شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس الباب الثاني من أبواب الطهارة من جامع الإمام الترمذي عليه رحمة الله: باب ما جاء في فضل الطهور.

روى الإمام الترمذي حديثاً في هذا الباب عن شيخيه: إسحاق بن موسى الأنصاري ، وقتيبة بن سعيد بسنده من هنا إلى أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئةٍ نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، وإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئةٍ بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب)، قال أبو عيسى : هذا حديثٌ حسنٌ صحيح.

وقد انتهينا من دراسة المبحث الأول المتعلق بإسناد الحديث، ومن دراسة المبحث الثاني المتعلق بمتن الحديث: بفقهه ومعناه، وسنتدارس إن شاء الله في هذه الليلة المباركة المبحثين الآخرين تتمة المباحث الأربعة فيما يتعلق بدرجة الحديث وتخريجه، وفيما يتعلق بتخريج الروايات التي أشار إليها الإمام الترمذي بقوله: وفي الباب عن فلانٍ وفلان.

أما المبحث الثالث المتعلق بدرجة هذا الحديث وتخريجه فقد قال أبو عيسى عليه رحمة الله: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح، والأمر كذلك إخوتي الكرام! كما تقدم معنا في دراسة الإسناد، فجميع رجال الإسناد أئمةٌ ثقاتٌ عدولٌ كرامٌ فحول، وكل واحدٍ وصف بصفةٍ أو صفتين من أوصاف التوثيق والتعديل ثقةٌ ثبت، ثقةٌ فاضل، إلا أحد الرواة الذين تقدم معنا ترجمتهم، وهو سهيل بن أبي صالح ، فقد نعته الحافظ بأنه صدوق. وقد أخرج حديثه الإمام البخاري تعليقاً ومقروناً، وأخرج حديثه الإمام مسلم في الصحيح وأهل السنن الأربعة، فحديثه مخرج إذاً عند جماعة أهل الكتب الستة. وأما من عدا هذا العالم الإمام الهمام فكلهم ثقاتٌ أثبات في أعلى درجات التوثيق والعدالة.

والحديث له طرقٌ كثيرة وشواهد وتيرة، وعليه فهو صحيحٌ كما قال أبو عيسى عليه رحمة الله: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح، وهو حديث مالك عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين.

وهذا الحديث قد أخرجه مالكٌ في موطئه أيضاً، والإمام الشافعي في مسنده، وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه، إذاً: أخرجه من أهل الكتب الستة اثنان: الإمام مسلم في صحيحه، والإمام الترمذي في سننه وجامعه، وهو -كما قلت- حديثٌ صحيح. ورواية الإمام مسلم فيها زيادة، وهذه الزيادة ضروريةٌ جداً، مما يدل على أن الحديث هنا فيه شيءٌ من الاختصار، والزيادة هي: (فإذا غسل رجليه خرجت من رجليه كل خطيئةٍ مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب)، والرواية التي هنا اقتصرت على ذكر الوجه وذكر اليدين، ولفظ الحديث عند مسلم: باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء.

وترجمة الأبواب ليست من عمل الإمام مسلم في صحيحه، إنما هي من عمل شراح صحيح مسلم، فالإمام مسلم ترجم فقط للكتب مثل: كتاب الطهارة، وكل بابٍ بعد ذلك في كتبه فهو من عمل الشراح ومن عمل شيخ الإسلام النووي ، وهكذا من شرح صحيح مسلم ، فقوله: باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء من عمل الشراح، وهو في كتاب الطهارة.

لفظ الحديث أيضاً من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن)، أيضاً على الشك هل نطق النبي عليه الصلاة والسلام بنعت الإسلام أو الإيمان شك الراوي، فحكاه حسبما علم لما لم يتأكد من أحد الصفتين رواه على الشك، (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن)، يعني: أحد اللفظين قاله النبي عليه الصلاة والسلام، وهما بمعنىً واحد، (فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئةٍ نظر إليها بعينيه مع الماء)، أيضاً الشك هنا موجود، (أو مع آخر قطر الماء)، يعني: أن هذه الخطايا تخرج مع ماء الوضوء، أو مع آخر قطرات الوضوء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئةٍ كانت بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، (فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب)، فأضاف في هذه الرواية ذكر الرجلين.

ورواية الإمام مالك في الموطأ كرواية الترمذي ، إنما رواية صحيح مسلم فيها زيادة ذكر الرجلين، ولو لم تذكر فهي معلومة، فإذا غسلت الخطايا من الوجه خرجت الخطايا من الوجه واليدين، فتخرج من بقية أعضاء الوضوء بفضل الله ورحمته، لكن هنا تنصيصٌ على ذلك، وستأتينا الروايات الأخرى التي أشار إليها الترمذي وفيها التنصيص على ذلك أيضاً بما هو أوضح وأكثر تفصيلاً.

إذاً: هذه الرواية في صحيح مسلم ، وموطأ الإمام مالك ، وأخرجها الترمذي ، ومعهم الإمام الشافعي في مسنده عليهم جميعاً رحمة الله، والرواية كما قلت: صحيحةٌ ثابتة عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

يتعلق معنا بهذا المبحث -قبل أن ننتقل إلى قول الإمام الترمذي : وفي الباب- اصطلاحٌ معين، وهو أول شيءٍ ورد معنا في هذا الكتاب (حسنٌ صحيح)، تقدم معنا في الباب الأول: (لا تقبل صلاةٌ بغير طهور)، حديث أبي هريرة رضي الله عنه، هناك نعت للصحة فقط، هذا أصح شيءٍ في هذا الباب وأثبت، فبينت هناك معنى الصحيح، وشروط الحديث ليكون صحيحاً، وأما هنا فقال: (حسنٌ صحيح)، وهذا يدعونا إلى أن نبين معنى الحسن، ثم ماذا يراد بالحسن الصحيح عندما يقترن هذان اللفظان.

ومعنى الحسن على انفراد؛ فكما تقدم معنا تعريف الصحيح أبين الآن معنى الحسن، ثم أبين اصطلاح أئمتنا في قولهم: هذا حسنٌ صحيح، وأجيب على سؤالٍ لبعض الإخوة وهو: هل إذا قيل: إسناده حسن صحيح، إسناده صحيح، رجاله ثقات، رجاله أثبات، هل يلزم من هذا صحة الحديث؟ يعني: صحة المتن. نتكلم على هذا في هذه الموعظة إن شاء الله.

أما الحديث الحسن فكثرت تعاريف أئمتنا له، وهي على كثرتها تنحصر في أمرين اثنين:

تعريف الترمذي للحديث الحسن

التعريف الأول: ذكره الإمام الترمذي عليه رحمة الله في آخر كتابه العلل، في الجزء الخامس من الطبعة التي بين يدي في صفحة ثمانٍ وخمسين وسبعمائة في المجلد الخامس، وكتاب العلل هو في آخر كتاب الجامع آخر سنن الترمذي ، ففي هذا المكان يقول الإمام الترمذي : وما ذكرنا في هذا الكتاب بقولنا: حديثٌ حسن، فإنما أردنا به حسناً إسناده عندنا، يعني على حسب اصطلاحهم، على حسب ما أصطلحه أنا -فانتبهوا لاصطلاحهم- وهو كل حديثٌ يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون شاذاً، ويروى من غير وجهٍ نحو ذاك.

إذاً: هذه ثلاثة حدود -انتبه لها- في تعريف الحسن عند الإمام الترمذي .

أولها: ألا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، أي: مستور، لكن ما وصل إلى درجة الاتهام بالكذب، أو فيه ضعف، أو في حفظه نقص، لكن لم يصل إلى درجة الاتهام بالكذب.

والثاني: ألا يكون شاذاً.

والثالث: أن يروى من غير وجهٍ نحو ذلك. أي: أن يوجد له متابعٌ أو شاهد، فهذه الاعتبارات الثلاثة تجعل الحديث حسناً عند الإمام الترمذي ، وعليه لو لم يرو من غير وجهٍ فهو ضعيف، وهذا التعريف خاصٌ بما يقول الإمام الترمذي فيه حسنٌ فقط دون صفةٍ أخرى، انتبه لهذا؛ لئلا تقع في إشكالاتٍ كثيرة، وإذا قال: حسنٌ صحيح فلا يقصد هذا الاصطلاح، إذا قال: حسنٌ غريب، -الغريب ما له طريقٌ واحد- فلا يقصد هذا الاصطلاح. وهذا الأمر الأول.

ومعنى ألا يكون شاذاً، تقدم معنا الشذوذ عند تعريف الحديث الصحيح، وقلنا: ألا يخالف الثقة من هو أوثق منه، إذا كان الراوي فيه ضعفٌ يسير فيشترط ألا يخالف الثقة؛ لأن مخالفته تلحق حديثه بدرجة الإنكار، ويكون منكراً مطروحاً. وهذا الأمر الثاني.

والأمر الثالث: أن يروى من غير وجهٍ نحو ذاك، إذا وجدت هذه الأمور في إسناد الحديث فهو حسن عند أبي عيسى محمد بن عيسى الإمام الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا. وهذا الكلام ذكره في كتاب العلل ونقله عنه أئمتنا. ومن العجيب الغريب قول شيخ الإسلام الإمام ابن كثير في كتابه الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث للإمام ابن الصلاح ، الباعث الحثيث في الأصل تأليف الشيخ أحمد شاكر ، إنما اختصار علوم الحديث للإمام ابن الصلاح ، لما جاء الإمام ابن كثير في اختصار علوم الحديث استغرب هذا الكلام الذي أضيف إلى الإمام الترمذي بعد أن نقله عن الإمام ابن الصلاح ، وأن تعريف الحسن عند الإمام الترمذي هو كذا.

قال ابن الصلاح : وروينا عن الترمذي أنه يريد بالحسن ألا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً، ويروى من غير وجهٍ نحو ذلك. انتبه هذا كلام الإمام ابن الصلاح في علوم الحديث فيما نقله عن الإمام الترمذي ، وهذا تعقيب الإمام ابن كثير يقول: إذا كان قد روي عن الترمذي أنه قاله ففي أي كتابٍ له قاله؟ وأين إسناده عنه؟ وإن كان فهم من اصطلاحه في كتابه الجامع فليس ذلك بصحيح، فإنه يقول في كثيرٍ من الأحاديث: هذا حديثٌ حسنٌ غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، إذاً: لم يرو من غير وجه.

وختم الإمام ابن كثير كلامه بهذه المقولة والتعليقة، وكما قلت: هذا كلام الإمام أبي عيسى عليه رحمة الله في كتابه، وقد علق شيخ الإسلام زين الدين عبد الرحيم الأثري العراقي في التقييد والإيضاح في شرح علوم الحديث لـابن الصلاح ، علق على هذه العبارة في صفحة خمسٍ وأربعين من التقييد والإيضاح فقال: وهذا الإنكار عجيب، فإنه في آخر العلل التي في آخر الجامع -انتبه لهذه التعليقة اللطيفة الظريفة- وهي أعني كتاب العلل داخلةٌ في سماعنا وسماع المنكر لذلك، وسماع الناس، يعني: الإمام ابن كثير إسناده إلى الإمام الترمذي عن طريق شيوخه، يوجد في إسناده عندما قرأ كتاب الجامع ومعه العلل تعريف الترمذي للحسن، وهذا موجود في إسناده عن شيوخه، لكن ذهل عنه، فكم من إنسانٍ يعلم شيئاً ثم يذهب عنه وينساه! وسيأتينا ضمن مباحث الحديث باب من حدث ثم نسي، حدث بشيءٍ ثم نسيه فكان يرويه عن الراوي عنه، يقول: حدثني فلانٌ عني، وهذا من عجائب الإنسان وضعفه، يقول: حدثني فلان عني، أنا حدثت لكن نسيت وهو ثقة، ولا أتهمه، وبما أنني نسيت فأنا أروي الحديث عنه عني، فأنا شيخه وأنا تلميذه في هذا الحديث.

وهنا يقول: كتاب العلل في آخر الجامع وهي داخلةٌ في سماعنا، وسماع المنكر لذلك، وسماع الناس، أي: الناس سمعوا، وهذا معلومٌ عندهم أن الإمام الترمذي يريد بالحسن ألا يكون في رجال الإسناد من يتهم بالكذب، وألا يكون الحديث شاذاً، وأن يروى من غير وجهٍ نحوه، فهذا موجودٌ في كتاب العلل في آخر الجامع، لكن سبحان من لا يعزب عنه مثقال ذرةٍ في السموات ولا في الأرض، هذا هو الله جل وعلا، ومن عداه بعد ذلك يغيب ويخفى عنه ما يحفظه، فضلاً عما لا يحفظه.

إذاً: هذا تعريف الإمام الترمذي للحسن، وكما قلت: هذا أحد نوعي الحسن، فانتبهوا له واضبطوه وعضوا عليه بالنواجذ.

خلاصة الكلام: أن الحديث في أصله شيءٌ من الضعف، ففيه راوٍ مستور، أو في حفظه نقص، لكن ما وصل الطعن لحد اتهامه بالكذب، فيه ضعفٌ يسير زال بمجيئه من طريقٍ آخر، أي: بوجود متابع للراوي عن شيخه، فإذا وجد متابع له، أي: هو نقل الحديث عن شيخ، ونقله معه واحدٌ آخر في درجته، فيتقوى الحديث، أو أن هذا الحديث الذي عن أبي هريرة وجد شاهدٌ له من حديث ابن عمر . والشاهد رواية صحابيٍ آخر، والمتابع أن يتابعه راوٍ آخر في الرواية عن هذا الشيخ، فإذاً لا يخشى من عدم ضبطه لنقص حفظه؛ لأنه مستور كما قلت: ليس يعني من الأئمة الثقات الأثبات الحفاظ المتقنين، إذا كان كذلك فالحديث سينزل، لكن لما وجد متابعٌ أو شاهد ارتقى الحديث إلى درجة الحسن، هذا تعريف الإمام الترمذي للحسن.

تعريف الخطابي للحديث الحسن

التعريف الثاني ذكره الإمام الخطابي عليهم جميعاً رحمة الله، وهو حمد بن محمد أبو سليمان الخطابي الذي توفي سنة ثمانٍ وثمانين وثلاثمائة، وهو أول من شرح السنة في كتابه معالم السنن في شرح سنن أبي داود ، ما بينه وبين صاحب السنن إلا راوٍ واحد، ويعتبر أول من شرح السنة، وكل من جاء بعده نقل عنه.

أبو سليمان الخطابي من أئمة الهدى والصلاح والخير والرشاد، يقول في تعريف الحديث الحسن: ما عرف مخرجه، واشتهرت رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء، قوله: (ما عرف مخرجه) يعني: إسناد رجاله، يعني عرفوا، لكن انتبه ماذا يقصد بالمعرفة، يقصد: معرفةً دون معرفة مخرج الحديث الصحيح، فأولئك أئمة جهابذة مشهورون، أما هنا فالمخرج معروف، وليس بمجهولٍ، وليس فيه انقطاع، وليس هناك إرسال، وليس هناك إعضال: وهو سقوط راويين. أي: المخرج معروف، لكن ليس كمعرفة الحديث الصحيح، ولذلك سيأتينا انتقادات وجهت لهذين الاصطلاحين، لكن بهذا التعليل بكلام أبي سليمان الخطابي يزول الانتقاد، ما عرف مخرجه معرفةً أقل من معرفة الحديث الصحيح فذاك كالقمر ليلة البدر، قال: (واشتهرت رجاله) أي: دون اشتهار رجال الحديث الصحيح، قال: (وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء).

هذان التعريفان للحديث الحسن كل واحدٍ منهما عرف أحد قسمي الحديث الحسن، أبو سليمان عرف الحديث الحسن لذاته، والترمذي عرف الحديث الحسن لغيره.

والحديث الحسن إما حسنٌ لذاته، وإما حسنٌ لغيره.

يقول الإمام ابن حجر عليه رحمة الله في نزهة النظر وشرحه نخبة الفكر في شرح نزهة النظر عند بحث الحديث الآحاد، يقول: وخبر الآحاد بنقل عدلٍ تام الضبط متصل السند، غير معللٍ ولا شاذ هو الصحيح لذاته. هذا وجدت فيه الصفات الخمس التي تقدمت معنا في الحديث الصحيح: عدل، تام الضبط، متصل السند، غير معلل ولا شاذ، وتتفاوت رتبه بتفاوت هذه الأوصاف فيه، قال: ومن أجل ذلك قدم الصحيحان ثم صحيح البخاري ثم صحيح مسلم ثم شرطهما كما تقدم معنا، يقول: فإن خف الضبط فالحسن لذاته، ولكثرة طرقه يصحح: يصبح صحيحاً، فإن جمعا -وهذا سيأتينا في المبحث الثاني- يعني: وصف الصحة والحسن، فلتردد في الناقل حيث التفرد، وإلا فباعتبار إسنادين. وهذا سأتكلم عليه في المرحلة الثانية إن شاء الله.

إذاً: هذان التعريفان للحديث الحسن كل واحدٍ عرف قسماً من قسمي الحسن، الترمذي عرف الحسن لغيره، وأبو سليمان الخطابي عرف الحسن لذاته.

تعريف ابن الجوزي للحديث الحسن

وأما ما قاله الإمام ابن الجوزي في أول كتابه الموضوعات أو العلل، وهو شيخ الإسلام، توفي سنة سبعٍ وسبعين وخمسمائةٍ للهجرة، فيقول: الحديث الحسن: ما فيه ضعفٌ قريبٌ محتمل، والعبارة الثانية: (ما فيه) يشمل قسمي الحديث الحسن؛ لأنه إذا خف الضبط فهو ضعيفٌ لكن هذا بالنسبة للحديث الصحيح، وإذا كان هناك ضعفٌ بحيث أن الراوي مستور أو في حفظه نقص، ففيه أيضاً ضعف لو كان على انفراد، هناك ضعف نسبي، يعني: هناك حسن لذاته لكن بالنسبة للصحيح يعتبر نازلاً، وأما إذا كان الضعف بأنه مستورٌ كما قلنا، أو فيه خطأ ووهمٌ كثير فما نزل عن درجة الحسن لذاته ففيه ضعف، لكن هذا الضعف يحتمل ويزول بتعدد الطرق، فتعريفه شاملٌ للحسن بقسميه: الحسن لذاته، والحسن لغيره، ما فيه ضعفٌ يسيرٌ محتمل ينطبق على الحديث الحسن، خف فيه الضبط فنقول: إذاً فيه ضعفٌ يسير، لكن ليس بضعفٍ في الحقيقة، إنما إذا قارنته بمن هو أضبط -بضبط الصحيح- فهو ضعيف، وعليه ما فيه ضعف يسيرٌ محتمل ينطبق على الحسن لذاته، وينطبق على الحسن لغيره، فالراوي فيه مستور، ضبطه ليس بضبطٍ خفيف بحيث يكون حديثه في درجة الحسن، إنما ضبطه ناقص، لكن وجد له متابعٌ أو شاهدٌ، فإذاً ضعفٌ يسير محتمل زال بوروده من طريقٍ آخر، فهو تعريفٌ للحديث الحسن لغيره.

فكلام ابن الجوزي شاملٌ لقسمي الحديث الحسن، شاملٌ للحسن الذي عرفه الترمذي ، وللحسن الذي عرفه الإمام الخطابي عليهم جميعاً رحمة الله. وهذا الكلام بهذه التفريعات والتقسيمات ذكره أئمتنا ونظموه في مصطلح الحديث، فاستمعوا إلى أبيات شيخ الإسلام الإمام العراقي في الألفية عندما يقول:

والحسن المعروف مخرجاً وقد اشتهرت رجاله بذاك حد

يعني: ضبط وعرف وبين، من عرفه؟ الخطابي ، بذاك حد، حمدٌ هو: حمد بن محمد أبو سليمان الخطابي .

والحسن المعروف مخرجاً وقد اشتهرت رجاله بذات حد

حمدٌ وقال الترمذي ما سلم من الشذوذ مع راوٍ ما اتهم

إذاً سلم من أمرين: من الشذوذ، ومن اتهام الراوي بالكذب.

وقال الترمذي ما سلم من الشذوذ مع راوٍ ما اتهم

بكذبٍ ولم يكن فرداً ورد قلت وقد حسَّن بعض ما انفرد

هذه الشروط الثلاثة: ولم يكن فرداً ورد، قلت: وقد حسن بعض ما انفرد، القائل ليس ابن الصلاح وإنما ناظم الألفية الإمام العراقي ، يقول: وقد حسن بعض ما انفرد، لكن هذا التحسين متى؟ إذا أتبعه بوصفٍ آخر، فلا يرد الاعتراض على الترمذي عندما يقول: حسنٌ غريب، ما عرف الحسن الآن على حسب اصطلاحه، إنما عرف الحسن على حسب اصطلاح الجمهور، أي: أنه خف ضبط الراوي، ولا يشترط أن يأتي من طريقٍ آخر، هذا حسن بذاته، فعندما يقول: حسنٌ غريب فهو يعرف الحسن عند الجمهور لا الحسن عنده، وهذا الاعتراض لا يرد عليه؛ لأن اصطلاحه فيما قال عنه حسنٌ فقط، كما حقق ذلك شيخ الإسلام الإمام ابن حجر في نزهة النظر شرح نخبة الفكر، هذا فيما يقول فيه: حسنٌ فقط، ينبغي أن يروى من غير وجهٍ نحو ذلك، أما حسنٌ غريب فهذا جرى على اصطلاح الجمهور في تعريف الحسن، الحسن الذي عرفه الترمذي اختص به، فنوه به لأنه اصطلاحٌ خاص به، فقال: انتبهوا له، هذا اصطلاحي، أما الحسن إذا أطلقته وأتبعته بوصفٍ آخر فلا أمشي على اصطلاحي، إنما هناك اصطلاحٌ آخر فانتبهوا له، قلت: وقد حسن بعض من انفرد، والتعريف الثالث للإمام ابن الجوزي :

وقيل ما ضعفٌ قريبٌ محتمل فيه وما بكل ذا حد حصل

انتقاد ابن الصلاح لتعاريف الحديث الحسن كما في ألفية العراقي

يقول الإمام ابن الصلاح الذي ينقل كلامه الإمام العراقي في الألفية: وما بكل ذا حدٍ حصل، يعني: هذه التعريفات الثلاثة كلها عليها اعتراضات، وليس واحدٌ منها حدَّ وعرَّف وقيَّد وضبط الحديث الحسن.

لا بكلام الخطابي ، ولا بكلام الترمذي ، ولا بكلام ابن الجوزي ، وبالبيان الذي ذكرته لكم حصلت حدودٌ وتعريفاتٍ للحديث الحسن بتعريفي لا يخرج الحسن عنهما، ولا يرد الاعتراض على حسب ما ذكرت.

ثم قال الإمام ابن الصلاح كما نقل كلامه الإمام العراقي في الألفية:

وقال بان لي فيه بإمعانِ النظر أنَّ له قسمين كلٌ قد ذكر

يقول: بان لي بعد إعمال فكري وتدقيق نظري في كلام أئمتنا في إطلاقهم لفظ الحسن على الحديث أن له قسمين كلٌ قد ذكر

فـالخطابي ذكر قسماً، والترمذي ذكر قسماً، وكلام ابن الجوزي شامل للقسمين:

أن له قسمين كلٌ قد ذكر

قسماً وزاد كونه ما عُلِّلا ولا بنكرٍ شذوذ شملا

ومن الذي زاد؟ ابن الصلاح في تعريف الحديث الحسن: ألا يكون شاذاً ولا معللاً بعلة قادحة، وهذا معلوم؛ لأن العلة التي توجد في الإسناد إذا كانت تقدح في الحديث الصحيح فهي تقدح في الحديث الحسن، كرفع الموقوف: الحديث موقوف ورفعه، أو وصل المنقطع، هذه علة قادحة للوهم، يرد هذا الحديث لوجود هذه العلة فيه، فلا يكون مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

والفقهاء كلهم يستعمله والعلماء الجُلُّ منهم يقبله

وهو بأقسام الصحيح ملحق

أي: يلتحق برتبة الحديث الصحيح فيحتج به.

حجية وإن يكن لا يلحق

يعني: لا يلحقه في الرتبة ويساويه، فهو دونه، لكن في الاحتجاج يحتج به كما يحتج بالحديث الصحيح.

وهذه خلاصة تعريف الحديث الحسن.

الإمام الترمذي عرف الحسن لغيره، والإمام الخطابي عرف الحسن لذاته، وكلام ابن الجوزي شامل لهما، وإنما خصّ الإمام الترمذي تعريف الحسن؛ لأنه بالتعريف الذي ذكره فيه شيءٌ من الغموض، فأراد أن يبينه، ثم بعد ذلك هذا اصطلاحٌ جديد، أول من نوه بالحديث الحسن وأكثر من استعماله في كتابه هو الإمام أبو عيسى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

هذا فيما يتعلق بالنقطة الأولى والأمر الأول، وهو ما يتعلق بالحديث الحسن، وعليه إذا أردنا أن نفرق بينه وبين الحديث الصحيح، فنقول: شروط الحديث الصحيح خمسة: أن يكون الرواة عدولاً، وضبطهم تام، والسند متصل، ولا يوجد شذوذٌ ولا علةٌ قادحة، والحديث الحسن لذاته شروطه نفس الشروط إنما نضع بدل تمام الضبط خفة الضبط، والحسن لغيره ليس راويه عدلاً تام الضبط، فيه شيءٌ من الضعف، هو مستور ليس بتام الضبط ولا بخفيف الضبط، ضبطه ناقص، ولا يمكن أن يحسن حديثه على انفراده، لكن هذا النقص انجبر بوروده من طريقٍ آخر.

التعريف الأول: ذكره الإمام الترمذي عليه رحمة الله في آخر كتابه العلل، في الجزء الخامس من الطبعة التي بين يدي في صفحة ثمانٍ وخمسين وسبعمائة في المجلد الخامس، وكتاب العلل هو في آخر كتاب الجامع آخر سنن الترمذي ، ففي هذا المكان يقول الإمام الترمذي : وما ذكرنا في هذا الكتاب بقولنا: حديثٌ حسن، فإنما أردنا به حسناً إسناده عندنا، يعني على حسب اصطلاحهم، على حسب ما أصطلحه أنا -فانتبهوا لاصطلاحهم- وهو كل حديثٌ يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون شاذاً، ويروى من غير وجهٍ نحو ذاك.

إذاً: هذه ثلاثة حدود -انتبه لها- في تعريف الحسن عند الإمام الترمذي .

أولها: ألا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، أي: مستور، لكن ما وصل إلى درجة الاتهام بالكذب، أو فيه ضعف، أو في حفظه نقص، لكن لم يصل إلى درجة الاتهام بالكذب.

والثاني: ألا يكون شاذاً.

والثالث: أن يروى من غير وجهٍ نحو ذلك. أي: أن يوجد له متابعٌ أو شاهد، فهذه الاعتبارات الثلاثة تجعل الحديث حسناً عند الإمام الترمذي ، وعليه لو لم يرو من غير وجهٍ فهو ضعيف، وهذا التعريف خاصٌ بما يقول الإمام الترمذي فيه حسنٌ فقط دون صفةٍ أخرى، انتبه لهذا؛ لئلا تقع في إشكالاتٍ كثيرة، وإذا قال: حسنٌ صحيح فلا يقصد هذا الاصطلاح، إذا قال: حسنٌ غريب، -الغريب ما له طريقٌ واحد- فلا يقصد هذا الاصطلاح. وهذا الأمر الأول.

ومعنى ألا يكون شاذاً، تقدم معنا الشذوذ عند تعريف الحديث الصحيح، وقلنا: ألا يخالف الثقة من هو أوثق منه، إذا كان الراوي فيه ضعفٌ يسير فيشترط ألا يخالف الثقة؛ لأن مخالفته تلحق حديثه بدرجة الإنكار، ويكون منكراً مطروحاً. وهذا الأمر الثاني.

والأمر الثالث: أن يروى من غير وجهٍ نحو ذاك، إذا وجدت هذه الأمور في إسناد الحديث فهو حسن عند أبي عيسى محمد بن عيسى الإمام الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا. وهذا الكلام ذكره في كتاب العلل ونقله عنه أئمتنا. ومن العجيب الغريب قول شيخ الإسلام الإمام ابن كثير في كتابه الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث للإمام ابن الصلاح ، الباعث الحثيث في الأصل تأليف الشيخ أحمد شاكر ، إنما اختصار علوم الحديث للإمام ابن الصلاح ، لما جاء الإمام ابن كثير في اختصار علوم الحديث استغرب هذا الكلام الذي أضيف إلى الإمام الترمذي بعد أن نقله عن الإمام ابن الصلاح ، وأن تعريف الحسن عند الإمام الترمذي هو كذا.

قال ابن الصلاح : وروينا عن الترمذي أنه يريد بالحسن ألا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً، ويروى من غير وجهٍ نحو ذلك. انتبه هذا كلام الإمام ابن الصلاح في علوم الحديث فيما نقله عن الإمام الترمذي ، وهذا تعقيب الإمام ابن كثير يقول: إذا كان قد روي عن الترمذي أنه قاله ففي أي كتابٍ له قاله؟ وأين إسناده عنه؟ وإن كان فهم من اصطلاحه في كتابه الجامع فليس ذلك بصحيح، فإنه يقول في كثيرٍ من الأحاديث: هذا حديثٌ حسنٌ غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، إذاً: لم يرو من غير وجه.

وختم الإمام ابن كثير كلامه بهذه المقولة والتعليقة، وكما قلت: هذا كلام الإمام أبي عيسى عليه رحمة الله في كتابه، وقد علق شيخ الإسلام زين الدين عبد الرحيم الأثري العراقي في التقييد والإيضاح في شرح علوم الحديث لـابن الصلاح ، علق على هذه العبارة في صفحة خمسٍ وأربعين من التقييد والإيضاح فقال: وهذا الإنكار عجيب، فإنه في آخر العلل التي في آخر الجامع -انتبه لهذه التعليقة اللطيفة الظريفة- وهي أعني كتاب العلل داخلةٌ في سماعنا وسماع المنكر لذلك، وسماع الناس، يعني: الإمام ابن كثير إسناده إلى الإمام الترمذي عن طريق شيوخه، يوجد في إسناده عندما قرأ كتاب الجامع ومعه العلل تعريف الترمذي للحسن، وهذا موجود في إسناده عن شيوخه، لكن ذهل عنه، فكم من إنسانٍ يعلم شيئاً ثم يذهب عنه وينساه! وسيأتينا ضمن مباحث الحديث باب من حدث ثم نسي، حدث بشيءٍ ثم نسيه فكان يرويه عن الراوي عنه، يقول: حدثني فلانٌ عني، وهذا من عجائب الإنسان وضعفه، يقول: حدثني فلان عني، أنا حدثت لكن نسيت وهو ثقة، ولا أتهمه، وبما أنني نسيت فأنا أروي الحديث عنه عني، فأنا شيخه وأنا تلميذه في هذا الحديث.

وهنا يقول: كتاب العلل في آخر الجامع وهي داخلةٌ في سماعنا، وسماع المنكر لذلك، وسماع الناس، أي: الناس سمعوا، وهذا معلومٌ عندهم أن الإمام الترمذي يريد بالحسن ألا يكون في رجال الإسناد من يتهم بالكذب، وألا يكون الحديث شاذاً، وأن يروى من غير وجهٍ نحوه، فهذا موجودٌ في كتاب العلل في آخر الجامع، لكن سبحان من لا يعزب عنه مثقال ذرةٍ في السموات ولا في الأرض، هذا هو الله جل وعلا، ومن عداه بعد ذلك يغيب ويخفى عنه ما يحفظه، فضلاً عما لا يحفظه.

إذاً: هذا تعريف الإمام الترمذي للحسن، وكما قلت: هذا أحد نوعي الحسن، فانتبهوا له واضبطوه وعضوا عليه بالنواجذ.

خلاصة الكلام: أن الحديث في أصله شيءٌ من الضعف، ففيه راوٍ مستور، أو في حفظه نقص، لكن ما وصل الطعن لحد اتهامه بالكذب، فيه ضعفٌ يسير زال بمجيئه من طريقٍ آخر، أي: بوجود متابع للراوي عن شيخه، فإذا وجد متابع له، أي: هو نقل الحديث عن شيخ، ونقله معه واحدٌ آخر في درجته، فيتقوى الحديث، أو أن هذا الحديث الذي عن أبي هريرة وجد شاهدٌ له من حديث ابن عمر . والشاهد رواية صحابيٍ آخر، والمتابع أن يتابعه راوٍ آخر في الرواية عن هذا الشيخ، فإذاً لا يخشى من عدم ضبطه لنقص حفظه؛ لأنه مستور كما قلت: ليس يعني من الأئمة الثقات الأثبات الحفاظ المتقنين، إذا كان كذلك فالحديث سينزل، لكن لما وجد متابعٌ أو شاهد ارتقى الحديث إلى درجة الحسن، هذا تعريف الإمام الترمذي للحسن.

التعريف الثاني ذكره الإمام الخطابي عليهم جميعاً رحمة الله، وهو حمد بن محمد أبو سليمان الخطابي الذي توفي سنة ثمانٍ وثمانين وثلاثمائة، وهو أول من شرح السنة في كتابه معالم السنن في شرح سنن أبي داود ، ما بينه وبين صاحب السنن إلا راوٍ واحد، ويعتبر أول من شرح السنة، وكل من جاء بعده نقل عنه.

أبو سليمان الخطابي من أئمة الهدى والصلاح والخير والرشاد، يقول في تعريف الحديث الحسن: ما عرف مخرجه، واشتهرت رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء، قوله: (ما عرف مخرجه) يعني: إسناد رجاله، يعني عرفوا، لكن انتبه ماذا يقصد بالمعرفة، يقصد: معرفةً دون معرفة مخرج الحديث الصحيح، فأولئك أئمة جهابذة مشهورون، أما هنا فالمخرج معروف، وليس بمجهولٍ، وليس فيه انقطاع، وليس هناك إرسال، وليس هناك إعضال: وهو سقوط راويين. أي: المخرج معروف، لكن ليس كمعرفة الحديث الصحيح، ولذلك سيأتينا انتقادات وجهت لهذين الاصطلاحين، لكن بهذا التعليل بكلام أبي سليمان الخطابي يزول الانتقاد، ما عرف مخرجه معرفةً أقل من معرفة الحديث الصحيح فذاك كالقمر ليلة البدر، قال: (واشتهرت رجاله) أي: دون اشتهار رجال الحديث الصحيح، قال: (وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء).

هذان التعريفان للحديث الحسن كل واحدٍ منهما عرف أحد قسمي الحديث الحسن، أبو سليمان عرف الحديث الحسن لذاته، والترمذي عرف الحديث الحسن لغيره.

والحديث الحسن إما حسنٌ لذاته، وإما حسنٌ لغيره.

يقول الإمام ابن حجر عليه رحمة الله في نزهة النظر وشرحه نخبة الفكر في شرح نزهة النظر عند بحث الحديث الآحاد، يقول: وخبر الآحاد بنقل عدلٍ تام الضبط متصل السند، غير معللٍ ولا شاذ هو الصحيح لذاته. هذا وجدت فيه الصفات الخمس التي تقدمت معنا في الحديث الصحيح: عدل، تام الضبط، متصل السند، غير معلل ولا شاذ، وتتفاوت رتبه بتفاوت هذه الأوصاف فيه، قال: ومن أجل ذلك قدم الصحيحان ثم صحيح البخاري ثم صحيح مسلم ثم شرطهما كما تقدم معنا، يقول: فإن خف الضبط فالحسن لذاته، ولكثرة طرقه يصحح: يصبح صحيحاً، فإن جمعا -وهذا سيأتينا في المبحث الثاني- يعني: وصف الصحة والحسن، فلتردد في الناقل حيث التفرد، وإلا فباعتبار إسنادين. وهذا سأتكلم عليه في المرحلة الثانية إن شاء الله.

إذاً: هذان التعريفان للحديث الحسن كل واحدٍ عرف قسماً من قسمي الحسن، الترمذي عرف الحسن لغيره، وأبو سليمان الخطابي عرف الحسن لذاته.

وأما ما قاله الإمام ابن الجوزي في أول كتابه الموضوعات أو العلل، وهو شيخ الإسلام، توفي سنة سبعٍ وسبعين وخمسمائةٍ للهجرة، فيقول: الحديث الحسن: ما فيه ضعفٌ قريبٌ محتمل، والعبارة الثانية: (ما فيه) يشمل قسمي الحديث الحسن؛ لأنه إذا خف الضبط فهو ضعيفٌ لكن هذا بالنسبة للحديث الصحيح، وإذا كان هناك ضعفٌ بحيث أن الراوي مستور أو في حفظه نقص، ففيه أيضاً ضعف لو كان على انفراد، هناك ضعف نسبي، يعني: هناك حسن لذاته لكن بالنسبة للصحيح يعتبر نازلاً، وأما إذا كان الضعف بأنه مستورٌ كما قلنا، أو فيه خطأ ووهمٌ كثير فما نزل عن درجة الحسن لذاته ففيه ضعف، لكن هذا الضعف يحتمل ويزول بتعدد الطرق، فتعريفه شاملٌ للحسن بقسميه: الحسن لذاته، والحسن لغيره، ما فيه ضعفٌ يسيرٌ محتمل ينطبق على الحديث الحسن، خف فيه الضبط فنقول: إذاً فيه ضعفٌ يسير، لكن ليس بضعفٍ في الحقيقة، إنما إذا قارنته بمن هو أضبط -بضبط الصحيح- فهو ضعيف، وعليه ما فيه ضعف يسيرٌ محتمل ينطبق على الحسن لذاته، وينطبق على الحسن لغيره، فالراوي فيه مستور، ضبطه ليس بضبطٍ خفيف بحيث يكون حديثه في درجة الحسن، إنما ضبطه ناقص، لكن وجد له متابعٌ أو شاهدٌ، فإذاً ضعفٌ يسير محتمل زال بوروده من طريقٍ آخر، فهو تعريفٌ للحديث الحسن لغيره.

فكلام ابن الجوزي شاملٌ لقسمي الحديث الحسن، شاملٌ للحسن الذي عرفه الترمذي ، وللحسن الذي عرفه الإمام الخطابي عليهم جميعاً رحمة الله. وهذا الكلام بهذه التفريعات والتقسيمات ذكره أئمتنا ونظموه في مصطلح الحديث، فاستمعوا إلى أبيات شيخ الإسلام الإمام العراقي في الألفية عندما يقول:

والحسن المعروف مخرجاً وقد اشتهرت رجاله بذاك حد

يعني: ضبط وعرف وبين، من عرفه؟ الخطابي ، بذاك حد، حمدٌ هو: حمد بن محمد أبو سليمان الخطابي .

والحسن المعروف مخرجاً وقد اشتهرت رجاله بذات حد

حمدٌ وقال الترمذي ما سلم من الشذوذ مع راوٍ ما اتهم

إذاً سلم من أمرين: من الشذوذ، ومن اتهام الراوي بالكذب.

وقال الترمذي ما سلم من الشذوذ مع راوٍ ما اتهم

بكذبٍ ولم يكن فرداً ورد قلت وقد حسَّن بعض ما انفرد

هذه الشروط الثلاثة: ولم يكن فرداً ورد، قلت: وقد حسن بعض ما انفرد، القائل ليس ابن الصلاح وإنما ناظم الألفية الإمام العراقي ، يقول: وقد حسن بعض ما انفرد، لكن هذا التحسين متى؟ إذا أتبعه بوصفٍ آخر، فلا يرد الاعتراض على الترمذي عندما يقول: حسنٌ غريب، ما عرف الحسن الآن على حسب اصطلاحه، إنما عرف الحسن على حسب اصطلاح الجمهور، أي: أنه خف ضبط الراوي، ولا يشترط أن يأتي من طريقٍ آخر، هذا حسن بذاته، فعندما يقول: حسنٌ غريب فهو يعرف الحسن عند الجمهور لا الحسن عنده، وهذا الاعتراض لا يرد عليه؛ لأن اصطلاحه فيما قال عنه حسنٌ فقط، كما حقق ذلك شيخ الإسلام الإمام ابن حجر في نزهة النظر شرح نخبة الفكر، هذا فيما يقول فيه: حسنٌ فقط، ينبغي أن يروى من غير وجهٍ نحو ذلك، أما حسنٌ غريب فهذا جرى على اصطلاح الجمهور في تعريف الحسن، الحسن الذي عرفه الترمذي اختص به، فنوه به لأنه اصطلاحٌ خاص به، فقال: انتبهوا له، هذا اصطلاحي، أما الحسن إذا أطلقته وأتبعته بوصفٍ آخر فلا أمشي على اصطلاحي، إنما هناك اصطلاحٌ آخر فانتبهوا له، قلت: وقد حسن بعض من انفرد، والتعريف الثالث للإمام ابن الجوزي :

وقيل ما ضعفٌ قريبٌ محتمل فيه وما بكل ذا حد حصل

يقول الإمام ابن الصلاح الذي ينقل كلامه الإمام العراقي في الألفية: وما بكل ذا حدٍ حصل، يعني: هذه التعريفات الثلاثة كلها عليها اعتراضات، وليس واحدٌ منها حدَّ وعرَّف وقيَّد وضبط الحديث الحسن.

لا بكلام الخطابي ، ولا بكلام الترمذي ، ولا بكلام ابن الجوزي ، وبالبيان الذي ذكرته لكم حصلت حدودٌ وتعريفاتٍ للحديث الحسن بتعريفي لا يخرج الحسن عنهما، ولا يرد الاعتراض على حسب ما ذكرت.

ثم قال الإمام ابن الصلاح كما نقل كلامه الإمام العراقي في الألفية:

وقال بان لي فيه بإمعانِ النظر أنَّ له قسمين كلٌ قد ذكر

يقول: بان لي بعد إعمال فكري وتدقيق نظري في كلام أئمتنا في إطلاقهم لفظ الحسن على الحديث أن له قسمين كلٌ قد ذكر

فـالخطابي ذكر قسماً، والترمذي ذكر قسماً، وكلام ابن الجوزي شامل للقسمين:

أن له قسمين كلٌ قد ذكر

قسماً وزاد كونه ما عُلِّلا ولا بنكرٍ شذوذ شملا

ومن الذي زاد؟ ابن الصلاح في تعريف الحديث الحسن: ألا يكون شاذاً ولا معللاً بعلة قادحة، وهذا معلوم؛ لأن العلة التي توجد في الإسناد إذا كانت تقدح في الحديث الصحيح فهي تقدح في الحديث الحسن، كرفع الموقوف: الحديث موقوف ورفعه، أو وصل المنقطع، هذه علة قادحة للوهم، يرد هذا الحديث لوجود هذه العلة فيه، فلا يكون مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

والفقهاء كلهم يستعمله والعلماء الجُلُّ منهم يقبله

وهو بأقسام الصحيح ملحق

أي: يلتحق برتبة الحديث الصحيح فيحتج به.

حجية وإن يكن لا يلحق

يعني: لا يلحقه في الرتبة ويساويه، فهو دونه، لكن في الاحتجاج يحتج به كما يحتج بالحديث الصحيح.

وهذه خلاصة تعريف الحديث الحسن.

الإمام الترمذي عرف الحسن لغيره، والإمام الخطابي عرف الحسن لذاته، وكلام ابن الجوزي شامل لهما، وإنما خصّ الإمام الترمذي تعريف الحسن؛ لأنه بالتعريف الذي ذكره فيه شيءٌ من الغموض، فأراد أن يبينه، ثم بعد ذلك هذا اصطلاحٌ جديد، أول من نوه بالحديث الحسن وأكثر من استعماله في كتابه هو الإمام أبو عيسى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

هذا فيما يتعلق بالنقطة الأولى والأمر الأول، وهو ما يتعلق بالحديث الحسن، وعليه إذا أردنا أن نفرق بينه وبين الحديث الصحيح، فنقول: شروط الحديث الصحيح خمسة: أن يكون الرواة عدولاً، وضبطهم تام، والسند متصل، ولا يوجد شذوذٌ ولا علةٌ قادحة، والحديث الحسن لذاته شروطه نفس الشروط إنما نضع بدل تمام الضبط خفة الضبط، والحسن لغيره ليس راويه عدلاً تام الضبط، فيه شيءٌ من الضعف، هو مستور ليس بتام الضبط ولا بخفيف الضبط، ضبطه ناقص، ولا يمكن أن يحسن حديثه على انفراده، لكن هذا النقص انجبر بوروده من طريقٍ آخر.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3975 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3904 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3785 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3784 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3565 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3481 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3462 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3413 استماع