شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فقد وصلنا إلى الباب العاشر من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي رحمه الله، وسنتدارس في هذا المبحث ثلاثة أبواب بإذن الله، وهي الباب العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر.

أما الباب العاشر: فهو باب ما جاء في الاستتار عند الحاجة. ويريد بالحاجة هنا قضاء حاجة البول أو الغائط، أي: إذا أراد الإنسان أن يقضي حاجته فينبغي أن يستر -ما استطاع- عورته، كما سيأتينا هذا في فقه الحديث إن شاء الله، وأنه يكشف من عورته ما يكشفه بمقدار الضرورة عند الكشف ووقت الكشف ولا يتوسع.

قال أبو عيسى الترمذي عليه رحمة الله: حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي ، عن الأعمش ، عن أنس رضي الله عنه، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض).

قال أبو عيسى : وروي عن محمد بن ربيعة عن الأعمش ، عن أنس هذا الحديث.

إذاً الراوي عن الأعمش عبد السلام بن حرب ، وهذا سيأتينا إن شاء الله ضمن تخريج الحديث؛ لأنه يقول: إن هناك طريقاً آخر رواه محمد بن ربيعة ، عن الأعمش ، يعني: كأنه يريد أن يقول: تابع محمد بن ربيعة، عبد السلام بن حرب في روايته عن الأعمش ، وروى وكيع ، وأبو يحيى الحماني عن الأعمش ، قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما أجمعين: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض).

إذاً: عندنا راويان عن الأعمش : عبد السلام بن حرب الملائي ، ومحمد بن ربيعة ، عن الأعمش ، عن أنس رضي الله عنه.

وعندنا راويان عن الأعمش ، وهما وكيع ، وأبو يحيى الحماني ، عن الأعمش، عن ابن عمر ، فالحديث من مسند صحابيين، ورواه في كل طريق راويان عن الأعمش ، فمصدر الحديث الأعمش في روايته عن أنس ، وعن ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

قال الترمذي : وكلا الحديثين مرسل، يعني: منقطع كما سيأتينا في شرح كلامه؛ لأنه لا ينطبق عليه شرح المرسل الاصطلاحي، وهو: ما رفعه التابعي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا لا يوجد هنا؛ لأنه قد ذكر الصحابة في الإسناد، لكن الإرسال هنا يعني به الانقطاع؛ لأن الأعمش لم يسمع أحداً من الصحابة، فروايته عنهم منقطعة ولا سيما وهو مدلس.

قال الترمذي : وكلا الحديثين مرسل، يعني: منقطع، ويقال: لم يسمع الأعمش من أنس ، ولا من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نظر -يعني: الأعمش - إلى أنس بن مالك قال: رأيته يصلي فذكر عنه حكايةً في الصلاة، ستأتينا إن شاء الله، وهذه الحكاية نقلها عنه عندما رآه يصلي في مكة المكرمة في مسجد الله الحرام.

والأعمش اسمه: سليمان بن مهران أبو محمد الكاهلي ، وهو مولى لهم، قال الأعمش : كان أبي حميلاً فورثه مسروق ، وسيأتينا اختلاف أئمتنا في إرث الحميل إن شاء الله، والحميل: هو الذي يحمل مع أحد من أقاربه من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، ثم يدعي الحامل ثبوت نسب بينه وبين من حمله، فأم الأعمش من بلاد الشرك وجاءت به إلى بلاد الإسلام، وقالت: هذا ولدي، فعندما ماتت ورثه مسروق ؛ لأنه يرى أن الحميل يرث ممن ادعى نسبه، وسيأتينا خلاف العلماء في ذلك، هل يثبت النسب لهذا الأمر أم لا؟ واتفقوا على أنه لو ادعى الأب النسب وصدقه الابن يثبت، وما عدا هذا فلا، وسيأتينا الكلام عليه إن شاء الله.

سنذكر البابين الآخرين، ثم نتدارس مباحث الحديث على الترتيب إن شاء الله.

الباب الحادي عشر: باب ما جاء في كراهة الاستنجاء باليمين.

قال الترمذي عليه رحمة رب العالمين: حدثنا محمد بن أبي عمر المكي ، قال: حدثنا سفيان بن عيينة ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه يعني: أبا قتادة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يمس الرجل ذكره بيمينه).

وفي هذا الباب عن عائشة ، وسلمان ، وأبي هريرة ، وسهل بن حنيف ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح، وأبو قتادة الأنصاري اسمه الحارث بن ربعي ، والعمل على هذا عند عامة أهل العلم؛ كرهوا الاستنجاء باليمين.

الباب الثاني عشر: باب الاستنجاء بالحجارة.

قال أبو عيسى الترمذي رحمة الله عليه: حدثنا هناد ، قال: حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال: (قيل لـسلمان -يعني: سلمان الفارسي رضي الله عنه كما سيأتينا- قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة؟ -يعني حتى أحكام قضاء الحاجة والذهاب إلى الغائط- فقال سلمان : أجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، أو أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم)، والرجيع هو: الروث، وسيأتينا شرح هذا في فقه الحديث، والحكمة من النهي عن الاستنجاء وهو الاستجمار هنا بالرجيع الذي هو الروث ويقال له: رجيع؛ لأنه رجع عن حالته التي كان عليها وتغير من طهارة إلى نجاسة، (برجيع أو عظم)، والعظم معروف.

قال أبو عيسى : وفي الباب عن عائشة ، وخزيمة بن ثابت ، وجابر ، وخلاد بن السائب ، عن أبيه وهو: السائب بن يزيد رضي الله عنهم أجمعين. قال أبو عيسى: وحديث سلمان في هذا الباب حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم: رأوا أن الاستنجاء بالحجارة يجزئ ويريد بالاستنجاء هنا الاستجمار، ولا خلاف بين أئمتنا في إجزاء هذا كما سيأتينا، لكن استعمال الماء أفضل، فهو مروءة آدمية ووظيفة شرعية، والحجارة تزيل العين ولا تذهب الأثر، وأما الماء يزيل العين ويذهب الأثر، ولذلك يصبح الإنسان طيباً مطيباً، إنما لو قدر أنه لا يوجد ماء أو شق عليه استعماله، أو أراد أن يترخص أحياناً وأن يستنجي بالحجارة، أو بالورق، أو بغير ذلك فالأمر فيه سعة.

إذاً: أكثر أهل العلم على أن الاستنجاء بالحجارة يجزئ وإن لم يستنج بالماء إذا أنقى أثر الغائط والبول، وبه يقول الثوري ، وابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق.

نتدارس الآن في المبحث الأول: رجال الأسانيد لهذه الأحاديث، ثم بعد ذلك ندخل في فقه الحديث وفي بيان درجة الأحاديث ومن خرجها، وتخريج الروايات التي أشير إليها في نهاية كل باب.

الراوي الأول: قتيبة بن سعيد وهو شيخ الترمذي تقدم معنا مراراً وورد معنا ذكره في أول حديث ذكره الترمذي من جامعه.

ترجمة عبد السلام بن حرب الملائي

الراوي الثاني: قال: حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي هذا أول مكان يرد معنا ذكره فيه، وترجمته كما في التقريب عبد السلام بن حرب بن سلم النهدي الملائي بضم الميم وتخفيف اللام، فلا تشدد اللام الملّائي، أبو بكر الكوفي وأصله بصري، ثقة حافظ له مناكير، وهذا إذا خالف من هو أوثق منه، فلذلك نص أهل العلم على أن له مناكير ينفرد بها ويخالف من هو أوثق، من صغار الثانية، توفي سنة سبع وثمانين يعني: بعد المائة، مائة وسبع وثمانين، حديثه مخرج في الكتب الستة.

وقوله: توفي سنة سبع وثمانين، يعني بعد المائة فلا يصلح أن يكون بعد المائتين! وهذا اصطلاح الحافظ ابن حجر ، فقد قال: إنه إلى نهاية الثامنة هم دون المائتين، وليس بعد المائتين.

قال: عن الأعمش تقدم معنا، وهو: سليمان بن مهران ويعيد الإمام الترمذي ذكره والإشارة إلى ترجمته وإلى عدم روايته عن الصحابة أتكلم عليه في آخر هذا الباب إن شاء الله، عن أنس رضي الله عنه تقدمت معنا ترجمته.

ترجمة محمد بن ربيعة

الراوي الثاني في هذا الباب: هو محمد بن ربيعة ، ولم ترد معنا ترجمته ولم يقع لنا ذكره فيما مضى، وهو محمد بن ربيعة الكلابي الرؤاسي الكوفي ، وهو ابن عم وكيع ، صدوق من التاسعة، توفي بعد التسعين، يعني: مائتين وتسعين.

وفي الكتاب عندكم في الطباعة غلط؛ لأن هذا الراوي من رجال الترمذي وأين رمز الترمذي ، سقط من التقريب، وقد ذكر رمز بخ أي أنه: روى له البخاري في الأدب المفرد، وهو من رجال أهل السنن الأربعة، وهذا سقط في الطباعة، فيضاف إليها.

وهذا هو الذي رمزه به في التهذيبين بخ أي: البخاري في الأدب المفرد، و4 أي: أهل السنن الأربعة، وقد ذكر ذلك الذهبي في كتابه الكشاف وغيره أنه من رجال السنن الأربعة، وعلى كل حال الرقم أربعة إما سقط، وإما اشتبه على المحقق، هل هو كذلك أو لا! فأشار إلى التهذيبين.

وهو صدوق من التاسعة.

ترجمة أبي يحيى عبد الحميد الحماني

يقول: وروى وكيع تقدمت معنا ترجمة وكيع عند أول حديث أيضاً.

قال: وأبو يحيى الحماني عن الأعمش ، أبو يحيى هذا أول مكان يأتي معنا فيه ذكره، وهو عبد الحميد ، وإذا أردتم أن تخرجوا ترجمته فانظروا في الكنى: أبو يحيى الحماني يقول: وهو: عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني الكوفي ، لقبه بَشمين ، صدوق يخطئ، ورمي بالإرجاء، من التاسعة توفي سنة اثنتين ومائتين، وحديثه في الكتب الستة، إلا سنن النسائي ، أما الإرجاء فقد تقدم معنا الكلام عليه موسعاً ومفصلاً في المباحث الماضية.

وخلاصة الكلام: أن الإرجاء يطلق على أمرين اثنين: الإطلاق الأول: على أمر محظور، والمتصل به ضال ولا خلاف في ذلك، ولم يخرج أحد في كتب السنة والحديث لمن اتصف بهذا الإرجاء الذي هو محظور، وهم الذين يقولون: العمل ليس من الإيمان، ولا ينفع وجوده، كما لا يضر عدمه، وقلنا: إن هذا القول باطل قطعاً وجزماً.

الإطلاق الثاني يطلق على ثلاثة أمور: على إرجاء هدى، وعلى إرجاء احتياط، وعلى إرجاء خطأ، فإرجاء الهدى قلنا: إن أهل السنة كلهم مرجئة عند المعتزلة كالخوارج، وإرجاء احتياط قلنا: إن بعض أئمتنا توقفوا في الحكم على الذين اختلفوا بعد عثمان رضي الله عنهم أجمعين، والإرجاء الخطأ هو ما قاله أبو حنيفة وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، أن العمل ليس من مسمى الإيمان، لكن وجوده ينفع الإنسان فيجعله من الصادقين الصالحين الراسخين، وضياعه يجعل الإنسان من الأتقياء الفاسقين، مع أنه ليس من مسمى الإيمان، وقلنا: إن هذا خطأ، وليس بينهم وبين أهل السنة إلا خلاف في العبارة لا في الحكم فالحكم متفق عليه وهو أن من فعل الكبيرة فهو فاسق.

أبو يحيى الحماني عن الأعمش ، عن ابن عمر ، وترجمة ابن عمر تقدمت معنا.

ترجمة الأعمش

الذي نريد أن نتكلم عليه الآن هو الأعمش ، العلماء يقول: لم يسمع الأعمش من أنس ، ولا من أحد من الصحابة، وروايته عن الصحابة منقطعة، فلذلك حكم الترمذي على روايته بالانقطاع، فقال: فكلا الحديثين مرسل أي: منقطع؛ لأن الأعمش لم يسمع عن أحد من الصحابة، فهو يقول هناك: عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض)، وينقل هذا الأعمش ، عن أنس ولم يسمع منه، وينقل أيضاً مثل هذا عن عبد الله بن عمر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض)، ولم يسمع من عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

الأعمش: هو شيخ الإسلام، وشيخ المقرئين والمحدثين في زمنه، وقد رأى أنس بن مالك وهو تابعي ولا شك في ذلك، وحكى وروى عنه، وعن عبد الله بن أبي أوفى ، لكنه روى عنه عن طريق التدليس لا عن طريق السماع والتحديث، فهو يروي عنه بواسطة، ولو أراد أن يروي عنه لأمكنه، لكنه ترك الرواية عنه لبعض الأسباب التي ذكرها الأعمش ثم ندم غفر الله لنا وله.

إذاً: روى عن أنس ، وعن عبد الله بن أبي أوفى على معنى التدليس، فيقول: عن أنس ، وقال أنس ، وقال ابن عمر ، وعن ابن عمر دون أن يقول: سمعت أو حدثني، على معنى التدليس، فإنه مع إمامته كان مدلساً، وهذا هو نص كلام الذهبي في السير، فإن الرجل مع إمامته كان مدلساً، والتدليس تقدم معنا الكلام عليه وعلى أقسامه، وقلت: إن تدليس الإسناد: يراد منه أن يروي الراوي عمن عاصره ولقيه ما لم يسمعه منه بعبارة تحتمل السماع، بلفظة عن، أو قال، أو ما شاكل هذا.

وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التذهيب في الجزء الرابع، صفحة اثنتين وعشرين ومائتين: روى الأعمش عن أنس ، ولم يثبت له منه سماع، والسبب الأول: أنه قال الأعمش : رأيت أنساً رضي الله عنه وما منعني أن أسمع منه إلا استغنائي بأصحابي، غفر الله لك، يقول: إن عنده أصحاب يحدثهم وينشر العلم بينهم، فهذا الذي منعه من سماعه من أنس بن مالك خادم النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وهذا السبب انضاف إليه، السبب الثاني: وهو قوله لـأنس رضي الله عنه: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جئت إلى الحجاج حتى ولاك، والله لا أسمع منك شيئاً، يقول: أنت خدمت النبي عليه الصلاة والسلام، ثم ابتليت بـالحجاج فبدأت تتصل به حتى جعل لك شيئاً من الولاية، أنا لا أروي عنك شيئاً، وغفر الله للأعمش ما جرى منه، فـأنس رضي الله عنه لقي من الظلم ما لقي من الحجاج، وكان يصبر ويحتسب، ثم في نهاية الأمر شد رحله إلى عبد الملك بن مروان في بلاد الشام يشكو إليه الحجاج وقال له: لو أن النصارى أدركوا من خدم عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لأكرموه وأحبوه، فكيف بمن خدم النبي عليه الصلاة والسلام، فأكرمه عبد الملك بن مروان ، ثم كتب للحجاج: لا إمرة لك على أنس ، والمعنى لا تتدخل في شئونه ولا تتطاول عليه، فإذاً: ابتلي أنس رضي الله عنه بـالحجاج وهذا ذكرته عند ترجمة أنس وكيف كان يعامله الحجاج، وكان يقول: له أصم الله سمعك أيها الشيخ الخرب، وقلت: إن الحجاج ظلوم غشوم، نسبه ولا نحبه، والحب في الله، والبغض في الله أوثق عرى الإيمان وهذا نص كلام الذهبي فيما تقدم معنا في ترجمة أنس رضي الله عنه عند مدارستنا لأول سنن الترمذي .

ثم بعد أن مات أنس رضي الله عنه، كان الأعمش يتحسر، وهكذا حال أكثر الناس لا يبالون بالإنسان إذا كان حياً، فإذا مات شعروا بفقده.

المرء ما دام حياً يستهان به ويعظم الرزء فيه حين يفتقد

وهذا أنس رضي الله عنه رؤيته عبادة ونور، فضلاً عن سماع الحديث منه عن النبي عليه الصلاة والسلام.

يقول الأعمش متندماً ومتحسراً: ثم ندمت فصرت أروي عن الرجل عنه، وليتني أخذت الرواية منه مباشرةً؛ لأنني صرت الآن أروي عن أنس رغم أنفي لكن بواسطة، فلو رويت عنه بلا واسطة لكان أولى؛ لأن الحديث كلما قلَّ رجاله علا، وكلما كثر رجاله نزل، وكلما قل الرجال كلما قل احتمال الخطأ في الإسناد؛ لأن كل رجل منهم يتصور عليه أن يخطئ، فتصور الخطأ في ثلاثة أيسر من تصور الخطأ في أربعة، أو خمسة، أو ستة، ولذلك الحديث العالي عندنا هو الذي قلت رجاله قال عنه البيقوني:

وكلما قلت رجاله علا وضده ذاك الذي قد نزلا

الأعمش رأى أنساً رضي الله عنه كما أشار إلى ذلك الترمذي ، فقال: وقد نظر إلى أنس بن مالك وقال: رأيته يصلي، وهذا حصل منه في بيت الله الحرام، يقول الأعمش كما في حلية الأولياء في الجزء الخامس، صفحة خمس: رأيت أنساً يصلي في المسجد الحرام إذا رفع رأسه من الركوع رفع كله حتى يستوي بطنه، وهذه هي القصة التي أشار إليها الترمذي .

قال ابن حجر في التهذيب في المكان المشار إليه سابقاً: قال ابن حبان : رأى الأعمش أنساً بمكة وواسط، وروى عنه شبيهاً بخمسين حديثاً، ولم يسمع منه إلا أحرفاً معدودة، وفي تاريخ بغداد في الجزء التاسع صفحة أربع، والأثر قال عنه الذهبي في السير في الجزء السادس صفحة تسع وثلاثين ومائتين: صالح الإسناد، لكن في إسناده أحمد بن عبد الجبار العقاربي حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه ضعيف، وتوفي سنة اثنتين وسبعين ومائتين للهجرة، يقول الأعمش كما في تاريخ بغداد: رأيت أنساً رضي الله عنه بال فغسل ذكره غسلاً شديداً، ثم توضأ ومسح على خفيه، فصلى بنا وحدثنا في بيته.

وهذا يثبت للأعمش سماعاً من أنس ، لكن هذا لو ثبتت الرواية فكما قلت: فيها أحمد بن عبد الجبار العقاربي وهو ضعيف، ولو ثبت له السماع فالأمر كما قال ابن حبان : سمع منه أحرفاً معدودةً، أما بقية الروايات فروى عنه بواسطة.

وثبت في تاريخ بغداد في الجزء التاسع صفحة أربع، قال الأعمش : سمعت أنس بن مالك يقرأ قول الله جل وعلا: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6] ، فقرأها: إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأصوب قيلاً، فقيل له: يا أبا حمزة ! (وأقوم قيلاً)؟ فقال: كلاهما واحد!

وفي إسناد هذا الأثر الحماني وتقدم معنا هنا وهو عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني ، وقلت: إنه صدوق يخطئ رمي بالإرجاء، والأثر رواه أيضاً الطبري في تفسيره ولفظه: عن الأعمش قال: قرأ أنس ، وهناك ماذا يقول: سمعت، وسمعت هذه لا تدليس فيها بل فيها التصريح بالسماع، وأما هنا فقال صيغة تحتمل أنه سمع وتحتمل أنه لم يسمع، بلفظ قال: قرأ أنس ، والأثر رواه أبو يعلى ، والبزار ، عن الأعمش أن أنساً قرأ، قال الهيثمي في المجمع: ولم يقل الأعمش : سمعت أنساً ، وهذا مما يدل على أن الرواية المتقدمة يوجد فيها شيء من الوهم فلعله من أبي يحيى الحماني الذي هو صدوق يخطئ، وأن الرواية في تفسير الطبري ، وفي مسند أبي يعلى ، والبزار أرجح، وهي قوله: أن أنساً قرأ.

وقول أنس رضي الله عنه: كلاهما واحد، في قوله تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6] وقوله: (وأصوب قيلاً) قوله: كلاهما واحد يريد من حيث المعنى، فكأن أنساً رضي الله عنه يقول: أنا أخطأت القراءة لكن ما أخطأت في المعنى، كأنه يريد أن يقول: هذا خطأ يسير الخطب، فهو خطأ في التلاوة لكنني بينت به المعنى، وليس معنى هذا أنه يجوز للإنسان أن يقرأ اللفظ بما يرادفه أو بمعناه! لا، إنما الخطأ حتماً يكون أخف، يعني لو قال بدل قوله تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الفرقان:37]: واعتدنا للكافرين عذاباً أليماً، تقول له: أخطأت، فيقول: كلاهما واحد! لكن لو قال: وأعتدنا للمؤمنين، نقول له: هذا الآن خطأ في التلاوة وفي المعنى! فقوله هنا: كلاهما واحد، أي من حيث المعنى، هذا الذي يريده أنس فيما يظهر والعلم عند الله جل وعلا، أن هذا واحد من حيث المعنى، وهذا الذي قاله أبو بكر الباقلاني عليه رحمة الله في كتاب الانتصار في نقل القرآن إلى الأنصار، وأنه لا يقصد أنه يجوز أن يقرأ اللفظ بما يرادفه أو بمعناه الذي يدل عليه، وأن يغير ألفاظ القرآن، فهذا لا يجوز! فإن من غير حرفاً واحداً أو نقطةً واحدة من القرآن متعمداً فقد كفر.

والقرآن يتبع السماع لا القياس، ولذلك هناك اختلاف كبير بين قراءة القراء وفقه الفقهاء، فقراءة القراء متواترة لا خطأ فيها، ومن طعن في قراءة فهو مرتد، ومن خطأ قراءةً فهو كافر؛ لأنه يرد على الله، والقراءة هي كلام الله، أما فقه الفقهاء فمبناه على الاستنباط والاجتهاد، والإنسان قد يخطئ ويصيب، ولذلك أنت عندما تبحث في القراءات تجد أن مبناها على السماع المحض الذي يتبع النزول لا القياس، فمثلاً قول الله جل وعلا في سورة الفاتحة: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] ، وفي قراءة: ملك يوم الدين فهاتان قراءتان متواترتان عن نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن لا يجوز أن تقرأ بهذا اللفظ في سورة الناس لأنها نزلت مَلِكِ النَّاسِ [الناس:2] فلا تقرأ مالك الناس مع أن الرسم واحد في السورتين، ملك الناس وملك يوم الدين، فلو أراد أحدهم أن يقيس تلك على هذه وقال: أستعمل القياس! نقول له: توقف، وإن قال: إنه لا يتغير المعنى! فنقول له: هذا كلام الله متعبد بتلاوته، ومعجز بلفظه، لا يجوز أن تغير منه حرفاً لا بتقديم ولا بتأخير، ولا بمرادف ولا غيرها، فجواز القراءة يتبع اللزوم، ولا دخل للقياس ولا لإعمال الرأي فيه أبداً.

فما قاله أنس هنا لا يأتي أحد الزنادقة ويفتح باباً ويقول: وأقوم قيلاً وأصوب قيلاً كلاهما واحد! يعني إذاً: بدل من أن نقول: (تبت يدا أبي لهب) نقول: هلكت يدا أبي لهب ، وشقيت يدا أبي لهب ، أو خسرت يدا أبي لهب ، فكلها بمعنىً واحد! لأن أنساً رضي الله عنه أراد أن يقول: الصواب ما ذكرتموني به، لكن اعلموا أنه مع هذا الخطأ فأنا ما أخطأت خطأً فاحشاً، بمعنى أنني غيرت المعنى، وهذا هو الذي يقصده، يعني (أقوم قيلاً) بمعنى أصوب قيلاً، المعنى واحد، لكن لا يجوز أن نقرأ بذلك، فانتبه لهذا المعنى هذا الذي يقصده أنس رضي الله عنه.

فالقراءات مبناها على السماع المتواتر، والفقه مبناه على الاجتهاد والاستنباط، ولذلك عندك في الفقه صواب وخطأ، وراجح ومرجوح، وأجر وأجران، وأما في القراءات فليس عندك إلا صواب فقط، ولا يجوز أن تفاضل فتقول: قراءة حمزة أفضل أو أرجح أو أظهر أو أبرك من قراءة عاصم ، ولو فعلت هذا لكنت كافراً! وما ترخص به بعض النحاة من استعمال هذا وأعملوا الأقيسة النحوية في القراءات باطل، ولذلك يقول ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد: عمل النحاة في القراءات يشبه عمل الجهمية نحو نصوص الصفات، فهؤلاء حكموا القراءات بأقيستهم، والقرآن ما نزل لا بقواعد الكوفة ولا بقواعد البصرة، نزل بلسان عربي مبين، وإذا ما أثبت القرآن قاعدة من قواعد الكوفة فلا يعني هذا تقرير قواعد الكوفيين، ورد قواعد البصريين ألبتة، والعكس كذلك، فينبغي أن يصحح النحاة قواعدهم على حسب القراءات، ولذلك قراءة حمزة في أول سورة النساء، تسفه عليها كثير من علماء اللغة وقولهم باطل، ولولا عذرهم بجهلهم لحكم بردتهم، قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، فقرأ حمزة (الأرحام) بالخفض مع أن التسعة قرءوا بالنصب، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] ، فانفرد حمزة وقال: (والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً)، والأرحام بالخفض، وهنا عطف الاسم الظاهر على الضمير المكني المجرور دون إعادة حرف الجر، والنحاة يعتبرون هذا معيباً في الشعر فكيف في النثر، فكيف بكلام القرآن! يقولون: هذه القراءة قبيحة! قال هذا كثير من النحويين، وكلامهم يرد عليهم، ووصل الشطط ببعض النحاة أن قال: لعل حمزة قرأ بناءً على قواعد الكوفة، وأنه قرأ باجتهاده، ثم قالوا: ولا نسلم بتواتر القراءات السبع، ومن أنتم حتى تسلموا أو لا تسلموا؟! إن هذه القراءة متواترة شئت أم أبيت! ومن نشر هذا فهو كافر مرتد، لكن الناس أعداء ما جهلوا فانتبه لهذا.

إذاً: قول أنس رضي الله عنه فيما حكاه عنه الأعمش : إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6] ، وأصوب قيلاً، وقوله: كلاهما واحد، أي: في المعنى؛ لأنه يقول: أنا أخطأت التلاوة لكن ما أخطت المعنى، ولا حرج فيه، وكلام الله جل وعلا محفوظ من التغيير والتبديل، لكن هو يريد أن يقول: خطأ يسير، يعني أبدلت اللفظ بما يدل على معناه، وإن كنت أخطأت في التلاوة، هذا هو مراد أنس من كلامه رضي الله عنه.

إذاً: الأعمش يحكي أنه سمع أنساً يقرأ في الروايات الأولى، لكن في هذه الرواية صدوق يخطئ، ورواية الطبري ، وأبي يعلى ، والبزار فيها أن أنساً قرأ، وهذه هي الصيغة التي صدرت من المدلس، وهي لا تدل على السماع، وأما في الرواية الأخرى فقد صرح على كل حال بالسماع فيمكن أن يقال والعلم عند الله: إن الأعمش سمع من أنس أحرفاً يسيرة، وبقية الروايات عنه بواسطة، وهو كما تقدم معنا مدلس مع رسوخ قدمه في الدين، وقلنا: إن التدليس المعتمد مذهب للرواة، فنعامل الراوي المدلس على حسب مذهبه دون أن نطعن فيه أو نطعن في عرضه، فإن صرح بالسماع روايته مقبولة؛ لأنه ثقة، وإذا لم يصرح نتوقف في روايته؛ لأنها محمولة على الانقطاع، وهذا ما أشار إليه الترمذي بقوله: وكلا الحديثين مرسل، أي: فيه انقطاع؛ لأنه لا يوجد إرسال، فقد ذكر الصحابي وهو أنس ، وابن عمر ، لكن الراوي عنهما وهو الأعمش مدلس، وما صرح بالسماع ولا بالتحديث، هنا يقول: عن أنس قال، وهناك يقول: قال: قال ابن عمر ، والصيغتان إذا صدرتا من المدلس لا تدلان على سماعه من شيخه، وعليه فالصيغة منقطعة.

ترجمة مسروق بن الأجدع

ثم ذكر مسروقاً وهو من رجال الترمذي وسنذكر ترجمته.

مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي أبو عائشة الكوفي ، ثقة فقيه عابد، شيخ أهل اليمن، مخضرم يعني أدرك الجاهلية والإسلام، ولم تثبت رؤيته للنبي عليه الصلاة والسلام، من الطبقة الثانية، توفي سنة اثنتين أو ثلاث وستين للهجرة، حديثه مخرج في الكتب الستة، أخرج حديثه الجماعة.

قال الذهبي في ترجمته في السير في الجزء الرابع صفحة ثلاث وستين: عداده في كبار التابعين المخضرمين، سمي مسروقاً لأنه سُرِقَ وهو صغير، كما قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، ثم وجد فقيل له: مسروق ، سرق ووجد، فسمي بهذا الاسم، فصار اسماً له يعرف به، قال أنس بن سيرين فيما يرويه عن امرأة مسروق تقول: كان مسروق يصلي في الليل حتى تتورم قدماه، من العباد الخاشعين المخبتين، تقول امرأته: فربما جلست أبكي مما أراه يصنع بنفسه، ولما حج لم ينم إلا ساجداً على وجهه حتى رجع، فمن اليمن إلى مكة لم يضع جنبه على أرض، فإذا جاءه النوم ينام وهو ساجد، حتى عندما كان يركب على الناقة في رحلته لا ينام إلا وهو ساجد، وكان يقول: لأن أفتي يوماً بعدل وحق أحب إلي من أن أغزو سنة، وهذه هي منزلة العلماء لذا أخلفهم جل وعلا.

وأما اسم أبيه الأجدع فقد غير عمر بن الخطاب اسم والد مسروق إلى عبد الرحمن، وكان لا يعرف مسروق إلا أنه ابن عبد الرحمن ، مسروق بن عبد الرحمن ، وكان اسمه في الديوان كذلك، وإذا خرج عطاؤه قيل: هذا عطاء مسروق بن عبد الرحمن الوادعي الهمداني ، أما الأجدع هذا فحذف، وليت الحافظ ابن حجر حذفه من التقريب، وقال: مسروق بن عبد الرحمن .

جاء في المسند، وسنن أبي داود ، وابن ماجه ، ورواه الحاكم في المستدرك: ( أن عمر لقي مسروقاً وأعجب به، ورآه يقيم الصلاة والعبادة، فقال له: ما اسمك؟ قال: مسروق بن الأجدع ، فقال له عمر رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأجدع شيطان )، هذا من أسماء الشيطان، فأنت كأنما سمي

الراوي الثاني: قال: حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي هذا أول مكان يرد معنا ذكره فيه، وترجمته كما في التقريب عبد السلام بن حرب بن سلم النهدي الملائي بضم الميم وتخفيف اللام، فلا تشدد اللام الملّائي، أبو بكر الكوفي وأصله بصري، ثقة حافظ له مناكير، وهذا إذا خالف من هو أوثق منه، فلذلك نص أهل العلم على أن له مناكير ينفرد بها ويخالف من هو أوثق، من صغار الثانية، توفي سنة سبع وثمانين يعني: بعد المائة، مائة وسبع وثمانين، حديثه مخرج في الكتب الستة.

وقوله: توفي سنة سبع وثمانين، يعني بعد المائة فلا يصلح أن يكون بعد المائتين! وهذا اصطلاح الحافظ ابن حجر ، فقد قال: إنه إلى نهاية الثامنة هم دون المائتين، وليس بعد المائتين.

قال: عن الأعمش تقدم معنا، وهو: سليمان بن مهران ويعيد الإمام الترمذي ذكره والإشارة إلى ترجمته وإلى عدم روايته عن الصحابة أتكلم عليه في آخر هذا الباب إن شاء الله، عن أنس رضي الله عنه تقدمت معنا ترجمته.