شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [7]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فلا زلنا نتدارس الباب الخامس من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي؛ باب ما يقول إذا خرج من الخلاء، وتقدم معنا أن الإمام الترمذي روى في هذا الباب حديثاً عن أمير المؤمنين وسيد المسلمين أبي عبد الله الإمام البخاري عليه وعلى جميع المسلمين رحمة رب العالمين، روى عنه حديثاً في هذا الباب عن أمنا عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك ). قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب، ولا نعرف في هذا الباب إلا حديث أمنا عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد انتهينا إخوتي الكرام! من دراسة رجال الإسناد ووصلنا إلى أمنا الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله على نبينا وآله وأزواجه وصحبه صلوات الله وسلامه، وقلت إخوتي الكرام: سنتدارس ترجمة أمنا العطرة من خلال ستة أمور معتبرة:

أولها: فيما يتعلق بفضلها وأفضليتها على غيرها.

ثانيها: فيما يتعلق بحب نبينا صلى الله عليه وسلم لها حباً خاصاً زاد على غيرها.

الأمر الثالث: في أسباب حبها.

والأمر الرابع: في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

والأمر الخامس: في قيام أمنا بأمور الدين حسبما يستطيع الإنسان من تعظيم للرحمن وشفقة على بني الإنسان.

وآخر الأمور وهو سادسها: حب الله لأمنا عائشة وغيرته عليها ودفاعه عنها.

إخوتي الكرام! كنا سابقاً نتدارس الأمر الخامس في قيام أمنا عائشة رضي الله عنها بأمور الدين على وجه التمام حسبما يستطيعه الإنسان من تعظيم للرحمن وشفقة على بني الإنسان، وتقدم معنا شيء من حالها مع ربها وعبادتها لله عز وجل، فكانت تصوم الدهر، وكانت تقوم الليل وتكثر من قراءة القرآن، وهي شديدة الخوف والوجل من الله عز وجل كما تقدم معنا أخبارها في ذلك، ثم انتقلنا إلى مدارسة ما يتعلق بحالها مع عباد الله من إحسانها إليهم وشفقتها عليهم، وذكرت قصصاً كثيرة ثابتة عنها رضي الله عنها في مساعدتها للخلق وإحسانها إليهم، ثم ختمت الأمر الخامس بأمر قلت: ينبغي أن نعيه تمام الوعي في ترجمتها؛ ألا وهو شدة حيائها ومحافظتها على عفتها وعرضها رضي الله عنها وأرضاها، وأجمل ما يزين المرأة الحياء، وقلت: هذا الخلق ينبغي أن يستفيده النساء من أمنا رضي الله عن أمنا وعن سائر أزواج نبينا على نبينا وآله صلوات الله وسلامه، فتقدم معنا أنها كانت تتحجب من الأموات والأحياء، من المبصرين والعميان على حد سواء.

إخوتي الكرام! بعد هذا كنا نتدارس تعليقاً يتعلق بحجاب المرأة وما ينبغي أن تكون عليه المرأة المسلمة في حجابها وحيائها وعفافها، وبينت الحكم الشرعي، وأن الوجه ينبغي أن يستر، ثم تعرضت لأربعة سفهاء غالب ظني أني ذكرت كلام سفيهين وبعد ذلك شرعت بعد ذلك في كلام سفيه آخر، ثم قدر الله أن ننتهي، وقلت: أرجئ الكلام إلى هذا اليوم، ولا أحب أن أبدأ هنا بكلام السفهاء، والرد عليهم واجب، لكن أحب أن أقدم بين يدي ردنا عليهم مقدمة ينبغي أن نعيها تمام الوعي في هذا الأمر، فانتبهوا لها إخوتي الكرام!

ستر أمهات المؤمنين لوجوههن واقتداء نساء الأمة بهن

أولها: ستر وجه المرأة هو شيمة النساء الصالحات، وهو خلق العفيفات، وهذا هو لباس الفاضلات، وهو شأن الطاهرات الحييات في جميع الأوقات، فعنوان حياء المرأة وعفتها وطهارتها وفضلها: سترها لوجهها مع التزامها بالحجاب الشرعي في سائر جسدها، لكن هذا الوجه هو أول ما ينبغي أن يستر من هذه المرأة الطاهرة الحيية العفيفة، ولا يجوز أن يظهر.

وقد تقدم معنا -إخوتي الكرام- أخبار كثيرة في ذلك تقرر هذا، فكيف كانت أمنا عائشة مع أمهاتنا أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام الصحابيات الطاهرات وهن في أعظم العبادات في الأشهر الحرم، في الأماكن المعظمة المباركة، في أداء نسك الحج؟ كنَّ إذا مر بهن الرجال الركبان سدلن على وجوههن كما تقدم معنا، فإذا جاوزهن الرجال كشفن عن وجوههن رضوان الله عليهن أجمعين.

وتقدم معنا هذا الفعل وحكايته عن أحوال النساء من حديث أمنا عائشة ، وقلت: روي أيضاً عن أمنا أم سلمة وروي عن أسماء بنت أبي بكر وروي عن فاطمة بنت المنذر ، وقلت: إن الأخبار في ذلك صحيحة كما تقدم معنا تخريجها وبيانها.

إخوتي الكرام! المؤمنات بعد ذلك اقتدين بأمهاتهن أزواج نبينا على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه؛ فالنساء الصالحات في زمن التابعين إلى هذا الوقت وإلى يوم الدين يقتدين في حجابهن وتغطية وجوههن بأمهاتهن، ولذلك من أشنع ما قيل عن الحجاب قول هؤلاء السفهاء منهم هذا الضال المضل السفيه الفنجري الذي يقول: غطاء الوجه عادة تركية جاءتنا من الأتراك والمماليك، وما كان يعرف نساؤنا المسلمات الأول غطاء الوجه. يقول: هذا كله جاء من نظام الحريم عند الأتراك عند الاستعمار العثماني، أما أنه يوجد حجاب للوجه في الإسلام فلا.

أيها المخذول الضال! أنت إذا أنصفت قل: إن المؤمنات اقتدين بحجابهن بأمهاتهن؛ لأن إلزام أمهات المؤمنين بالحجاب هذا منصوص عليه في كلام الكريم الوهاب: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، فإذاً: المؤمنات اقتدين بأمهاتهن في حجابهن وستر وجوههن، ما اقتدين لا بأتراك ولا بمماليك، ولا جاءت هذه الخصلة الطيبة المباركة للنساء تأثراً بأحد إلا بأمهاتهن رضي الله عنهن وأرضاهن.

إخوتي الكرام! هذا الأمر لابد من وعيه، فنحن عندما نقول: النساء يتحجبن، لو لم يكن معنا دليل على إلزام النساء المسلمات بالحجاب إلا هذا الدليل لكفى؛ يقتدين بأمهاتهن، مع أن الأدلة ما أكثرها كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله.

أفضلية ستر الوجه لعموم النساء الكبار والصغار

إخوتي الكرام! وهذا الحجاب -أعني ستر المرأة لبدنها وعلى الخصوص وجهها- لا يستثنى منه امرأة سواء كانت شابة أو هرمة بلغت مائة سنة، بل من حيائها وفضلها أن تحجب وجهها، نعم يجوز كشف الوجه للهرمة، وللمسنة؛ للقاعدة، هذا أمر آخر، لكن الكمال خلاف ذلك وهذا محل اتفاق بين أئمتنا، ولا يخالف في ذلك إلا من غضب الله عليه ولعنه.

إذاً غطاء الوجه فضيلة، وعلامة طهر وحياء وكرامة في المرأة لا خلاف في ذلك، لكن هل هو واجب أو لا؟ هذا سيأتينا ضمن مراحل البحث لأنه قرر المسألة الأولى.

هذا علامة على فضل المرأة، وعلى حيائها، وعلى كرامتها، وعلى تقاها، وعلى عفتها، وهذا خير لها، لا خلاف بين أئمتنا في ذلك، ومن خالف هذا فهو مفتر على هذه الشريعة ولم يسبقه إلى قوله إلا إبليس وهو من أتباعه، أما أن غطاء الوجه فيه منقصة أو مرذول أو.. أو.. هذا ما أحد قاله إلا سفهاء هذا العصر.

إذاً: غطاء الوجه كمال، نبل، شرف، فضيلة، عفة، حياء، لو كانت المرأة تبلغ مائة سنة وتزيد فإذا سترت وجهها هذا خير لها، واسمع لهذه القصة التي يرويها سعيد بن منصور في سننه وابن المنذر في تفسيره والبيهقي في السنن الكبرى وإسنادها صحيح عن عاصم بن سليمان الأحول وهو أبو عبد الرحمن ثقة، وحديثه مخرج في الكتب الستة، تابعي، توفي سنة أربعين ومائة للهجرة.

قال هذا العبد الصالح: كنا ندخل على حفصة بنت سيرين وهي أم الهذيل الفقيهة العابدة، هذا كلام أئمتنا قاطبة في ترجمتها، مكثت ثلاثين سنة لم تخرج من مصلاها.

وقال إياس بن معاوية : ما أدركت أحداً بالبصرة أفضله على حفصة بنت سيرين ، فقيل له: ولا أخوها محمد بن سيرين ، ولا الحسن البصري ؟ قال: أما أنا فلا أقدم على حفصة أحداً. هي أفضل من الحسن البصري وهي أفضل من محمد بن سيرين في العلم والتقى والعبادة والورع، حسبما يقول هذا العبد الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، وقلت: حديثها في الكتب الستة، ثقة فقيهة عالمة عابدة.

يقول عاصم بن سليمان الأحول : كنا ندخل عليها رضي الله عنها وأرضاها، فكنا إذا دخلنا عليها تتحجب وتلبس جلبابها، فنقول لها: أليس قد قال الله في كتابه: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]، فأنتِ امرأة كبيرة جاوزتِ السبعين وفقيهة عابدة لا تخرجين من مصلاكِ، وإذا جئنا لنتلقى العلم عنكِ لبستِ الجلباب وقابلتينا من وراء حجاب، لم؟ وأنت إذا كشفتِ الوجه قاعد بنص القرآن، ولكِ رخصة فيجوز أن تخلعي الجلباب، وأن تقابلي الرجال بالملابس الطويلة التي تستر البدن مع كشف الوجه واليدين، ولا يشترط أيضاً جلباب فضفاف خارجي كما هو حال المرأة عندما تخرج إلى الشارع؛ لأنك كبيرة والله نص على استثنائكِ ورخص لكِ في كتابه فقال: وَالْقَوَاعِدُ [النور:60] جمع قاعد، وهي من قعد سنها عن طلب النكاح وتطلع الرجال إليها، فإذا رأيتها تغض بصرك طبيعة لا ديانة، يعني: أنت عندما تراها طبيعتك تنكسر، لا خشية من الله؛ لأن وجهها صار ثلاثين طبقة وظهرها متقوس وليس في فمها سنٌ ولا ضرس، وأحياناً لعابها يسيل، هذه هي القاعد، فإذا بلغت المرأة هذا السن لا حرج عليها أن تظهر وجهها وكفيها، وألّا تلبس جلبابها الواسع، بل تكون بملابس طويلة أمام الرجال لمصلحة شرعية.

فكانت تقول حفصة بنت سيرين : اقرءوا ما بعدها، أنتم لم تقفون؟ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60] يعني: تقوم بلا غطاء للوجه ولا جلباب فضفاف وبدون أن يكون هناك زينة وتطلع للشهوة الإنسانية، قالت: اقرءوا ما بعدها: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60] يعني: أن تجعل الشيخة نفسها كأنها شابة بنت عشرين أو بنت أربع عشرة، فتحتاط في لباسها ولا تظهر شيئاً من بدنها، لا من الظفر ولا من الوجه هذا خير لها بنص القرآن. هذه القاعد التي زادت على السبعين وانقطع أمل الرجال منها في كل حين، من هذا الوقت إلى موتها ما أحد يفكر بزواجها، فإذا استعفت وسترت وجهها وقابلت الناس بجلبابها الواسع الفضفاض فهو خير بنص القرآن: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60]. فهي تقول: أكملوا الآية، فهو يرخص لي أن أقوم أمامكم بدون غطاء للوجه وبدون جلباب واسع، لكن الأفضل والأكمل والأحسن والأستر والأصون: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60].

هذه حفصة بنت سيرين الفقيهة العابدة الحيية التقية الورعة المتوفاة بعد سنة مائة للهجرة رضي الله عنها وأرضاها تفعل هذا الفعل، وتلقت هذا حتماً من بينت النبوة؛ لأن مولاها أنس بن مالك رضي الله عنه ووالدها سيرين كان عبداً عند أنس وأنس خادم النبي عليه الصلاة والسلام، فإشعاعات النبوة ونورها في هذا البيت الطاهر عند حفصة بنت سيرين.

إذا كانت أمنا عائشة تتحجب من الأعمى كما تقدم معنا، وتتحجب من الميت، فكيف هذه لا تتحجب من الحي الذي يبصر؟ لا يمكن هذا أبداً، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60].

تقرير الغزالي لوجوب ستر المرأة لوجهها وذكر بعض من وافقه

إخوتي الكرام! وهذا الخلق -أعني ستر وجه المرأة- هو الذي سار عليه عمل النساء الصالحات في سائر العصور حتى في هذا العصر الهابط، لا تتحجب إلا من كانت حيية صالحة طاهرة، فلا تكشف امرأة عن وجهها إلا لريبة فيها وخيانة في نفسها، الوجه ستره علامة الحياء، وهذا ينبغي أن يصاحب المرأة في كل وقت، ولذلك قرر الإمام الغزالي وانظروا كلامه في الجزء الثاني صفحة ثمان وأربعين إلى تسع وأربعين عندما بحث في موضوع خروج المرأة إلى المسجد في كتاب النكاح من كتاب الإحياء، يقول: الأصوب الآن المنع إلا للعجائز، والذي يظهر والعلم عند الله أن الحكم الشرعي يبقى جائزاً للعجائز وللصبايا بالضوابط الشرعية التي رخص فيها خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، فيخرجن إلى المسجد وهن تفلات، أي: تاركات للطيب وللزينة، متحجبات مستورات.

ثم قال الغزالي -هذا محل الشاهد الذي أريده-: ولم يزل الرجال على مر الأزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن منتقبات -وهو من القرن السادس للهجرة، توفي سنة خمسمائة وخمسة-: عادة النساء على مر العصور منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى القرن السادس للهجرة أن النساء يخرجن منتقبات، وأما الرجال فيكشفون عن وجوههم، أما المرأة فهي التي تستر لأنها عرض يصان وتلازم البيت، والرجل عمله خارج البيت، فلو أمر بالحجاب كما أمرت المرأة لشق عليه، فلا يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل، لكن المرأة خروجها للشارع قليل، ثم بعد ذلك هي مستورة وتغض طرفها، ولذلك ما أمر الرجل بالنقاب وأمرت به المرأة.

وهذا الكلام نقله عنه أيضاً الإمام الزبيدي في إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين وأقره عليه، ونقله قبله الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء التاسع صفحة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وعلق عليه بما يفيد إقراره له فقال: استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال. يقول: هذا هو عمل المسلمين، نساؤهم في كل مصر وفي كل بلد وفي كل صقع وفي كل قرية يخرجن منتقبات لئلا يراهن الرجال.

أولها: ستر وجه المرأة هو شيمة النساء الصالحات، وهو خلق العفيفات، وهذا هو لباس الفاضلات، وهو شأن الطاهرات الحييات في جميع الأوقات، فعنوان حياء المرأة وعفتها وطهارتها وفضلها: سترها لوجهها مع التزامها بالحجاب الشرعي في سائر جسدها، لكن هذا الوجه هو أول ما ينبغي أن يستر من هذه المرأة الطاهرة الحيية العفيفة، ولا يجوز أن يظهر.

وقد تقدم معنا -إخوتي الكرام- أخبار كثيرة في ذلك تقرر هذا، فكيف كانت أمنا عائشة مع أمهاتنا أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام الصحابيات الطاهرات وهن في أعظم العبادات في الأشهر الحرم، في الأماكن المعظمة المباركة، في أداء نسك الحج؟ كنَّ إذا مر بهن الرجال الركبان سدلن على وجوههن كما تقدم معنا، فإذا جاوزهن الرجال كشفن عن وجوههن رضوان الله عليهن أجمعين.

وتقدم معنا هذا الفعل وحكايته عن أحوال النساء من حديث أمنا عائشة ، وقلت: روي أيضاً عن أمنا أم سلمة وروي عن أسماء بنت أبي بكر وروي عن فاطمة بنت المنذر ، وقلت: إن الأخبار في ذلك صحيحة كما تقدم معنا تخريجها وبيانها.

إخوتي الكرام! المؤمنات بعد ذلك اقتدين بأمهاتهن أزواج نبينا على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه؛ فالنساء الصالحات في زمن التابعين إلى هذا الوقت وإلى يوم الدين يقتدين في حجابهن وتغطية وجوههن بأمهاتهن، ولذلك من أشنع ما قيل عن الحجاب قول هؤلاء السفهاء منهم هذا الضال المضل السفيه الفنجري الذي يقول: غطاء الوجه عادة تركية جاءتنا من الأتراك والمماليك، وما كان يعرف نساؤنا المسلمات الأول غطاء الوجه. يقول: هذا كله جاء من نظام الحريم عند الأتراك عند الاستعمار العثماني، أما أنه يوجد حجاب للوجه في الإسلام فلا.

أيها المخذول الضال! أنت إذا أنصفت قل: إن المؤمنات اقتدين بحجابهن بأمهاتهن؛ لأن إلزام أمهات المؤمنين بالحجاب هذا منصوص عليه في كلام الكريم الوهاب: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، فإذاً: المؤمنات اقتدين بأمهاتهن في حجابهن وستر وجوههن، ما اقتدين لا بأتراك ولا بمماليك، ولا جاءت هذه الخصلة الطيبة المباركة للنساء تأثراً بأحد إلا بأمهاتهن رضي الله عنهن وأرضاهن.

إخوتي الكرام! هذا الأمر لابد من وعيه، فنحن عندما نقول: النساء يتحجبن، لو لم يكن معنا دليل على إلزام النساء المسلمات بالحجاب إلا هذا الدليل لكفى؛ يقتدين بأمهاتهن، مع أن الأدلة ما أكثرها كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله.

إخوتي الكرام! وهذا الحجاب -أعني ستر المرأة لبدنها وعلى الخصوص وجهها- لا يستثنى منه امرأة سواء كانت شابة أو هرمة بلغت مائة سنة، بل من حيائها وفضلها أن تحجب وجهها، نعم يجوز كشف الوجه للهرمة، وللمسنة؛ للقاعدة، هذا أمر آخر، لكن الكمال خلاف ذلك وهذا محل اتفاق بين أئمتنا، ولا يخالف في ذلك إلا من غضب الله عليه ولعنه.

إذاً غطاء الوجه فضيلة، وعلامة طهر وحياء وكرامة في المرأة لا خلاف في ذلك، لكن هل هو واجب أو لا؟ هذا سيأتينا ضمن مراحل البحث لأنه قرر المسألة الأولى.

هذا علامة على فضل المرأة، وعلى حيائها، وعلى كرامتها، وعلى تقاها، وعلى عفتها، وهذا خير لها، لا خلاف بين أئمتنا في ذلك، ومن خالف هذا فهو مفتر على هذه الشريعة ولم يسبقه إلى قوله إلا إبليس وهو من أتباعه، أما أن غطاء الوجه فيه منقصة أو مرذول أو.. أو.. هذا ما أحد قاله إلا سفهاء هذا العصر.

إذاً: غطاء الوجه كمال، نبل، شرف، فضيلة، عفة، حياء، لو كانت المرأة تبلغ مائة سنة وتزيد فإذا سترت وجهها هذا خير لها، واسمع لهذه القصة التي يرويها سعيد بن منصور في سننه وابن المنذر في تفسيره والبيهقي في السنن الكبرى وإسنادها صحيح عن عاصم بن سليمان الأحول وهو أبو عبد الرحمن ثقة، وحديثه مخرج في الكتب الستة، تابعي، توفي سنة أربعين ومائة للهجرة.

قال هذا العبد الصالح: كنا ندخل على حفصة بنت سيرين وهي أم الهذيل الفقيهة العابدة، هذا كلام أئمتنا قاطبة في ترجمتها، مكثت ثلاثين سنة لم تخرج من مصلاها.

وقال إياس بن معاوية : ما أدركت أحداً بالبصرة أفضله على حفصة بنت سيرين ، فقيل له: ولا أخوها محمد بن سيرين ، ولا الحسن البصري ؟ قال: أما أنا فلا أقدم على حفصة أحداً. هي أفضل من الحسن البصري وهي أفضل من محمد بن سيرين في العلم والتقى والعبادة والورع، حسبما يقول هذا العبد الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، وقلت: حديثها في الكتب الستة، ثقة فقيهة عالمة عابدة.

يقول عاصم بن سليمان الأحول : كنا ندخل عليها رضي الله عنها وأرضاها، فكنا إذا دخلنا عليها تتحجب وتلبس جلبابها، فنقول لها: أليس قد قال الله في كتابه: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]، فأنتِ امرأة كبيرة جاوزتِ السبعين وفقيهة عابدة لا تخرجين من مصلاكِ، وإذا جئنا لنتلقى العلم عنكِ لبستِ الجلباب وقابلتينا من وراء حجاب، لم؟ وأنت إذا كشفتِ الوجه قاعد بنص القرآن، ولكِ رخصة فيجوز أن تخلعي الجلباب، وأن تقابلي الرجال بالملابس الطويلة التي تستر البدن مع كشف الوجه واليدين، ولا يشترط أيضاً جلباب فضفاف خارجي كما هو حال المرأة عندما تخرج إلى الشارع؛ لأنك كبيرة والله نص على استثنائكِ ورخص لكِ في كتابه فقال: وَالْقَوَاعِدُ [النور:60] جمع قاعد، وهي من قعد سنها عن طلب النكاح وتطلع الرجال إليها، فإذا رأيتها تغض بصرك طبيعة لا ديانة، يعني: أنت عندما تراها طبيعتك تنكسر، لا خشية من الله؛ لأن وجهها صار ثلاثين طبقة وظهرها متقوس وليس في فمها سنٌ ولا ضرس، وأحياناً لعابها يسيل، هذه هي القاعد، فإذا بلغت المرأة هذا السن لا حرج عليها أن تظهر وجهها وكفيها، وألّا تلبس جلبابها الواسع، بل تكون بملابس طويلة أمام الرجال لمصلحة شرعية.

فكانت تقول حفصة بنت سيرين : اقرءوا ما بعدها، أنتم لم تقفون؟ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60] يعني: تقوم بلا غطاء للوجه ولا جلباب فضفاف وبدون أن يكون هناك زينة وتطلع للشهوة الإنسانية، قالت: اقرءوا ما بعدها: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60] يعني: أن تجعل الشيخة نفسها كأنها شابة بنت عشرين أو بنت أربع عشرة، فتحتاط في لباسها ولا تظهر شيئاً من بدنها، لا من الظفر ولا من الوجه هذا خير لها بنص القرآن. هذه القاعد التي زادت على السبعين وانقطع أمل الرجال منها في كل حين، من هذا الوقت إلى موتها ما أحد يفكر بزواجها، فإذا استعفت وسترت وجهها وقابلت الناس بجلبابها الواسع الفضفاض فهو خير بنص القرآن: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60]. فهي تقول: أكملوا الآية، فهو يرخص لي أن أقوم أمامكم بدون غطاء للوجه وبدون جلباب واسع، لكن الأفضل والأكمل والأحسن والأستر والأصون: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60].

هذه حفصة بنت سيرين الفقيهة العابدة الحيية التقية الورعة المتوفاة بعد سنة مائة للهجرة رضي الله عنها وأرضاها تفعل هذا الفعل، وتلقت هذا حتماً من بينت النبوة؛ لأن مولاها أنس بن مالك رضي الله عنه ووالدها سيرين كان عبداً عند أنس وأنس خادم النبي عليه الصلاة والسلام، فإشعاعات النبوة ونورها في هذا البيت الطاهر عند حفصة بنت سيرين.

إذا كانت أمنا عائشة تتحجب من الأعمى كما تقدم معنا، وتتحجب من الميت، فكيف هذه لا تتحجب من الحي الذي يبصر؟ لا يمكن هذا أبداً، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60].

إخوتي الكرام! وهذا الخلق -أعني ستر وجه المرأة- هو الذي سار عليه عمل النساء الصالحات في سائر العصور حتى في هذا العصر الهابط، لا تتحجب إلا من كانت حيية صالحة طاهرة، فلا تكشف امرأة عن وجهها إلا لريبة فيها وخيانة في نفسها، الوجه ستره علامة الحياء، وهذا ينبغي أن يصاحب المرأة في كل وقت، ولذلك قرر الإمام الغزالي وانظروا كلامه في الجزء الثاني صفحة ثمان وأربعين إلى تسع وأربعين عندما بحث في موضوع خروج المرأة إلى المسجد في كتاب النكاح من كتاب الإحياء، يقول: الأصوب الآن المنع إلا للعجائز، والذي يظهر والعلم عند الله أن الحكم الشرعي يبقى جائزاً للعجائز وللصبايا بالضوابط الشرعية التي رخص فيها خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، فيخرجن إلى المسجد وهن تفلات، أي: تاركات للطيب وللزينة، متحجبات مستورات.

ثم قال الغزالي -هذا محل الشاهد الذي أريده-: ولم يزل الرجال على مر الأزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن منتقبات -وهو من القرن السادس للهجرة، توفي سنة خمسمائة وخمسة-: عادة النساء على مر العصور منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى القرن السادس للهجرة أن النساء يخرجن منتقبات، وأما الرجال فيكشفون عن وجوههم، أما المرأة فهي التي تستر لأنها عرض يصان وتلازم البيت، والرجل عمله خارج البيت، فلو أمر بالحجاب كما أمرت المرأة لشق عليه، فلا يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل، لكن المرأة خروجها للشارع قليل، ثم بعد ذلك هي مستورة وتغض طرفها، ولذلك ما أمر الرجل بالنقاب وأمرت به المرأة.

وهذا الكلام نقله عنه أيضاً الإمام الزبيدي في إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين وأقره عليه، ونقله قبله الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء التاسع صفحة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وعلق عليه بما يفيد إقراره له فقال: استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال. يقول: هذا هو عمل المسلمين، نساؤهم في كل مصر وفي كل بلد وفي كل صقع وفي كل قرية يخرجن منتقبات لئلا يراهن الرجال.

المراد بحديث: (لا تنتقب المحرمة) والجواب عمن حمله على كشف الوجه

الحج لا تنتقب فيه المرأة كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام والحديث في المسند وصحيح البخاري ورواه أهل السنن الثلاثة: أبو داود والنسائي والترمذي ، ورواه ابن خزيمة في صحيحه، وهو حديث صحيح كالشمس لكن اختلف في رفعه وفي وقفه على ابن عمر ، والمعتمد أنه مرفوع من كلام النبي عليه الصلاة والسلام وإن رجح الحافظ في الفتح أنه موقوف على ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين، ولفظ الحديث عن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين )، والنقاب الذي منعت منه المحرمة هو اللباس الخاص بالوجه وهو البرقع الذي يكون بحجم العضو، فهذا نهيت عنه كما تقدم معنا في كلام أمنا عائشة : لا تتلثم لكن تسدل، وهنا لا تلبس البرقع؛ لا تتلثم، لا تلبس شيئاً يحيط بالوجه كالقفازين تحيط بالكفين، إنما تستر يديها بشيء تسدله على يديها، وتستر وجهها بشيء تسدله على وجهها أيضاً دون أن تلبس البرقع، ودون أن تتلثم كما تقدم معنا، ففي الحج المرأة نهيت عن النقاب لحكمة يعلمها الله ولا نعلمها، كما أن الرجل نهي عن لبس السراويل وعن لبس المخيط لحكمة يعلمها الله ولا نعلمها، وهذه ليست من باب العقوبة بل من باب التكليف، فما كلفنا الله بشيء يعاقبنا عليه، والتكليف الجزائي مرفوع عن هذه الأمة، فرفع الله عنا الإصر والأغلال التي كانت علينا، نعم قد نكلف بما فيه امتحان للعبودية وتحقيق للتوحيد الخالص، حتى نرى هل سنلتزم أم لا نلتزم.

فالمرأة التي تلتزم بالبرقع وتلبس لباساً خاصاً لوجهها في الحج تزيله وتسدل، وهكذا الرجل الذي يستر رأسه بعمامة, وهذا كمال فيه وملابس يتزين بها فنهي عنها في الإحرام تذللاً لله جل وعلا وليس من باب التكليف الجزائي للمعاقبة كما حرم الله على بني إسرائيل ما حرم عليهم بظلم منهم، بل نحن إن منعنا عن شيء فغاية ما يقال: إن العلة فيه امتحان العباد وإظهار مدى صدقهم في توحيد ربهم جل وعلا، وهنا كذلك منعت المرأة عن لبس هذا اللباس الخاص في وجها وفي كفيها -القفازان والبرقع واللثام- وما عدا هذا فينبغي أن تستر وجهها به في الإحرام.

يقول الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في الفتح في الجزء الثالث صفحة ست وأربعمائة، واستمع لهذا النقل عن شيخ الإسلام وإمام المسلمين في زمنه محمد بن المنذر وهو من علماء القرن الرابع للهجرة في بدايته، توفي هو والإمام ابن جرير ومحمد بن خزيمة وهكذا محمد بن هارون الروياني أئمة الدنيا في زمنهم، كانوا في عصرٍ واحد.

الإمام ابن المنذر ينقل عنه الحافظ في الفتح في هذا المكان ويحكي الإجماع في ذلك فيقول: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله -والرجل منهي عن لبس المخيط- والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفاً تستتر به عن نظر الرجال. هذا الإجماع إخوتي الكرام! قول أئمة الإسلام قاطبة، لا يستثنى من ذلك إمام من الأئمة.

قال: ولا تخمره. والتخمير كالتلثم؛ أن تشد الخرقة والثوب والغطاء والخمار على الوجه، فلا تخمره إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر ، وقد تقدم معنا حديثها في الموطأ بسند صحيح كالشمس: ( كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر ) رضي الله عنهن أجمعين.

ثم قال ابن المنذر : ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلاً كما جاء عن أمنا عائشة . وهذا الاحتمال هو المراد من تخمير فاطمة والمؤمنات في ذلك الوقت لوجوههن رضي الله عنهن.

فمعنى نخمر وجوهنا: أي: نسترها، والخمار: هو الشيء الساتر، وليس المراد: تلثم أو برقع، فيقول: أجمع المسلمون على أن المرأة تسدل شيئاً على وجهها تستر به عن نظر الرجال ولا تخمر الوجه ببرقع أو شيء يلاصق، إلا ما روي عن فاطمة يقول: هذا ليس إجماع فيه، ثم قال: ولعل ما روي عن فاطمة هو من باب السدل أيضاً.

خلاصة الكلام: أن ستر الوجه تطالب به المرأة في الإحرام.

جواب ابن القيم على من فهم من حديث: (لا تنتقب المحرمة) لزوم كشف الوجه

إخوتي الكرام! وكل من قال: إن المرأة ينبغي أن تظهر وجهها في الإحرام كما يظهر الرجل رأسه فهو واهم غافل، لا يعي الحكم الشرعي ولا يعرف مقصود الشارع من كلامه، وقد أشار الإمام ابن القيم رحمه الله ونور الله قبره في بدائع الفوائد في الجزء الثالث صفحة اثنتين وأربعين ومائة إلى هذه القضية فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لها كشف الوجه في الإحرام ولا غيره، لكن الناس فهموا من حديث: ( لا تنتقب المحرمة ) خلاف ما يريده النبي عليه الصلاة والسلام فانتبه للتعليل الشرعي، وإنما جاء النص بالنهي عن النقاب خاصة كما جاء بالنهي عن القفازين، وجاء بالنهي عن لبس القميص والسراويل. يعني: أنت نهيت أن تلبس السراويل فهل تستر عورتك أو تخرج بادي العورة؟ تسترها لكن بغير سراويل، وليس معناه أن تخرج عارياً، وهنا (لا تلبس البرقع) ليس معناه أن تكشف الوجه، ومعلوم أن نهيه عن لبس هذه الأشياء لم يرد أن تكون مكشوفة لا تستر البتة، بل قد أجمع الناس على أن المحرمة تستر بدنها بقميصها ودرعها، وأن الرجل يستر بدنه بالرداء وأسافله بالإزار، مع أن مخرج النهي عن النقاب والقفازين والقميص والسراويل واحد، هذا نهينا عنه وهذا نهينا عنه، فكيف يزاد على موجب النص ويفهم منه أنه شرع لها كشف وجهها بين الملأ جهاراً؟ فأي نص اقتضى هذا؟ أو أي مفهوم أو عموم أو قياس أو مصلحة؟ بل وجه المرأة كبدن الرجل يحرم ستره بالمفصل على قدره وهو البرقع كما يحرم عليك أن تلبس قميصك، أما أن تلبس إزاراً ورداءً فلا حرج كالنقاب والبرقع، بل ويدها يحرم سترها بالمفصل على قدر اليد كالقفاز.

وأما سترها بالكم وستر الوجه بالملاءة والخمار والثوب فلم ينه عنه البتة، ومن قال: إن وجهها كرأس المحرم فليس معه بذلك نص ولا عموم ولا يصح قياسه على رأس المحرم لما جعل الله بينهما من الفرق، وقول من قال من السلف: إحرام المرأة في وجهها؛ إنما أراد به هذا المعنى، أي: لا يلزمها اجتناب اللباس كما يلزم الرجل، بل يلزمها اجتناب النقاب فيكون وجهها كبدن الرجل. ولو قدر أنه أراد وجوب كشفه فقوله ليس بحجة ما لم يثبت عن صاحب الشرع أنه قال ذلك وأراد به وجوب كشف الوجه، ولا سبيل إلى واحد من الأمرين. وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -وهي ومن معها من أمهاتنا والمؤمنات الصحابيات أعلم الناس بالحكم الذي يتعلق بهن وبالحديث الذي وجه إليهن: ( لا تنتقب المحرمة )- : ( كنا إذا مر بنا الركبان سدلت إحدانا الجلباب على وجهها )، ولم تكن إحداهن تتخذ عوداً تجعله بين وجهها وبين الجلباب كما قاله بعض الفقهاء، ولا يعرف هذا عن امرأة من نساء الصحابة ولا أمهات المؤمنين البتة لا عملاً ولا فتوى، ومستحيل أن يكون هذا من شعار الإحرام، ولا يكون ظاهراً مشهوراً بينهن يعرفه الخاص والعام، ومن آثر الإنصاف وسلك سبيل العلم والعدل تبين له راجح المذاهب من مرجوحها وفاسدها من صحيحها، والله الموفق والهادي.

متابعة الصنعاني لابن القيم في قوله بوجوب ستر المحرمة لوجهها

إخوتي الكرام! هذا الأمر الذي قرره هذا الإمام الهمام هو ما تتابع عليه أئمة الإسلام، يقول الإمام الصنعاني في سبل السلام في الجزء الثاني صفحة ثلاث وخمسين ومائتين: يحرم عليها -يعني: على المحرمة- النقاب والبرقع وهو المفصل على قدر ستر الوجه؛ لأنه ورد به النص كما ورد بالنهي عن القميص للرجل مع جواز ستر الرجل لبدنه بغيره اتفاقاً -يعني: بغير القميص- فكذلك تستر وجهها بغير ما ذكر كالخمار والثواب، ومن قال: وجهها كرأس الرجل المحرم فلا دليل معه.

ثم تعرض أيضاً للوجه قبل ذلك في نفس كتابه سبل السلام عند أحكام العورة وما ينبغي أن تستره المرأة من بدنها في الصلاة في الجزء الأول صفحة ست وسبعين ومائة، فقال: يباح كشف وجهها -أي: عند صلاتها ومناجاتها لربها- حيث لم يأت دليل بتغطيته، والمراد كشفه عند صلاتها بحيث لا يراها أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة، وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة. والإمام ابن القيم في إعلام الموقعين في الجزء الثاني صفحة واحدة وستين أيضاً ذكر نحو هذا الكلام المذكور هنا، وأن المرأة ينبغي أن تحجب وجهها وأن تستره في إحرام أو في غيره لكنها في غير الإحرام إن شاءت أن تستره عن طريق السدل أو عن طريق البرقع وفوقه سدل أو عن طريق اللثام وفوقه سدل مبالغة في الحجاب والاحتياط فلها ذلك، وإن أرادت أن تستره بسدل فقط فلها ذلك، لأنها في الإحرام لا يجوز أن تستره إلا بسدل، ولا يجوز أن تلبس البرقع ولا أن تلثم كما تقدم معنا الروايات الدالة على ذلك.

الحج لا تنتقب فيه المرأة كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام والحديث في المسند وصحيح البخاري ورواه أهل السنن الثلاثة: أبو داود والنسائي والترمذي ، ورواه ابن خزيمة في صحيحه، وهو حديث صحيح كالشمس لكن اختلف في رفعه وفي وقفه على ابن عمر ، والمعتمد أنه مرفوع من كلام النبي عليه الصلاة والسلام وإن رجح الحافظ في الفتح أنه موقوف على ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين، ولفظ الحديث عن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين )، والنقاب الذي منعت منه المحرمة هو اللباس الخاص بالوجه وهو البرقع الذي يكون بحجم العضو، فهذا نهيت عنه كما تقدم معنا في كلام أمنا عائشة : لا تتلثم لكن تسدل، وهنا لا تلبس البرقع؛ لا تتلثم، لا تلبس شيئاً يحيط بالوجه كالقفازين تحيط بالكفين، إنما تستر يديها بشيء تسدله على يديها، وتستر وجهها بشيء تسدله على وجهها أيضاً دون أن تلبس البرقع، ودون أن تتلثم كما تقدم معنا، ففي الحج المرأة نهيت عن النقاب لحكمة يعلمها الله ولا نعلمها، كما أن الرجل نهي عن لبس السراويل وعن لبس المخيط لحكمة يعلمها الله ولا نعلمها، وهذه ليست من باب العقوبة بل من باب التكليف، فما كلفنا الله بشيء يعاقبنا عليه، والتكليف الجزائي مرفوع عن هذه الأمة، فرفع الله عنا الإصر والأغلال التي كانت علينا، نعم قد نكلف بما فيه امتحان للعبودية وتحقيق للتوحيد الخالص، حتى نرى هل سنلتزم أم لا نلتزم.

فالمرأة التي تلتزم بالبرقع وتلبس لباساً خاصاً لوجهها في الحج تزيله وتسدل، وهكذا الرجل الذي يستر رأسه بعمامة, وهذا كمال فيه وملابس يتزين بها فنهي عنها في الإحرام تذللاً لله جل وعلا وليس من باب التكليف الجزائي للمعاقبة كما حرم الله على بني إسرائيل ما حرم عليهم بظلم منهم، بل نحن إن منعنا عن شيء فغاية ما يقال: إن العلة فيه امتحان العباد وإظهار مدى صدقهم في توحيد ربهم جل وعلا، وهنا كذلك منعت المرأة عن لبس هذا اللباس الخاص في وجها وفي كفيها -القفازان والبرقع واللثام- وما عدا هذا فينبغي أن تستر وجهها به في الإحرام.

يقول الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في الفتح في الجزء الثالث صفحة ست وأربعمائة، واستمع لهذا النقل عن شيخ الإسلام وإمام المسلمين في زمنه محمد بن المنذر وهو من علماء القرن الرابع للهجرة في بدايته، توفي هو والإمام ابن جرير ومحمد بن خزيمة وهكذا محمد بن هارون الروياني أئمة الدنيا في زمنهم، كانوا في عصرٍ واحد.

الإمام ابن المنذر ينقل عنه الحافظ في الفتح في هذا المكان ويحكي الإجماع في ذلك فيقول: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله -والرجل منهي عن لبس المخيط- والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفاً تستتر به عن نظر الرجال. هذا الإجماع إخوتي الكرام! قول أئمة الإسلام قاطبة، لا يستثنى من ذلك إمام من الأئمة.

قال: ولا تخمره. والتخمير كالتلثم؛ أن تشد الخرقة والثوب والغطاء والخمار على الوجه، فلا تخمره إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر ، وقد تقدم معنا حديثها في الموطأ بسند صحيح كالشمس: ( كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر ) رضي الله عنهن أجمعين.

ثم قال ابن المنذر : ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلاً كما جاء عن أمنا عائشة . وهذا الاحتمال هو المراد من تخمير فاطمة والمؤمنات في ذلك الوقت لوجوههن رضي الله عنهن.

فمعنى نخمر وجوهنا: أي: نسترها، والخمار: هو الشيء الساتر، وليس المراد: تلثم أو برقع، فيقول: أجمع المسلمون على أن المرأة تسدل شيئاً على وجهها تستر به عن نظر الرجال ولا تخمر الوجه ببرقع أو شيء يلاصق، إلا ما روي عن فاطمة يقول: هذا ليس إجماع فيه، ثم قال: ولعل ما روي عن فاطمة هو من باب السدل أيضاً.

خلاصة الكلام: أن ستر الوجه تطالب به المرأة في الإحرام.