شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فلا زلنا نتدارس الباب الخامس من أبواب الطهارة من سنن الترمذي عليه وعلى جميع المسلمين رحمة رب العالمين، وعنوان هذا الباب: ما يقول إذا خرج من الخلاء، وقد روى الإمام الترمذي في هذا الباب حديثاً من طريق شيخه شيخ المحدثين وإمام المسلمين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عليه وعلى جميع المسلمين رحمة رب العالمين، عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك). قال الإمام الترمذي : هذا حديثٌ حسنٌ غريب، ثم قال: لا نعرف في هذا الباب إلا حديث أمنا عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وكنا نتدارس ما يتعلق بترجمة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وقلت: سنتدارس أحوالها ضمن ستة أمور:

أولها: في بيان فضلها وأفضليتها على من دونها من النساء.

والثاني: في حب النبي صلى الله عليه وسلم لها حباً خاصاً زائداً على نسائه وزوجاته عليه وعلى آل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه.

والأمر الثالث: في الأسباب التي اقتضت هذا الحب من نبينا عليه الصلاة والسلام نحو أمنا عائشة رضي الله عنها.

والأمر الرابع: في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

والأمر الخامس: في قيام أمنا عائشة رضي الله عنها بأمور الدين على وجه التمام من تعظيم الرحمن، والشفقة على عباده.

وآخر الأمور وهو السادس: غيرة الله على أمنا عائشة رضي الله عنها، ودفاع الله عنها.

وكنا تدارسنا ما يتعلق بالأمر الأول في فضل أمنا عائشة وأفضليتها رضي الله عنها وأرضاها، وشرعنا في مدارسة الأمر الثاني من أحوالها ألا وهو حب النبي صلى الله عليه وسلم لها حباً زائداً على سائر نسائه، وقلت: إن هذا كان معلوماً للصحابة أجمعين، وبخاصةٍ عند نسائه الطاهرات الثيبات على نبينا وعلى آل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه، وآخر ما ذكرته قصة أمنا صفية مع أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين عندما وجد النبي صلى الله عليه وسلم على أمنا صفية وأرادت أن ترضيه، فوسطت في ذلك أمنا عائشة رضي الله عنهن أجمعين، وقالت لها: إذا رضي النبي صلى الله عليه وسلم عني وزال ما في قلبه نحوي فلك يومي، وبينت ما فعلته أمنا عائشة رضي الله عنها، وكيف طيبت قلب النبي صلى الله عليه وسلم نحو أمنا صفية على نبينا وآل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه.

روى الإمام الطبراني في معجمه الأوسط بإسنادٍ حسن عن عمرو بن الحارث المصطلقي وهو أخٌ لأمنا جويرية رضي الله عنهما، فهو خال المؤمنين، قال: بعث زياد -وهو زياد بن أبيه الذي استلحقه معاوية رضي الله عنه وجعله أخاه، وكان من الأمراء، وتوفي سنة ثلاثٍ وخمسين للهجرة قبل وفاة أمنا عائشة رضي الله عنها بأربع سنين، وليس هو من الصحابة الكرام الطيبين إنما هو من التابعين- إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعطاء، وفضل أمنا عائشة رضي الله عنها فيه، فكل واحدةٍ أعطاها شيئاً، وزاد أمنا عائشة رضي الله عنها، فقال الرسول الذي أتى بهذا المال إلى أمهات المؤمنين لأمنا أم سلمة رضي الله عنها بعد أن أعطاها المال، قال لها معتذراً: إن زياداً أعطى عائشة أكثر، وما نريد أن يتكدر خاطرك من ذلك، فقالت أمنا أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها: يعتذر إلينا زياد أن فضل علينا عائشة رضي الله عنها، فقد كان يفضلها من هو أعظم علينا تفضيلاً من زياد ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعني بذلك أن تفضيل النبي عليه الصلاة والسلام هو المعتبر، لا تفضيل زياد ولا غيره.

تقدير الصحابة وتبجيلهم لعائشة رضي الله عنها

وكان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يفضل أمنا عائشة رضي الله عنها في العطاء على سائر أمهات المؤمنين أزواج نبينا الكريم عليه وعلى آل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه، أخرج ذلك الإمام ابن سعد في الطبقات في الجزء الثامن صفحة سبعٍ وستين، ورواه الحاكم في المستدرك بسندٍ صحيح في الجزء الرابع في الصفحة الثامنة، عن مصعب بن سعد ولد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما قال: فرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لأمهات المؤمنين عشرة آلاف درهم، فكل واحدةٍ يعطيها عشرة آلاف درهم في السنة إلا عائشة زادها ألفين، فأعطاها اثني عشر ألف درهم، ثم قال: فضلتها لأنها حبيبة رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وثبت في سنن الترمذي ، وقال: حسنٌ صحيح، عن عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه أن رجلاً جاء عنده فنال من أمنا عائشة رضي الله عنها ووقع فيها، فقال له عمار بن ياسر : اغرب مقبوحاً منبوذاً -أي: انصرف وابتعد، وأنت قبيح لا تستحق أن تجالس- تؤذي حبيبة رسول الله عليه الصلاة والسلام. يقول: أنت تتكلم في عائشة رضي الله عنها وتقع فيها، وهذه لها منزلةٌ خاصة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فاغرب مقبوحاً منبوذاً.

وروى أبو نعيم في كتاب الحلية في الجزء الثاني صفحة أربعٍ وأربعين عن مسروق إمام التابعين أنه كان إذا حدث عن أمنا عائشة رضي الله عنها يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله، على نبينا وآل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه.

عدل النبي صلى الله عليه وسلم بين أزواجه مع حبه لعائشة رضي الله عنها

وكون عائشة رضي الله عنها لها منزلةٌ خاصةٌ في قلب النبي صلى الله عليه وسلم دون سائر نسائه مما لا يختلف فيه اثنان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بهذا، ويبين أن هذا ليس في الوسع، وأن الله جل وعلا جعل في قلبه محبة هذه الصديقة القانتة لما فيها من أمورٍ تستدعي ذلك كما سيأتينا، وعليه؛ فإنه يقول: أنا لا أملك اختياراً نحو هذا الأمر، فهذا الأمر يقودني إلى حبها، والله جعل ذلك في قلبي، وإذا فضلتها على سائر النساء من زوجاتي فليس في ذلك منقصة؛ لأن هذا بيد الرب جل وعلا.

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذا، ففي السنن الأربع وصحيح ابن حبان والحديث رواه الحاكم وصححه وقال: على شرط الإمام مسلم ، وأقره عليه الإمام الذهبي ، ورواه الإمام الدارمي والبيهقي في السنن الكبرى، ورواه الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه، والإمام البزار في مسنده أيضاً عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، قال أئمتنا: يعني حبه لأمنا عائشة رضي الله عنها وميل قلبه إليها، فهذا يملكه الله وليس في وسع النبي عليه الصلاة والسلام شيءٌ من ذلك، فهو يقول: قلبي بين يديك وبين إصبعيك، وأنت جعلت فيه محبة هذه الصديقة الصالحة القانتة لما فيها من اعتباراتٍ شرعيةٍ معتبرة، وعليه فلا تلمني فيما تملك ولا أملك.

والحديث صحيح، وإسناده متصلٌ، لكن وقع نزاعٌ وخلافٌ في الاتصال هل هو مرسلٌ أو متصل؟ فمن ذكرتهم صححوا الحديث واعتبروه متصل الإسناد، ووقع شيءٌ من الكلام حول الاتصال كما في فتح الباري في الجزء التاسع صفحة ثلاث عشرة وثلاثمائة، وذكر الإمام الحافظ أيضاً ملخص هذا الكلام في كتاب الدراية في تلخيص تخريج أحاديث الهداية الذي أصله للإمام الزيلعي وهو نصب الراية في أربعة مجلدات اختصره في مجلدين صغيرين، وكلامه في الجزء الثاني صفحة ستٍ وستين، والكلام في الأصل في نصب الراية في الجزء الثالث صفحة خمس عشرة ومائتين، وخلاصة كلام أئمتنا: أن حماد بن سلمة روى الحديث عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن أمنا عائشة رضي الله عنها، فهو إذاً حديثٌ متصل، لكن قال الإمام الترمذي في السنن: أرسله حماد بن زيد ، وهذا أصح، فـحماد بن زيد بن درهم قال: عن أبي قلابة ، عن أمنا عائشة ، فحذف عبد الله بن يزيد فصار الحديث مرسلاً، وقال الإمام الدارقطني -كما نقل ذلك عنه ابن حجر والإمام الزيلعي -: أرسله أيضاً عبد الوهاب الثقفي وابن علية وهو أولى. يعني هذا الحديث متصل، وذكر فيه عبد الله بن يزيد عن أمنا عائشة ، أو أن أبا قلابة رفع الحديث إلى أمنا عائشة رضي الله عنها دون أن يذكر عبد الله بن يزيد ، فهو متصلٌ أو مرسل.

أما فيما يتعلق بقسم الإنسان بين زوجاته فالإنسان مطالب بالقسم والعدل في أمرين:

أولهما: البيتوتة، ويتبعها النهار، فهذه لها ليلة بنهارها، وتلك لها ليلة بنهارها وهكذا، والنهار في الأصل ينبغي أن يكون تبعاً لليلة التي قبله، فتجعل لزوجةٍ من زوجاتك مثلاً ليلة السبت التي تكون في آخر يوم الجمعة، ومعها يوم السبت، وليلة الأحد لزوجةٍ ثانية ومعها يوم الأحد، قال أئمتنا: ولو جعل اليوم من الليلة التي قبلها، أي: ابتدأ باليوم ثم جعل الليلة بعد ذلك أيضاً يصح، يعني: لو جاء في الصباح بعد صلاة الفجر إلى زوجته، ثم أعطاها الليلة التي تليها، ثم بدأ بالزوجة الثانية من الصباح فلا حرج، والأصل أن النهار يتبع الليلة، وأن تكون الليلة قبل النهار، فلو جعل النهار قبل الليلة فلا حرج، المقصود أنه لا بد من التسوية فيه.

والأمر الثاني الذي يجب فيه العدل والقسم: هو النفقة الواجبة، فكل واحدةٍ لها نفقتها بالمعروف من سكن، وطعام، وكساء، أما النفقة الزائدة التي هي من باب الهدايا والتطوع والإحسان فهذا إحسان منك تضعه حيث شئت، فقد تشتري لهذه حلياً بعشرة آلاف وتلك لا تشتري لها حلياً ولا بدرهم، فلا حرج، ولا منقصة في ذلك على الإطلاق.

فهذا أمر يجب أن نعيه، ولا أعلم بين المذاهب الأربعة خلافاً في أن تعطي هذه لباساً أو حلياً لا تعطيه لتلك، وهذا كما لو كان عندك عشرة من الأصحاب وأهديت لواحدٍ هدية، فلا يحق للبقية أن يطالبوك بشيء.

إذاً: الحق الواجب لا بد منه، وما زاد فهو إحسان تضعه حيث شئت، نعم يستحب لك أن تسوي بينهن في ذلك استحباباً، فإذا اشتريت لهذه شيئاً زائداً عما يجب عليك فاشتر لهذه، وإذا لم تفعل فلا إثم ولا حرج.

فإذاً عماد القسم كما قال أئمتنا: الببيتوتة ويتبعها النهار، سواءٌ كان قبلها أو بعدها، والنفقة الواجبة هذه لا بد منها، وما عدا ذلك فمتروكٌ إليك، وهذا هو الذي شرطه الله جل وعلا لمن يريد أن يعدد ألا وهو العدل.

وهذا ميسورٌ في وسع كل أحد، لكن إذا كان الإنسان يخشى من الجور ويخشى إذا تزوج ثانيةً أن يحرم الأولى من حقها الواجب فقد قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]. وإذا كان يضمن نفسه في هذين الأمرين: القسم والنفقة الواجبة فلا حرج عليه في كون القلب بعد ذلك يميل لهذه أو لهذه، فالقلوب بيد علام الغيوب سبحانه وتعالى، وكونه بعد ذلك يؤثر هذه على هذه في نفقةٍ أو في طعامٍ فلا دخل لواحدةٍ في ذلك على الإطلاق، والمرأة إذا طالبت في ذلك بما لا يجب لها، نبين لها أنها على خلاف الصواب وانتهى الأمر، فإذا قصر في أحد هذين الأمرين فهو ظالم، والويل له عند الله جل وعلا.

ثبت في المسند والسنن الأربع، والحديث رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين، وأقره عليه الذهبي ، ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط)، وفي بعض الروايات: (وشقه مائل)، كما مال فالجزاء من جنس العمل، فيجعل الله أحد جانبيه يوم القيامة مائلاً، أو كأنه مشوه في الخلق، أو كان فيه شيئاً من المسخ، فيأتي وأحد جانبيه ساقطٌ مائلٌ ليظهر جوره على رؤوس الخلائق.

إذاً: الجور في هذين الأمرين فقط، وما يتوهمه بعض الناس من أنه إذا اشترى لهذه ثوباً أصفر مثلاً فينبغي أن يشتري لتلك أيضاً ثوباً أصفر، فهذا كله لا حقيقة له من ناحية الوجوب، فإن أراد أن يفعل هذا من باب التطوع والإحسان فليفعله، وأما أنه يجب عليه أن يسوي بين النساء في ذلك فلا؛ بل الواجب القسمة في البيتوتة، ثم بعد ذلك في النفقة الواجبة كما لو لم يكن معها زوجاتٌ أُخَر، فتنظر ما يجب لها من حق في طعامها وشرابها وسكنها وكسائها فتعطيها، وأما أن تساوي تلك بهذه أو هذه بتلك فلا يجب عليك ذلك، وعليك العدل وهو ميسورٌ على من يتقي الله جل وعلا، وأما أن تميل لهذه أو نفسك أحياناً تنشط لمعاشرتها أكثر من غيرها فلا حرج، نعم .. يجب أن تعطي كل واحدةٍ حقها من العشرة، وليس معنى هذا أن تسوي بينهما؛ فالقلوب بيد علام الغيوب، وإذا قام بالحق الظاهري فقد أحسن، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

وكان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يفضل أمنا عائشة رضي الله عنها في العطاء على سائر أمهات المؤمنين أزواج نبينا الكريم عليه وعلى آل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه، أخرج ذلك الإمام ابن سعد في الطبقات في الجزء الثامن صفحة سبعٍ وستين، ورواه الحاكم في المستدرك بسندٍ صحيح في الجزء الرابع في الصفحة الثامنة، عن مصعب بن سعد ولد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما قال: فرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لأمهات المؤمنين عشرة آلاف درهم، فكل واحدةٍ يعطيها عشرة آلاف درهم في السنة إلا عائشة زادها ألفين، فأعطاها اثني عشر ألف درهم، ثم قال: فضلتها لأنها حبيبة رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وثبت في سنن الترمذي ، وقال: حسنٌ صحيح، عن عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه أن رجلاً جاء عنده فنال من أمنا عائشة رضي الله عنها ووقع فيها، فقال له عمار بن ياسر : اغرب مقبوحاً منبوذاً -أي: انصرف وابتعد، وأنت قبيح لا تستحق أن تجالس- تؤذي حبيبة رسول الله عليه الصلاة والسلام. يقول: أنت تتكلم في عائشة رضي الله عنها وتقع فيها، وهذه لها منزلةٌ خاصة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فاغرب مقبوحاً منبوذاً.

وروى أبو نعيم في كتاب الحلية في الجزء الثاني صفحة أربعٍ وأربعين عن مسروق إمام التابعين أنه كان إذا حدث عن أمنا عائشة رضي الله عنها يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله، على نبينا وآل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه.

وكون عائشة رضي الله عنها لها منزلةٌ خاصةٌ في قلب النبي صلى الله عليه وسلم دون سائر نسائه مما لا يختلف فيه اثنان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بهذا، ويبين أن هذا ليس في الوسع، وأن الله جل وعلا جعل في قلبه محبة هذه الصديقة القانتة لما فيها من أمورٍ تستدعي ذلك كما سيأتينا، وعليه؛ فإنه يقول: أنا لا أملك اختياراً نحو هذا الأمر، فهذا الأمر يقودني إلى حبها، والله جعل ذلك في قلبي، وإذا فضلتها على سائر النساء من زوجاتي فليس في ذلك منقصة؛ لأن هذا بيد الرب جل وعلا.

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذا، ففي السنن الأربع وصحيح ابن حبان والحديث رواه الحاكم وصححه وقال: على شرط الإمام مسلم ، وأقره عليه الإمام الذهبي ، ورواه الإمام الدارمي والبيهقي في السنن الكبرى، ورواه الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه، والإمام البزار في مسنده أيضاً عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، قال أئمتنا: يعني حبه لأمنا عائشة رضي الله عنها وميل قلبه إليها، فهذا يملكه الله وليس في وسع النبي عليه الصلاة والسلام شيءٌ من ذلك، فهو يقول: قلبي بين يديك وبين إصبعيك، وأنت جعلت فيه محبة هذه الصديقة الصالحة القانتة لما فيها من اعتباراتٍ شرعيةٍ معتبرة، وعليه فلا تلمني فيما تملك ولا أملك.

والحديث صحيح، وإسناده متصلٌ، لكن وقع نزاعٌ وخلافٌ في الاتصال هل هو مرسلٌ أو متصل؟ فمن ذكرتهم صححوا الحديث واعتبروه متصل الإسناد، ووقع شيءٌ من الكلام حول الاتصال كما في فتح الباري في الجزء التاسع صفحة ثلاث عشرة وثلاثمائة، وذكر الإمام الحافظ أيضاً ملخص هذا الكلام في كتاب الدراية في تلخيص تخريج أحاديث الهداية الذي أصله للإمام الزيلعي وهو نصب الراية في أربعة مجلدات اختصره في مجلدين صغيرين، وكلامه في الجزء الثاني صفحة ستٍ وستين، والكلام في الأصل في نصب الراية في الجزء الثالث صفحة خمس عشرة ومائتين، وخلاصة كلام أئمتنا: أن حماد بن سلمة روى الحديث عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن أمنا عائشة رضي الله عنها، فهو إذاً حديثٌ متصل، لكن قال الإمام الترمذي في السنن: أرسله حماد بن زيد ، وهذا أصح، فـحماد بن زيد بن درهم قال: عن أبي قلابة ، عن أمنا عائشة ، فحذف عبد الله بن يزيد فصار الحديث مرسلاً، وقال الإمام الدارقطني -كما نقل ذلك عنه ابن حجر والإمام الزيلعي -: أرسله أيضاً عبد الوهاب الثقفي وابن علية وهو أولى. يعني هذا الحديث متصل، وذكر فيه عبد الله بن يزيد عن أمنا عائشة ، أو أن أبا قلابة رفع الحديث إلى أمنا عائشة رضي الله عنها دون أن يذكر عبد الله بن يزيد ، فهو متصلٌ أو مرسل.

أما فيما يتعلق بقسم الإنسان بين زوجاته فالإنسان مطالب بالقسم والعدل في أمرين:

أولهما: البيتوتة، ويتبعها النهار، فهذه لها ليلة بنهارها، وتلك لها ليلة بنهارها وهكذا، والنهار في الأصل ينبغي أن يكون تبعاً لليلة التي قبله، فتجعل لزوجةٍ من زوجاتك مثلاً ليلة السبت التي تكون في آخر يوم الجمعة، ومعها يوم السبت، وليلة الأحد لزوجةٍ ثانية ومعها يوم الأحد، قال أئمتنا: ولو جعل اليوم من الليلة التي قبلها، أي: ابتدأ باليوم ثم جعل الليلة بعد ذلك أيضاً يصح، يعني: لو جاء في الصباح بعد صلاة الفجر إلى زوجته، ثم أعطاها الليلة التي تليها، ثم بدأ بالزوجة الثانية من الصباح فلا حرج، والأصل أن النهار يتبع الليلة، وأن تكون الليلة قبل النهار، فلو جعل النهار قبل الليلة فلا حرج، المقصود أنه لا بد من التسوية فيه.

والأمر الثاني الذي يجب فيه العدل والقسم: هو النفقة الواجبة، فكل واحدةٍ لها نفقتها بالمعروف من سكن، وطعام، وكساء، أما النفقة الزائدة التي هي من باب الهدايا والتطوع والإحسان فهذا إحسان منك تضعه حيث شئت، فقد تشتري لهذه حلياً بعشرة آلاف وتلك لا تشتري لها حلياً ولا بدرهم، فلا حرج، ولا منقصة في ذلك على الإطلاق.

فهذا أمر يجب أن نعيه، ولا أعلم بين المذاهب الأربعة خلافاً في أن تعطي هذه لباساً أو حلياً لا تعطيه لتلك، وهذا كما لو كان عندك عشرة من الأصحاب وأهديت لواحدٍ هدية، فلا يحق للبقية أن يطالبوك بشيء.

إذاً: الحق الواجب لا بد منه، وما زاد فهو إحسان تضعه حيث شئت، نعم يستحب لك أن تسوي بينهن في ذلك استحباباً، فإذا اشتريت لهذه شيئاً زائداً عما يجب عليك فاشتر لهذه، وإذا لم تفعل فلا إثم ولا حرج.

فإذاً عماد القسم كما قال أئمتنا: الببيتوتة ويتبعها النهار، سواءٌ كان قبلها أو بعدها، والنفقة الواجبة هذه لا بد منها، وما عدا ذلك فمتروكٌ إليك، وهذا هو الذي شرطه الله جل وعلا لمن يريد أن يعدد ألا وهو العدل.

وهذا ميسورٌ في وسع كل أحد، لكن إذا كان الإنسان يخشى من الجور ويخشى إذا تزوج ثانيةً أن يحرم الأولى من حقها الواجب فقد قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]. وإذا كان يضمن نفسه في هذين الأمرين: القسم والنفقة الواجبة فلا حرج عليه في كون القلب بعد ذلك يميل لهذه أو لهذه، فالقلوب بيد علام الغيوب سبحانه وتعالى، وكونه بعد ذلك يؤثر هذه على هذه في نفقةٍ أو في طعامٍ فلا دخل لواحدةٍ في ذلك على الإطلاق، والمرأة إذا طالبت في ذلك بما لا يجب لها، نبين لها أنها على خلاف الصواب وانتهى الأمر، فإذا قصر في أحد هذين الأمرين فهو ظالم، والويل له عند الله جل وعلا.

ثبت في المسند والسنن الأربع، والحديث رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين، وأقره عليه الذهبي ، ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط)، وفي بعض الروايات: (وشقه مائل)، كما مال فالجزاء من جنس العمل، فيجعل الله أحد جانبيه يوم القيامة مائلاً، أو كأنه مشوه في الخلق، أو كان فيه شيئاً من المسخ، فيأتي وأحد جانبيه ساقطٌ مائلٌ ليظهر جوره على رؤوس الخلائق.

إذاً: الجور في هذين الأمرين فقط، وما يتوهمه بعض الناس من أنه إذا اشترى لهذه ثوباً أصفر مثلاً فينبغي أن يشتري لتلك أيضاً ثوباً أصفر، فهذا كله لا حقيقة له من ناحية الوجوب، فإن أراد أن يفعل هذا من باب التطوع والإحسان فليفعله، وأما أنه يجب عليه أن يسوي بين النساء في ذلك فلا؛ بل الواجب القسمة في البيتوتة، ثم بعد ذلك في النفقة الواجبة كما لو لم يكن معها زوجاتٌ أُخَر، فتنظر ما يجب لها من حق في طعامها وشرابها وسكنها وكسائها فتعطيها، وأما أن تساوي تلك بهذه أو هذه بتلك فلا يجب عليك ذلك، وعليك العدل وهو ميسورٌ على من يتقي الله جل وعلا، وأما أن تميل لهذه أو نفسك أحياناً تنشط لمعاشرتها أكثر من غيرها فلا حرج، نعم .. يجب أن تعطي كل واحدةٍ حقها من العشرة، وليس معنى هذا أن تسوي بينهما؛ فالقلوب بيد علام الغيوب، وإذا قام بالحق الظاهري فقد أحسن، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

محبة نبينا عليه الصلاة والسلام لأمنا عائشة رضي الله عنها كانت ثابتةً معلومةً لها ولأمهاتنا أزواج نبينا عليه وعليهن جميعاً صلوات الله وسلامه، وكانت معلومةً لسائر الصحابة الكرام، وعلمتها الأمة أيضاً ولا خلاف في ذلك؛ فكان يحب أمنا عائشة رضي الله عنها أكثر مما يحب سائر نسائه عليه وعليهن جميعاً صلوات الله وسلامه.

روى الإمام الطبراني في معجمه الكبير والحاكم في المستدرك بسندٍ صحيح: أن رجلاً جاء للإمام الشعبي عليه رحمة الله فقال له: كل أمهات المؤمنين أحب إلي من عائشة -أي: أنا أحبهن كلهن، لكن كل واحدةٍ عندي أكثر حباً من عائشة ، وأفضلها على عائشة ، فـعائشة هي أقل أمهات المؤمنين حباً في قلبي- فقال له الشعبي : أما أنت فقد خالفت ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت أحبهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنت الذي جعلتها في آخر المراتب وهي في أول المراتب عند النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كنت تؤمن به وتحبه فينبغي أن تقدم من قدمه نبيك عليه صلوات الله وسلامه.

وأمنا عائشة رضي الله عنها هي أمٌ لنا بنص القرآن قال تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6]. والذي يقع فيها ويتبرأ منها كافر، ومع الكفر هو ليس بولد حلال؛ لأنه لو لم يكن من أولاد العهر لما تبرأ من أمه ولما طعن فيها، ولو بحثت عمن يطعن في نسب أمنا عائشة أو في منزلتها أو في مكانتها ويشكك في أمرها سترى أن أصله ولد زنا ولا شك؛ لأنه لو كان ولد حلال لما تبرأ من الطاهرة المطهرة حبيبة حبيب الله جل وعلا على نبينا وعلى آل بيته صلوات الله وسلامه، وسيأتينا تقرير هذا في آخر الأمور الستة عند ذكر غيرة الله عليها ودفاعه عنها، وكيف أنزل آياتٍ تتلى في تبرئة أمنا عائشة ، ونزه نفسه عن طعن المفترين فيها مما يدل على أن الطعن فيها طعنٌ لله جل وعلا كما سيأتينا، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16]. نزه الله نفسه عن هذه الفرية التي ألحقت بأمنا عائشة رضي الله عنها، كما نزه نفسه عن الولد والصاحبة والشريك، فكما أن ذلك كفر فهذا كفر، وسيأتينا أن من وقع في أمنا عائشة وقذفها وسبها فهو كافرٌ بالإجماع لا خلاف في ذلك، وأنا أزيد إلى الكفر أنه من أولاد العهر لا من أولاد الطهر؛ لأنه لا يطعن في نسب الطاهرة ويؤذي حبيب الله عليه الصلاة والسلام في حبيبته إلا من كان خبيث الأصل وليس من أولاد الحلال والطهر.

فهذه هي أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وهذا هو الأمر الثاني من سيرتها العطرة فهي أحب النساء إلى نبينا صلى الله عليه وسلم.

قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمتها في الجزء الثاني صفحة أربعين ومائة: لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها، ولا أحب امرأةً حبها.

وقال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمتها في الجزء الثامن صفحة إحدى وتسعين: لم يكن في أزواج نبينا صلى الله عليه وسلم أحب إليه من أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4045 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3979 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3906 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3794 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3787 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3771 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3570 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3486 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3465 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] 3418 استماع