خطب ومحاضرات
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [5]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الرحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فكنا نتدارس الباب الثاني من أبواب الطهارة من كتاب جامع الإمام الترمذي عليه رحمة الله، وعنوان هذا الباب كما تقدم معنا: باب: ما جاء في فضل الطهور، ثم ساق الإمام الترمذي الحديث إلى أبي هريرة رضي الله عنه من طريق شيخيه: إسحاق بن موسى الأنصاري وقتيبة بن سعيد رضي الله عنهم أجمعين، عن أبي هريرة عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرجت كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب )، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.
وقد انتهينا من المبحث الأول المتعلق برجال الإسناد، وانتقلنا إلى دراسة المبحث الثاني المتعلق بفقه الحديث ومعناه.
وقلت: معنى الحديث يدور على أمرين اثنين:
الأمر الأول: أن الوضوء يكفر السيئات ويغفر الخطيئات ويمحو الزلات، وهذا الأمر لا بد له من تفصيل لنقف على حقيقة الأمر، والطاعات التي نقوم بها والسيئات التي تمحى بهذه الطاعات.
وأقول: إن مخالفة الإنسان لا تخرج عن نوعين اثنين:
إما أن تكون مخالفة مرتبطة بحق الله جل وعلا، كتقصير فيما بينه وبين ربه، وإما أن تكون هذه المخالفة متعلقة فيما بينه وبين العباد، وعليه لا تخرج الذنوب عن نوعين اثنين: ذنب بين الإنسان وبين خالقه، وذنب بين الإنسان وبين المخلوقين.
أما الذنوب التي بينك وبين ربك فتنقسم أيضاً إلى ثلاثة أقسام:
ذنب لا يغفر، وهو الشرك: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
وذنب دون الشرك وهو الكبائر، وتقدم معنا أنها كل ما فيه وعيد شديد في الآخرة، أو عقوبة مقدرة في الدنيا، والمعتمد في أمر هذه الذنوب أنه لا بد لمغفرتها من توبة صادقة بين العبد وبين ربه.
والنوع الثالث من الذنوب المتعلقة بين العبد وبين علام الغيوب: الصغائر.
وأما الذنوب التي بينك وبين العباد، أي: ذنب يقع منك نحو العباد، فهذه التبعات وحقوق العباد صغائر أو كبائر كلها لها حكم سيأتي الكلام عليها إن شاء الله.
ولا خلاف بين علماء الإسلام أن الوضوء يكفر الصغائر، والمراد بالصغائر تلك التي بينك وبين ربك جل وعلا، وأما ما يتعلق بينك وبين العباد فسيأتينا هذا في الحكم الثالث إن شاء الله فيما تكفره الطاعات من الخطيئات والسيئات.
فالصغائر التي بينك وبين ربك جل وعلا يكفرها الوضوء، ويزيلها ويمحوها بفضل الله ورحمته، ولا خلاف -كما قلت- بين أئمة الإسلام في هذه القضية، فإذا نظر الإنسان نظراً محرماً، ثم توضأ هذا الوضوء يغفر له ويكفر عنه تلك الخطيئة وتلك الزلة بفضل الله ورحمته، فالصغائر تغفر إذا اجتنبت الكبائر وإذا أتيت بالواجبات، كما قال الله جل وعلا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31].
وقد تقدم أن ( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر )، وفي رواية: ( ما لم تغش الكبائر ).
وقد قررت هذا وانتهينا منه.
انتقلنا بعد ذلك إلى النوع الثاني الذي لا يكفره الوضوء والطاعات ولا يغفره ولا يزيله، بل لا بد له من توبة نصوح ألا وهو الكبائر، وكنا نتدارس هذا، فقلت: عند جمهور أهل السنة، وهو القول الحق، وهذا هو قول جمهور علماء الإسلام أيضاً، أن الكبائر لا بد لها من توبة صادقة، وقد قررت هذا بأربعة أمور ذكرتها فيما مضى:
أولها: أن التوبة فريضة، فلا بد إذاً من القيام بها من نية وقصد، للتوبة من الكبائر، فلو كانت الكبائر تغفر من غير توبة لسقطت هذه الفريضة وما قام الإنسان بها.
الأمر الثاني: أخبر الله جل وعلا أن كل من لم يتب فهو ظالم، فلا بد إذاً من أن نتوب إلى علام الغيوب.
والأمر الثالث: لو كفرت الكبائر بالطاعات لما احتيج إلى التوبة إذاً، ولا داعي لذكرها لا في القرآن ولا في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، إذا كانت الكبائر تغفر بمجرد فعل الواجبات، فلا داعي إذاً لذكر التوبة ووجوبها وفضلها.
والأمر الرابع: أن هذا الباب يفتح علينا باب الإرجاء، وهو أن الذنوب تغفر بالطاعات؛ وعليه فلا داعي إذاً للتوبة، وأن كل خطيئة تزول عن الإنسان إذا فعل الواجبات، وهذا قول باطل كما تقدم، ولذلك لا بد للكبائر من توبة.
توجيه الأحاديث التي فيها الطاعات تكفر الكبائر والموبقات
فأجاب الإمام ابن رجب عليه رحمة الله وقال: كل الأحاديث التي وردت في ذلك، أي: ورد فيها أن تلك الطاعة قد تاب فاعلها إلى الله جل وعلا، فهو قد فعل كبيرة وتاب، ثم جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يسأله عن عمل صالح يفعله بعد توبته، فهو تائب ويريد أن يضم إلى التوبة عملاً صالحاً؛ لأن الله طلب منا بعد التوبة عملاً صالحاً ليكفر عنا أوزارنا السابقة، فقال جل وعلا: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:68-70]، فالذين جاءوا يسألون عن فعل الطاعات بعدما فعلوه من موبقات في العصر الأول؛ يسألون النبي عليه الصلاة والسلام، عن الطاعة التي ينبغي أن يفعلوها بعد توبتهم، فصدر منهم التوبة، لكن هذه التوبة صادقة نصوح، ويريدون أن يعقبوها بطاعة ليدللوا بها على صدقهم في توبتهم إلى ربهم عز وجل.
ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وإسناده صحيح، من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين قال: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً )، وفي رواية: ( إني أذنبت ذنباً كثيراً )، وفي رواية ابن حبان : ( إني أذنبت ذنباً كبيراً )، إذاً: عمل ذنباً عظيماً، وأذنب ذنباً كثيراً، وذنباً كبيراً، وكلها بمعنى واحد، وكأنه يقول: ذنوبي كثيرة عظيمة شنيعة وخيمة كبيرة، ( فهل لي من توبة؟ فقال له النبي عليه الصلاة والسلام )، مرشداً له إلى الطاعة، بعد أن جاء نادماً تائباً قد عمل الأوزار والذنوب، فقال: ( هل لك من أم؟ )، وفي بعض روايات الحديث: ( هل لك والدان؟ قلت: لا يا رسول الله! ) توفيت أمي ووالدي، وليس أحد من والدي حي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( هل لك خالة؟ ) وهي أخت الأم ( قلت: نعم، قال: اذهب فبرها )، إذاً: هو قد جاء تائباً نادماً على ما صدر منه، وإنما يريد أن يسأل عن طاعة يقوم بها بعد توبته، فليس بر الأبوين هو المكفر للكبائر، وليس الإحسان إلى الخالة مزيلاً للموبقات، إنما تاب وأناب، فأراد أن يفعل طاعة بعد تلك التوبة، فجاء سائلاً: بم تشير علي؟ بم تأمرني يا رسول الله؟ أي الطاعات أفعلها من أجل أن يذهب الأثر على وجه التمام والكمال؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم: إن كانت أمك حية فبرها، أو أحد أبويك حي فبره، وإلا فالخالة لأنها بمنزلة الأم، كما ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين وسنن الترمذي من حديث البراء بن عازب وغيره رضي الله عنهم أجمعين: ( الخالة بمنزلة الأم )، والمعنى: فإذا ما وجدت أحد أبويك حياً فبر خالتك التي تنزل منزلة الأم، ومثل هذا يقال في العم الذي ينزل منزلة الأب فهذا الرجل جاء تائباً نادماً وغاية ما يسأل عنه هو: ماذا سيفعله من الطاعات بعد توبته إلى رب الأرض والسماوات؟
والإمام ابن رجب يقول: الطاعات التي ورد أنها تكفر الموبقات هذه وردت في حق من جاء تائباً منيباً، يسأل عن طاعة يفعلها بعد توبته، ولا يسأل عن طاعة يفعلها من أجل أن تغفر كبيرته، وهو لم يقلع عنها ولم يتب منها ولم يندم عليها، بل المعصية قد أقلع عنها، وندم على فعلها، وعاهد الله أن لا يعود إليها، لكنه يريد أن يتبع توبته بطاعة يتقرب بها إلى الله يبرهن على صحة توبته، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( هل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: اذهب فبرها ).
المقاصة في حق من ترك الكبائر بدون توبة
إذاً: إذا تاب وأناب سأل عن طاعة لأجل أن يحقق برهان توبته، إذا لم يتب.
فيحصل عندنا حالتان: من أقلع عن الذنوب دون توبة، ويفعل الطاعات، لكنه يضم إليها السيئات والكبائر والموبقات، فهذا تجري المقاصة بين أعماله يوم القيامة، فالطاعات والسيئات سيقتص لبعضها من بعض، فالسيئة يحذف ما يعادلها ويقابلها ويساويها من طاعة، والله حكم عدل، وهو أعلم بما سيحاسب به عباده سبحانه وتعالى، تمحى طاعات مقابل سيئات، فإذا كانت السيئات أعظم دخل النار، وإن كانت الطاعات أكثر ولو بحسنة واحدة دخل الجنة، وقد قرر هذا نبينا صلى الله عليه وسلم.
ثبت في مستدرك الحاكم والحديث في الجزء الرابع صفحة (252)، ورواه الإمام البزار كما في مجمع الزوائد للهيثمي في الجزء العاشر صفحة (355)، وانظروه أيضاً في كشف الأستار عن زوائد مسند البزار للهيثمي أيضاً، غير أن مجمع الزوائد ليس خاصاً بزوائد البزار على الكتب الستة، بل هو شامل لزوائد البزار ولزوائد كتب أخرى معه، وهو كتاب نافع وحري بطلبة العلم أن يقتنوه، ولو خيروا بينه وبين وزنه ذهباً، أو بين وزن عشرة أمثاله ذهباً لآثروا هذا الكتاب، ورحمة الله على جامعه الإمام الهيثمي عليه رحمة الله، جمع زوائد ستة كتب على الكتب الستة التي سميناها الأصول: الصحيحان والسنن الأربعة، فالزوائد، أي: الأحاديث الزائدة على هذه الكتب الستة ضمها في مجمع الزوائد، لكن ليس الزوائد في كتب السنة كلها، وقد أخذ هذه الزوائد من ستة كتب هي: مسند الإمام أحمد ، ومعاجم الطبراني الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير، ومسند البزار ومسند أبي يعلى ، وأكبرها مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير، فهذه الكتب الستة وما فيها من أحاديث زائدة على الكتب الستة جمعها في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد؛ وعليه فلو اقتنيت الكتب الستة مع مجمع الزوائد، فقلّ أن يوجد حديث في غير هذه الكتب، وكأنك جمعت السنة بأسرها وأكملها المنقولة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وفي مجمع الزوائد حذف الإمام الهيثمي أسانيد الأحاديث واقتصر على ذكر الصحابي وفي الغالب يبين درجة الحديث في نهايته، وهذا أنفع لطالب العلم، أما في كشف الأستار فيذكر الإسناد ولا يتكلم على درجة الحديث، وقد ذكر فيه الأحاديث الزائدة عن مسند البزار .
انظروا الحديث كما قلت في المجمع في الجزء العاشر (355)، والحديث إسناده صحيح من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الروح الأمين حدثه )، يعني: أخبر جبريل أمين السماء.. أمين الأرض على نبينا وعلى ملائكة الله جميعاً صلوات الله وسلامه، أخبره بهذا الحديث فقال: إن الله قضى أن يؤتى بعمل العبد يوم القيامة، حسناته وسيئاته، هذا إذا لم يتب؛ فله موبقات ما تاب منها، فهو قد عمل الحسنات، لكن ما تاب من الموبقات، ثم أقلع عنها دون توبة، أو وهو مصر عليها، يفعلها باستمرار حتى مات: ( إن الله قضى أن يؤتى بعمل العبد يوم القيامة حسناته وسيئاته، فيقتص لبعضها من بعض، فإن بقيت له حسنة مقابل السيئات ذهبت حسناته، واقتص من حسناته مقابل سيئاته، فإن بقيت له حسنة واحدة وسع الله له في الجنة ما شاء )، أي: صار من أهل الجنة، ويدخله الله ويوسع له فيها ما يشاء بفضله ورحمته وواسع كرمه سبحانه وتعالى.
قال الحكم بن أبان أحد رواة الحديث: فأتيت أبا سلمة يزداد ويقال له: أزداد ، اختلف في صحبته هل هو صحابي أو تابعي؟ وهو من رجال سنن ابن ماجه ، يقول الحكم بن أبان : فأتيت أبا سلمة فقلت: فإن ذهبت الحسنة ولم يبق شيء؟ يعني: الذنوب كثيرة والحسنات جاءت واقتص الله للسيئات من الحسنات وفنيت الحسنات وما بقيت واحدة، فماذا يكون حاله؟ فتلا قول الله جل وعلا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16]، يعني: ما بقي إلا التعويل على رحمة الله، والله وعدنا أن يغفر ما عدا الشرك لمن يشاء سبحانه وتعالى، وإذا أطمعنا فسيحقق طمعنا، وإذا رجانا فسيحقق رجاءنا سبحانه وتعالى، فلذلك كان سلفنا يقولون كما ثبت هذا عن علي في سنن الترمذي وعن حفيده علي بن الحسين زين العابدين عليهم جميعاً رحمات رب العالمين، يقولون: هذه الآية أرجى آية في القرآن: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، ووجه ذلك أن الشرك لا يغفر، ونسأل الله أن يطهرنا من الشرك ظاهراً وباطناً إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وما عداه تحت المشيئة، إن عاقب الله عليه فعدل، وإن غفر ففضل، وإذا دارت أفعال الله بين العدل والفضل فالمرجح في كرمه الفضل، هو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين سبحانه وتعالى.
يضاف إلى هذا دلالة أخرى: أن الله عندما قال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116]، فتح باب الرجاء أمام العباد، فعلى كل واحد أن يحسن ظنه بربه، وأن الله سيغفر له يوم القيامة، والله عند حسن ظن عبده به، ( فليظن بي ما شاء )، وظننا بربنا أنه سيدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوه، فهو واسع الفضل والمغفرة، هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، فإذا أمّن الله العبد فحاشا لكرمه أن يخيب أمله به سبحانه وتعالى، وإذا قال لك كريم: إن خالفتني لأعاقبنك وقد أعفو عنك، وإذا خالفته وأراد أن يعاقبك، تقول: أين الكرم؟ أنت قلت: لأعاقبنك أو أعفو، أين الكرم؟ فإذا أخطأت في حقك فكرمك ينبغي أن يتجاوز عن خطيئتي، هذا في معاملة عبد مع عبد، فكيف برب العالمين، وأرحم الراحمين سبحانه وتعالى، وليغفرن الله يوم القيامة مغفرة لا تخطر على بال أحد سبحانه وتعالى.
فجاء الحكم بن أبان إلى أبي سلمة يزداد أو أزداد قال: إن فنيت هذه الحسنة ما بقي عند الإنسان ولا حسنة، لكنه موحد مؤمن بالله سبحانه وتعالى ماذا يكون حاله؟ فتلا قول الله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ [الأحقاف:16]، إذا لم يكن عنده حسنات يقتص منه مقابل سيئاته، يتقبل الله الحسنات ويعفو عن السيئات، فهو واسع الفضل والكرم والرحمة والجود سبحانه وتعالى، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16].
وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي ، والحديث رواه أبو داود وابن ماجه ، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، عن حريث بن قبيصة ، قال: قدمت المدينة على نبينا صلوات الله وسلامه، قدمت المدينة المنورة، فسألت الله أن يرزقني جليساً صالحاً حتى أنتفع به -وهنيئاً له على هذه الهمة وهذه النية الطيبة- فدخلت مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فجلست بجوار أبي هريرة رضي الله عنه، هذا العبد اليمني الصالح أحفظ الصحابة لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقلت: يا أبا هريرة ! قدمت المدينة على نبينا صلوات الله وسلامه، وسألت الله أن يرزقني جليساً صالحاً لعلي أنتفع به، فأريد أن تحدثني حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله ينفعني به، فقال: أجل سأحدثك، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن أول ما يحاسب العبد من عمله صلاته )، أول ما يحاسب عليه من عمله صلاته، ( فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضته شيئاً )، أي: الصلاة فيها نقص، وما حصل فيها التمام والكمال، ( قال الله جل وعلا: انظروا هل لعبدي من تطوع يكمل به ما انتقص من فريضته؟ هل له تطوع؟ ثم يكون سائر عمله على ذلك )، أي: أن الواجبات إذا حصل فيها نقص وتقصير يقول الله: هل عنده تطوع؟ ففي زكاته نقص، هل عنده صدقات وكرم وبر وإحسان ومساعدة لعباد الله؟ في صيامه نقص، هل عنده صوم النافلة؟ ولذلك بعض أوجه التفسير في قول الله الجليل: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، يقول أئمتنا الكرام، وهذا ينقله الواحدي عن جميع المفسرين، وهو أمر تحتمله الآية، وإن كانت تحتمل ما عداه من الأقوال المنقولة عن سلفنا الطيبين، يقول: قيام الليل لا يكون نافلة إلا في حق النبي عليه الصلاة والسلام فقط، وأما من عداه فهو عليه واجب؛ لأنه يكمل به فريضته، أما النبي عليه الصلاة والسلام هذا الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقيام الليل في حقه نافلة، أما من عداه فقيام الليل في حقه واجب فريضة، بل أن الله فرضه، بل هو نافلة، لكن بما أن فرائضك يحصل فيها خلل ونقص، فهذه النافلة التي هي في مشروعيتها نافلة سيكمل بها الفريضة، فصارت مكملة لواجب، وإذا كملت نوافلنا فرائضنا وواجباتنا فهنيئاً لنا، هذه سعادة لنا لا يعدلها سعادة، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفرائضه تقع على الوجه اللائق والمقبول، فبقيت النوافل، نوافل كاملة ما يكمل بها الفرض، وأما في حقنا فالأمر ليس كذلك، ونسأل الله أن يتوب علينا بفضله ورحمته، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
وهذا الحديث ورد في سنن أبي داود وابن ماجه عن تميم الداري ، وورد في مسند أبي يعلى عن أنس رضي الله عنهم أجمعين، بدءاً من رواية أبي هريرة وتميم أن الفريضة إذا انتقصت تكمل بالنافلة، وأن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله صلاته، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله، إن صلحت أفلح وأنجح، وإن فسدت خاب وخسر، لكن تأتي العناية الإلهية والفيوضات الربانية فيقول الله: إذا انتقصت هذه الفريضة انظروا: هل له من تطوع؟ فإذا كان عنده تطوع كمل بتطوعه فريضته التي حصل فيها نقص.
والشاهد أن المقاصة تقع، وتكمل الواجبات بالنوافل المستحبات، وتمحى حسنات مقابل سيئات كما تقدم معنا.
إذاً: إذا كان عنده ذنوب لم يتب منها، سواء أقلع عنها أو لم يقلع، ستقع المقاصة يوم القيامة، وهذا كله تحقيقاً لقول الله جل وعلا: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، وهذا هو المقرر عند أهل السنة الكرام؛ أن الكبائر لا بد لها من توبة ناصحة صادقة تامة مقبولة، لا بد لها من أجل أن تغفر له كبيرته، وقد دل على هذا أدلة كثيرة منها ما تقدم.
ومنها ما ذكره الإمام ابن رجب أيضاً في جامع العلوم والحكم من استشهاد للحديث الثابت في المسند والصحيحين، وهو في سنن الترمذي وابن ماجه والنسائي ، فهو في الكتب الستة، إلا سنن أبي داود من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: ( بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك )، قال الإمام ابن رجب : الذين بويعوا من الصحابة الكرام، وعلى رأسهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه، كانوا يقومون بالواجبات، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: إذا صدر منكم خطيئات موبقات كبائر، ثم أقيم عليكم الحد في الدنيا قد طهرتم، فالحدود مطهرة، وإذا لم تقم وما تبتم إلى الله فأمركم إلى الله، إن شاء عفا وإن شاء عاقب، وما قال: إن الكبائر ستكفر بالطاعات التي تقومون بها، فهؤلاء الصحابة الكرام الذين بويعوا هذه البيعة كانوا يقومون بالطاعات والواجبات، ومع ذلك قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: إذا صدر منكم زلل فهذا الزلل إن عوقبتم عليه في الدنيا كفارة، وإن تبتم إلى الله يغفر هذا الزلل، وإذا لم تتوبوا ولم يقم عليكم حدٌ في الدنيا فأمركم إلى الله إن شاء عفا عنكم، وإن شاء عاقبكم، قال: فبايعناه على ذلك.
الفرق بين الكبائر والصغائر في المقاصة من الحسنات
نقول: إن الطاعات تغفر الصغائر، أي: صغائر السيئات دون أن ينقص من أجرها شيء، فالوضوء طاعة، والصلاة طاعة، والصيام طاعة، والجمعة طاعة، وهذه تغفر السيئات، أي: الصغائر من السيئات دون أن ينقص من أجر الطاعة شيء، بخلاف الكبيرة، فهذه عندما تكفر بالطاعة يذهب أجر الطاعة، وهناك فارق، فإذا قال قائل: الكبيرة في نهاية الأمر ستكفر وتغفر وتزول بالطاعة، وقلتم: الصغيرة تزول بالطاعة، فما الفارق إذاً بين الأمرين؟
نقول: فارق كبير، هناك طاعة كفرت سيئة وبقي أجرها، وهنا طاعة كفرت سيئة، لكن ذهب أجرها كأنك لم تعملها، ومن ذهبت حسناته وما بقي منها إلا حسنة واحدة دخل الجنة ووسع الله له فيها ما شاء، وإلا أمره إلى الله، أما السيئات أعني الصغائر فهذه تغفر دون أن يذهب شيء من أجر الطاعة، وهذا الذي حققه الإمام ابن رجب عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.
ويدل على هذا ما ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ، والحديث رواه الترمذي والنسائي والإمام مالك في الموطأ عليهم جميعاً رحمة الله، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات )؟ إذاً: الخطايا تمحى، أي: الصغائر، لكن عندما تمحى ما ضاع أجر الطاعات، يرفع لك درجة بطاعاتك، فمحيت الخطيئات ورفع لك درجات، ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات )، أما لو كانت هذه الخطايا موبقات لذهبت الدرجات وذهبت الحسنات، وما حصلت منها فائدة، ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط.. فذلكم الرباط.. فذلكم الرباط )، أي: مرابطة في سبيل الله، وهو الرباط الأكبر، كما أن المرابطة على الثغور رباط أصغر، ومجاهدة النفس جهاد أكبر، ومجاهدة الأعداء جهاد أصغر، ونحن لا نهون من جهاد أعداء الله وقتالهم، ولكن لا يمكن أن تجاهدهم إلا إذا جاهدت نفسك، وأي قيمة لجهاد الأعداء إذا كنت على شاكلتهم، وليس بينك وبينهم فارق إلا بالاسم؟ كحال من يجاهدون في هذه الأيام وقبلها إلا من رحم ربك وقليل ما هم، كبعض أولئك المجاهدين الضالين في هذه الأيام، ممن يأمل من الله جل وعلا أن لا يأتي عيد الفطر إلا والمسلمون يصلون في المسجد الأقصى، والنصارى يصلون في كنائسهم، واليهود يصلون في بيعهم، فيصبح وحدة عامة بين المسلمين واليهود والنصارى، فهل هذه نهاية الجهاد الذي كنت تجاهد به؟! إذا ما جاهد الإنسان نفسه، فإنه يجاهد عدوه بعد ذلك من أجل أن يكون الدين كله لله، لا لليهودية ولا للنصرانية في ذلك شيء من الأمر، وهم أعداء الله لعنهم الله، وكل من يعقد بينهم صلة أو يركن إليهم فهو معهم ومنهم، لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51]، ولا يمكن أن نواليهم إلا إذا آمنوا أو كفرنا، أما أن تعقد ولاية بين مؤمن ونصراني، أو بين مؤمن ويهودي، فهذا لا يمكن أن يحصل إلا إذا وافقناهم في الحقيقة فكفرنا أو وافقونا فاهتدوا.
إذاً: لا بد من وعي أن من الرباط الأكبر: انتظار الصلاة بعد الصلاة، وذلك أن من وطن نفسه على العكوف في بيوت الله سيهون عليه أن يعكف ويرابط على الثغر بعد ذلك، فإن القلوب إذا ربيت على الرباط، وهكذا إذا جوهدت النفوس وزمت بزمام التقوى فيسهل عليها أن تجاهد أعداء الله، كمال أهل الصفة المرابطين المجاهدين، فإذا لزم بعد ذلك الجهاد الذي هو جهاد أصغر أعني: جهاد أعداء الله، فإنهم يحرصون سراعاً إلى لقاء أعداء الله، مستبشرين برضوان الله وجنته: ( فذلكم الرباط )، أي: هو الرباط الحقيقي، الرباط الكامل، الرباط الأكبر، الرباط التام؛ لأن جهاد النفس مدته طويلة لا ينفك عنك طرفة عين، وأما جهاد أعداء الله الرباط على الثغور فمدته قصيرة في أوقات دون أوقات، يعني: أن التركة ليست في الليل بل في النهار، تثبت فيها، ثم بعد ذلك تذهب إلى فراشك لتنام أو لتأكل، أما جهاد النفس فهو في حال الطاعة وفي حال النوم، وفي حال قضاء الحاجة، وفي جميع الأحوال لك ينبغي أن تجاهد نفسك وأن لا يدور في خلدك وفي ذهنك وتفكيرك إلا ما يرضي ربك سبحانه وتعالى، وينبغي لك أن تعلم أي شيء تفكر فيه هذه النفس، فإما أن تجول حول العرش، وإما أن تجول حول الحش.
والشاهد من هذا الحديث أن الله بهذه القربات يمحو الخطايا ويرفع الدرجات، فهنا طاعات مكفرة، لكنه ما ذهب من أجرها شيء، بل رفع لك بها الدرجات، ومحي عنك بها الخطيئات، فهي غنيمة، وهذا في حق الصغائر، أما لو كانت من الكبائر لذهب أثرها.
ومثل هذا ما ثبت في المسند والصحيحين، والحديث في سنن الترمذي وابن ماجه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )، وليس في هذه الرواية: ( يحيي ويميت )، وإذا أراد المرء بعد ذلك أن يزيد: ( يحيي ويميت ) فله ذلك، ولكن عليه يأتي بهذا المقدار وبهذه الصيغة: ( من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له -أي: تلك المقولة والجملة وهذه المائة- كانت له عدل عشر رقاب )، كمن أعتق عشرة رقاب في سبيل الله، ( وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكان في حرز من الشيطان )، وكانت له حرزاً من الشيطان، ( ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه ).
فهذه الطاعة الكبيرة العظيمة يعني: كلمة التوحيد، حصل بها الأجر، وكفر بها الوزر من الصغائر، وما ضاع شيء من أجرها، وعدلت بعشر رقاب، وكتب لك مائة حسنة، ومحي عنك مائة سيئة.
إذاً: حصل كتابة حسنات ومحو سيئات، وما ضاعت الحسنات ولا ضاع شيء منها، وأنت بعد ذلك في حرز من الشيطان، ولا يأتِ أحد بأفضل مما جئت به وعملته إلا من زاد عليك، فهنا طاعات غفرت وكفرت وأذهبت الخطئيات الصغائر من السيئات دون ذهاب شيء من أجرها، وهذا القول هو المقرر عند جمهور أهل السنة الكرام وعليه المذاهب الأربعة وغيرهم.
وهنا إشكال ذكره الإمام ابن رجب الحنبلي عليه رحمة الله في جامع العلوم والحكم فقال: فإن قيل: بم تجيبون عن الأحاديث التي ورد فيها أن الطاعات تغفر الكبائر والموبقات؟
فأجاب الإمام ابن رجب عليه رحمة الله وقال: كل الأحاديث التي وردت في ذلك، أي: ورد فيها أن تلك الطاعة قد تاب فاعلها إلى الله جل وعلا، فهو قد فعل كبيرة وتاب، ثم جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يسأله عن عمل صالح يفعله بعد توبته، فهو تائب ويريد أن يضم إلى التوبة عملاً صالحاً؛ لأن الله طلب منا بعد التوبة عملاً صالحاً ليكفر عنا أوزارنا السابقة، فقال جل وعلا: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:68-70]، فالذين جاءوا يسألون عن فعل الطاعات بعدما فعلوه من موبقات في العصر الأول؛ يسألون النبي عليه الصلاة والسلام، عن الطاعة التي ينبغي أن يفعلوها بعد توبتهم، فصدر منهم التوبة، لكن هذه التوبة صادقة نصوح، ويريدون أن يعقبوها بطاعة ليدللوا بها على صدقهم في توبتهم إلى ربهم عز وجل.
ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وإسناده صحيح، من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين قال: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً )، وفي رواية: ( إني أذنبت ذنباً كثيراً )، وفي رواية ابن حبان : ( إني أذنبت ذنباً كبيراً )، إذاً: عمل ذنباً عظيماً، وأذنب ذنباً كثيراً، وذنباً كبيراً، وكلها بمعنى واحد، وكأنه يقول: ذنوبي كثيرة عظيمة شنيعة وخيمة كبيرة، ( فهل لي من توبة؟ فقال له النبي عليه الصلاة والسلام )، مرشداً له إلى الطاعة، بعد أن جاء نادماً تائباً قد عمل الأوزار والذنوب، فقال: ( هل لك من أم؟ )، وفي بعض روايات الحديث: ( هل لك والدان؟ قلت: لا يا رسول الله! ) توفيت أمي ووالدي، وليس أحد من والدي حي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( هل لك خالة؟ ) وهي أخت الأم ( قلت: نعم، قال: اذهب فبرها )، إذاً: هو قد جاء تائباً نادماً على ما صدر منه، وإنما يريد أن يسأل عن طاعة يقوم بها بعد توبته، فليس بر الأبوين هو المكفر للكبائر، وليس الإحسان إلى الخالة مزيلاً للموبقات، إنما تاب وأناب، فأراد أن يفعل طاعة بعد تلك التوبة، فجاء سائلاً: بم تشير علي؟ بم تأمرني يا رسول الله؟ أي الطاعات أفعلها من أجل أن يذهب الأثر على وجه التمام والكمال؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم: إن كانت أمك حية فبرها، أو أحد أبويك حي فبره، وإلا فالخالة لأنها بمنزلة الأم، كما ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين وسنن الترمذي من حديث البراء بن عازب وغيره رضي الله عنهم أجمعين: ( الخالة بمنزلة الأم )، والمعنى: فإذا ما وجدت أحد أبويك حياً فبر خالتك التي تنزل منزلة الأم، ومثل هذا يقال في العم الذي ينزل منزلة الأب فهذا الرجل جاء تائباً نادماً وغاية ما يسأل عنه هو: ماذا سيفعله من الطاعات بعد توبته إلى رب الأرض والسماوات؟
والإمام ابن رجب يقول: الطاعات التي ورد أنها تكفر الموبقات هذه وردت في حق من جاء تائباً منيباً، يسأل عن طاعة يفعلها بعد توبته، ولا يسأل عن طاعة يفعلها من أجل أن تغفر كبيرته، وهو لم يقلع عنها ولم يتب منها ولم يندم عليها، بل المعصية قد أقلع عنها، وندم على فعلها، وعاهد الله أن لا يعود إليها، لكنه يريد أن يتبع توبته بطاعة يتقرب بها إلى الله يبرهن على صحة توبته، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( هل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: اذهب فبرها ).
قال الإمام ابن رجب : وأما من ترك المعاصي، يعني: الكبائر، من غير توبة، والتوبة لا تتحقق إلا بالإقلاع عن المعصية والندم والعزم أن لا يعود، فمن أقلع عن المعصية، لكنه ما ندم على فعلها، ولا عاهد الله على عدم العود إليها، بل ترك المعاصي من غير توبة، أو لم يتركها وهو مصر عليها، فقال الإمام ابن رجب في شأنه: يجري بين حسناته وسيئاته المقاصة يوم القيامة، فإن غلبت الحسنات فهنيئاً له ويكون من أهل الجنة، وإن غلبت السيئات فلا بد من دخوله النار لتطهيره من سيئاته وذنوبه وأوزاره إلا أن يغفر الله له.
إذاً: إذا تاب وأناب سأل عن طاعة لأجل أن يحقق برهان توبته، إذا لم يتب.
فيحصل عندنا حالتان: من أقلع عن الذنوب دون توبة، ويفعل الطاعات، لكنه يضم إليها السيئات والكبائر والموبقات، فهذا تجري المقاصة بين أعماله يوم القيامة، فالطاعات والسيئات سيقتص لبعضها من بعض، فالسيئة يحذف ما يعادلها ويقابلها ويساويها من طاعة، والله حكم عدل، وهو أعلم بما سيحاسب به عباده سبحانه وتعالى، تمحى طاعات مقابل سيئات، فإذا كانت السيئات أعظم دخل النار، وإن كانت الطاعات أكثر ولو بحسنة واحدة دخل الجنة، وقد قرر هذا نبينا صلى الله عليه وسلم.
ثبت في مستدرك الحاكم والحديث في الجزء الرابع صفحة (252)، ورواه الإمام البزار كما في مجمع الزوائد للهيثمي في الجزء العاشر صفحة (355)، وانظروه أيضاً في كشف الأستار عن زوائد مسند البزار للهيثمي أيضاً، غير أن مجمع الزوائد ليس خاصاً بزوائد البزار على الكتب الستة، بل هو شامل لزوائد البزار ولزوائد كتب أخرى معه، وهو كتاب نافع وحري بطلبة العلم أن يقتنوه، ولو خيروا بينه وبين وزنه ذهباً، أو بين وزن عشرة أمثاله ذهباً لآثروا هذا الكتاب، ورحمة الله على جامعه الإمام الهيثمي عليه رحمة الله، جمع زوائد ستة كتب على الكتب الستة التي سميناها الأصول: الصحيحان والسنن الأربعة، فالزوائد، أي: الأحاديث الزائدة على هذه الكتب الستة ضمها في مجمع الزوائد، لكن ليس الزوائد في كتب السنة كلها، وقد أخذ هذه الزوائد من ستة كتب هي: مسند الإمام أحمد ، ومعاجم الطبراني الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير، ومسند البزار ومسند أبي يعلى ، وأكبرها مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير، فهذه الكتب الستة وما فيها من أحاديث زائدة على الكتب الستة جمعها في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد؛ وعليه فلو اقتنيت الكتب الستة مع مجمع الزوائد، فقلّ أن يوجد حديث في غير هذه الكتب، وكأنك جمعت السنة بأسرها وأكملها المنقولة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وفي مجمع الزوائد حذف الإمام الهيثمي أسانيد الأحاديث واقتصر على ذكر الصحابي وفي الغالب يبين درجة الحديث في نهايته، وهذا أنفع لطالب العلم، أما في كشف الأستار فيذكر الإسناد ولا يتكلم على درجة الحديث، وقد ذكر فيه الأحاديث الزائدة عن مسند البزار .
انظروا الحديث كما قلت في المجمع في الجزء العاشر (355)، والحديث إسناده صحيح من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الروح الأمين حدثه )، يعني: أخبر جبريل أمين السماء.. أمين الأرض على نبينا وعلى ملائكة الله جميعاً صلوات الله وسلامه، أخبره بهذا الحديث فقال: إن الله قضى أن يؤتى بعمل العبد يوم القيامة، حسناته وسيئاته، هذا إذا لم يتب؛ فله موبقات ما تاب منها، فهو قد عمل الحسنات، لكن ما تاب من الموبقات، ثم أقلع عنها دون توبة، أو وهو مصر عليها، يفعلها باستمرار حتى مات: ( إن الله قضى أن يؤتى بعمل العبد يوم القيامة حسناته وسيئاته، فيقتص لبعضها من بعض، فإن بقيت له حسنة مقابل السيئات ذهبت حسناته، واقتص من حسناته مقابل سيئاته، فإن بقيت له حسنة واحدة وسع الله له في الجنة ما شاء )، أي: صار من أهل الجنة، ويدخله الله ويوسع له فيها ما يشاء بفضله ورحمته وواسع كرمه سبحانه وتعالى.
قال الحكم بن أبان أحد رواة الحديث: فأتيت أبا سلمة يزداد ويقال له: أزداد ، اختلف في صحبته هل هو صحابي أو تابعي؟ وهو من رجال سنن ابن ماجه ، يقول الحكم بن أبان : فأتيت أبا سلمة فقلت: فإن ذهبت الحسنة ولم يبق شيء؟ يعني: الذنوب كثيرة والحسنات جاءت واقتص الله للسيئات من الحسنات وفنيت الحسنات وما بقيت واحدة، فماذا يكون حاله؟ فتلا قول الله جل وعلا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16]، يعني: ما بقي إلا التعويل على رحمة الله، والله وعدنا أن يغفر ما عدا الشرك لمن يشاء سبحانه وتعالى، وإذا أطمعنا فسيحقق طمعنا، وإذا رجانا فسيحقق رجاءنا سبحانه وتعالى، فلذلك كان سلفنا يقولون كما ثبت هذا عن علي في سنن الترمذي وعن حفيده علي بن الحسين زين العابدين عليهم جميعاً رحمات رب العالمين، يقولون: هذه الآية أرجى آية في القرآن: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، ووجه ذلك أن الشرك لا يغفر، ونسأل الله أن يطهرنا من الشرك ظاهراً وباطناً إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وما عداه تحت المشيئة، إن عاقب الله عليه فعدل، وإن غفر ففضل، وإذا دارت أفعال الله بين العدل والفضل فالمرجح في كرمه الفضل، هو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين سبحانه وتعالى.
يضاف إلى هذا دلالة أخرى: أن الله عندما قال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116]، فتح باب الرجاء أمام العباد، فعلى كل واحد أن يحسن ظنه بربه، وأن الله سيغفر له يوم القيامة، والله عند حسن ظن عبده به، ( فليظن بي ما شاء )، وظننا بربنا أنه سيدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوه، فهو واسع الفضل والمغفرة، هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، فإذا أمّن الله العبد فحاشا لكرمه أن يخيب أمله به سبحانه وتعالى، وإذا قال لك كريم: إن خالفتني لأعاقبنك وقد أعفو عنك، وإذا خالفته وأراد أن يعاقبك، تقول: أين الكرم؟ أنت قلت: لأعاقبنك أو أعفو، أين الكرم؟ فإذا أخطأت في حقك فكرمك ينبغي أن يتجاوز عن خطيئتي، هذا في معاملة عبد مع عبد، فكيف برب العالمين، وأرحم الراحمين سبحانه وتعالى، وليغفرن الله يوم القيامة مغفرة لا تخطر على بال أحد سبحانه وتعالى.
فجاء الحكم بن أبان إلى أبي سلمة يزداد أو أزداد قال: إن فنيت هذه الحسنة ما بقي عند الإنسان ولا حسنة، لكنه موحد مؤمن بالله سبحانه وتعالى ماذا يكون حاله؟ فتلا قول الله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ [الأحقاف:16]، إذا لم يكن عنده حسنات يقتص منه مقابل سيئاته، يتقبل الله الحسنات ويعفو عن السيئات، فهو واسع الفضل والكرم والرحمة والجود سبحانه وتعالى، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16].
وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي ، والحديث رواه أبو داود وابن ماجه ، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، عن حريث بن قبيصة ، قال: قدمت المدينة على نبينا صلوات الله وسلامه، قدمت المدينة المنورة، فسألت الله أن يرزقني جليساً صالحاً حتى أنتفع به -وهنيئاً له على هذه الهمة وهذه النية الطيبة- فدخلت مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فجلست بجوار أبي هريرة رضي الله عنه، هذا العبد اليمني الصالح أحفظ الصحابة لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقلت: يا أبا هريرة ! قدمت المدينة على نبينا صلوات الله وسلامه، وسألت الله أن يرزقني جليساً صالحاً لعلي أنتفع به، فأريد أن تحدثني حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله ينفعني به، فقال: أجل سأحدثك، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن أول ما يحاسب العبد من عمله صلاته )، أول ما يحاسب عليه من عمله صلاته، ( فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضته شيئاً )، أي: الصلاة فيها نقص، وما حصل فيها التمام والكمال، ( قال الله جل وعلا: انظروا هل لعبدي من تطوع يكمل به ما انتقص من فريضته؟ هل له تطوع؟ ثم يكون سائر عمله على ذلك )، أي: أن الواجبات إذا حصل فيها نقص وتقصير يقول الله: هل عنده تطوع؟ ففي زكاته نقص، هل عنده صدقات وكرم وبر وإحسان ومساعدة لعباد الله؟ في صيامه نقص، هل عنده صوم النافلة؟ ولذلك بعض أوجه التفسير في قول الله الجليل: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، يقول أئمتنا الكرام، وهذا ينقله الواحدي عن جميع المفسرين، وهو أمر تحتمله الآية، وإن كانت تحتمل ما عداه من الأقوال المنقولة عن سلفنا الطيبين، يقول: قيام الليل لا يكون نافلة إلا في حق النبي عليه الصلاة والسلام فقط، وأما من عداه فهو عليه واجب؛ لأنه يكمل به فريضته، أما النبي عليه الصلاة والسلام هذا الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقيام الليل في حقه نافلة، أما من عداه فقيام الليل في حقه واجب فريضة، بل أن الله فرضه، بل هو نافلة، لكن بما أن فرائضك يحصل فيها خلل ونقص، فهذه النافلة التي هي في مشروعيتها نافلة سيكمل بها الفريضة، فصارت مكملة لواجب، وإذا كملت نوافلنا فرائضنا وواجباتنا فهنيئاً لنا، هذه سعادة لنا لا يعدلها سعادة، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفرائضه تقع على الوجه اللائق والمقبول، فبقيت النوافل، نوافل كاملة ما يكمل بها الفرض، وأما في حقنا فالأمر ليس كذلك، ونسأل الله أن يتوب علينا بفضله ورحمته، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
وهذا الحديث ورد في سنن أبي داود وابن ماجه عن تميم الداري ، وورد في مسند أبي يعلى عن أنس رضي الله عنهم أجمعين، بدءاً من رواية أبي هريرة وتميم أن الفريضة إذا انتقصت تكمل بالنافلة، وأن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله صلاته، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله، إن صلحت أفلح وأنجح، وإن فسدت خاب وخسر، لكن تأتي العناية الإلهية والفيوضات الربانية فيقول الله: إذا انتقصت هذه الفريضة انظروا: هل له من تطوع؟ فإذا كان عنده تطوع كمل بتطوعه فريضته التي حصل فيها نقص.
والشاهد أن المقاصة تقع، وتكمل الواجبات بالنوافل المستحبات، وتمحى حسنات مقابل سيئات كما تقدم معنا.
إذاً: إذا كان عنده ذنوب لم يتب منها، سواء أقلع عنها أو لم يقلع، ستقع المقاصة يوم القيامة، وهذا كله تحقيقاً لقول الله جل وعلا: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، وهذا هو المقرر عند أهل السنة الكرام؛ أن الكبائر لا بد لها من توبة ناصحة صادقة تامة مقبولة، لا بد لها من أجل أن تغفر له كبيرته، وقد دل على هذا أدلة كثيرة منها ما تقدم.
ومنها ما ذكره الإمام ابن رجب أيضاً في جامع العلوم والحكم من استشهاد للحديث الثابت في المسند والصحيحين، وهو في سنن الترمذي وابن ماجه والنسائي ، فهو في الكتب الستة، إلا سنن أبي داود من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: ( بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك )، قال الإمام ابن رجب : الذين بويعوا من الصحابة الكرام، وعلى رأسهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه، كانوا يقومون بالواجبات، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: إذا صدر منكم خطيئات موبقات كبائر، ثم أقيم عليكم الحد في الدنيا قد طهرتم، فالحدود مطهرة، وإذا لم تقم وما تبتم إلى الله فأمركم إلى الله، إن شاء عفا وإن شاء عاقب، وما قال: إن الكبائر ستكفر بالطاعات التي تقومون بها، فهؤلاء الصحابة الكرام الذين بويعوا هذه البيعة كانوا يقومون بالطاعات والواجبات، ومع ذلك قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: إذا صدر منكم زلل فهذا الزلل إن عوقبتم عليه في الدنيا كفارة، وإن تبتم إلى الله يغفر هذا الزلل، وإذا لم تتوبوا ولم يقم عليكم حدٌ في الدنيا فأمركم إلى الله إن شاء عفا عنكم، وإن شاء عاقبكم، قال: فبايعناه على ذلك.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] | 4045 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] | 3979 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] | 3906 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] | 3793 استماع |
شرح الترمذي - مقدمات [8] | 3787 استماع |
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] | 3771 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] | 3570 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] | 3486 استماع |
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] | 3465 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] | 3417 استماع |