خطب ومحاضرات
شرح الترمذي - باب النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول وباب الرخصة في ذلك [2]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فكنا نتدارس الباب السادس والسابع من أبواب الطهارة في جامع الإمام أبي عيسى الترمذي ، وهذان البابان يتعلقان بأدب رفيع ينبغي أن يحافظ الإنسان عليه عند قضاء حاجته، والباب السادس عنوانه: بابٌ في النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول، والباب السابع باب ما جاء من الرخصة في ذلك، وقد أورد الإمام الترمذي في هذين البابين أربعة أحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام، أول هذه الأحاديث حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا، قال
إن الجهة المكرمة ينبغي أن نكرمها عن كل ما يمتهن ويستقذر، وقد كان أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين يحافظون على هذا الخلق الكريم، فقد نقل الإمام أبو نعيم عن أشد هذه الأمة حياءً بعد نبينا عليه الصلاة والسلام ألا وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه وعن الصحابة الكرام، ينقل عنه في ترجمته في الحلية أنه قال: ما مسست عضوي بيدي منذ أن بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، أي: ما مس ذكره بيده بعد أن صافح النبي عليه الصلاة والسلام، وبايعه ودخل في الإسلام، يد تصافح يد النبي عليه الصلاة والسلام ينبغي أن تصان عن ذلك العضو الذي له حالة تستر ويستحيا من ذكرها، هذا هو الحياء، هذا هو الأدب الجم الذي كان عليه سلفنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
وعلى عادتنا سنتدارس مباحث الحديث ضمن مراحل، أولها: في ترجمة رجال الإسناد، وقد بدأنا في مدارسة رجال إسناد الحديث الأول، أعني حديث أبي أيوب رضي الله عنه وأرضاه، ووصلنا إلى ترجمته، بل قد انتهينا منها أيضاً ووصلنا إلى شيء نختم به ترجمته الطيبة العطرة، ألا وهي دفن هذا العبد الصالح، وأين دفن؟ تقدم معنا أنه أنصاري، وقد نزل عليه سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام عندما هاجر إلى المدينة المنورة، وتشرف أبو أيوب ، وتبرك بحلول نبينا عليه الصلاة والسلام مع أمنا سودة رضي الله عنها وأرضاها عليه حتى بنيت للنبي عليه الصلاة والسلام حجرة انتقل إليها.
وتقدم معنا حال أبي أيوب في مجاورته لنبينا عليه الصلاة والسلام عندما كان ضيفاً عنده وحالاً عليه، وأن هذا الصحابي الجليل كان سلفنا يعرفون له هذه المنقبة، وتقدم معنا كيف أكرمه عبد الله بن عباس رضوان الله عليهم أجمعين، لأنه أكرم نبينا عليه الصلاة والسلام.
يعد أبو أيوب من أهل المدينة المنورة، ولكنه دفن في بلاد تركيا، عند سور القسطنطينية، فقد ذهب إلى الغزو والفتوح في سبيل الله جل وعلا, وجاءته منيته في ذلك المكان.
لما مرض أبو أيوب وهو في الغزو، وكان الأمير على تلك الغزوة يزيد بن معاوية جاءه يزيد يعوده فقال: ما حاجتك أبا أيوب ؟ أي: ماذا تريد؟ وبأي شيء توصينا إذا جاءتك المنية وحضر الأجل؟
قال: إذا أنا مت فاركب بي، أي: ضعني على دابة على خيل، ثم تبيض، أي: تمدد وتوسع، ثم تبيض في أرض العدو، أي: ادخل فيها ما استطعت بعيداً عنكم وليكتب لي أجر الغزو في تلك البقاع، ثم تبيض في أرض العدو ما وجدت مساراً، فإذا لم تجد مساراً فادفني ثم ارجع، فقد سمعت الله جل وعلا يقول: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [التوبة:41]، وأنا نفرت، ولا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً، فأنا بين حالتين، إما أنني أستطيع الجهاد والقتال بيسر وسهولة، وهذا هو خفافاً، أو ثقالاً: أي: بكلفة وشدة، والله ما عذر أحداً فقال: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا [التوبة:41]، ولا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً، وعليه ينبغي إذاً: أن أنال هذا الأمر.
وهذه الآية معناها أن الإنسان ينبغي أن يخرج إلى الغزو إذا تعين عليه، سواء كان خفيفاً أو ثقيلاً، وما قاله أئمتنا الكرام في تفسير هذه الآية هو يدخل تحت هذا الضابط الذي ذكرته، قال أئمتنا: (خفافاً وثقالاً) أي: شيوخاً وشباناً، فالشاب ينفر بخفة ويسر، والشيخ ثقيلاً، شباناً وشيوخاً، رجالاً وركباناً، الراكب ينفر خفيفاً، والذي يمشي على رجليه يمشي ثقيلاً بمشقة، أغنياء وفقراء، فالغني ينفر بيسر وسهولة؛ لأنه عنده ما يتزود به، والفقير بمشقة وكلفة، فنفره ثقيل، انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [التوبة:41]، سواء كان عندكم كثرة عيال أو قلة عيال، فالذي عنده قلة عيال نفره أيضاً خفيف، وكثرة العيال يكون فيها مشقة عندما يخرج الإنسان، انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [التوبة:41]، أصحاء أو مرضى، فكما قلت: (خفافاً وثقالاً) تدخل في الضابط الذي تقدم معنا، انفروا خفافاً وثقالاً، سواء كان عندكم أشغال تقومون بها أو فارغين، انفروا خفافاً وثقالاً، عزاباً ومتأهبين، وهذه كلها كما قلت: الخفاف بما فيه يسر، وثقالاً بما فيه شدة على هؤلاء.
وقيل بتفسير آخر، وهو عكس ما تقدم، (انفروا خفافاً وثقالاً) أي: مثقلين بالسلاح أو خفيفين منه، وعليه ثقالاً إذا كان عندكم سلاح تحملونه، فهنا ثقالاً، أي: فيه يسير عليكم مع أنه يحمل السلاح، وهنا عكس المعاني المتقدمة، فالثقال فيه خفة، والخفاف فيه مشقة؛ لأن من يخرج إلى الغزو بغير سلاح يشق عليه، ومن يخرج إليه بسلاح مع أنه ثقيل، لكن يخف عليه، فهذا المعنى يختلف عن تلك المعاني المتقدمة، وكما قلت: هو يدخل ضمن الضابط الذي ذكرته بيسر وسهولة، أو مشقة أو شدة، انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [التوبة:41].
هذا آخر ما يتعلق بترجمة أبي أيوب وقد كانت وفاته سنة اثنتين وخمسين من هجرة نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، ودفن -كما قلت- عند سور القسطنطينية، وقد أكرمه الله جل وعلا، فكان الروم يحترمون قبره، ويعظمونه ولا يمتهنونه، ويقولون: هذا قبر العبد الصالح صاحب النبي عليه الصلاة والسلام، والمفروض أنه جاء يقاتلهم، ثم دفن في بلادهم، أنهم ينبشونه ويمثلون به.
هذا ما يتعلق برجال إسناد الحديث الأول، وأما ما يتعلق بفقهه فيأتي الكلام عليه بعد الانتهاء من المبحث الأول من تراجم أسانيد الأحاديث الأربعة، وما ذكر من رجال ضمن الحديث الأول كـأبي الوليد المكي وقول الإمام الشافعي وإسحاق بن راهويه، فهذا ليس في رجال الإسناد، ويأتينا -أيضاً- ذكره بعد أن ننتقل من رجال الإسناد وفقه الحديث، عند القراءة الأخيرة على عادتنا، ونعلق على كل جملة منها حسب ما تقدم معنا، وأي شيء لم نذكره سوف نتدارسه إن شاء الله في حينه.
أما الحديث الثاني: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، تقدم معنا ترجمة محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قبل تراجم رجال الإسناد المتقدم فيما مضى، وقلت: كلاً من هذين العبدين الصالحين حديثه مخرج في الكتب الستة، وولدا وماتا في سنة واحدة رحمة الله ورضوانه عليهما توفيا سنة اثنتين وخمسين ومائتين للهجرة.
ترجمة وهب بن جرير
ترجمة جرير بن حازم
والاختلاط تغير العقل، وهو على حالتين: حالة لا تعتبر منقصة في الراوي، وهي التي تطرأ عليه قبيل وفاته وعند موته، وفي الغالب لا يخلو إنسان من هذا، حيث يعتريه ذهول وغفلة، وقد لا يعي ما يجري حوله، لكنه لا يحدث في هذه الحالة؛ لأن يتأهب للقاء الله جل وعلا، فهذا ليس بمنقصة.
والحالة الثانية: هي ما يطرأ على الإنسان من الخرف، حيث تمتد به الحياة سنين، فإذا حدث بعد اختلاطه لا يقبل، وما حدث به قبل الاختلاط يقبل، وإذا لم يتميز لنا ما حدث به قبل اختلاطه مما حدث به بعد اختلاطه نتوقف في جميع رواياته حتى يثبت عندنا أنه روى هذا الحديث قبل الاختلاط.
ترجمة محمد بن إسحاق إمام المغازي
والحافظ الذهبي في الكاشف قال: روى له مسلم مقروناً، أي: روى له مقروناً بغيره، ولم يرو له استقلالاً؛ لأنه ينزل عن شرط الصحيح، وحديث محمد بن إسحاق لا يصحح على انفراده عند جماهير المحدثين كما سيأتينا، ولكن حديثه في درجة الحسن، لا ينحط عنه بحال، فـمسلم لم يخرج له أصالة لنفسه في الشواهد والأصول اعتماداً عليه، إنما قرنه بغيره، فتعتمد روايته برواية من قرنه به، ثم قال الإمام الذهبي : حديثه حسن، وقد صححه جماعة.
والحافظ ابن حجر أشار إلى هذا الحكم بقوله: صدوق؛ لأن من نعته بأنه صدوق فحديثه حسن، لكن في هذه الآثار يدلس، وعليه نتوقف في رواياته التي يعنعن فيها حتى يصرح بالسماع، وقلت: ليس التدليس في نفسه جرحاً في الراوي، إنما هو عيب فيه نعامله على حسب هذا العيب، فإذا عنعن، نقول: إن روايتك ليست متصلة، فإن صرح بالسماع، وهو في الأصل عندنا ثقة صدوق نقبل تصريحه، ونعتمد روايته.
أما أنه رمي بالتشيع والقدر، فالتشيع الذي رمي به تقدم معنا مراراً، أن غاية ما يرمى به بعض الرواة المتقدمين من السلف في القرن الأول والثاني من التشيع هو: تفضيل علي على عثمان رضي الله عنها، وهذا أمره يسير، وأما القول بالقدر فالمعتمد أنه رجع عنه، وتقدم معنا أن عدداً من الأئمة قالوا بذلك، وقلت: إن قولهم بالقدر ليس ببدعة القدرية الغلاة كما تقدم معنا في ترجمة هشام الدستوائي، وغاية قولهم أنهم يقولون: الله يعلم الأشياء قبل وقوعها، وقدر الخير وأراده، لكن ما قدر الشر، وإنما يفعله العبد باختياره دون تقدير من الله عليه، والله يعلم كل شيء، وهذا قول باطل، لكن هذه البدعة التي وصف بها ابن إسحاق رجع عنها، والعلم عند الله جل وعلا.
وقد جرى بينه وبين إمام الأئمة النجم الثاقب الإمام مالك شيء من النفرة والخصومة، على أنه قيل أن الإمام مالك بعد ذلك صفا قلبه وأهدى هدية لـمحمد بن إسحاق، وزال ما كان يقوله عنه، ولا أريد أن أفصل الكلام حول هذه النفرة؛ لأني توسعت في ترجمة الإمام الزهري وابن عيينة فيما تقدم، وذكرنا من كلام الأقران بعضهم في بعض، وأن هذا لا يعول عليه، ولعله يأتينا مزيد تفصيل في مستقبل الأيام، وكما قال الإمام الذهبي: ما أعلم أحداً سلم من الحسد إلا الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وغيرهم بشر يخطئون ويصيبون.
فـمحمد بن إسحاق عندما قيل له: يحدثنا الإمام مالك بالمغازي والسير، قال: اعرضوا عليّ ما يقول فأنا بيطاره، فلما قيل هذا للإمام مالك قال: إن محمد بن إسحاق دجال من الدجاجلة، ولما بلغ الخبر ابن إسحاق بكى، نسأل الله أن يغفر لهم جميعاً، والإمام مالك أعلى منزلة من محمد بن إسحاق، ولو قدر أن الإمام مالكاً جار عليه في الكلام فقد يتحمل؛ لما له من مكانة عظيمة، وكما قلت هذا حال البشر، فهم محل القصور والتقصير.
وليس من علامة الصلاح أن لا يخطئ الإنسان، فكل بني آدم خطاء، ولكن إذا أخطأ فإنه يتدارك ويتوب ورحمة الله واسعة.
ترجمة أبان بن صالح
إذاً: أبان بن صالح وثقه الأئمة كما قال في التلخيص: ثقة بالاتفاق.
عن مجاهد ، وقد تقدمت معنا ترجمته عند الحديث الرابع، فلا داعي للإعادة.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقد تقدمت ترجمته أيضاً بعد ترجمة مجاهد عند الحديث الرابع فيما مضى.
قالا: حدثنا وهب بن جرير ، ما تقدم معنا ذكر لهذا العبد الصالح قبل هذا الموضع، وهو وهب بن جرير بن حازم أبو عبد الله الأزدي البصري ، قال الإمام ابن حجر في التقريب: ثقة من التاسعة، توفي سنة مائتين وست للهجرة، حديثه مخرج في الكتب الستة.
قال: حدثني أبي، ونعم الصنيع أن يروي الإنسان عن أبيه، وهو جرير بن حازم بن زيد الأزدي أبو النضر البصري ، قال الحافظ : ثقة، لكن في حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدث من حفظه، من السادسة، توفي سنة (170هـ) بعدما اختلط، وحديثه هنا ليس عن قتادة، بل عن محمد بن إسحاق ، ولم يحدث في حال اختلاطه، وعليه جميع الروايات عنه مقبولة؛ لأنه ما روى بعد الاختلاط، وحديثه -أيضاً- مخرج في الكتب الستة، روى له الجماعة.
والاختلاط تغير العقل، وهو على حالتين: حالة لا تعتبر منقصة في الراوي، وهي التي تطرأ عليه قبيل وفاته وعند موته، وفي الغالب لا يخلو إنسان من هذا، حيث يعتريه ذهول وغفلة، وقد لا يعي ما يجري حوله، لكنه لا يحدث في هذه الحالة؛ لأن يتأهب للقاء الله جل وعلا، فهذا ليس بمنقصة.
والحالة الثانية: هي ما يطرأ على الإنسان من الخرف، حيث تمتد به الحياة سنين، فإذا حدث بعد اختلاطه لا يقبل، وما حدث به قبل الاختلاط يقبل، وإذا لم يتميز لنا ما حدث به قبل اختلاطه مما حدث به بعد اختلاطه نتوقف في جميع رواياته حتى يثبت عندنا أنه روى هذا الحديث قبل الاختلاط.
إذاً: قال وهب : حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق ، وهو صاحب المغازي، الإمام العلم المعروف محمد بن إسحاق بن يسار ، كنيته أبو بكر المطلبي مولاهم المدني، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق يدلس، وهذه آفة، وقد رمي بالتشيع والقدر، يعد من صغار الخامسة، مات سنة خمسين ومائة، يعني: في السنة التي قبض فيها الإمام أبو حنيفة فقيه الملة، وقيل بعدها، والراجح الأول، ثم رمز الحافظ ابن حجر له خ م 4، الخاء البخاري تعليقاً، والميم الإمام مسلم في صحيحه، وحديثه في السنن الأربعة أيضاً.
والحافظ الذهبي في الكاشف قال: روى له مسلم مقروناً، أي: روى له مقروناً بغيره، ولم يرو له استقلالاً؛ لأنه ينزل عن شرط الصحيح، وحديث محمد بن إسحاق لا يصحح على انفراده عند جماهير المحدثين كما سيأتينا، ولكن حديثه في درجة الحسن، لا ينحط عنه بحال، فـمسلم لم يخرج له أصالة لنفسه في الشواهد والأصول اعتماداً عليه، إنما قرنه بغيره، فتعتمد روايته برواية من قرنه به، ثم قال الإمام الذهبي : حديثه حسن، وقد صححه جماعة.
والحافظ ابن حجر أشار إلى هذا الحكم بقوله: صدوق؛ لأن من نعته بأنه صدوق فحديثه حسن، لكن في هذه الآثار يدلس، وعليه نتوقف في رواياته التي يعنعن فيها حتى يصرح بالسماع، وقلت: ليس التدليس في نفسه جرحاً في الراوي، إنما هو عيب فيه نعامله على حسب هذا العيب، فإذا عنعن، نقول: إن روايتك ليست متصلة، فإن صرح بالسماع، وهو في الأصل عندنا ثقة صدوق نقبل تصريحه، ونعتمد روايته.
أما أنه رمي بالتشيع والقدر، فالتشيع الذي رمي به تقدم معنا مراراً، أن غاية ما يرمى به بعض الرواة المتقدمين من السلف في القرن الأول والثاني من التشيع هو: تفضيل علي على عثمان رضي الله عنها، وهذا أمره يسير، وأما القول بالقدر فالمعتمد أنه رجع عنه، وتقدم معنا أن عدداً من الأئمة قالوا بذلك، وقلت: إن قولهم بالقدر ليس ببدعة القدرية الغلاة كما تقدم معنا في ترجمة هشام الدستوائي، وغاية قولهم أنهم يقولون: الله يعلم الأشياء قبل وقوعها، وقدر الخير وأراده، لكن ما قدر الشر، وإنما يفعله العبد باختياره دون تقدير من الله عليه، والله يعلم كل شيء، وهذا قول باطل، لكن هذه البدعة التي وصف بها ابن إسحاق رجع عنها، والعلم عند الله جل وعلا.
وقد جرى بينه وبين إمام الأئمة النجم الثاقب الإمام مالك شيء من النفرة والخصومة، على أنه قيل أن الإمام مالك بعد ذلك صفا قلبه وأهدى هدية لـمحمد بن إسحاق، وزال ما كان يقوله عنه، ولا أريد أن أفصل الكلام حول هذه النفرة؛ لأني توسعت في ترجمة الإمام الزهري وابن عيينة فيما تقدم، وذكرنا من كلام الأقران بعضهم في بعض، وأن هذا لا يعول عليه، ولعله يأتينا مزيد تفصيل في مستقبل الأيام، وكما قال الإمام الذهبي: ما أعلم أحداً سلم من الحسد إلا الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وغيرهم بشر يخطئون ويصيبون.
فـمحمد بن إسحاق عندما قيل له: يحدثنا الإمام مالك بالمغازي والسير، قال: اعرضوا عليّ ما يقول فأنا بيطاره، فلما قيل هذا للإمام مالك قال: إن محمد بن إسحاق دجال من الدجاجلة، ولما بلغ الخبر ابن إسحاق بكى، نسأل الله أن يغفر لهم جميعاً، والإمام مالك أعلى منزلة من محمد بن إسحاق، ولو قدر أن الإمام مالكاً جار عليه في الكلام فقد يتحمل؛ لما له من مكانة عظيمة، وكما قلت هذا حال البشر، فهم محل القصور والتقصير.
وليس من علامة الصلاح أن لا يخطئ الإنسان، فكل بني آدم خطاء، ولكن إذا أخطأ فإنه يتدارك ويتوب ورحمة الله واسعة.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] | 4045 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] | 3979 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] | 3906 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] | 3793 استماع |
شرح الترمذي - مقدمات [8] | 3787 استماع |
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] | 3771 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] | 3570 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] | 3486 استماع |
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] | 3465 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] | 3417 استماع |