شرح الترمذي - باب النهي عن البول قائماً وباب الرخصة في ذلك [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:

فكنا ذكرنا فيما سبق أنه كان من عادات العرب أن يبولوا قياماً، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فشرع البول قاعداً، ثم ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه بال قائماً، ومن الطبيعي أن يطلع على هذا الأمر الرجال، فاطلع عليه حذيفة ، واطلع عليه المغيرة بن شعبة ، وأما أمنا فلم تطلع عليه؛ لأن أكثر وغالب عادة النبي عليه الصلاة والسلام في قضاء حاجته أنه يبول وهو قاعد.

هذا ما يتعلق بالمبحث الأول في الجمع بين الحديثين: قلت: إن حديث أمنا عائشة غاية ما يفيده كراهة البول قياماً من غير ضرورة وعذر، وأما حديث حذيفة ، والمغيرة رضي الله عنهم أجمعين فيفيد الجواز عند العذر، والجواز من دون عذر لكن مع الكراهة ومخالفة الأولى.

سلك بعض أئمتنا مسلكاً آخر للجمع بين هذين الحديثين وهو: أن حديث حذيفة ، وحديث المغيرة دليلٌ لجواز البول قائماً، وهو منسوخ بحديث أمنا عائشة رضي الله عنها، وهذا الذي صار إليه الإمام أبو عوانة وهو صاحب المسند الذي يسمى بالمستخرج على صحيح مسلم ، وهو أول من أدخل مذهب الإمام الشافعي إلى إسفرايين أبو عوانة ، وتوفي سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة للهجرة، وذهب إليه ابن شاهين أبو حفص عمر بن أحمد وقد توفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، وله تفسير بلغ نيفاً وعشرين مجلداً بالأسانيد، وقال الذهبي : رأيته بواسط وليس عندنا خبر عنه.

ذهب هذان الإمامان: أبو عوانة وابن شاهين إلى النسخ، فقالوا: حديث حذيفة والمغيرة منسوخ بحديث أمنا عائشة رضي الله عنها؛ لقولها: (ما بال النبي عليه الصلاة والسلام قائماً منذ أنزل عليه القرآن)، ( ومن حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه )، ولا داعي للقول بالنسخ مع إمكان الجمع كما تقدم معنا، فأمنا عائشة رضي الله عنها أخبرت ما أخبرت به على حسب علمها، فيحمل على ما كان يقع منه عليه الصلاة والسلام في البيوت، وأما في غير البيوت فلم تطلع على ذلك، وكما قلت: من حفظ حجة على من لم يحفظ، والعلم عند الله جل وعلا.

الأمر الثاني في فقه الحديث: ورد في حديث حذيفة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم)، قال أئمتنا الكرام: إضافة السباطة إلى القوم إضافة اختصاص لا إضافة ملك، أي: لا يملكونها، وهذه ليست ملكاً لهم، إنما مختصة بهم في أفنيتهم يرمون ويلقون فيها فضلاتهم ويرتفقون بذلك.

إذاً: هي إضافة اختصاص لا ملك، وهي لا تخلو عن النجاسات غالباً، فهي مرفق يرتفق به الناس ويضعون فيه الفضلات، وعليه يندفع اعتراض من قال: كيف بال النبي عليه الصلاة والسلام في أصل الجدار؟ وذلك يوهيه ويضره، ولا يجوز لإنسان أن يتسبب في إضرار ملك غيره؟ والجواب من أوجه:

الأول: أن إضافة السباطة إلى القوم إضافة اختصاص، وهذا المكان الواقع بين الدور مكان عام لا يتملكه أحد، فهو جدار تلقى خلفه الكناسات والفضلات وتجمع فيه، فأتى النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذا المكان الذي هو ملك عام، ولا يتملكه أحد؛ ليقضي حاجته، وعليه فلا يقال: إنه بال في ملك غيره، ولا أنه آذى الجدار، وحتماً كثرة البول في أصل الجدار توهيه وتضعفه وتسقطه في النهاية، ولا سيما إذا كانت الجدر من طين، فكثرة البول فيها يحللها ويفتتها ويقطعها.

الثاني: ويمكن أن يقال أيضاً: على تقدير أن هذه السباطة ملكاً لأناس بأعيانهم، أنه قد علم عليه الصلاة والسلام إذنهم ورضاهم، وإذا علم الإنسان رضا صاحب الملك بذلك فلا مانع أن يبول في ملكه وأرضه وعند جداره.

الثالث: على تقدير كون هذه السباطة وهذا المكان ملكاً لأناس بأعيانهم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم يبل في أصل الجدار، إنما بال فوق السباطة وذلك لا يترتب عليه أي ضر.

الرابع وهو القول والراجح: إن كانت السباطة ملكاً لهؤلاء القوم فالبول في هذه المرابط مما يتسامح به الناس وجرت به عادتهم، فهو مكان للفضلات.

الخامس: إنه علم عليه الصلاة والسلام بإيثارهم وعدم كرههم، بل بفرحهم إذا دخل النبي عليه الصلاة والسلام إلى سباطتهم وبال فيها، ومن كان هذا حاله وعلم هذا من حال صاحب السباطة وصاحب الأرض فيجوز له ذلك، كما يجوز لك أن تأكل من مال غيرك إذا علمت فرحه بأكلك من ماله، وهكذا إذا أردت أن تبول في ملكه وعلمت فرحه فلا حرج.

السادس: كما في فتح الباري وعمدة القاري والكتب المتقدمة كشرح صحيح مسلم ، والمجموع: أن النبي عليه الصلاة والسلام له حكم خاص في أفعاله فيجوز أن يتصرف في ملك غيره بغير استئذانه؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ لأنه يجب عليهم طواعيةً أن يؤثروه على أنفسهم إن علموا حاجته عليه صلوات الله وسلامه مع اختيارهم لما عندهم، فبما أن الأمر كذلك وحاجته تقدم على حاجتهم، وهو أولى بهم من أنفسهم، فلا حرج عليه في أن يأخذ طعام من شاء، وأن يدخل إلى بيت من شاء، وأن يقضي حاجته في ملك من شاء عليه الصلاة والسلام؛ لأنه نبي عليه صلوات الله وسلامه، وإذا كان الأب يرخص له أن يأكل من بيت ابنه وأن يدخل إلى بيته إلى آخر ذلك، فنبينا عليه الصلاة والسلام أغلى من آبائنا وأمهاتنا ومن أنفسنا عليه صلوات الله وسلامه فلا حرج، لكن مع سلامة هذا القول وحسن تعليله، فقد قال الحافظ ابن حجر : هذا القول وإن كان صحيح المعنى لكنه لم يعهد من سيرته عليه الصلاة والسلام أنه كان يتصرف في ملك غيره بغير إذنه، وإن كان يؤذن له أن يتصرف من أجل مكارم أخلاقه عليه الصلاة والسلام، فلا يأخذ ملك الغير إلا بإذنه، ولا يتصرف في ملك الغير إلا بإذنه، فكيف يقال: إنه يجوز له ذلك؟ وبناءً على ما هو جائز له يفعل عليه الصلاة والسلام ما هو ممنوع منه.

المبحث الثالث: قد يقول قائل وهذا في فقه الحديث: لماذا لم يبعد النبي صلى الله عليه وسلم عند قضاء حاجته مع أنه من عادته؟ كما سيأتينا في الباب السادس عشر من أبواب الطهارة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يقضي حاجته أبعد في المذهب، أي: ذهب إلى مكان بعيد حتى لا يُرى عليه الصلاة والسلام، فكيف يأتي إلى هذه السباطة التي هي بين الجدران ويبول فيها عليه الصلاة والسلام، هلا أبعد المذهب؟

لقد أجاب أئمتنا عن ذلك بعدة أجوبة:

أولها: قيل: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان مشغولاً مع أصحابه الكرام عليهم جميعاً رضوان الله ورحمته في مصالحهم، فلما طال عليه المجلس من أجل مصالحهم وحاجتهم طرأ عليه ما طرأ من حاجة الإنسان إلى قضاء حاجة البول، فلو أبعد لتضرر، ولو أراد أن يقوم قبل اشتداد حاجته إلى البول لكان في ذلك كسر لخاطر أصحابه عندما يفارقهم؛ لقضاء حاجته، فتحمل عليه الصلاة والسلام من أجل مصلحة أصحابه جمعاً بين المصلحتين، واختار أن يقضي حاجته في مكان قريب، وأن يستفل الوقت الذي سيقضيه في الطريق إلى هذا المكان البعيد في مصلحة هؤلاء؛ رفقاً بهم، وإحساناً إليهم، ومباسطةً لهم عليه صلوات الله وسلامه، فجمع بين المصلحتين: مصلحة قضاء حاجة أصحابه، ومصلحة قضاء البول في مكان قريب؛ ولأنه لو ذهب إلى مكان بعيد بعد أن اشتدت حاجته؛ لإخراج هذه الفضلات لتأذى وتضرر عليه الصلاة والسلام، فبال في هذا المكان الذي هو مع قربه مستور لا يرى منه شيء عليه الصلاة والسلام، فقد بال وأمامه الحائط وخلفه حذيفة رضي الله عنه كما سيأتينا.

القول الثاني: أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يذهب إلى مكان بعيد وقضى حاجته عند السباطة؛ ليبين لنا أن هذا جائز، فكما أنه يُسن للإنسان أن يبعد في المذهب، فيجوز له أيضاً أن يقضي حاجته دون أن يبعد إذا حافظ على الستر المطلوب، وأمن من إصابة نفسه بالقذر والنجاسة، ولا شك أن البول أخف من الغائط؛ لأن الغائط يحتاج إلى زيادة تكشف، ويقترن به رائحة مؤذية، والبول ليس فيه ذلك، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين أن حاجة البول إذا قضيت قريباً من الناس فلا حرج على الإنسان في ذلك، ولا يجب عليه أن يبعد في المذهب.

الأمر الثالث: قيل: إن الغرض من الإبعاد هو التستر، وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر، وهذا الذي حصل من النبي عليه الصلاة والسلام، فقد دنا من الجدار فكان ساتراً له من الأمام، وجعل خلفه حذيفة وظهر حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووجهه للجهة المقابلة فحصل التستر، والمقصود من الإبعاد أن يتستر، وقد حصل المطلوب، فصار إذاً كما لو أبعد في المذهب، والعلم عند الله جل وعلا.

المبحث الرابع: وهو آخر مباحث فقه الحديث، وهو فيما حصل من نبينا عليه الصلاة والسلام إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه من إشارة له بأن يقوم عند عقبيه، وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره، عندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم السباطة، قال حذيفة : فانتبذت منه، أي: ابتعدت عنه وتنحيت، فأشار إلي فجئته فقمت عند عقبيه حتى فرغ عليه الصلاة والسلام.

وثبت في صحيح مسلم: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: (ادن) وفي الرواية الأولى (فأشار إليه)، قال الحافظ ابن حجر: قوله: (ادن) هذا ليس عن طريق اللفظ إنما قوله: (ادن) أي: اقترب عن طريق الإشارة كما وضح ذلك بالرواية الأولى وهي: (فأشار إليه) أي: بيده أو برأسه عليه الصلاة والسلام، المهم أنه أشار إليه بإشارة من أجل أن يقترب؛ لأنه تنحى عنه عندما دخل نبينا عليه الصلاة والسلام السباطة، فأشار إليه دون أن يتكلم؛ لأنه في مكان قضاء الحاجة، ولا يصلح للإنسان أن يتكلم في ذلك الوقت، وهذا الذي قاله الحافظ ابن حجر في الحقيقة هو أحد الأوجه في الجمع بين الروايتين، وقد قال العيني في عمدة القاري: نجمع بين الروايتين وكل منهما صدر من النبي عليه الصلاة والسلام، بأن النبي عليه الصلاة والسلام أشار بيده وأتبعها بلفظة: (ادن)؛ لأن هذا اللفظ حصل منه قبل التكشف، وكانت الإشارة إلى حذيفة بيده بعد أن كشف عن عورته عليه الصلاة والسلام ليقضي حاجته، ومعلوم أنه يجوز للإنسان أن يتكلم قبل التكشف ولا حرج، وفيما حصل من نبينا عليه الصلاة والسلام نحو حذيفة .

ومن فعل حذيفة مع نبينا عليه الصلاة والسلام استنبط أئمتنا عدة أحكام:

أولها: جواز طلب البائل من صاحبه الذي بالقرب منه أن يستره. فإذا كنت في سفر أو في مكان وأردت أن تقضي الحاجة، وكنت تخشى أن يمر أحد ما ويراك فلا بأس أن تقول لصاحبك: استرني وكن من خلفي؛ من أجل ألا يراني من يمر من ورائي، فهذا جائز وقد فعله النبي عليه الصلاة والسلام، وفعله حذيفة مع نبينا عليه الصلاة والسلام.

الثانية: في الحديث جواز خدمة المفضول للفاضل، كخدمة حذيفة لنبينا عليه الصلاة والسلام وهو أفضل خلق الرحمن.

الثالثة: كراهة مدافعة البول ومصابرته لما فيه من الضرر، ويؤخذ هذا من قضاء نبينا عليه الصلاة والسلام حاجته في السباطة دون أن يبعد في المذهب من أجل ألا يتضرر عند حبس البول.

هذا فيما يتعلق بفقه الحديث وأحكام الحديث.

ندخل الآن في المبحث الثالث: وهو في بيان درجة الأحاديث التي ذكرها الإمام الترمذي ، والمبحث الرابع: وهو في تخريج الروايات التي أشار إليها بقوله: وفي الباب.

أما الرواية الأولى وهي رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً)، قال الترمذي : وفي الباب عن عمر ، وبريدة ، وعبد الرحمن بن حسنة ، قال أبو عيسى : حديث عائشة أحسن شيء في هذا الباب وأصح. وحديث عمر رضي الله عنه إنما روي من حديث عبد الكريم بن أبي المخارق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر رضي الله عنه قال: (رآني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائماً فقال: يا عمر ! لا تبل قائماً. فما بلت قائماً بعد ذلك)، قال أبو عيسى : وإنما رفع هذا الحديث عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أيوب السختياني ، وقد تكلموا فيه.

وروى عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال: قال عمر رضي الله عنه: (ما بلت قائماً منذ أسلمت)، وهذا أصح من حديث عبد الكريم ، وحديث بريدة في هذا غير محفوظ، ويحمل النهي عن البول قائماً على التأديب لا على التحريم، وقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إن من الجفاء أن تبول وأنت قائم.

أما حديث أمنا عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه من أهل السنن الأربعة الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، ورواه أبو داود الطيالسي -وليس هو بصاحب السنن- من رواية شريك ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه، عن أمنا عائشة رضي الله عنها باللفظ المتقدم، والحديث قال عنه الترمذي : حديث عائشة أحسن شيء في هذا الباب وأصح.

وقفة مع فهم المباركفوري لعبارة الترمذي في تصحيح حديث عائشة

وانظر لفهم الشيخ المباركفوري لهذه العبارة التي ذكرها الترمذي .

يقول الشيخ المباركفوري في تحفة الأحوذي في الجزء الأول، صفحة اثنتين وعشرين: والمراد أن هذا أقل ضعفاً وأرجح مما ورد في هذا الباب. أنا أعجب من هذا التكلف، فلا أعلم كيف فسر قول الترمذي إنه أحسن شيء في هذا الباب وأصح، بوقله إنه أقل ضعفاً وأرجح مما ورد في هذا الباب؟ ثم قرر الشيخ المباركفوري قوله: بأن الحافظ ابن حجر قال في الفتح في الجزء الأول، صفحة ثلاثين وثلاثمائة: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في النهي عن البول قائماً.

إذاً: فماذا نقول في قول أمنا عائشة رضي الله عنها: (ما بال النبي عليه الصلاة والسلام قائماً)؟ وهو وإن لم يكن فيه النهي عن البول قائماً، إلا أنه لا يقوي استدلاله بقول الحافظ ابن حجر : إنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام شيء في البول قائما، ولا على أن حديث أمنا عائشة ليس بصحيح، لا يستدل بذاك إلا في موضوع آخر وهو ما يتعلق بالنهي.

والحديث صحيح، ورجال إسناده كلهم ثقات أثبات، وليس فيهم إلا شريك وهو صدوق يخطئ كثيراً، وقلنا: إنه قد روى حديثه البخاري في صحيحه معلقاً، ومسلم ، وأصحاب السنن الأربعة، وأما من عدا شريك من الرواة فيهم:

علي بن حجر وقد تقدم معنا، وقلنا: إنه ثقة حافظ، والمقدام بن هانئ ثقة وحديثه في كتاب الأدب المفرد، ومسلم ، والسنن الأربعة، ووالده شريح تقدم معنا أيضاً، وهو ثقة، وحديثه أيضاً في الأدب المفرد، وصحيح مسلم ، والسنن الأربعة.

إذاً: من الذي في الإسناد حتى نقول: إن قول الترمذي : أحسن شيء في هذا الباب وأصح معناه: أقل ضعفاً وأرجح مما ورد في هذا الباب؟ ولماذا ضعف هذا الحديث؟ وهل قولهم في شريك أنه صدوق، يخطئ كثيراً يعني: أن روايته هذه فيها خطأ؟ إن قولهم: صدوق يخطئ كثيراً، يعني أن حديثه في درجة الحسن، ولا سيما وقد أخرج مسلم له في صحيحه، وهو من رجال السنن الأربعة، وأخرج له البخاري معلقاً، على أن شريكاً لم ينفرد بهذه الرواية، فما نخشاه من تفرده بهذه الرواية، ومن خطئه وعدم ضبطه زال بذلك، وقد تابعه على هذه الرواية اثنان: أولهما: الحافظ الإمام سفيان الثوري ، والثاني: إسرائيل الذي تقدم معنا في الحديث السابع، وهو إسرائيل بن يونس السبيعي الهمداني ، وغالب ظني أن حديثه في الكتب الستة وهو ثقة، تكلم فيه بلا حجة، فعندنا إسرائيل ، وسفيان الثوري تابعا شريكاً في روايته عن المقدام هنا.

فلماذا هذا التكلف في الحكم في تأويل قول الترمذي أحسن شيء في هذا الباب وأصح، بأنه الأقل ضعفاً وأرجح مما ورد في هذا الباب؟ إذاً: فهذه عبارة مردودة، ولا تستقيم بحال.

متابعة سفيان الثوري لشريك في حديث عائشة في النهي عن البول قائماً

المتابعة الأولى: أما متابعة سفيان فهي في مسند الإمام أحمد ، ومستدرك الحاكم ، وسنن البيهقي ، وصحيح أبي عوانة ، وقد صححه الحاكم وقال: على شرط الشيخين، وأقره عليه الذهبي ، ونحن نعلم تساهل الحاكم في التصحيح، فليس هذا الحديث على شرط الشيخين، لماذا؟ لأنه تقدم معنا أن المقدام وأبوه أخرج لهما الاثنين مسلم فقط، البخاري فلم يخرج لهما في صحيحه، فهو على شرط مسلم ، فقوله: على شرط الشيخين، فيه تساهل من قائله وهو الحاكم ، وممن أقره وهو الذهبي أما الحديث فصحيح كالشمس.

انظر لمتابعة سفيان في الجزء الأول، صفحة خمس وثمانين ومائة، وفي صفحة واحدة وثمانين ومائة.

قال: عن سفيان ، عن المقدام بن شريح ، قال: حدثني أبي، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً منذ أنزل عليه الفرقان)، قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقلنا: إن قوله على شرطهما، غير صحيح، فـالمقدام ووالده شريح على شرط مسلم ، وهذا لا يضر في صحة الحديث.

متابعة إسرائيل السبيعي لشريك في حديث عائشة في النهي عن البول قائماً

والمتابعة الثانية: من قبل إسرائيل ، ومتابعة إسرائيل لـشريك في المستدرك للحاكم في الجزء الأول، صفحة خمس وثمانين ومائة، وتبعه البيهقي في الجزء الأول، صفحة اثنتين ومائة: قال: أنبأنا إسرائيل ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه قال: (سمعت عائشة تقسم بالله: ما رأى أحد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبول قائماً منذ أنزل عليه الفرقان).

إذاً: فقول الشيخ المباركفوري في قول الترمذي هذا أحسن شيء في هذا الباب وأصح، أي: الأقل ضعفاً وأرجح ما ورد في هذا الباب لا يستقيم حسب قواعد علم الحديث، والعلم عند الله جل وعلا. يقول النووي في المجموع في الجزء الثاني، صفحة أربع وثمانين: حديث عائشة رضي الله عنها إسناده جيد وهو حسن، وقال في شرح صحيح مسلم في الجزء الثالث، صفحة ست وستين ومائة: حديث أمنا عائشة خبر ثابت، وإسناده جيد وهو حسن، فهل يقال بعد ذلك بأنه أقل ضعفاً وأرجح مما ورد في هذا الباب.

وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام حول حديث أمنا عائشة فيما يتعلق بصحة إسناده.

وانظر لفهم الشيخ المباركفوري لهذه العبارة التي ذكرها الترمذي .

يقول الشيخ المباركفوري في تحفة الأحوذي في الجزء الأول، صفحة اثنتين وعشرين: والمراد أن هذا أقل ضعفاً وأرجح مما ورد في هذا الباب. أنا أعجب من هذا التكلف، فلا أعلم كيف فسر قول الترمذي إنه أحسن شيء في هذا الباب وأصح، بوقله إنه أقل ضعفاً وأرجح مما ورد في هذا الباب؟ ثم قرر الشيخ المباركفوري قوله: بأن الحافظ ابن حجر قال في الفتح في الجزء الأول، صفحة ثلاثين وثلاثمائة: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في النهي عن البول قائماً.

إذاً: فماذا نقول في قول أمنا عائشة رضي الله عنها: (ما بال النبي عليه الصلاة والسلام قائماً)؟ وهو وإن لم يكن فيه النهي عن البول قائماً، إلا أنه لا يقوي استدلاله بقول الحافظ ابن حجر : إنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام شيء في البول قائما، ولا على أن حديث أمنا عائشة ليس بصحيح، لا يستدل بذاك إلا في موضوع آخر وهو ما يتعلق بالنهي.

والحديث صحيح، ورجال إسناده كلهم ثقات أثبات، وليس فيهم إلا شريك وهو صدوق يخطئ كثيراً، وقلنا: إنه قد روى حديثه البخاري في صحيحه معلقاً، ومسلم ، وأصحاب السنن الأربعة، وأما من عدا شريك من الرواة فيهم:

علي بن حجر وقد تقدم معنا، وقلنا: إنه ثقة حافظ، والمقدام بن هانئ ثقة وحديثه في كتاب الأدب المفرد، ومسلم ، والسنن الأربعة، ووالده شريح تقدم معنا أيضاً، وهو ثقة، وحديثه أيضاً في الأدب المفرد، وصحيح مسلم ، والسنن الأربعة.

إذاً: من الذي في الإسناد حتى نقول: إن قول الترمذي : أحسن شيء في هذا الباب وأصح معناه: أقل ضعفاً وأرجح مما ورد في هذا الباب؟ ولماذا ضعف هذا الحديث؟ وهل قولهم في شريك أنه صدوق، يخطئ كثيراً يعني: أن روايته هذه فيها خطأ؟ إن قولهم: صدوق يخطئ كثيراً، يعني أن حديثه في درجة الحسن، ولا سيما وقد أخرج مسلم له في صحيحه، وهو من رجال السنن الأربعة، وأخرج له البخاري معلقاً، على أن شريكاً لم ينفرد بهذه الرواية، فما نخشاه من تفرده بهذه الرواية، ومن خطئه وعدم ضبطه زال بذلك، وقد تابعه على هذه الرواية اثنان: أولهما: الحافظ الإمام سفيان الثوري ، والثاني: إسرائيل الذي تقدم معنا في الحديث السابع، وهو إسرائيل بن يونس السبيعي الهمداني ، وغالب ظني أن حديثه في الكتب الستة وهو ثقة، تكلم فيه بلا حجة، فعندنا إسرائيل ، وسفيان الثوري تابعا شريكاً في روايته عن المقدام هنا.

فلماذا هذا التكلف في الحكم في تأويل قول الترمذي أحسن شيء في هذا الباب وأصح، بأنه الأقل ضعفاً وأرجح مما ورد في هذا الباب؟ إذاً: فهذه عبارة مردودة، ولا تستقيم بحال.

المتابعة الأولى: أما متابعة سفيان فهي في مسند الإمام أحمد ، ومستدرك الحاكم ، وسنن البيهقي ، وصحيح أبي عوانة ، وقد صححه الحاكم وقال: على شرط الشيخين، وأقره عليه الذهبي ، ونحن نعلم تساهل الحاكم في التصحيح، فليس هذا الحديث على شرط الشيخين، لماذا؟ لأنه تقدم معنا أن المقدام وأبوه أخرج لهما الاثنين مسلم فقط، البخاري فلم يخرج لهما في صحيحه، فهو على شرط مسلم ، فقوله: على شرط الشيخين، فيه تساهل من قائله وهو الحاكم ، وممن أقره وهو الذهبي أما الحديث فصحيح كالشمس.

انظر لمتابعة سفيان في الجزء الأول، صفحة خمس وثمانين ومائة، وفي صفحة واحدة وثمانين ومائة.

قال: عن سفيان ، عن المقدام بن شريح ، قال: حدثني أبي، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً منذ أنزل عليه الفرقان)، قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقلنا: إن قوله على شرطهما، غير صحيح، فـالمقدام ووالده شريح على شرط مسلم ، وهذا لا يضر في صحة الحديث.

والمتابعة الثانية: من قبل إسرائيل ، ومتابعة إسرائيل لـشريك في المستدرك للحاكم في الجزء الأول، صفحة خمس وثمانين ومائة، وتبعه البيهقي في الجزء الأول، صفحة اثنتين ومائة: قال: أنبأنا إسرائيل ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه قال: (سمعت عائشة تقسم بالله: ما رأى أحد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبول قائماً منذ أنزل عليه الفرقان).

إذاً: فقول الشيخ المباركفوري في قول الترمذي هذا أحسن شيء في هذا الباب وأصح، أي: الأقل ضعفاً وأرجح ما ورد في هذا الباب لا يستقيم حسب قواعد علم الحديث، والعلم عند الله جل وعلا. يقول النووي في المجموع في الجزء الثاني، صفحة أربع وثمانين: حديث عائشة رضي الله عنها إسناده جيد وهو حسن، وقال في شرح صحيح مسلم في الجزء الثالث، صفحة ست وستين ومائة: حديث أمنا عائشة خبر ثابت، وإسناده جيد وهو حسن، فهل يقال بعد ذلك بأنه أقل ضعفاً وأرجح مما ورد في هذا الباب.

وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام حول حديث أمنا عائشة فيما يتعلق بصحة إسناده.

وبقي معنا المبحث الرابع: وهو في تخريج الأحاديث التي أشار إليها الترمذي بقوله: وفي الباب عن عمر ، وبريدة ، وعبد الرحمن بن حسنة ، فهذه ثلاثة أحاديث.

تخريج حديث عمر: ما بلت قائماً منذ أسلمت

أما حديث عمر فقد أشار إليه الإمام الترمذي في السنن وضعفه فقال: وحديث عمر إنما روي من حديث عبد الكريم بن أبي المخارق ، وتقدم معنا عبد الكريم بن أبي المخارق وقلت: إنه ضعيف، قال أبو عيسى : وإنما رفع هذا الحديث عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف عند أهل الحديث. ضعفه أيوب السختياني وتكلم فيه، وروى عبيد الله عن نافع ، عن ابن عمر ، قال: قال عمر رضي الله عنه: (ما بلت قائماً منذ أسلمت). وهذا أصح من حديث عبد الكريم ، كأن الترمذي يريد أن يقول: رفع هذا الحديث غلط، والذي رفعه هو عبد الكريم بن أبي المخارق ، وإنما هو من قول عمر رضي الله عنه: (ما بلت قائماً منذ أسلمت). فرفع عبد الكريم بن أبي المخارق الحديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهماً منه، فقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: (لا تبل قائماً، فقال: ما بلت قائماً منذ أسلمت).

وهذا الحديث المرفوع الذي أشار إليه الترمذي ، رواه ابن ماجه في السنن في الجزء الأول، صفحة اثنتي عشرة ومائة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام مر على عمر وهو يبول قائماً فقال: لا تبل قائماً).

ورواه البيهقي في السنن الكبرى في الجزء الأول، صفحة اثنتين ومائة، وقال بعد أن أخرجه: عبد الكريم بن أبي المخارق ضعيف، وأخرجه الحاكم في المستدرك في الجزء الأول، صفحة خمس وثمانين ومائة، ولكنه قال: وله شاهد من حديث المكيين يعني: كأنه يريد أن يقول: هو ليس على شرط كتابي، لكنني أريده في الشواهد التي تشهد لحديث أمنا عائشة رضي الله عنها: (أن النبي عليه الصلاة والسلام ما بال قائماً، ونهى عن البول قائماً).

ثم روى الحديث من طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عبد الكريم بن أبي المخارق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر رضي الله عنه قال: (رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائماً، فقال: يا عمر! لا تبل قائماً، فقال: ما بلت قائماً بعد ذلك)، لكنه لم يتكلم عنه، ولا صححه؛ إنما أراده شاهداً لحديث أمنا عائشة رضي الله عنها، ووافقه الذهبي قال: شاهده، يعني: هذا مجرد شاهد لا ينطبق عليه شرط الصحيح، فـعبد الكريم بن أبي المخارق ضعيف.

ورواه ابن حبان في صحيحه، وظاهر إسناده أنه صحيح كالشمس، كما في موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان في صفحة ثلاث وثمانين، وهو في الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان في الجزء الثامن، صفحة ثمان وأربعين وثلاثمائة، رواه من طريق ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على عمر وهو يبول قائماً فقال: لا تبل قائماً يا عمر ، قال: فما بلت قائماً بعد ذلك).

قال ابن حبان -يعني: ابن حبان-: أخاف أن ابن جريج لم يسمع من نافع هذا الخبر، فمن الذي بينه وبين نافع ؟ هو عبد الكريم بن أبي المخارق ، وابن جريج مدلس، فأسقط عبد الكريم بن أبي المخارق ، وروى الحديث عن نافع بصيغة العنعنة، وابن جريج هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ، ثقة فقيه فاضل لكنه كان يدلس ويرسل كثيراً، مات سنة خمسين ومائة من هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام، وحديثه في الكتب الستة.

والراوي إذا كان مدلساً وعنعن الحديث، فالحديث منقطع حتى يتبين لنا الاتصال، وفي قول ابن حبان : أخاف أن ابن جريج لم يسمع من نافع هذا الخبر، إشارة إلى ذلك، وفي موارد الظمآن حذف الإمام الهيثمي كلام ابن حبان فأخطأ؛ لأنه عندما ذكر الإسناد من طريق ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر كان ظاهر الإسناد أن رواته كلهم ثقات، فتقول: إسناده صحيح، لكنك إذا رجعت إلى الإحسان -وهو يورد كل ما في صحيح ابن حبان لكنه رتبه على حسب ترتيب كتب الحديث- تجد أنه أورد كلام ابن حبان وهو قوله: أخاف أن ابن جريج لم يسمع من نافع هذا الخبر، ولذلك قال البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد سنن ابن ماجه في الجزء الأول، صفحة واحدة وثلاثين ومائة، بعد أن أورد الحديث: هو في سنن ابن ماجه ، عن ابن جريج ، عن عبد الكريم بن أبي أمية وهو ابن أبي المخارق ، عن نافع ، عن ابن عمر الحديث، قال البوصيري : هذا إسناد ضعيف، عبد الكريم متفق على تضعيفه، وقد تفرد بهذا الخبر، وعارضه خبر عبيد الله بن عمر العمري الثقة المأمون المجمع على تثبته، -وخبر عبيد الله سيأتينا- فقد وقفه ورواه عن نافع ، عن ابن عمر ، قال عمر : (ما بلت قائماً منذ أسلمت)، يقول البوصيري : فلا تغتر بتصحيح ابن حبان لهذا الخبر من طريق هشام بن يوسف، عن ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر .

وهو في الحقيقة لم يصحح الحديث؛ لأنه بعد أن رواه قال: أخاف أن ابن جريج لم يسمع هذا من نافع ، قال: وقد صح ظنه فإن ابن جريج إنما سمعه من ابن أبي المخارق كما ثبت في رواية ابن ماجه والحاكم في المستدرك، واعتذر عن تخريجه الحاكم ؛ لأنه إنما أخرجه في المتابعات والشواهد، وحديث عبيد الله العمري المتقدم أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه، والبزار في مسنده إلى آخر كلامه.

الشاهد أن هذا الحديث الذي أشار إليه الإمام الترمذي بقوله: وفي الباب أشار إليه وضعفه، ورواه ابن ماجه ، والبيهقي ، والحاكم ، وابن حبان ، وفي إسناده عبد الكريم بن أبي المخارق ، وهو ضعيف بالاتفاق، وسقط هذا من إسناد ابن حبان ، فلعل ابن جريج دلسه وحذفه، فروى الحديث عن نافع بصيغة العنعنة، ولذلك قال النووي في المجموع في الجزء الثاني، صفحة أربع وثمانين: إسناده ضعيف، يعني: إسناد حديث ابن عمر : (أن النبي عليه الصلاة والسلام مر على عمر وهو يبول قائماً فقال: لا تبل قائماً، فقال: فما بلت قائماً بعد)، فحديث عمر الذي أشار إليه الإمام الترمذي: وفي الباب عن عمر ضعفه.

تخريج حديث بريدة في النهي عن البول قائماً

ثم قال: وفي الباب عن عمر وبريدة ، وحديث بريدة يقول عنه الترمذي: غير محفوظ، وقال الشيخ أحمد شاكر معلقاً على هذا: قال العيني في شرح البخاري متعقباً الترمذي : في هذا نظر، بأن البزار أخرجه بسند صحيح عن بريدة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من الجفاء أن يبول الرجل قائماً)، قال: ولا أعلمه رواه عن بريدة إلا سعيد بن عبيد الله ، ثم قال الشيخ أحمد شاكر : قال العلامة المباركفوري : الترمذي من أئمة هذا الشأن، فقوله: في حديث بريدة أنه غير محفوظ يعتمد عليه، وأما إخراج البزار للحديث بسند ظاهره الصحة فلا ينافي كونه غير محفوظ، نعم قال الترمذي : الحديث غير محفوظ، لكن حديث بريدة رواه البزار ، والطبراني في معجمه الأوسط، كما في مجمع الزوائد في الجزء الثاني صفحة ثلاث وثمانين، وقال الهيثمي : رجال البزار رجال الصحيح، وهو في كشف الأستار عن زوائد البزار في الجزء الأول، صفحة ست وستين ومائتين، ولفظه عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من الجفاء أن يبول الرجل وهو قائم)، وقوله: (من الجفاء): أي: من قلة الأدب، ومن عدم السكينة والوقار في الإنسان، وعدم التزامه بالآداب الشرعية أن يفعل ذلك، ثم قال: (أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته)، أي: أنه إذا سجد على التراب والرمل، وعلق بجبهته شيء من التراب رفع رأسه ومسحه، هذا من الجفاء وعدم الخشوع، وعدم الالتزام بالسكينة والوقار، والثالثة: (وأن ينفخ الرجل في سجوده)، هذا كله من الجفاء، ومن عدم الخشوع والسكينة والوقار والأدب.

قال العيني في عمدة القاري في الجزء الثالث، صفحة خمس وثلاثين ومائة: سنده صحيح، والحديث قد رواه البخاري في التاريخ الكبير في الجزء الثالث، صفحة ست وتسعين وأربعمائة، ورواه البيهقي في السنن الكبرى في الجزء الثاني، صفحة خمس وثمانين ومائة، لكنه نقل قول البخاري : هذا منكر يضطربون فيه، وروي له شواهد لكنها ضعيفة، ومن شواهده ما رواه البيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً عن النبي عليه الصلاة والسلام بسند ضعيف، قال البيهقي : روي من أوجه كلها ضعيفة.

ومن شواهده: ما رواه ابن ماجه في السنن، والبيهقي في السنن، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائماً)، فهذا يشهد لحديث بريدة ، قال البيهقي : فيه عدي بن الفضل وهو ضعيف، وقال النووي في المجموع: ضعفه البيهقي وغيره، وعدي بن الفضل هو عدي بن الفضل التيمي أبو حاتم البصري متروك، من رجال ابن ماجه فقط، توفي سنة إحدى وسبعين ومائة للهجرة، وحديث جابر قد ضعفه العيني في عمدة القاري.

إذاً: حديث بريدة في النهي عن البول قائماً يشهد له حديث أبي هريرة وهو ضعيف، وحديث جابر وهو ضعيف، وحديث عمر وهو ضعيف، لكن حديث بريدة -كما تقدم معنا- إسناده صحيح كما قال الهيثمي ، ويشهد له ثلاثة أحاديث ضعيفة.

أقول: وإذا لم يثبت ما قيل فيه من الاضطراب، وهل هو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو من كلام بريدة ، فالحديث صحيح، وإذا كان فيه شيئاً من الاضطراب فهو ضعيف، هذه الأحاديث الضعيفة بمجموعها من حديث عمر ، وبريدة ، وأبي هريرة ، وجابر ، تفيد بمجموعها ما دل عليه حديث أمنا عائشة رضي الله عنها من أن البول بحالة القيام من غير ضرورة ممنوع منه منع كراهة لا منع تحريم؛ جمعاً بينها وبين حديث البخاري.

تخريج حديث عبد الرحمن بن حسنة في النهي عن البول قائماً

أما حديث عبد الرحمن بن حسنة ، فكنت أشرت إليه في فقه الحديث وقلت: رواه الإمام أحمد ، وأهل السنن الأربعة إلا الترمذي ، وابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي ، من حديث عبد الرحمن بن حسنة ، وعمرو بن العاص عندما خرج النبي عليه الصلاة والسلام ومعه درقة أو شبهها، فوضعها واستتر بها ثم بال إليها عليه الصلاة والسلام وهو حديث صحيح.

الشاهد فيه: (أنه بال وهو قاعد ولم يبل عليه الصلاة والسلام قائماً). وهذا يشهد لما جاء في هذا الباب من النهي عن البول قائماً.

أما حديث عمر فقد أشار إليه الإمام الترمذي في السنن وضعفه فقال: وحديث عمر إنما روي من حديث عبد الكريم بن أبي المخارق ، وتقدم معنا عبد الكريم بن أبي المخارق وقلت: إنه ضعيف، قال أبو عيسى : وإنما رفع هذا الحديث عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف عند أهل الحديث. ضعفه أيوب السختياني وتكلم فيه، وروى عبيد الله عن نافع ، عن ابن عمر ، قال: قال عمر رضي الله عنه: (ما بلت قائماً منذ أسلمت). وهذا أصح من حديث عبد الكريم ، كأن الترمذي يريد أن يقول: رفع هذا الحديث غلط، والذي رفعه هو عبد الكريم بن أبي المخارق ، وإنما هو من قول عمر رضي الله عنه: (ما بلت قائماً منذ أسلمت). فرفع عبد الكريم بن أبي المخارق الحديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهماً منه، فقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: (لا تبل قائماً، فقال: ما بلت قائماً منذ أسلمت).

وهذا الحديث المرفوع الذي أشار إليه الترمذي ، رواه ابن ماجه في السنن في الجزء الأول، صفحة اثنتي عشرة ومائة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام مر على عمر وهو يبول قائماً فقال: لا تبل قائماً).

ورواه البيهقي في السنن الكبرى في الجزء الأول، صفحة اثنتين ومائة، وقال بعد أن أخرجه: عبد الكريم بن أبي المخارق ضعيف، وأخرجه الحاكم في المستدرك في الجزء الأول، صفحة خمس وثمانين ومائة، ولكنه قال: وله شاهد من حديث المكيين يعني: كأنه يريد أن يقول: هو ليس على شرط كتابي، لكنني أريده في الشواهد التي تشهد لحديث أمنا عائشة رضي الله عنها: (أن النبي عليه الصلاة والسلام ما بال قائماً، ونهى عن البول قائماً).

ثم روى الحديث من طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عبد الكريم بن أبي المخارق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر رضي الله عنه قال: (رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائماً، فقال: يا عمر! لا تبل قائماً، فقال: ما بلت قائماً بعد ذلك)، لكنه لم يتكلم عنه، ولا صححه؛ إنما أراده شاهداً لحديث أمنا عائشة رضي الله عنها، ووافقه الذهبي قال: شاهده، يعني: هذا مجرد شاهد لا ينطبق عليه شرط الصحيح، فـعبد الكريم بن أبي المخارق ضعيف.

ورواه ابن حبان في صحيحه، وظاهر إسناده أنه صحيح كالشمس، كما في موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان في صفحة ثلاث وثمانين، وهو في الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان في الجزء الثامن، صفحة ثمان وأربعين وثلاثمائة، رواه من طريق ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على عمر وهو يبول قائماً فقال: لا تبل قائماً يا عمر ، قال: فما بلت قائماً بعد ذلك).

قال ابن حبان -يعني: ابن حبان-: أخاف أن ابن جريج لم يسمع من نافع هذا الخبر، فمن الذي بينه وبين نافع ؟ هو عبد الكريم بن أبي المخارق ، وابن جريج مدلس، فأسقط عبد الكريم بن أبي المخارق ، وروى الحديث عن نافع بصيغة العنعنة، وابن جريج هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ، ثقة فقيه فاضل لكنه كان يدلس ويرسل كثيراً، مات سنة خمسين ومائة من هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام، وحديثه في الكتب الستة.

والراوي إذا كان مدلساً وعنعن الحديث، فالحديث منقطع حتى يتبين لنا الاتصال، وفي قول ابن حبان : أخاف أن ابن جريج لم يسمع من نافع هذا الخبر، إشارة إلى ذلك، وفي موارد الظمآن حذف الإمام الهيثمي كلام ابن حبان فأخطأ؛ لأنه عندما ذكر الإسناد من طريق ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر كان ظاهر الإسناد أن رواته كلهم ثقات، فتقول: إسناده صحيح، لكنك إذا رجعت إلى الإحسان -وهو يورد كل ما في صحيح ابن حبان لكنه رتبه على حسب ترتيب كتب الحديث- تجد أنه أورد كلام ابن حبان وهو قوله: أخاف أن ابن جريج لم يسمع من نافع هذا الخبر، ولذلك قال البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد سنن ابن ماجه في الجزء الأول، صفحة واحدة وثلاثين ومائة، بعد أن أورد الحديث: هو في سنن ابن ماجه ، عن ابن جريج ، عن عبد الكريم بن أبي أمية وهو ابن أبي المخارق ، عن نافع ، عن ابن عمر الحديث، قال البوصيري : هذا إسناد ضعيف، عبد الكريم متفق على تضعيفه، وقد تفرد بهذا الخبر، وعارضه خبر عبيد الله بن عمر العمري الثقة المأمون المجمع على تثبته، -وخبر عبيد الله سيأتينا- فقد وقفه ورواه عن نافع ، عن ابن عمر ، قال عمر : (ما بلت قائماً منذ أسلمت)، يقول البوصيري : فلا تغتر بتصحيح ابن حبان لهذا الخبر من طريق هشام بن يوسف، عن ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر .

وهو في الحقيقة لم يصحح الحديث؛ لأنه بعد أن رواه قال: أخاف أن ابن جريج لم يسمع هذا من نافع ، قال: وقد صح ظنه فإن ابن جريج إنما سمعه من ابن أبي المخارق كما ثبت في رواية ابن ماجه والحاكم في المستدرك، واعتذر عن تخريجه الحاكم ؛ لأنه إنما أخرجه في المتابعات والشواهد، وحديث عبيد الله العمري المتقدم أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه، والبزار في مسنده إلى آخر كلامه.

الشاهد أن هذا الحديث الذي أشار إليه الإمام الترمذي بقوله: وفي الباب أشار إليه وضعفه، ورواه ابن ماجه ، والبيهقي ، والحاكم ، وابن حبان ، وفي إسناده عبد الكريم بن أبي المخارق ، وهو ضعيف بالاتفاق، وسقط هذا من إسناد ابن حبان ، فلعل ابن جريج دلسه وحذفه، فروى الحديث عن نافع بصيغة العنعنة، ولذلك قال النووي في المجموع في الجزء الثاني، صفحة أربع وثمانين: إسناده ضعيف، يعني: إسناد حديث ابن عمر : (أن النبي عليه الصلاة والسلام مر على عمر وهو يبول قائماً فقال: لا تبل قائماً، فقال: فما بلت قائماً بعد)، فحديث عمر الذي أشار إليه الإمام الترمذي: وفي الباب عن عمر ضعفه.