرك الحاكم والحديث في الجزء (2/553) على شرط الشيخين وأقره عليه الذهبي ، ورواه الإمام الطحاوي في مشكل الآثار في الجزء (3/124) ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير من رواية كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيراً، فاستوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمةً ورحماً ) الذمة: دخولهم في العهد، وأنهم يدفعون الجزية ويأمنون على دمائهم وأعراضهم وأموالهم، ولهم رحم بعد ذلك ولهم مصاهرة كما سيأتينا، فخليل الرحمن إبراهيم -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- تسرى منهم، وهكذا نبينا عليه الصلاة والسلام تسرى منهم مارية القبطية وهي أمنا الطيبة المباركة سرية نبينا -على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه-.

والحديث أيضاً رواه الإمام أبو يعلى والبزار والطبراني في معجمه الكبير ورواه سعيد بن منصور في سننه، وابن مردويه في تفسيره بسندٍ صحيح رجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد في الجزء (10/65) لكن عن قيس بن سعد ، وهناك عن كعب بن مالك .

إخوتي الكرام! رواية قيس بن سعد دعونا منها، ستأتينا في الرواية التي بعدها.. عن كعب بن مالك ، وسأذكر رواية أخرى عن أبي ذر أيضاً تتعلق بمصر، أما رواية قيس بن سعد فتتعلق بموضوع آخر سأذكره عما قريب.

روى الإمام أحمد في المسند ومسلم في صحيحه من رواية أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ستفتحون مصر وهي بلد يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم ذمةً ورحماً )، وفي رواية: ( فإن لهم ذمةً وصهراً ) .

حقيقةً مصر فيها من الفساد ما فيها، وركز عليها من قبل أعداء الله في القديم وفي الحديث، عندما خطط أعداء الله للقضاء على الخلافة الإسلامية العثمانية ركزوا على دولتين اثنتين، وهما مركز توجيه العالم في ذاك الوقت، الدولة الأولى مركز الخلافة الإسلامية وهي تركيا، فلا بد من ضعضعتها، لكن ضعضعتها عن طريق الدعايات لا ينفع، لا بد من ضربها وعلمنتها ما بين عشية وضحاها، بحيث إذا ظهر فيها زي إسلامي تعلق المشنقة، فلا امرأة تتحجب، ولا شيخ يضع عمامة على رأسه، والمرأة تلزم أن تخرج حاسرة أو تلبس البرناطة، وإذا لبست الحجاب مباشرة تعلق المشنقة.

ولا يؤذن بالعربي، ويعلم بعد ذلك الجيل بكامله الحروف اللاتينية، والذي يتكلم بالعربية تقطع رقبته، ليحصل الانفصال التام بينهم وبين الإسلام، هذا الذي فعله اللعين أتاتورك؛ لأن هذه دولة لها ثقل، في القوة الحربية ما كان يقف أمامها دولة على وجه الأرض، إذا كان كذلك فلا بد من القضاء عليها، فمركز القوى نفتته ونضيع معالم الإسلام في تلك البلدة، في هذه الأيام بدأ شيء من الخيرات وشيء من النور يعود إلى تلك البلاد، لكن في أول علمنتها ما يعلم بالبلاء الذي حل بالمسلمين هناك إلا رب الأرض والسماء.

والشيوخ الصالحون خرجوا منها إلى بلاد الشام، ومنهم من خرج إلى مصر، ومنهم شيخ الإسلام الشيخ مصطفى صبري ذهب إلى بلاد مصر وتوفي فيها، ومن مشيخة الإسلام الشيخ زاهد الكوثري حيث ذهب إلى مصر وتوفي هناك عليهم جميعاً رحمة الله، هذا كله على إثر علمنة البلاد، ومصر لها تأثير في العالم بأسره، فهي مركز التوجيه الفكري، فسلطوا عليها الدعايات المضللة، وجندوا أناساً أيضاً من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قضوا على الإسلام في تركيا قضاءً مادياً.

وحاربوا الإسلام في بلاد مصر باسم الإسلام، فالشيطان المريد الذي يقال له: جمال الدين الأفغاني وهو شيعي متأفغن ذهب إلى بلاد مصر، ونشر كما يقولون الدعوة الإصلاحية، ولا زالت آثار إفسادها في العالم إلى اليوم وليس في مصر فقط، نسأل الله أن يزيلها وأن يجتثها من جذورها إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

هذا حقيقة له شأن، والذي يبحث في مدلول هذا الحديث يراه في الواقع كذلك، يعني: أنه ذهب إلى هناك وباض وعشعش وفرخ، ووجد بعد ذلك أتباعاً.

وأعداء الله وشياطين الإنس والجن يحرصون على مصر أكثر من حرصهم على بلد صغير إن فسد ففساده قاصر عليه، وأما مصر ففسادها فساد لغيرها وهذا هو الواقع، ولا يعني هذا أن من كان من بلاد مصر فهو شرير، لا علاقة بين الأمرين على الإطلاق، ويوجد من الصالحين الطيبين في بلاد مصر كما يوجد في البلاد الأخرى، كما أنه يوجد من العتاة المفسدين في البلاد الأخرى كما يوجد في بلاد مصر، فالصالح صالح معدنه ذهب أينما كان، لكن حقيقةً أثر الفساد في مصر ليس كأثر الفساد في بلاد الشام.

إذاً: كون الشيطان هناك باض وفرخ، وبسط عبقريه ونشر سيادته وسلطانه، وهنا: استوصوا بهم خيراً، لا تعارض على الإطلاق، فانتبه لهذا وافهم الحديث كما أراد نبينا عليه الصلاة والسلام.