شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [10]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين! سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فلا زلنا نتدارس الباب الثاني من أبواب الطهارة الذي عنون عليه الإمام أبو عيسى الترمذي عليه رحمة الله فقال: باب ما جاء في فضل الطهور، ثم ساق الحديث بسنده من طريق شيخيه: إسحاق بن موسى الأنصاري ، وقتيبة بن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، وإذا غسل يديه خرجت من يده كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب).

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.

وكنا نتدارس المسألة الثانية من المبحث الثاني، والمبحث الثاني دار حول فقه الحديث وبيان معناه، وقلت: تحت ذلك مسألتان: المسألة الأولى: في تكثير الطاعات والسيئات. والمسألة الثانية: في كيفية خروج الخطايا من أعضاء المتوضئ عندما يتوضأ، وهذه الكيفية كما تقدم معنا تحمل على حقيقتها التي يعلمها الله ولا نعلمها، وقد يطلع الله جل وعلا بعض عباده على رؤية هذه الخطايا التي تؤثر في جسم العاصي ظاهراً وباطناً.

وتقدم معنا تقرير هذا الأمر بأدلته مفصلاً فيما مضى، وقلت: لا يجوز أن نحمل الحديث على أنه من باب الكناية والمجاز عن المغفرة وستر العبد وإسقاط الذنب عنه، دون أن يحصل هناك خروج حقيقي، ولا يجوز أن نقول: إن هذا الخروج أيضاً حقيقي؛ لأنه يوجد في عالم الإنسان في هذه المعاني والأعراض أجرام وأجساد وشيء محسوس، كل هذا قلت: إنه من باب التكلف.

وختمت المسألة الثانية بثلاثة أمور ينبغي أن ننتبه لها وأن نعيها حول موقف العقل في هذه الحياة نحو ما يعرض عليه.

قلت: إن العقل مجاله العلوم المادية، فليبحث فيها عن طريق التجارب، ولنقرر ما يتوصل إليه. وأما ما يتعلق بدائرة الحلال والحرام، والفضيلة والرذيلة، والخير والشر، والحق والباطل، فمرد ذلك إلى شرع الله جل وعلا، ولا يجوز للإنسان أن يحكم في هذه الأمور عن طريق عقله، ولا عرفه، ولا عن طريق طاعة قائده، ولا أن يتبع مصلحته أو شهواته، فمرد ذلك إلى شرع ربه جل وعلا، إنما عقله يفهم ويستنير بعد ذلك بنور الوحي وهداه. وليحذر كل الحذر من رد النصوص الشرعية أو من تأويلها بما يشبه ردها.

والأمر الثالث: دائرة المغيبات، قلنا: نؤمن بها كما وردت، فلا نؤولها، ولا نبحث في كنهها وكيفيتها وحقيقتها، فالإيمان بها يقوم على دعامتين اثنتين: إقرار وإمرار، نقر باللفظ كما ورد، ونمره دون أن نبحث في كيفيته وحقيقته وكنهه وماهيته. فهذه المغيبات لم تطلع عليها عقولنا، ولم تصل إليها حواسنا، فلا يجوز أن نتكلم فيها بأكثر من إثباتها كما ورد ذلك بالنص الشرعي الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42].

وقلت: يدخل في دائرة المغيبات ما يتعلق بصفات رب الأرض والسموات، فإيماننا بها إقرار وإمرار، ويدخل في هذا عالم الملائكة، وعالم الجن، وما يكون في اليوم الآخر من عذاب أليم ونعيم مقيم، كل هذا لا نبحث في كنهه ولا في كيفيته، نثبته كما ورد به النص على المعنى اللائق به، ولا يعلم حقيقة ذلك إلا قائل ذلك والمخبر عنه وهو الله جل وعلا؛ ولذلك ينبغي أن نعي هذا الأمر تمام الوعي لنبتعد عن الفضول وعن القيل والقال، وعن الكلام الذي لا وزن له ولا اعتبار.

فموضوع الذنوب والخطايا وأثرها في أعضاء الإنسان، هذه الكيفية لا يدركها العقل فلا يجوز له أن يخوض فيها، ولا أن يؤولها، وغاية ما يقول: إن هناك خطايا دنست أعضاء الإنسان فإذا توضأ تزول عنه، كيفية ذلك يعلمها الله جل وعلا، وإذا لم يطلعنا الله على هذا الأمر وعلى حقيقته فلا يجوز أن ننكره ولا أن نؤوله بما يشبه إنكاره، وهكذا ما يتعلق بصفاته جل وعلا، وما يكون في اليوم الآخر، وكذلك ما يكون في عالم الغيب من عالم الملائكة والجن وما يتعلق بهذا.

كنت ختمت الموعظة الماضية بأمر من الأمور تلاعبت فيه العقول عندما لم تقف عند هدي نبينا الرسول عليه صلوات الله وسلامه، ألا وهو أمر الدجال، فمن قائل: إن الدجال رمز للدجل والخرافات التي كانت قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام، ومن قائل: الدجال هو التكنولوجيا والعلوم الحديثة التي وجدت في زماننا، والدجل فيها أن الناس خدعوا بها، والعور فيها أنها مجردة من الاتصال بالله فهي تكنولوجيا على تعبيرهم بلا خلق ولا دين، كل هذا الكلام باطل وهذيان.

ومن قائل: الدجال هو إنسان حقيقة كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عنه، لكن ما ورد من خوارق للعادات وعجائب تأتي معه هذه ليست على ظاهرها، إنما هي على حسب الإمكانات الحديثة التي ستكون في المستقبل، فـالدجال لم يركب الحمار إنما سيركب الطائرة، والصحابة وإن لم يدركوا هذا المعنى، فنحن أدركناه. كل هذا -كما قلت- ضلال وهوس وشطط في عقل الإنسان، والإنسان عندما حجر على عقله وزمه بزمام الشر يصل إلى هذه المتاهات التي لا نهاية لها.

سأضرب بعض الأمثلة لتقرير هذه الحقيقة لنعلم وظيفة العقل، وأنه لا يجوز أن نقحمه في عالم الغيب بتاتاً، كما لا يجوز أن ندخله في دائرة التحليل والتحريم، ولنترك له المجال في دائرة الأمور المادية ليرتع فيها كما يريد، وليقرر ويستنتج ما يتوصل إليه.

أدلة إثبات الميزان

الله جل وعلا أخبرنا في كتابه عن وجود الموازين يوم الدين، وقرر ربنا جل وعلا هذا في آيات كثيرة فقال: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، والآية في سورة الأنبياء.

وقال جل وعلا: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:6-11].

وأخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام عن وجود الميزان يوم القيامة، ففي مستدرك الحاكم في المجلد الرابع صفحة خمسمائة وست وثمانين، وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم ، وأقره عليه الذهبي من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السموات والأرض لوسع)، لو وضعت السموات والأرض في كفة الميزان لوسعت هذه الكفة السموات والأرض، ( فتقول الملائكة: سبحانك ربنا، من يزن هذا؟ ) من يستطيع أن يملأه بأعماله وله هذا الحجم الكبير، فالسموات والأرض تسعان في كفة؟ ( فيقول الله: لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك ).

أقوال الناس في الميزان

إذاً: هناك ميزان سيكون يوم القيامة، وقول الله جل وعلا: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ [الأنبياء:47]، لم أخبر بالجمع عن هذا الميزان؟ أرجح ما قيل في ذلك وما ذهب إليه ابن كثير قال: الميزان واحد توزن به أعمال الخليقة بأسرها من خير وشر، وجمعه الله باعتبار تعدد ما يوزن فيه، يوزن في هذا الميزان أعمال كثيرة وصحف، وطاعات متنوعة، ومعاصي مختلفة. ويرجح هذا القول الحديث المتقدم عن سلمان .

وقد ذهب بعض أهل السنة إلى أن الموازين متعددة، فميزان للصلاة، وميزان للصيام، وميزان للطاعات الأخرى، وهكذا موازين أخرى للمعاصي، ولا يوجد ما يدل على هذا إلا ظاهر اللفظ، وهو: (ونضع الموازين).

هذا الميزان ورد في أحاديث كثيرة تبين ما يوزن به، وأنه ميزان حسي حقيقي بالكيفية التي يعلمها الله ولا نعلمها، وسنراه ونوزن فيه وتوزن به أعمالنا وصحف أعمالنا كما سيأتينا.

جاء علماء الكلام أصحاب الهذيان وأتباع الشيطان فأولوه، وقالوا: لا يوجد هناك ميزان، وإنما الميزان يحتاج إليه البقال والفوال، فكيف يكون عند ذي العزة والجلال؟! أما يعلم حسنات الإنسان وسيئاته حتى يضع هذا في الميزان، ويحاسبه، ثم بعد ذلك إذا ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، وإذا خفت فأمه هاوية في نار جهنم؟! الله لا يحتاج إلى ميزان؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، فلا داعي إذاً لأن نقول: إنه يوجد ميزان.

حسناً: والنصوص الشرعية التي وردت في آيات القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف:8]، ماذا تقولون فيها؟ قالوا: هو كناية ورمز ومجاز عن العدل الذي يظهره الله بين عباده يوم القيامة. عدل الله هو الميزان، لا أنه يوجد ميزان حسي.

وهذا الحديث: (لو وزن فيه السموات والأرض لوسعت)، هل معناه العدل؟

إذاً: شيء محسوس يوضع ويوصف بأن له كفتين، ثم بعد ذلك توزن فيه أعمال وعمال وصحف الأعمال، أكل هذا تؤولونه وتخرجونه عن ظاهره بعقولكم القاصرة وأذهانكم الفاجرة؟! هذا هو مسلك الضالين، الذين أدخلوا عقولهم في عالم الغيب، وقالوا: الميزان كناية عن العدل، ولا يوجد وزن ولا ميزان، فكل هذا من باب التعبير عن عدل الحكيم الخبير سبحانه وتعالى.

الأدلة على إثبات أن الميزان حقيقي

إليكم إخوتي الكرام بعض النصوص التي تبين أن هذا الوزن حقيقي، وأن الميزان حسي بالكيفية التي يعلمها الله ولا نعلمها.

ولو قيل لك: هناك ميزان توزن به حرارة الإنسان. تقول: كيف توزن الحرارة؟ نضع هنا كيلو وخمسة كيلو هنا... كيف ستزنون حرارة الإنسان؟ إذا لم تره يلزم أن تنكره؟ أنت ما تفعل هذا إلا إذا كنت جاهلاً، إذا قلنا لك: هناك ميزان يوزن به ضغط الإنسان، فهل معنى هذا أن هذا كميزان الحرارة، أو كالميزان التي توزن به السلع؟

فهنا ميزان حقيقي حسي يعلمه الله بالكيفية التي خلقه الله جل وعلا عليها ونحن لا نعلم ذلك، وإذا صرنا إلى الآخرة سنشاهده بأعيننا، كما نشاهد هنا الموازين المختلفة في الدنيا بأعيننا ونراها ونحسها.

قال المعتزلة وعلماء الكلام: إن الأعمال أعراض، وعليه فالذنوب معاني وأعراض لا تقوم بنفسها، فكيف سيكون لها خروج من البدن؟ إنما هذا يكون للأجسام التي لها ثقل وجرم ووزن وحيز وتمسك وتلمس وترى. يقولون: أعراض، كيف ستوزن؟

نقول: الله جل وعلا إذا أراد أن يجسدها وكان لها عنده جل وعلا اعتبارات معينة ونحن ما أدركناها، هل يعني هذا أننا ننكرها؟

قد ثبت وزنها -أي: وزن الأعمال- عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فعلام فضول القول؟ وعلام التلاعب؟ وعلام التأويل؟ وعلام الاختلاف؟ وعلام يصار إلى القال والقيل؟

ثبت في المسند والصحيحين وسنن الترمذي وابن ماجه ، وهذا الحديث هو آخر حديث في صحيح البخاري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). إذاً: لهما ثقل، وترجحان ميزانك يوم القيامة، (ثقيلتان في الميزان)، ففيه إثبات الميزان والوزن، وفيه إثبات وزن أعمال الإنسان.

وثبت في مسند أحمد وصحيح مسلم ، وفي السنن الأربعة إلا أبا داود وفي مسند الدارمي ، وهو حديث صحيح من رواية أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الطهور شطر الإيمان).

وتقدم معنا الحديث؛ شرحه ومعناه في بيان هذه الجملة، وقلت: نتوسع إن شاء الله في مدارسة هذا عندما يأتينا الحديث في سنن الترمذي، فالإمام الترمذي أخرج هذا الحديث: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض)، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، (والحمد لله تملأ الميزان)، فالأعمال توزن، وليس الميزان والوزن فيه كناية عن عدل الرحمن، إنما من عدل الرحمن أنه هناك ميزان توزن فيه أعمال الإنسان.

والذي يوزن أيضاً صحف الأعمال، التي سطرتها الملائكة من خير أو شر، توزن عند الله جل وعلا بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، فينشر لك يوم القيامة ديوانك ويقال لك: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، عرض حقيقي ثم وزن حقيقي.

ثبت في مسند أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه ، ورواه الحاكم في مستدركه وهو حديث إسناده صحيح كالشمس، هذا الحديث هو حديث البطاقة المشهور، وهو من أحاديث الرجاء العظيمة، وقد رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق)، يصاح: ينادى به، (فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل كمد البصر من الخطايا، فيقول الله له: أتنكر هذا؟ يقول: لا، يا رب، فيقول الله له: أظلمتك الملائكة وقيدت عليك شيئاً لم تعمل؟ فيقول: لا يا رب، فيقول الله له: ألك حسنة؟)، هذه سجلات ممتلئة بالخطايا والبليات، هل عندك حسنة عملتها؟ (فيحتقر الإنسان نفسه ويقول: لا، يا رب ما عندي حسنة، فيقول الله له: بلى، إن لك عندنا حسنة، ولن تظلم، فيخرج الله له بطاقةً صغيرة كقطعة الورق التي تكتب للتعريف بنوع القماش وسعره، فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فيقول: رب! ماذا تغني هذه البطاقة مع هذه السجلات؟) تسعة وتسعون سجلاً كل واحد كمد البصر، وهذه بطاقة صغيرة، ماذا تغني هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ (فيقول الله له: احضر وزنك، هذا ميزان، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، احضر وزنك ولن تظلم، فترفع السجلات في كفة- هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام- وتوضع البطاقة في كفة، فتطيش تلك السجلات ولا يثقل شيء مع اسم الله جل وعلا).

إذاً: ذكر هنا ميزاناً له كفتان، وزنت فيه الحسنات والسيئات صحف الأعمال والسجلات، ووضعت هذه البطاقة، لكن هذه لها وزن كبير، ولا يقولن قائل: كيف هذا؟ يعني أن السجلات ينبغي أن يكون وزنها أكثر، فنقول: لا، هذا وزن أجر ووزر، فمثلاً لو أعطيتك مائة قطعة من فئة الريال، وقطعة واحدة من فئة خمسمائة ريال وقلت لك: أيهما أثقل؟ الجواب: الأوزن والأثقل هي القطعة الواحدة، مع أن تلك أكثر منها؛ لأنها مائة قطعة، فهذه لو ذهبت لميزان الصراف يقول: هذه جزء يسير من الخمسمائة لا تعدلها مع أنها في الظاهر أكثر منها، وهذا الميزان له مؤشر يعلمه الله جل وعلا ونحن لا نعلمه، وطاشت تلك السجلات، ولا يثقل شيء مع اسم رب الأرض والسموات سبحانه وتعالى.

قد يؤتى بالإنسان السمين الطويل ويزنون ضغطه ويقولون: ضغطه منخفض وصل إلى درجة لو قلنا مثلاً: مائة وعشرة على خمسين، ويؤتى بالإنسان الصغير فيقولون: ضغطه مثلاً مائة وخمسين على مائة مثلاً، فيقال: كيف هذا جرمه صغير وضغطه أكثر من هذا؟! الجواب: لأن هذا ميزان خاص، وكذلك يوم القيامة ليست المسألة لضخامة الجثة وكبر الجسم، وإنما ميزان له كيفية معينة يعلمها الله ولا نعلمها، فالعمال يوزنون.

وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤتى -وفي رواية- يجاء بالرجل السمين العظيم يوم القيامة، فيوضع في الميزان، فلا يزن عند الله جناح بعوضة)، قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105].

وثبت في مسند أحمد ومعجم الطبراني الكبير، وعند البزار في مسنده وابن سعد في الطبقات، وإسناد الحديث صحيح، من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أنه كان يجتني سواكاً من شجر الأراك، فلما رآه الصحابة رضوان الله عليهم ضحكوا لدقة ساقيه) يريد أن يقطع عوداً من شجر الأراك، فلعبت الريح بثوبه وبدت ساقان نحيفتان ضعيفتان، فضحك الصحابة، يعني: رجل لكن جثته صغيرة ضعيفة، (فقال النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة الكرام: علام تضحكون؟ والله إنهما لفي الميزان أثقل عند الله من جبل أحد)، هناك رجل سمين عظيم، ما وزن جناح بعوضة، وهنا ساقان نحيفتان ضعيفتان أثقل عند الله من جبل أحد.

فهذه كلها نصوص صريحة صحيحة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، غير الآيات القرآنية التي أثبتت الوزن والميزان، ثم جاء المعتزلة وأهل الكلام أصحاب الهذيان، وضربوا هذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية من أولها لآخرها بهذا التعليل العليل، وقالوا: إثبات الميزان يكون في حق من تخفى عليه العواقب، ولا يعلم حقيقة الأمر، فيحتاج إليه البقال والفوال والسمان والعطار، أما الله جل وعلا فلا يحتاج إلى ميزان، وتعليلهم مردود عليهم، عدا عن كونه خالف نصوص الشرع، وأخرجها عن ظاهرها، وأولها وتلاعب بها، فنقول: النصوص الشرعية دلت على إثبات الميزان فيجب الإيمان به، وكيف نؤمن به؟

الإيمان به إقرار وإمرار، فإذا أقررنا بالميزان، فلا يجوز أن نؤوله، أو أن نعطله، أو أن ننفيه، أو أن نرده، ولا يجوز أيضاً أن نتوهمه بكيفية من كيفياتنا؛ لأن هذا من عالم الغيب، والنص بذلك صحيح صريح، فاحترم عقلك وقف عند حدك.

الحكمة من خلق الله الميزان

فإن قيل: ما الحكمة منه؟

نقول: إذا أمكننا أن نقف على بيان الحكمة فهذا زيادة فطنة، وإذا لم ندرك بيان الحكمة، فلا يجوز أن نرد ما ورد به النص وندخل في عالم الغيب، وهنا حكم كثيرة معلومة أولها: امتحان الله لخلقه، هل سيؤمنون بعالم الغيب أم لا؟ هذه أول الحكمة، وهي التي كفر بها علماء الكلام وأنكروها، ولا يوجد إيمان أعظم وأفضل من الإيمان بالغيب، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3]، وأن تسلم بعجزك، فأنت ما أوتيت من العلم إلا قليلاً، فقف عند حدك، وإذا أردت أن تتطاول فهذا من علامة سفاهة الإنسان.

الحكمة الثانية: يجعل الله الميزان علامةً على تعريف العباد. بما يستحقونه يوم المعاد من جنة أو نار، من مثوبة أو عقوبة، من درجات أو دركات، فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، لذلك يقول الملك الموكل بالميزان: (إذا ثقلت موازين الإنسان سعد سعادةً لا يشقى بعدها أبداً، وإذا خفت الموازين يقول: شقي شقاوةً لا يسعد بعدها أبداً).

الحكمة الثالثة من وجود الميزان: إعلام الله لعباده بأنه عادل، فالله حكم عدل، فلا بد من أن يبين لهم هذا بأعينهم ليروه، ولذلك أهل النار عندما يلقون في النار لا أحد منهم يعترض على العزيز القهار، إنما يلوم نفسه فقط: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ [المؤمنون:106]، ينادون على أنفسهم بهذا، وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، لا أحد منهم يقول: ربنا ظلمتنا، جرت علينا، لا نستحق هذا؛ لأنهم شهدوا عرصات الموقف، ولذلك كل من يشهد الموقف من إنس وجن وبهائم، من مؤمن وكافر يحمد الله في نهاية الأمر، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]، ما سمى القائل لإفادة التعميم، أي: كل من حضر الموقف يحمد الله، ولذلك يتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ويتبرأ أيضاً الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ويتلاعنون في دركات النار.

الأمر الرابع من جملة الإقامة لإثبات الميزان ووجوده: إقامة الحجة على العباد على أتم وجه وأكمله، بعد أن أظهر الله عدله يقيم جل وعلا الحجة على عباده.

الحكمة الخامسة: تعليم الله لعباده كيفية المعاملة، إذا كان الله الذي لا تخفى عليه خافية يزن أعمالنا، ويبين ما نستحق عليها، فنحن ينبغي أن نتعامل أيضاً بالميزان والقسط، وألا يظلم بعضنا بعضاً، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى، كيف نتعامل في هذه الحياة؟ والأمور لا بد لها من ضبط وتحديد، وهكذا الذي يفعله ربنا المجيد.

حكم كثيرة، لو لم يظهر لنا شيء منها لما صح لنا أن نرد النصوص الشرعية التي وردت للميزان والوزن يوم القيامة، فكيف وهناك حكم كثيرة! ولذلك الذين أنكروا الميزان وأولوه وأخرجوه عن حقيقته، لا بالشرع آمنوا، ولا للعقل احترموا، فالعقل يقرر ويؤكد وجود الميزان، ويقول: إن العدل الإلهي يقتضي وجود الميزان يوم القيامة، فلم أنتم تجحدون بعقولكم، ثم تردون ما جاء به شرع ربكم سبحانه وتعالى؟! لا عندكم عقل صريح، ولا بعد ذلك تؤمنون بنقل صحيح، وتجمعون بين البليتين: رد للنقل، ومكابرة وجحد لحقائق العقل.

عالم الغيب ينبغي أن نقف فيه عند حدنا، ولا يجوز أن ندخل عقولنا فيه، بل إقرار وإمرار، ولذلك ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء. ورواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، ورواه أبو نعيم ، والبيهقي بإسناد صحيح. فالأسماء متفقة لكن الحقائق مختلفة، (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

الله جل وعلا أخبرنا في كتابه عن وجود الموازين يوم الدين، وقرر ربنا جل وعلا هذا في آيات كثيرة فقال: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، والآية في سورة الأنبياء.

وقال جل وعلا: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:6-11].

وأخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام عن وجود الميزان يوم القيامة، ففي مستدرك الحاكم في المجلد الرابع صفحة خمسمائة وست وثمانين، وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم ، وأقره عليه الذهبي من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السموات والأرض لوسع)، لو وضعت السموات والأرض في كفة الميزان لوسعت هذه الكفة السموات والأرض، ( فتقول الملائكة: سبحانك ربنا، من يزن هذا؟ ) من يستطيع أن يملأه بأعماله وله هذا الحجم الكبير، فالسموات والأرض تسعان في كفة؟ ( فيقول الله: لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك ).

إذاً: هناك ميزان سيكون يوم القيامة، وقول الله جل وعلا: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ [الأنبياء:47]، لم أخبر بالجمع عن هذا الميزان؟ أرجح ما قيل في ذلك وما ذهب إليه ابن كثير قال: الميزان واحد توزن به أعمال الخليقة بأسرها من خير وشر، وجمعه الله باعتبار تعدد ما يوزن فيه، يوزن في هذا الميزان أعمال كثيرة وصحف، وطاعات متنوعة، ومعاصي مختلفة. ويرجح هذا القول الحديث المتقدم عن سلمان .

وقد ذهب بعض أهل السنة إلى أن الموازين متعددة، فميزان للصلاة، وميزان للصيام، وميزان للطاعات الأخرى، وهكذا موازين أخرى للمعاصي، ولا يوجد ما يدل على هذا إلا ظاهر اللفظ، وهو: (ونضع الموازين).

هذا الميزان ورد في أحاديث كثيرة تبين ما يوزن به، وأنه ميزان حسي حقيقي بالكيفية التي يعلمها الله ولا نعلمها، وسنراه ونوزن فيه وتوزن به أعمالنا وصحف أعمالنا كما سيأتينا.

جاء علماء الكلام أصحاب الهذيان وأتباع الشيطان فأولوه، وقالوا: لا يوجد هناك ميزان، وإنما الميزان يحتاج إليه البقال والفوال، فكيف يكون عند ذي العزة والجلال؟! أما يعلم حسنات الإنسان وسيئاته حتى يضع هذا في الميزان، ويحاسبه، ثم بعد ذلك إذا ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، وإذا خفت فأمه هاوية في نار جهنم؟! الله لا يحتاج إلى ميزان؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، فلا داعي إذاً لأن نقول: إنه يوجد ميزان.

حسناً: والنصوص الشرعية التي وردت في آيات القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف:8]، ماذا تقولون فيها؟ قالوا: هو كناية ورمز ومجاز عن العدل الذي يظهره الله بين عباده يوم القيامة. عدل الله هو الميزان، لا أنه يوجد ميزان حسي.

وهذا الحديث: (لو وزن فيه السموات والأرض لوسعت)، هل معناه العدل؟

إذاً: شيء محسوس يوضع ويوصف بأن له كفتين، ثم بعد ذلك توزن فيه أعمال وعمال وصحف الأعمال، أكل هذا تؤولونه وتخرجونه عن ظاهره بعقولكم القاصرة وأذهانكم الفاجرة؟! هذا هو مسلك الضالين، الذين أدخلوا عقولهم في عالم الغيب، وقالوا: الميزان كناية عن العدل، ولا يوجد وزن ولا ميزان، فكل هذا من باب التعبير عن عدل الحكيم الخبير سبحانه وتعالى.

إليكم إخوتي الكرام بعض النصوص التي تبين أن هذا الوزن حقيقي، وأن الميزان حسي بالكيفية التي يعلمها الله ولا نعلمها.

ولو قيل لك: هناك ميزان توزن به حرارة الإنسان. تقول: كيف توزن الحرارة؟ نضع هنا كيلو وخمسة كيلو هنا... كيف ستزنون حرارة الإنسان؟ إذا لم تره يلزم أن تنكره؟ أنت ما تفعل هذا إلا إذا كنت جاهلاً، إذا قلنا لك: هناك ميزان يوزن به ضغط الإنسان، فهل معنى هذا أن هذا كميزان الحرارة، أو كالميزان التي توزن به السلع؟

فهنا ميزان حقيقي حسي يعلمه الله بالكيفية التي خلقه الله جل وعلا عليها ونحن لا نعلم ذلك، وإذا صرنا إلى الآخرة سنشاهده بأعيننا، كما نشاهد هنا الموازين المختلفة في الدنيا بأعيننا ونراها ونحسها.

قال المعتزلة وعلماء الكلام: إن الأعمال أعراض، وعليه فالذنوب معاني وأعراض لا تقوم بنفسها، فكيف سيكون لها خروج من البدن؟ إنما هذا يكون للأجسام التي لها ثقل وجرم ووزن وحيز وتمسك وتلمس وترى. يقولون: أعراض، كيف ستوزن؟

نقول: الله جل وعلا إذا أراد أن يجسدها وكان لها عنده جل وعلا اعتبارات معينة ونحن ما أدركناها، هل يعني هذا أننا ننكرها؟

قد ثبت وزنها -أي: وزن الأعمال- عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فعلام فضول القول؟ وعلام التلاعب؟ وعلام التأويل؟ وعلام الاختلاف؟ وعلام يصار إلى القال والقيل؟

ثبت في المسند والصحيحين وسنن الترمذي وابن ماجه ، وهذا الحديث هو آخر حديث في صحيح البخاري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). إذاً: لهما ثقل، وترجحان ميزانك يوم القيامة، (ثقيلتان في الميزان)، ففيه إثبات الميزان والوزن، وفيه إثبات وزن أعمال الإنسان.

وثبت في مسند أحمد وصحيح مسلم ، وفي السنن الأربعة إلا أبا داود وفي مسند الدارمي ، وهو حديث صحيح من رواية أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الطهور شطر الإيمان).

وتقدم معنا الحديث؛ شرحه ومعناه في بيان هذه الجملة، وقلت: نتوسع إن شاء الله في مدارسة هذا عندما يأتينا الحديث في سنن الترمذي، فالإمام الترمذي أخرج هذا الحديث: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض)، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، (والحمد لله تملأ الميزان)، فالأعمال توزن، وليس الميزان والوزن فيه كناية عن عدل الرحمن، إنما من عدل الرحمن أنه هناك ميزان توزن فيه أعمال الإنسان.

والذي يوزن أيضاً صحف الأعمال، التي سطرتها الملائكة من خير أو شر، توزن عند الله جل وعلا بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، فينشر لك يوم القيامة ديوانك ويقال لك: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، عرض حقيقي ثم وزن حقيقي.

ثبت في مسند أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه ، ورواه الحاكم في مستدركه وهو حديث إسناده صحيح كالشمس، هذا الحديث هو حديث البطاقة المشهور، وهو من أحاديث الرجاء العظيمة، وقد رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق)، يصاح: ينادى به، (فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل كمد البصر من الخطايا، فيقول الله له: أتنكر هذا؟ يقول: لا، يا رب، فيقول الله له: أظلمتك الملائكة وقيدت عليك شيئاً لم تعمل؟ فيقول: لا يا رب، فيقول الله له: ألك حسنة؟)، هذه سجلات ممتلئة بالخطايا والبليات، هل عندك حسنة عملتها؟ (فيحتقر الإنسان نفسه ويقول: لا، يا رب ما عندي حسنة، فيقول الله له: بلى، إن لك عندنا حسنة، ولن تظلم، فيخرج الله له بطاقةً صغيرة كقطعة الورق التي تكتب للتعريف بنوع القماش وسعره، فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فيقول: رب! ماذا تغني هذه البطاقة مع هذه السجلات؟) تسعة وتسعون سجلاً كل واحد كمد البصر، وهذه بطاقة صغيرة، ماذا تغني هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ (فيقول الله له: احضر وزنك، هذا ميزان، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، احضر وزنك ولن تظلم، فترفع السجلات في كفة- هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام- وتوضع البطاقة في كفة، فتطيش تلك السجلات ولا يثقل شيء مع اسم الله جل وعلا).

إذاً: ذكر هنا ميزاناً له كفتان، وزنت فيه الحسنات والسيئات صحف الأعمال والسجلات، ووضعت هذه البطاقة، لكن هذه لها وزن كبير، ولا يقولن قائل: كيف هذا؟ يعني أن السجلات ينبغي أن يكون وزنها أكثر، فنقول: لا، هذا وزن أجر ووزر، فمثلاً لو أعطيتك مائة قطعة من فئة الريال، وقطعة واحدة من فئة خمسمائة ريال وقلت لك: أيهما أثقل؟ الجواب: الأوزن والأثقل هي القطعة الواحدة، مع أن تلك أكثر منها؛ لأنها مائة قطعة، فهذه لو ذهبت لميزان الصراف يقول: هذه جزء يسير من الخمسمائة لا تعدلها مع أنها في الظاهر أكثر منها، وهذا الميزان له مؤشر يعلمه الله جل وعلا ونحن لا نعلمه، وطاشت تلك السجلات، ولا يثقل شيء مع اسم رب الأرض والسموات سبحانه وتعالى.

قد يؤتى بالإنسان السمين الطويل ويزنون ضغطه ويقولون: ضغطه منخفض وصل إلى درجة لو قلنا مثلاً: مائة وعشرة على خمسين، ويؤتى بالإنسان الصغير فيقولون: ضغطه مثلاً مائة وخمسين على مائة مثلاً، فيقال: كيف هذا جرمه صغير وضغطه أكثر من هذا؟! الجواب: لأن هذا ميزان خاص، وكذلك يوم القيامة ليست المسألة لضخامة الجثة وكبر الجسم، وإنما ميزان له كيفية معينة يعلمها الله ولا نعلمها، فالعمال يوزنون.

وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤتى -وفي رواية- يجاء بالرجل السمين العظيم يوم القيامة، فيوضع في الميزان، فلا يزن عند الله جناح بعوضة)، قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105].

وثبت في مسند أحمد ومعجم الطبراني الكبير، وعند البزار في مسنده وابن سعد في الطبقات، وإسناد الحديث صحيح، من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أنه كان يجتني سواكاً من شجر الأراك، فلما رآه الصحابة رضوان الله عليهم ضحكوا لدقة ساقيه) يريد أن يقطع عوداً من شجر الأراك، فلعبت الريح بثوبه وبدت ساقان نحيفتان ضعيفتان، فضحك الصحابة، يعني: رجل لكن جثته صغيرة ضعيفة، (فقال النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة الكرام: علام تضحكون؟ والله إنهما لفي الميزان أثقل عند الله من جبل أحد)، هناك رجل سمين عظيم، ما وزن جناح بعوضة، وهنا ساقان نحيفتان ضعيفتان أثقل عند الله من جبل أحد.

فهذه كلها نصوص صريحة صحيحة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، غير الآيات القرآنية التي أثبتت الوزن والميزان، ثم جاء المعتزلة وأهل الكلام أصحاب الهذيان، وضربوا هذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية من أولها لآخرها بهذا التعليل العليل، وقالوا: إثبات الميزان يكون في حق من تخفى عليه العواقب، ولا يعلم حقيقة الأمر، فيحتاج إليه البقال والفوال والسمان والعطار، أما الله جل وعلا فلا يحتاج إلى ميزان، وتعليلهم مردود عليهم، عدا عن كونه خالف نصوص الشرع، وأخرجها عن ظاهرها، وأولها وتلاعب بها، فنقول: النصوص الشرعية دلت على إثبات الميزان فيجب الإيمان به، وكيف نؤمن به؟

الإيمان به إقرار وإمرار، فإذا أقررنا بالميزان، فلا يجوز أن نؤوله، أو أن نعطله، أو أن ننفيه، أو أن نرده، ولا يجوز أيضاً أن نتوهمه بكيفية من كيفياتنا؛ لأن هذا من عالم الغيب، والنص بذلك صحيح صريح، فاحترم عقلك وقف عند حدك.

فإن قيل: ما الحكمة منه؟

نقول: إذا أمكننا أن نقف على بيان الحكمة فهذا زيادة فطنة، وإذا لم ندرك بيان الحكمة، فلا يجوز أن نرد ما ورد به النص وندخل في عالم الغيب، وهنا حكم كثيرة معلومة أولها: امتحان الله لخلقه، هل سيؤمنون بعالم الغيب أم لا؟ هذه أول الحكمة، وهي التي كفر بها علماء الكلام وأنكروها، ولا يوجد إيمان أعظم وأفضل من الإيمان بالغيب، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3]، وأن تسلم بعجزك، فأنت ما أوتيت من العلم إلا قليلاً، فقف عند حدك، وإذا أردت أن تتطاول فهذا من علامة سفاهة الإنسان.

الحكمة الثانية: يجعل الله الميزان علامةً على تعريف العباد. بما يستحقونه يوم المعاد من جنة أو نار، من مثوبة أو عقوبة، من درجات أو دركات، فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، لذلك يقول الملك الموكل بالميزان: (إذا ثقلت موازين الإنسان سعد سعادةً لا يشقى بعدها أبداً، وإذا خفت الموازين يقول: شقي شقاوةً لا يسعد بعدها أبداً).

الحكمة الثالثة من وجود الميزان: إعلام الله لعباده بأنه عادل، فالله حكم عدل، فلا بد من أن يبين لهم هذا بأعينهم ليروه، ولذلك أهل النار عندما يلقون في النار لا أحد منهم يعترض على العزيز القهار، إنما يلوم نفسه فقط: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ [المؤمنون:106]، ينادون على أنفسهم بهذا، وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، لا أحد منهم يقول: ربنا ظلمتنا، جرت علينا، لا نستحق هذا؛ لأنهم شهدوا عرصات الموقف، ولذلك كل من يشهد الموقف من إنس وجن وبهائم، من مؤمن وكافر يحمد الله في نهاية الأمر، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]، ما سمى القائل لإفادة التعميم، أي: كل من حضر الموقف يحمد الله، ولذلك يتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ويتبرأ أيضاً الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ويتلاعنون في دركات النار.

الأمر الرابع من جملة الإقامة لإثبات الميزان ووجوده: إقامة الحجة على العباد على أتم وجه وأكمله، بعد أن أظهر الله عدله يقيم جل وعلا الحجة على عباده.

الحكمة الخامسة: تعليم الله لعباده كيفية المعاملة، إذا كان الله الذي لا تخفى عليه خافية يزن أعمالنا، ويبين ما نستحق عليها، فنحن ينبغي أن نتعامل أيضاً بالميزان والقسط، وألا يظلم بعضنا بعضاً، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى، كيف نتعامل في هذه الحياة؟ والأمور لا بد لها من ضبط وتحديد، وهكذا الذي يفعله ربنا المجيد.

حكم كثيرة، لو لم يظهر لنا شيء منها لما صح لنا أن نرد النصوص الشرعية التي وردت للميزان والوزن يوم القيامة، فكيف وهناك حكم كثيرة! ولذلك الذين أنكروا الميزان وأولوه وأخرجوه عن حقيقته، لا بالشرع آمنوا، ولا للعقل احترموا، فالعقل يقرر ويؤكد وجود الميزان، ويقول: إن العدل الإلهي يقتضي وجود الميزان يوم القيامة، فلم أنتم تجحدون بعقولكم، ثم تردون ما جاء به شرع ربكم سبحانه وتعالى؟! لا عندكم عقل صريح، ولا بعد ذلك تؤمنون بنقل صحيح، وتجمعون بين البليتين: رد للنقل، ومكابرة وجحد لحقائق العقل.

عالم الغيب ينبغي أن نقف فيه عند حدنا، ولا يجوز أن ندخل عقولنا فيه، بل إقرار وإمرار، ولذلك ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء. ورواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، ورواه أبو نعيم ، والبيهقي بإسناد صحيح. فالأسماء متفقة لكن الحقائق مختلفة، (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3975 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3904 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3785 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3784 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3565 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3481 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3462 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3413 استماع