خطب ومحاضرات
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [6]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكنا نتكلم عن الاستطابة والاستجمار، وأن بعض العلماء ذكروا أن الاستجمار مأخوذ من الجمر الذي يوضع فيه البخور، فيكون الطيب، وبعضهم قال: هو التخلية من النجاسات بعد الخلاء، وهذا تطيب وهذا تطيب، لكن هناك تطيب تحلية، وهنا تطيب تخلية، لكن كل منهما تطيب، ودين الله تخلية عن الرذائل والتحلي بالفضائل، هنا تخلى عن الأذى فطيب نفسه، وهناك وضع شيئاً من الطيب فاستجمر وطيب نفسه، وهذا أحد المعنيين في الاستجمار؛ لأنه نقل عن الإمام مالك أن المراد بالاستجمار التجمر بالطيب واستعماله، من استجمر فليوتر قال: من تطيب فليوتر، وقول مالك هذا حكي رجوعه عنه، وبقي عليه بعض المالكية، واستقر المذهب على القول الثاني.
إذاً القول المعتمد في الاستجمار: استعمال الأحجار الصغار لإزالة الأذى من بول أو غائط، وسمي استجماراً لأمرين: لأنه شابه الجمار التي نرمي بها الجمرات، وشابه استجمارنا بالعود عندما نستجمر به أي حصل بذلك تطيب.
أما الاستطابة ويقال لها: الإطابة، فهي كناية عن الاستنجاء، وسمي الاستنجاء بها لأن المستنجي الذي يغسل الأذى ويستجمر ويمسح الأذى هو يطيب جسده بإزالة ما عليه من الخبث، وهذا يوافق أحد المعنيين في الاستجمار، لكن الاستطابة والإطابة شاملة للغسل والمسح، والاستنجاء شامل للغسل وللمسح، والاستجمار خاص بالمسح فقط.
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم في الجزء الثالث صفحة خمس وعشرين ومائة: قال العلماء: الاستطابة والاستجمار والاستنجاء لتطهير محل البول والغائط، فأما الاستجمار فمختص بالمسح بالأحجار، وأما الاستطابة والاستنجاء فيكون بالأحجار وبالماء.
وانظر معاني ما تقدم في كتاب النهاية في غريب الحديث في معنى الاستنجاء في الجزء الخامس صفحة ست وعشرين في الاستنجاء عند إزالة النجس، وانظر الاستجمار في مادة جمر في الجزء الأول أيضاً من النهاية في غريب الحديث لـابن الأثير ، وانظر المعنى الثالث للاستجمار وأنه بمعنى حصول التطيب باستعمال الجمار في شرح الموطأ للزرقاني في الجزء الأول صفحة ست وأربعين، وفي المنتقى في الجزء الأول صفحة واحدة وأربعين.
قال الإمام النووي في الموضع المتقدم: وهذا الذي ذكرناه من معنى الاستجمار هو الصحيح المشهور الذي قال به الجماهير من طوائف العلماء من اللغويين والمحدثين والفقهاء، وقال القاضي عياض -وهو المعنى الثاني-: اختلف قول مالك وغيره في معنى الاستجمار فقيل: هو إزالة الأذى بالأحجار الصغار، وفي ذلك معنى التطيب للإنسان، وقيل: الاستجمار في البخور، ( من استجمر فليوتر )، أي: من تبخر فليجعل ذلك ثلاثاً، يأخذ منه ثلاث قطع أو ثلاث مرات فيتبخر بها.
وفي المنتقى في الجزء الأول صفحة أربعين في المكان المشار إليه آنفاً قال: اختلف مالك وأصحابه في الاستجمار، فروى سحنون بضم السين وفتحها، وهو أبو سعيد عبد السلام بن حبيب الحمصي الأصل، المغربي القيرواني صاحب المدونة في الفقه المالكي، ولقب بـسحنون ، وهو اسم طائر في بلاد المغرب يوصف بالذكاء والفطنة، فلذكاء هذا العبد الصالح لقب بـسحنون وهذا الاسم نادر في بلاد مصر، وأما في بلاد المغرب فما أكثره! فكأنهم يحافظون على عاداتهم القديمة، وهم يسمون به الآن على أنه علم، قال أئمتنا في ترجمته: هو من أكابر فقهاء هذه الأمة، ولم يكن بينه وبين الإمام مالك أحد أفقه منه، وقد توفي عليه رحمة الله ورضوانه سنة أربعين ومائتين، وكان يقول: إنني أخرج من الدنيا ولا يسألني الله عن مسألة قلت فيها برأيي، وهو من أئمة المالكية، والإمام مالك توفي سنة تسع وسبعين ومائة، فبينهما ستون سنة تقريباً.
ومن كلامه يقول: سرعة الجواب للصواب أشد فتنةً من فتنة النار، فانتبه لنفسك إذا كنت ذكياً أن تجيب بسرعة، وهذا محمول لكن راع نفسك من العجب الذي يهبطك، فهو أشد من فتنة المال! قال سحنون : قال لنا علي بن زياد - أبو الحسن التونسي ، توفي سنة أربع وثمانين ومائة للهجرة، كما في المدارس في طبقات أصحاب الإمام مالك في الجزء الأول صفحة ست وعشرين وثلاث مائة، وهو ثقة مأمون خير متعبد بارع في الفقه ممن يخشى الله عز وجل، وهو أول من أدخل الموطأ إلى بلاد المغرب، وكان معلم سحنون وأستاذه- يقول علي بن زياد : قلت لـمالك : كيف الوتر في الاستجمار؟ من استجمر فليوتر؟ فقال: أما أنا فآخذ العود فأكسره ثلاث كسر وأستجمر بكل كسرة منهن ثلاث مرات، فإن كان العود مدقوقاً أخذت منه ثلاث مرات، فكلمه رجل من قريش وأنا شاهد: إن العرب تسمي الاستنجاء بالحجارة من الغائط استجماراً، ليس هو استعمال الطيب، فرجع إلى ذلك مالك ، وكان قد فسره بالوتر باستعمال الدهن والبخور والعود، قال علي بن زياد : وقوله الأول أحب إليه، وهو أن الاستجمار يراد منه التطيب بالعود والطيب، وقال سحنون : والقول الذي رجع إليه مالك هو أحب إلي، يعني: أن الاستجمار هو إزالة أثر الأذى بالحجارة.
وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر مثل قول مالك الأول بأن الاستجمار هو الإيتار عند التطيب بالعود ثلاث مرات.
قال الزرقاني في الموطأ في الجزء الأول صفحة ست وأربعين: حمله بعضهم -يعني الاستجمار- على استعمال البخور، يقال: تجمر واستجمر، وحكاه ابن حبيب - وهو سحنون أبو سعيد عبد السلام بن حبيب - عن ابن عمر ، ولا يصح هذا التفسير عن ابن عمر ، وحكاه ابن عبد البر عن مالك عنه من رواية المالكية في أعيان المذهب رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.
قال الزرقاني -وهو مالكي-: وروى عنه ابن خزيمة خلافه، أي: روى عن الإمام مالك خلاف هذا القول، ولا تناقض؛ لأنه رجع عندما قال له رجل من قريش: إن العرب تعد الاستجمار وتفسره باستعمال الأحجار في إزالة الأذى والحدث، فما نقله ابن خزيمة كما سأذكره وهو ثابت في صحيح ابن خزيمة باعتبار ما آل إليه الإمام مالك وهو القول الثاني، وهذا الذي ذهب إليه سحنون، والقول الأول هو الذي بقي عليه شيخ سحنون أبو الحسن علي بن زياد ، ومثل هذا الكلام موجود في شرح التقريب لـولي الدين العراقي وللشيخ العراقي في الجزء الثاني صفحة ست وخمسين.
وأما قول الإمام مالك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: بأن الاستجمار استعمال الأحجار عند قضاء الحاجة؛ هذا منقول عنه في صحيح ابن خزيمة في الجزء الأول صفحة اثنتين وأربعين، وانظروه أيضاً في معالم السنن للإمام الخطابي في الجزء الأول صفحة خمس وثلاثين قال: سئل ابن عيينة عن معنى: من استجمر فليوتر، فسكت، ومن لم يكن عنده علم فجوابه أن يسكت، فقيل له: أترضى بما قال الإمام مالك في معنى الاستجمار وفي تفسيره؟ فقال: وماذا قال؟ فقال له السائل قال: الاستجمار: الاستطابة بالأحجار، فقال سفيان بن عيينة أبو محمد : إنما مثلي ومثل مالك كما قال الأول:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولةَ البزل القناعيس
وابن اللبون هو ولد الناقة الذي أكمل سنتين وطعن في الثالثة، فأمه ولدت وصارت ذا لبن ترضع (إذا ما لز في قرن) يعني: إذا ما ربط وجمع في قرن أي: في حبل مع جمل فحل قوي جميل كبير لا يستطيع أن يصول صولته، لم يستطع صولة البزل، والذي خرج له البازل وهو من أكمل ثمانية أي تسع سنين من الإبل، القناعيس: الناقة العظيمة إذا كانت طويلة السنام، يقال لها: قناعيس، فلا يستطيع ابن اللبون صولة هذه البزل القناعيس، وهذا حقيقةً من تواضعه مع أئمتنا، وهذا حالهم مع بعضهم رضي الله عنهم أجمعين، يقول: ما مثلي ومثل الإمام مالك إلا كما قال الأول:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس
هذا فيما يتعلق بمعنى الاستنجاء والاستجمار والاستطابة.
أما حكم المسألة فقال الإمام النووي في المجموع في الجزء الثاني صفحة مائة: يجوز الاقتصار بالاستنجاء على الماء، كما يجوز الاقتصار على الحجارة، والأفضل أن يجمع بينهما، وإذا جمع بينهما فليستعمل الحجارة أولاً ثم يتبعها بالماء، فلو استعمل الماء سقط استعمال الحجارة؛ لأنه لا معنى له.
أزال العين بالحجارة، ثم ليزيل الرائحة والأثر بالماء، وأما إذا أزال العين والأثر والرائحة فلا معنى لاستعمال الحجارة بعد استعمال الماء! قال: وهذا الأمر متفق عليه بين المذاهب الأربعة وعليه وجماهير العلماء.
فإذا جمعت حجارةً أو ما يقوم مقامها من ورق أو خرق أو خشب ثم تتبع ذلك بالماء؛ فأنت تخفف مباشرة اليد بملاقاة الأذى، ثم تتطيب تمام التطيب عندما تستعمل الماء، فأزلت الأثر بالحجارة، وخففت ملاقاة النجاسة بيدك الشمال عندما أزلت العين بحجارة ثم غسلت هذا بالماء، فأكمل الأحوال أن تمسح هذا النجوة بورق أو حجر ثم تغسله، ولو اقتصرت على الماء جاز، ولو اقتصرت على الحجارة جاز، قال: ولو اقتصر على أحدهما فالأفضل أن يقتصر على الماء قال: وفي ذلك خلافان مردودان.
قول من كره الاستنجاء بالماء وأدلتهم
منها أثر عن حذيفة بن اليمان رضوان الله عليهما، قيل له: أتستنجي بالماء؟ قال: إذاً: لا تزال يدي في نتن، أي: كيف تجعل اليد تباشر النتن والأذى.
والأثر الثاني ما ثبت من رواية نافع عن ابن عمر أنه كان لا يستنجي بالماء، يقول نافع : وكنت آتيه بالحجارة من الحرة، وأجمعها عنده في المكان الذي يقضي فيه حاجته، فإذا استنجى بها وتجمعت حملتها وطرحتها في الحرة وأتيته بأحجار أخرى.
والأثر الثالث: عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: ما كنا نستنجي بالماء، رواه الطبراني في معجمه الكبير، كما في مجمع الزوائد في الجزء الأول صفحة اثنتي عشرة ومائتين، وفي إسناده ليث بن أبي سليم ، وتقدم معنا إنه صدوق، لكن طرأ عليه الاختلاط بعد ذلك فلم يتميز حديثه السابق من اللاحق، فترك حديثه من أجل ذلك، وتقدم معنا أن البخاري روى له معلقاً في صحيحه، ومسلم في صحيحه لكن مقروناً، وأخرج عنه أهل السنن الأربع، ليث توفي سنة ثمان وأربعين ومائة للهجرة.
ورواية عبد الله بن الزبير في المصنف من غير طريقه، ولذلك قال الحافظ في الفتح: إسنادها صحيح.
ونص أثر عبد الله بن الزبير قال: (ما كانوا يغسلون أستاههم بالماء)، يعني إذا قضوا حاجاتهم، رواه الطبراني في الكبير، وفيه ليث بن أبي سليم وهو ثقة إلا أنه ينسب إلى التخليط والغلط، ومروي كما قلت في مصنف ابن أبي شيبة من غير طريقه، ولذلك حكم عليه الحافظ بأن إسناده صحيح.
وأثر حذيفة يقول عنه الإمام البيهقي في السنن الكبرى في الجزء الأول صفحة خمس ومائة: روينا عن حذيفة رضي الله عنه أنه كان يستنجي بالماء إذا بال، وهذا يعارض ما تقدم من أنه كان لا يستنجي بالماء ويقول: إذاً لا تزال يدي في نتن! ولعله -والعلم عند الله- لا يرى أن ذلك يمنع منه الإنسان، وإنما كان يتنزه عن ذلك.
وقالت أمنا عائشة رضي الله عنها كما في سنن البيهقي في المكان المشار إليه: من السنة غسل المرأة قبلها.
إذاً هذه ثلاثة آثار عن هؤلاء الصحابة الأبرار رضوان الله عليهم تنفي الاستنجاء بالماء.
وهناك آثار أخرى عن التابعين الكرام ذكرها -أيضاً- النووي في المجموع:
منها أثر عطاء رضي الله عنه قال: غسل الدبر محدث.
ومنها أثر سعيد بن المسيب قال: إنما يفعل ذلك النساء، أي: النساء يغسلن ذلك المكان إذا قضين الحاجة، أما الرجال فإنهم يستجمرون، قال: وكان الرجال يبتدئون بالحجارة.
وقال ابن السني من أئمة المالكية: نقل عن مالك أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستنج بالماء، وأنكر مالك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء، وابن حبيب المالكي وهو سحنون الذي تقدم معنا أنه منع من الاستنجاء بالماء قال: لأنه مطعوم، يطعمه الإنسان ويشربه فما ينبغي أن يتلفه في إزالة ذلك الخبث.
الرد على من كره الاستنجاء بالماء
ثم قال الإمام النووي عليه رحمة الله: والدليل على جوازه بالماء الأحاديث الكثيرة الصحيحة الشهيرة، وسيأتينا في الباب الخامس عشر من أبواب سنن الترمذي -بعد باببين بعون الله- باب الاستنجاء بالماء وأتكلم على أثر أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها (مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء، فإني أستحييهم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله)، والاستطابة أي: أن يبدأ بحجارة أو ورق ثم على الماء، وفيه الرد على من نفى وقوعه من خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، يعني من كره الاستنجاء بالماء من سلفنا، فهذا مردود عليه، وهنا تحت هذه الترجمة أحاديث ترد هذا القول وتثبت خلافه، والاستنجاء -كما قلت- هو أكمل أحوال الاستطابة إذا أراد الإنسان أن يقتصر على أحد الأمرين: على الماء أو على الحجارة، ولذلك قال الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن في الجزء الثاني صفحة خمس عشرة بعد الألف -الأجزاء مرتبة ترتيباً تسلسلياً، لم ترتب أرقام كل جزء على حدة- يقول: الاستنجاء بالماء مروءة آدمية ووظيفة شرعية.
وقد نقل عنه هذا الكلام الإمام القرطبي في تفسيره في الجزء الثامن صفحة واحدة وستين ومائتين واستحسنه.
إذاً: هذا الخلاف الأول وهو مردود عند بحثنا في أحكام الاستطابة أفضل كيفية للاستطابة استجمار ثم استنجاء، فإن اقتصرت على أحدهما فجائز، والأفضل منهما الماء، واضح هذا! ومن كره هذا من السلف فقلت: لعلهم يقصدون لا يجب الماء، لعلهم رأوا أن الاستجمار أفضل عندهم لأنه لا يباشر الأذى بيده، ولأن الماء مطعوم فلا يريد أن يضيعه في هذه الحالة، لكن ثبت في الآثار والأحاديث الصحيحة عن نبينا المختار عليه الصلاة والسلام جواز ذلك وتفضيله وتقديمه على غيره كما سيأتي معنا بحث المسألة عند حكم الاستنجاء بالماء، وأما الآن فقط فهو باب الاستنجاء بالحجارة، الباب الذي بوب عليه الإمام الترمذي عليه رحمة الله.
الخلاف الأول: نقل عن بعض السلف المعتبرين، حيث قالوا: لا يجوز الاستنجاء بالماء، وفي مصنف ابن أبي شيبة في الجزء الأول صفحة أربع وخمسين ومائة بوّب باباً لهذا فقال: من كان لا يستنجي بماء ويبتدئ بالحجارة، يعني إذا كان عنده ماء لا يستعمله، إنما الحجارة هي المطلوبة عنده في إزالة الأذى، وهؤلاء سأذكر أقوالهم وأبين بعد ذلك ما أرادوه في هذه الأقوال كما قرر أئمتنا الأبرار، وهذه الآثار التي سأذكرها آثار صحيحة ثابتة عنهم كالشمس وضوحاً في رابعة النهار، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء الأول صفحة واحدة وخمسين ومائتين، فانظروا هذه الآثار.
منها أثر عن حذيفة بن اليمان رضوان الله عليهما، قيل له: أتستنجي بالماء؟ قال: إذاً: لا تزال يدي في نتن، أي: كيف تجعل اليد تباشر النتن والأذى.
والأثر الثاني ما ثبت من رواية نافع عن ابن عمر أنه كان لا يستنجي بالماء، يقول نافع : وكنت آتيه بالحجارة من الحرة، وأجمعها عنده في المكان الذي يقضي فيه حاجته، فإذا استنجى بها وتجمعت حملتها وطرحتها في الحرة وأتيته بأحجار أخرى.
والأثر الثالث: عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: ما كنا نستنجي بالماء، رواه الطبراني في معجمه الكبير، كما في مجمع الزوائد في الجزء الأول صفحة اثنتي عشرة ومائتين، وفي إسناده ليث بن أبي سليم ، وتقدم معنا إنه صدوق، لكن طرأ عليه الاختلاط بعد ذلك فلم يتميز حديثه السابق من اللاحق، فترك حديثه من أجل ذلك، وتقدم معنا أن البخاري روى له معلقاً في صحيحه، ومسلم في صحيحه لكن مقروناً، وأخرج عنه أهل السنن الأربع، ليث توفي سنة ثمان وأربعين ومائة للهجرة.
ورواية عبد الله بن الزبير في المصنف من غير طريقه، ولذلك قال الحافظ في الفتح: إسنادها صحيح.
ونص أثر عبد الله بن الزبير قال: (ما كانوا يغسلون أستاههم بالماء)، يعني إذا قضوا حاجاتهم، رواه الطبراني في الكبير، وفيه ليث بن أبي سليم وهو ثقة إلا أنه ينسب إلى التخليط والغلط، ومروي كما قلت في مصنف ابن أبي شيبة من غير طريقه، ولذلك حكم عليه الحافظ بأن إسناده صحيح.
وأثر حذيفة يقول عنه الإمام البيهقي في السنن الكبرى في الجزء الأول صفحة خمس ومائة: روينا عن حذيفة رضي الله عنه أنه كان يستنجي بالماء إذا بال، وهذا يعارض ما تقدم من أنه كان لا يستنجي بالماء ويقول: إذاً لا تزال يدي في نتن! ولعله -والعلم عند الله- لا يرى أن ذلك يمنع منه الإنسان، وإنما كان يتنزه عن ذلك.
وقالت أمنا عائشة رضي الله عنها كما في سنن البيهقي في المكان المشار إليه: من السنة غسل المرأة قبلها.
إذاً هذه ثلاثة آثار عن هؤلاء الصحابة الأبرار رضوان الله عليهم تنفي الاستنجاء بالماء.
وهناك آثار أخرى عن التابعين الكرام ذكرها -أيضاً- النووي في المجموع:
منها أثر عطاء رضي الله عنه قال: غسل الدبر محدث.
ومنها أثر سعيد بن المسيب قال: إنما يفعل ذلك النساء، أي: النساء يغسلن ذلك المكان إذا قضين الحاجة، أما الرجال فإنهم يستجمرون، قال: وكان الرجال يبتدئون بالحجارة.
وقال ابن السني من أئمة المالكية: نقل عن مالك أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستنج بالماء، وأنكر مالك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء، وابن حبيب المالكي وهو سحنون الذي تقدم معنا أنه منع من الاستنجاء بالماء قال: لأنه مطعوم، يطعمه الإنسان ويشربه فما ينبغي أن يتلفه في إزالة ذلك الخبث.
هذه الآثار عن الصحابة والتابعين أولها الإمام النووي بعدة أمور قال: لعلهم يقصدون أنه لا يجب الاستنجاء بالماء، وأن هذا لا يتعين، وهذا محل اتفاق ووفاق، فلا يتعين علينا أن نستجي بالماء، ولعلهم يرون مع ذلك أن الاستجمار بالأحجار أفضل من الاستنجاء بالماء، وإن كان الصواب خلافه لكن هذا رأي لهؤلاء، ولعلهم كرهوا الاستنجاء بالماء وفضلوا الاستجمار عليه لأنه ينتفع به الإنسان، فيشربه ويطعمه فما ينبغي أن يتلفه في إزالة ذلك الخبث.
ثم قال الإمام النووي عليه رحمة الله: والدليل على جوازه بالماء الأحاديث الكثيرة الصحيحة الشهيرة، وسيأتينا في الباب الخامس عشر من أبواب سنن الترمذي -بعد باببين بعون الله- باب الاستنجاء بالماء وأتكلم على أثر أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها (مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء، فإني أستحييهم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله)، والاستطابة أي: أن يبدأ بحجارة أو ورق ثم على الماء، وفيه الرد على من نفى وقوعه من خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، يعني من كره الاستنجاء بالماء من سلفنا، فهذا مردود عليه، وهنا تحت هذه الترجمة أحاديث ترد هذا القول وتثبت خلافه، والاستنجاء -كما قلت- هو أكمل أحوال الاستطابة إذا أراد الإنسان أن يقتصر على أحد الأمرين: على الماء أو على الحجارة، ولذلك قال الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن في الجزء الثاني صفحة خمس عشرة بعد الألف -الأجزاء مرتبة ترتيباً تسلسلياً، لم ترتب أرقام كل جزء على حدة- يقول: الاستنجاء بالماء مروءة آدمية ووظيفة شرعية.
وقد نقل عنه هذا الكلام الإمام القرطبي في تفسيره في الجزء الثامن صفحة واحدة وستين ومائتين واستحسنه.
إذاً: هذا الخلاف الأول وهو مردود عند بحثنا في أحكام الاستطابة أفضل كيفية للاستطابة استجمار ثم استنجاء، فإن اقتصرت على أحدهما فجائز، والأفضل منهما الماء، واضح هذا! ومن كره هذا من السلف فقلت: لعلهم يقصدون لا يجب الماء، لعلهم رأوا أن الاستجمار أفضل عندهم لأنه لا يباشر الأذى بيده، ولأن الماء مطعوم فلا يريد أن يضيعه في هذه الحالة، لكن ثبت في الآثار والأحاديث الصحيحة عن نبينا المختار عليه الصلاة والسلام جواز ذلك وتفضيله وتقديمه على غيره كما سيأتي معنا بحث المسألة عند حكم الاستنجاء بالماء، وأما الآن فقط فهو باب الاستنجاء بالحجارة، الباب الذي بوب عليه الإمام الترمذي عليه رحمة الله.
أما الخلاف الثاني فقال به الزيدية والقاسمية من الشيعة كما في المجموع للإمام النووي في الجزء الثاني صفحة واحدة ومائة، فقالوا: لا يجوز الاستجمار بالأحجار مع وجود الماء، فإذا وجدت ماءً لا يجوز أن تستجمر، وإذا استجمرت فإنه لا يجزئك وتكون قد عصيت الله عز وجل.
قال الإمام النووي : وهؤلاء لا يعتد بأقوالهم؛ يعني الزيدية والشيعة والظاهرية، ونحو هذه الأقوال التي خرجت عن المذاهب الأربعة المتبعة، ثم قال: هم محجوجون أيضاً بالأحاديث الصحيحة الكثيرة الشهيرة بأن الاستجمار بالأحجار يجزئ.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] | 4050 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] | 3982 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] | 3910 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] | 3797 استماع |
شرح الترمذي - مقدمات [8] | 3790 استماع |
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] | 3777 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] | 3576 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] | 3489 استماع |
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] | 3469 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] | 3418 استماع |