شرح الترمذي - باب لا تقبل صلاة بغير طهور [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الرحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إخوتي الكرام! كنا نتدارس أول باب من أبواب الطهارة الثابتة عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، وبوب الإمام الترمذي على هذا الباب عنواناً فقال: باب: ما جاء في أنه لا تقبل صلاة بغير طهور، ثم ساق الحديث من طريق شيخيه: قتيبة بن سعيد وهناد بن السري عليهم جميعاً رحمة الله إلى ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول )، وفي رواية هناد : ( لا تقبل صلاة إلا بطهور، ولا صدقة من غلول ).

هذا الحديث إخوتي الكرام! بعد أن انتهينا من المبحث الأول من دراسته فيما يتعلق بإسناده، وانتهينا من دارسة المبحث الثاني في بيان فقه الحديث ومعناه، قلت: بقي شيء يتعلق بفقه الحديث ومعناه أذكره إن شاء الله، ثم ننتقل إلى المبحث الثالث والرابع في بيان من خرج الحديث ودرجة الحديث، والمبحث الرابع في بيان المراد بقول الإمام الترمذي : وفي الباب عن فلان وفلان. ‏

مكانة الطهارة في الإسلام

إن الطهارة لها شأن عظيم في الإسلام، وقد اعتبرها النبي عليه الصلاة والسلام نصف الإيمان، والحديث ثابت في المسند وصحيح مسلم وسنن الترمذي من رواية أبي مالك الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الطُهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض )، يعني: هذه الجملة المكونة من تسبيح وتحميد تملآن، أو تملأ هذه الجملة ما بين السماء والأرض، ( والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها )، وقول نبينا عليه الصلاة والسلام: ( الطهور شطر الإيمان )، أي: فعل الطهارة والتطهر، من إزالة الخبث والحدث، يعد شطر الإيمان، وهذا الذي فهمه سلفنا الكرام من هذا اللفظ الثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فالإمام مسلم أورد هذا الحديث في كتاب الطهارة، وبوب عليه الإمام النووي باباً فقال: باب: فضل الوضوء، الطهور شطر الإيمان.

أقوال العلماء في تفسير: (الطهور شطر الإيمان)

وكيف يكون الطهور والتطهر بالماء واستعماله شطراً للإيمان؟ أورد أئمتنا في ذلك عدة أقوال معتبرة، قولان فيما يظهر لي أرجح ما يقال في بيان معنى قول نبينا عليه الصلاة والسلام: ( الطهور شطر الإيمان )، وأقوال ثلاثة أخرى يمكن أن تكون مقبولة.

القول الأول: وهو أقواها فيما يظهر لي، وهو الذي قرره الإمام ابن رجب في جامع العلوم والحكم، وكأنه يميل إليه، فختم الأقوال به، ثم انتقل إلى شرح الجملة الثانية من حديث نبينا عليه الصلاة والسلام: ( والحمد لله تملأ الميزان )، وخلاصة كلامه: ( الطهور شطر الإيمان )، يقول: الإيمان بالله، ودين الله كله طهارة؛ ليحصل للإنسان فيها وبها ومنها الطيب. وتقدم معنا أنه لا يدخل الجنة إلا من كان طيباً، فلابد من أن يتطهر، قال الإمام ابن رجب : والطهارة على قسمين: قلبية وقالبية، فطهارة القلب تكون من دنس الشرك والذنوب بأسرها وأنواعها، وطهارة الظاهر تكون بالماء أو ما ينوب منابه من التراب إذا لم يوجد الماء، فتزيل الخبث والحدث بهذا الماء الطاهر، وإذا لم تجد ماءً تيممت.

إذاً: الطهور شطر الإيمان، الإيمان كله طهارة، لكن هناك طهارة قلبية، وهناك طهارة قالبية ظاهرة جلية، فطهارة الظاهر نصف الإيمان بهذا الاعتبار.

القول الثاني: مال إليه الإمام النووي في شرح صحيح مسلم ، واعتبره أقوى الأقوال في المسألة، وهو قوي سديد، قال: المراد بالإيمان هنا الصلاة، لقول الله جل وعلا: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس عندما توجه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم اقتداء بنبينا عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس عندما هاجروا إلى المدينة المنورة، ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ثم أمروا بعد ذلك بالتوجه إلى الكعبة المشرفة إلى بيت الله الحرام، فهذه الصلاة التي صليت إلى ذلك المكان لا يضيع أجرها عند الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، فأنتم فعلتم هذا بناء على وحي فتؤجرون على الصلاة إلى تلك الجهة، ثم تؤجرون بعد ذلك على الصلاة إلى جهة الكعبة المشرفة، فالطهور شطر الإيمان، أي: شطر الصلاة، فالصلاة إذاً: نصفها طهارة، ونصفها بعد ذلك ما تفعله من الصلاة، فهذا وهذا أمران أمرت بهما، فلا يمكن أن تصلي إلا بعد أن تتطهر، فهي نصف الصلاة بهذا الاعتبار.

والقول الثالث: وهو معتبر أيضاً، ولا يوجد ما يرده وما يدفعه، وإن كان دون القولين في الوجاهة والاعتبار والقوة: ( الطهور شطر الإيمان )، أي: أن التطهر بالماء لإزالة الخبث والحدث له نصف أجر الإيمان عند الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، كما أن من يقرأ سورة الإخلاص له أجر من قرأ ثلث القرآن، وهكذا من يتعلم علم الفرائض له أجر نصف العلوم بأسرها، كمن حصل العلوم كلها إلا علم الفرائض، وتحصيل علم الفرائض أجره يعدل سائر العلوم بأكملها، فهو نصف العلم وهو علم ينسى، وهو أول شيء ينزع من هذه الأمة، وهذا أحد التأويلات في هذه الأمور، فإذا كان علم الفرائض يعتبر نصف العلم من حيث الثواب، فكذلك الطهور يعتبر شطر الإيمان من حيث الثواب، فمن يتطهر بالماء، أو يزيل الخبث والنجس والحدث، ويحافظ على الطهارة الشرعية التي أمر بها رب البرية له أجر نصف الإيمان بجميع شعبه وخصاله وأركانه، فبالطهارة يحصل نصف أجر الإيمان؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وحقيقة: من حافظ على الطهارة الشرعية بقسميها من الخبث والحدث، فإن ذلك مدعاة للمحافظة على أمور الإيمان كلها من باب أولى، والعلم عند الله جل وعلا.

القول الرابع: قول معتبر ووجيه: ( الطهور شطر الإيمان )، أنه لا يراد من الشطر هنا حقيقة النصف، إنما يراد بالنصف الجزء والبعض، فالطهور شطر الإيمان، أي: جزءٌ من الإيمان، وشعبةٌ من شعبه، وقد أفاض أئمتنا في تقرير هذا من حيث اللغة، وأريد أن أذكر الأقوال تعداداً، وإذا جاءنا الحديث بعد ذلك في سنن الترمذي لعلنا نتدارس تفصيل جمله كلها إن شاء الله، وهذه الأقوال الأربعة السابقة كلها مبنية على أن المراد من الطهور التطهر بالماء.

أما القول الخامس: فالمراد من الطهور ليس التطهر بالماء، وإنما المراد منه البعد عن كل دنس ومعصية ونجس حسي أو معنوي؛ لأن الإيمان ينقسم إلى قسمين: فعل وترك، فالترك تتطهر وتتخلى عنه، سواء كان نجاسة أو حدثاً أو ذنباً أو معصية، والفعل تفعله وتلابسه، من صلاة وصيام وحج وزكاة، إذاً: الترك أن تترك الزنا والخمر والسرقة والكذب، وتترك الحدث الأصغر والأكبر ولا تحمل نجاسة ولا ... إلخ.

فإذاً: المراد من الطهور: الطهارة بمعناها العام، وهو التنزه عن الأقذار الحسية والمعنوية الظاهرة والخفية، فهذا شطر الإيمان؛ لأن الشطر الثاني هو الفعل، فالدين كله مأمورات ومنهيات، تخلية وتحلية، اجتناب واكتساب، اجتنب الخبائث وافعل بعد ذلك الطيبات والمأمورات، فعلى هذا القول ليس المراد من الطهور التطهر بالماء، وعلى الأقوال المتقدمة الأربعة المراد من الطهور التطهر بالماء واستعماله واللغة الفصيحة في لفظ الطُهر أن يقال بالضم لفعل الإنسان وتطهره -الطُهور- وبالفتح للماء الذي يتطهر به -الطَهور- والعلم عند الله.

( الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان )، أي: بالأجر والثواب، والذي يوزن عند الله يوم القيامة الأعمال والعمال وصحف الأعمال، وسيأتينا هذا في أبواب القيامة من سنن الترمذي إن شاء الله.

( والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض )، أي: أن هذه الجملة المركبة من تحميد وتسبيح تملآن، أو تملأ ما بين السماء والأرض.

( والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك )، إن الناس كلهم سيبيعون أنفسهم، إما في سبيل الرحمن وإما في سبيل الشيطان، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].

( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها )، منهم من يدور ويجول حول العرش، ومنهم من يجول حول الفرش، منهم من يعبد الرحمن، ومنهم من يعبد الشيطان أو الولدان أو النسوان أو ما شاكلهما، ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما: حق وباطل، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس:32]، لكن كل واحد سيبيع نفسه إما إلى الجنة وإما إلى النار، حالهم كحال من يدخلون السوق في الغدو والصباح، وفي نهاية الأمر ينقسمون إلى قسمين، إلى رابح وخاسر، (كل الناس يغدو)، يمشي في طريقه إلى الآخرة، حتى يدركه الموت، (فبائع نفسه فمعتقها)، بفعل الطاعات وترك المحرمات، (أو موبقها)، بترك الواجبات وفعل المحرمات، والحديث -كما قلت- في المسند وصحيح مسلم وسنن الترمذي .

إذاً: الطهارة لها شأن عظيم، وهذا الأمر الأول الذي دل عليه فقه الحديث ومعناه.

علاقة الكسب الحرام بقوله: (ولا صدقة من غلول)

والأمر الثاني: لابد من طيب المكسب، حتى إذا أنفق الإنسان يتقبل الله منه، فمن اكتسب حراماً وأنفق منه فلا يقبل الله صدقة من غلول، أي: من خيانة وسرقة ومال حرام، وكما تقدم معنا: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً )، وقد ثبت في المسند وصحيح مسلم وسنن الترمذي أيضاً من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( يا أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذى بالحرام، يرفع يديه فيقول: يا رب! يا رب! فأنى يستجاب لذلك؟! )، أنى يستجاب له؟! لأن مطعمه حرام، مشربه حرام، ملبسه حرام، وغذي بالحرام.

فمن كسب مالاً حراماً، ثم تصدق منه لا يقبل الله صدقته، فهو طيب لا يقبل إلا طيباً.

وقد ورد في مسند الإمام أحمد ، والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان، والخطيب في تاريخ بغداد، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وعبد بن حميد في مسنده، وفي إسناده ضعف، لكن له شواهد كثيرة، ولفظ الحديث من رواية ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من اشترى ثوباً بعشرة دراهم، وفيها درهم حرام لم يقبل الله له صلاة ما دام عليه ذلك الثوب، ثم وضع ابن عمر إصبعيه في أذنيه، وقال: صمتا إن لم أكن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم )، أي: يصاب بالصمم ويدعو على نفسه بهذه الآفة إذا كان لم يسمع هذا من النبي عليه الصلاة والسلام، يؤكد أنه سمع هذا من النبي عليه الصلاة والسلام، ويرويه لعباد الرحمن، فمن اشترى ثوباً بعشرة دراهم منها درهم واحد حرام لا يقبل الله له صلاة ما دام عليه ذلك الثوب، ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ).

وورد في مسند الإمام أحمد ، ومسند البزار ، ومعجما الطبراني الأوسط والكبير، والحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى، من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يكسب عبد مالاً من حرام، فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث ) وهذا الحديث حول إسناده شيء من الكلام، ولكن تشهد له الأحاديث الصحيحة المتقدمة بأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وأن من دنس مطعمه وشرابه وملبسه وغذاءه، فمآله إلى نار جهنم، ولا يستجيب الله دعاءه كما تقدم معنا في رواية مسلم ، ونظير هذه الرواية التي رويت عن ابن مسعود ما روي وورد وثبت في صحيح ابن حبان، ومستدرك الحاكم، وصحيح ابن خزيمة، والحديث صححه الحاكم وأقره عليه الذهبي، لكن من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من جمع مالاً حراماً ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه )، أي: ذنبه وإثمه ووزره، ولذلك قال شيخ المسلمين سفيان الثوري أبو سعيد عليه رحمة الله: من أنفق من الحرام في طاعة الله، فهو كمن يطهر الثوب النجس بالبول، والثوب النجس لا يطهره إلا الماء، والذنب لا يكفره إلا الحلال، فإذا كان عندك ذنوب فتصدق من حلال يغفر لك، أما أن تتصدق من حرام فإنه لا يقبل منك.

إخوتي الكرام! هذا ما يتعلق بفقه الحديث.

موقف ابن عمر مع عبد الله بن عامر واستدلاله بـ(... ولا صدقة من غلول)

هناك قصة ثبتت في صحيح مسلم سأذكرها إن شاء الله، وأختم بها الكلام على فقه الحديث بها لننتقل إلى المبحث الثالث.

في صحيح مسلم وردت زيادة على رواية الإمام الترمذي في قصة جرت لـابن عمر مع صحابي آخر، كان أميراً على البصرة، عند هذه الحادثة استشهد ابن عمر بهذا الحديث: ( لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول )، وخلاصة القصة: أن عبد الله بن عامر -وهو صحابي جليل رضي الله عنه وأرضاه- كان مريضاً، فدخل عليه ابن عمر وجماعة من الصحابة يعودنه، فقال ابن عامر لـابن عمر : ألا تدعو لي أبا عبد الرحمن! أي: ادع لي بالشفاء والمغفرة والرحمة، وفي رواية في المسند قال: فجعل الحاضرون يثنون على عبد الله بن عامر ، فقال ابن عمر : لست بأغشهم لك، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول )، وكنتَ أميراً على البصرة.

إذاً: الجمع بين الروايتين: دخل بعض الصحابة والتابعين على عبد الله بن عامر فأثنوا عليه، لكن ابن عمر رضي الله عنه توقف، فطلب ابن عامر من ابن عمر أن يدعو، فقال: ألا تدعو لي أبا عبد الرحمن! كما يدعو هؤلاء؟ قال: اعلم أني لست بأغشهم لك، فليس في قلبي غش، وكيد لك حتى أتهم، لكن عندي أمراً أحب أن أذكرك به، سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)، وقد كنت أميراً على البصرة، كأنه يقول له: أنت وليت أمر المسلمين، والغالب في الوالي والأمير والقاضي والمسؤول أن لا يخلو من تفريط، إما في حق الله وإما في حق الرعية، وإذا فرط فقد ظلم، وإذا ظلم فقد خان، فكيف أدعو لك وأنت خائن؟ ولا يقصد ابن عمر رضي الله عنه بهذا أن الدعاء لا ينفع عصاة الموحدين، لا يقصد هذا أبداً، إنما أراد بذلك حث ابن عامر على التوبة إن جرى منه شيء من التقصير والتفريط في حق الله أو في حق رعيته.

وحقيقة هذا هو النصح، وخير الناس من صدقك ونصحك، وشرهم من مدحك وتملق لك وغشك، فالمدح والإطراء يسمعه الأمير وكل حاكم، ولكن ألا يوجد من يذكره بالله ويقول له: استعد للقاء الله؛ فإن الرعية كلها في رقبتك، وكل واحد من رعيتك سيسأل عن نفسه، إلا أنت فستسأل عن نفسك وعنهم فرداً فرداً، فأعد الجواب أمام الكريم الوهاب سبحانه وتعالى، ألا يوجد من يقول له هذا؟ وأما المدح والإطراء فيحسنه كل أحد، ومهما كان الحال فلا يخلو حال أمير وإن كان صحابياً من تقصير، فإذا كان كذلك فإنني أمتنع عن الدعاء له من أجل أن أحثه على التوبة والإنابة إلى الله جل وعلا، وليس مراد -كما قلت- ابن عمر أن الدعاء لا ينفع العصاة، فعندنا: أن الدين كماله وتمامه بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، كما أن أصله وأساسه توحيد رب الأرض والسماوات: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:19]، فأساس الدين توحيد رب العالمين، وكماله وتمامه الاستغفار لعباد الله المؤمنين، ولذلك كل من مات من أهل القبلة له حق في رقابنا، بأن نصلي عليه مهما كان عليه من الذنوب والعيوب؛ لأنه مؤمن موحد، وإذا صلينا عليه فينبغي أن نخلص له في الدعاء، فرحمة الله واسعة، ولكن إذا كان حياً حتى لا يتمادى في عصيانه، إذا عنده خلل وهو أدرى بنفسه، ووظيفته قد تشير إلى أنه يقع في تقصير، فإننا نمتنع عن مدحه والثناء عليه، وعن الدعاء له في وجهه، ونقول له: استعد للقاء الله، فالدعاء مع الخيانة والظلم لا أساس له، بل نقول له: تخل عن ظلمك وخيانتك وغشك لرعيتك حتى ينفعك دعاؤنا ودعاؤك، فكما أن الصدقة لا تقبل من خائن، كذلك من كان خائناً لله ولرسوله وللمؤمنين لا ينتفع بالدعاء، لا بدعائه ولا بدعاء غيره إلا إذا تاب إلى رب العالمين.

إن الطهارة لها شأن عظيم في الإسلام، وقد اعتبرها النبي عليه الصلاة والسلام نصف الإيمان، والحديث ثابت في المسند وصحيح مسلم وسنن الترمذي من رواية أبي مالك الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الطُهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض )، يعني: هذه الجملة المكونة من تسبيح وتحميد تملآن، أو تملأ هذه الجملة ما بين السماء والأرض، ( والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها )، وقول نبينا عليه الصلاة والسلام: ( الطهور شطر الإيمان )، أي: فعل الطهارة والتطهر، من إزالة الخبث والحدث، يعد شطر الإيمان، وهذا الذي فهمه سلفنا الكرام من هذا اللفظ الثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فالإمام مسلم أورد هذا الحديث في كتاب الطهارة، وبوب عليه الإمام النووي باباً فقال: باب: فضل الوضوء، الطهور شطر الإيمان.

وكيف يكون الطهور والتطهر بالماء واستعماله شطراً للإيمان؟ أورد أئمتنا في ذلك عدة أقوال معتبرة، قولان فيما يظهر لي أرجح ما يقال في بيان معنى قول نبينا عليه الصلاة والسلام: ( الطهور شطر الإيمان )، وأقوال ثلاثة أخرى يمكن أن تكون مقبولة.

القول الأول: وهو أقواها فيما يظهر لي، وهو الذي قرره الإمام ابن رجب في جامع العلوم والحكم، وكأنه يميل إليه، فختم الأقوال به، ثم انتقل إلى شرح الجملة الثانية من حديث نبينا عليه الصلاة والسلام: ( والحمد لله تملأ الميزان )، وخلاصة كلامه: ( الطهور شطر الإيمان )، يقول: الإيمان بالله، ودين الله كله طهارة؛ ليحصل للإنسان فيها وبها ومنها الطيب. وتقدم معنا أنه لا يدخل الجنة إلا من كان طيباً، فلابد من أن يتطهر، قال الإمام ابن رجب : والطهارة على قسمين: قلبية وقالبية، فطهارة القلب تكون من دنس الشرك والذنوب بأسرها وأنواعها، وطهارة الظاهر تكون بالماء أو ما ينوب منابه من التراب إذا لم يوجد الماء، فتزيل الخبث والحدث بهذا الماء الطاهر، وإذا لم تجد ماءً تيممت.

إذاً: الطهور شطر الإيمان، الإيمان كله طهارة، لكن هناك طهارة قلبية، وهناك طهارة قالبية ظاهرة جلية، فطهارة الظاهر نصف الإيمان بهذا الاعتبار.

القول الثاني: مال إليه الإمام النووي في شرح صحيح مسلم ، واعتبره أقوى الأقوال في المسألة، وهو قوي سديد، قال: المراد بالإيمان هنا الصلاة، لقول الله جل وعلا: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس عندما توجه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم اقتداء بنبينا عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس عندما هاجروا إلى المدينة المنورة، ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ثم أمروا بعد ذلك بالتوجه إلى الكعبة المشرفة إلى بيت الله الحرام، فهذه الصلاة التي صليت إلى ذلك المكان لا يضيع أجرها عند الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، فأنتم فعلتم هذا بناء على وحي فتؤجرون على الصلاة إلى تلك الجهة، ثم تؤجرون بعد ذلك على الصلاة إلى جهة الكعبة المشرفة، فالطهور شطر الإيمان، أي: شطر الصلاة، فالصلاة إذاً: نصفها طهارة، ونصفها بعد ذلك ما تفعله من الصلاة، فهذا وهذا أمران أمرت بهما، فلا يمكن أن تصلي إلا بعد أن تتطهر، فهي نصف الصلاة بهذا الاعتبار.

والقول الثالث: وهو معتبر أيضاً، ولا يوجد ما يرده وما يدفعه، وإن كان دون القولين في الوجاهة والاعتبار والقوة: ( الطهور شطر الإيمان )، أي: أن التطهر بالماء لإزالة الخبث والحدث له نصف أجر الإيمان عند الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، كما أن من يقرأ سورة الإخلاص له أجر من قرأ ثلث القرآن، وهكذا من يتعلم علم الفرائض له أجر نصف العلوم بأسرها، كمن حصل العلوم كلها إلا علم الفرائض، وتحصيل علم الفرائض أجره يعدل سائر العلوم بأكملها، فهو نصف العلم وهو علم ينسى، وهو أول شيء ينزع من هذه الأمة، وهذا أحد التأويلات في هذه الأمور، فإذا كان علم الفرائض يعتبر نصف العلم من حيث الثواب، فكذلك الطهور يعتبر شطر الإيمان من حيث الثواب، فمن يتطهر بالماء، أو يزيل الخبث والنجس والحدث، ويحافظ على الطهارة الشرعية التي أمر بها رب البرية له أجر نصف الإيمان بجميع شعبه وخصاله وأركانه، فبالطهارة يحصل نصف أجر الإيمان؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وحقيقة: من حافظ على الطهارة الشرعية بقسميها من الخبث والحدث، فإن ذلك مدعاة للمحافظة على أمور الإيمان كلها من باب أولى، والعلم عند الله جل وعلا.

القول الرابع: قول معتبر ووجيه: ( الطهور شطر الإيمان )، أنه لا يراد من الشطر هنا حقيقة النصف، إنما يراد بالنصف الجزء والبعض، فالطهور شطر الإيمان، أي: جزءٌ من الإيمان، وشعبةٌ من شعبه، وقد أفاض أئمتنا في تقرير هذا من حيث اللغة، وأريد أن أذكر الأقوال تعداداً، وإذا جاءنا الحديث بعد ذلك في سنن الترمذي لعلنا نتدارس تفصيل جمله كلها إن شاء الله، وهذه الأقوال الأربعة السابقة كلها مبنية على أن المراد من الطهور التطهر بالماء.

أما القول الخامس: فالمراد من الطهور ليس التطهر بالماء، وإنما المراد منه البعد عن كل دنس ومعصية ونجس حسي أو معنوي؛ لأن الإيمان ينقسم إلى قسمين: فعل وترك، فالترك تتطهر وتتخلى عنه، سواء كان نجاسة أو حدثاً أو ذنباً أو معصية، والفعل تفعله وتلابسه، من صلاة وصيام وحج وزكاة، إذاً: الترك أن تترك الزنا والخمر والسرقة والكذب، وتترك الحدث الأصغر والأكبر ولا تحمل نجاسة ولا ... إلخ.

فإذاً: المراد من الطهور: الطهارة بمعناها العام، وهو التنزه عن الأقذار الحسية والمعنوية الظاهرة والخفية، فهذا شطر الإيمان؛ لأن الشطر الثاني هو الفعل، فالدين كله مأمورات ومنهيات، تخلية وتحلية، اجتناب واكتساب، اجتنب الخبائث وافعل بعد ذلك الطيبات والمأمورات، فعلى هذا القول ليس المراد من الطهور التطهر بالماء، وعلى الأقوال المتقدمة الأربعة المراد من الطهور التطهر بالماء واستعماله واللغة الفصيحة في لفظ الطُهر أن يقال بالضم لفعل الإنسان وتطهره -الطُهور- وبالفتح للماء الذي يتطهر به -الطَهور- والعلم عند الله.

( الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان )، أي: بالأجر والثواب، والذي يوزن عند الله يوم القيامة الأعمال والعمال وصحف الأعمال، وسيأتينا هذا في أبواب القيامة من سنن الترمذي إن شاء الله.

( والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض )، أي: أن هذه الجملة المركبة من تحميد وتسبيح تملآن، أو تملأ ما بين السماء والأرض.

( والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك )، إن الناس كلهم سيبيعون أنفسهم، إما في سبيل الرحمن وإما في سبيل الشيطان، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].

( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها )، منهم من يدور ويجول حول العرش، ومنهم من يجول حول الفرش، منهم من يعبد الرحمن، ومنهم من يعبد الشيطان أو الولدان أو النسوان أو ما شاكلهما، ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما: حق وباطل، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس:32]، لكن كل واحد سيبيع نفسه إما إلى الجنة وإما إلى النار، حالهم كحال من يدخلون السوق في الغدو والصباح، وفي نهاية الأمر ينقسمون إلى قسمين، إلى رابح وخاسر، (كل الناس يغدو)، يمشي في طريقه إلى الآخرة، حتى يدركه الموت، (فبائع نفسه فمعتقها)، بفعل الطاعات وترك المحرمات، (أو موبقها)، بترك الواجبات وفعل المحرمات، والحديث -كما قلت- في المسند وصحيح مسلم وسنن الترمذي .

إذاً: الطهارة لها شأن عظيم، وهذا الأمر الأول الذي دل عليه فقه الحديث ومعناه.

والأمر الثاني: لابد من طيب المكسب، حتى إذا أنفق الإنسان يتقبل الله منه، فمن اكتسب حراماً وأنفق منه فلا يقبل الله صدقة من غلول، أي: من خيانة وسرقة ومال حرام، وكما تقدم معنا: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً )، وقد ثبت في المسند وصحيح مسلم وسنن الترمذي أيضاً من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( يا أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذى بالحرام، يرفع يديه فيقول: يا رب! يا رب! فأنى يستجاب لذلك؟! )، أنى يستجاب له؟! لأن مطعمه حرام، مشربه حرام، ملبسه حرام، وغذي بالحرام.

فمن كسب مالاً حراماً، ثم تصدق منه لا يقبل الله صدقته، فهو طيب لا يقبل إلا طيباً.

وقد ورد في مسند الإمام أحمد ، والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان، والخطيب في تاريخ بغداد، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وعبد بن حميد في مسنده، وفي إسناده ضعف، لكن له شواهد كثيرة، ولفظ الحديث من رواية ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من اشترى ثوباً بعشرة دراهم، وفيها درهم حرام لم يقبل الله له صلاة ما دام عليه ذلك الثوب، ثم وضع ابن عمر إصبعيه في أذنيه، وقال: صمتا إن لم أكن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم )، أي: يصاب بالصمم ويدعو على نفسه بهذه الآفة إذا كان لم يسمع هذا من النبي عليه الصلاة والسلام، يؤكد أنه سمع هذا من النبي عليه الصلاة والسلام، ويرويه لعباد الرحمن، فمن اشترى ثوباً بعشرة دراهم منها درهم واحد حرام لا يقبل الله له صلاة ما دام عليه ذلك الثوب، ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ).

وورد في مسند الإمام أحمد ، ومسند البزار ، ومعجما الطبراني الأوسط والكبير، والحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى، من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يكسب عبد مالاً من حرام، فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث ) وهذا الحديث حول إسناده شيء من الكلام، ولكن تشهد له الأحاديث الصحيحة المتقدمة بأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وأن من دنس مطعمه وشرابه وملبسه وغذاءه، فمآله إلى نار جهنم، ولا يستجيب الله دعاءه كما تقدم معنا في رواية مسلم ، ونظير هذه الرواية التي رويت عن ابن مسعود ما روي وورد وثبت في صحيح ابن حبان، ومستدرك الحاكم، وصحيح ابن خزيمة، والحديث صححه الحاكم وأقره عليه الذهبي، لكن من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من جمع مالاً حراماً ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه )، أي: ذنبه وإثمه ووزره، ولذلك قال شيخ المسلمين سفيان الثوري أبو سعيد عليه رحمة الله: من أنفق من الحرام في طاعة الله، فهو كمن يطهر الثوب النجس بالبول، والثوب النجس لا يطهره إلا الماء، والذنب لا يكفره إلا الحلال، فإذا كان عندك ذنوب فتصدق من حلال يغفر لك، أما أن تتصدق من حرام فإنه لا يقبل منك.

إخوتي الكرام! هذا ما يتعلق بفقه الحديث.

هناك قصة ثبتت في صحيح مسلم سأذكرها إن شاء الله، وأختم بها الكلام على فقه الحديث بها لننتقل إلى المبحث الثالث.

في صحيح مسلم وردت زيادة على رواية الإمام الترمذي في قصة جرت لـابن عمر مع صحابي آخر، كان أميراً على البصرة، عند هذه الحادثة استشهد ابن عمر بهذا الحديث: ( لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول )، وخلاصة القصة: أن عبد الله بن عامر -وهو صحابي جليل رضي الله عنه وأرضاه- كان مريضاً، فدخل عليه ابن عمر وجماعة من الصحابة يعودنه، فقال ابن عامر لـابن عمر : ألا تدعو لي أبا عبد الرحمن! أي: ادع لي بالشفاء والمغفرة والرحمة، وفي رواية في المسند قال: فجعل الحاضرون يثنون على عبد الله بن عامر ، فقال ابن عمر : لست بأغشهم لك، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول )، وكنتَ أميراً على البصرة.

إذاً: الجمع بين الروايتين: دخل بعض الصحابة والتابعين على عبد الله بن عامر فأثنوا عليه، لكن ابن عمر رضي الله عنه توقف، فطلب ابن عامر من ابن عمر أن يدعو، فقال: ألا تدعو لي أبا عبد الرحمن! كما يدعو هؤلاء؟ قال: اعلم أني لست بأغشهم لك، فليس في قلبي غش، وكيد لك حتى أتهم، لكن عندي أمراً أحب أن أذكرك به، سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)، وقد كنت أميراً على البصرة، كأنه يقول له: أنت وليت أمر المسلمين، والغالب في الوالي والأمير والقاضي والمسؤول أن لا يخلو من تفريط، إما في حق الله وإما في حق الرعية، وإذا فرط فقد ظلم، وإذا ظلم فقد خان، فكيف أدعو لك وأنت خائن؟ ولا يقصد ابن عمر رضي الله عنه بهذا أن الدعاء لا ينفع عصاة الموحدين، لا يقصد هذا أبداً، إنما أراد بذلك حث ابن عامر على التوبة إن جرى منه شيء من التقصير والتفريط في حق الله أو في حق رعيته.

وحقيقة هذا هو النصح، وخير الناس من صدقك ونصحك، وشرهم من مدحك وتملق لك وغشك، فالمدح والإطراء يسمعه الأمير وكل حاكم، ولكن ألا يوجد من يذكره بالله ويقول له: استعد للقاء الله؛ فإن الرعية كلها في رقبتك، وكل واحد من رعيتك سيسأل عن نفسه، إلا أنت فستسأل عن نفسك وعنهم فرداً فرداً، فأعد الجواب أمام الكريم الوهاب سبحانه وتعالى، ألا يوجد من يقول له هذا؟ وأما المدح والإطراء فيحسنه كل أحد، ومهما كان الحال فلا يخلو حال أمير وإن كان صحابياً من تقصير، فإذا كان كذلك فإنني أمتنع عن الدعاء له من أجل أن أحثه على التوبة والإنابة إلى الله جل وعلا، وليس مراد -كما قلت- ابن عمر أن الدعاء لا ينفع العصاة، فعندنا: أن الدين كماله وتمامه بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، كما أن أصله وأساسه توحيد رب الأرض والسماوات: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:19]، فأساس الدين توحيد رب العالمين، وكماله وتمامه الاستغفار لعباد الله المؤمنين، ولذلك كل من مات من أهل القبلة له حق في رقابنا، بأن نصلي عليه مهما كان عليه من الذنوب والعيوب؛ لأنه مؤمن موحد، وإذا صلينا عليه فينبغي أن نخلص له في الدعاء، فرحمة الله واسعة، ولكن إذا كان حياً حتى لا يتمادى في عصيانه، إذا عنده خلل وهو أدرى بنفسه، ووظيفته قد تشير إلى أنه يقع في تقصير، فإننا نمتنع عن مدحه والثناء عليه، وعن الدعاء له في وجهه، ونقول له: استعد للقاء الله، فالدعاء مع الخيانة والظلم لا أساس له، بل نقول له: تخل عن ظلمك وخيانتك وغشك لرعيتك حتى ينفعك دعاؤنا ودعاؤك، فكما أن الصدقة لا تقبل من خائن، كذلك من كان خائناً لله ولرسوله وللمؤمنين لا ينتفع بالدعاء، لا بدعائه ولا بدعاء غيره إلا إذا تاب إلى رب العالمين.

إخوتي الكرام! إن موضوع الولايات بعد عصر الخلافة الراشدة حصل فيها ما حصل من الدنس والعفن والكدر، ولذلك كان أئمة الهدى والخير والصلاح يبتعدون عن ذلك؛ أي: عن هذه المسؤوليات من ولاية أو شرطة أو قضاء.. وغيرها، وكان يعرض هذا على أصلح الصالحين في العصر الأول فيمتنع، والقصص في ذلك كثيرة، أذكر لكم قصتين لنعلم أن من يدخل في الأمور والولاية العامة بعد تغير المسار العام عن الصراط المستقيم، سيقع في شيء من المخالفات لرب العالمين، والسلامة لا يعدلها شيء.

القصة الأولى: يروي أئمتنا كما في سير أعلام النبلاء وغيره في ترجمة شيخ الإسلام في زمانه عبد الله بن إدريس أبي محمد الأودي توفي سنة (192هـ)، وحديثه مخرج في الكتب الستة -الصحيحين والسنن الأربعة- قال الإمام الذهبي في ترجمته: هو الإمام الحافظ المقرئ القدوة شيخ الإسلام، يقول الإمام أحمد عن هذا العبد الصالح: كان نسيج وحده، أي: يسلك طريقاً ما سلكه أحد في زمانه من الورع والاحتياط والحزم والعزم، ولما احتضر بكت عليه ابنته، فقال: يا بنية! لا تبكي، والله لقد ختمت القرآن في هذه الحجرة أربعة آلاف مرة، فهوني على نفسك فرحمة الله واسعة، عبد الله بن إدريس الأودي ، استدعاه هارون الرشيد ليوليه قضاء الكوفة، وهارون الرشيد لو وجد في زماننا وخرج الناس للاستسقاء لقدموه ليدعو؛ لأنه أصلح الأمة الإسلامية لو وجد في هذا الوقت، وما أظن أحداً يصل إلى صلاحه وتقاه، وحزمه وعزمه وجده واجتهاده، فكيف بحالنا؟ نسأل الله أن يتوب علينا.

هارون الرشيد استدعاه ليوليه قضاء الكوفة، فلما جاءه الكتاب من هارون بعد صلاة الظهر، شهق وصاح وخر مغشياً عليه في بيته، فاجتمع تلاميذه، ماذا دهى شيخهم؟ وبأي شيء أصيب؟ فأذن العصر ولا زال في غيبوبته، فرشوا عليه الماء، فصحا قبيل المغرب، فأول شيء قاله بعد صحوه ووعيه: لا حول ولا قوة إلا بالله، أي ذنب عملته؟ وأي معصية فعلتها حتى يعرفني هارون ويرسل إليّ؟! إذاً: أنا صاحب ذنوب وعيوب، ماذا عملت؟!

ثم بعد ذلك جيء به إلى هارون وعرض عليه القضاء، فقال: لا ألي لك القضاء، فقال له هارون : ليتني ما عرفتك ولا رأيتك، قال: وأنا ليتني ما عرفتك ولا رأيتك، أنا لم أطلبك ولم آتك، ثم بعد ذلك تقول هذا -إن أئمتنا مع ما فيهم من انحراف، لكن عندهم أيضاً خشية من الله ووقوف عند الحق- فما كلمه هارون بعد ذلك، بل قال: إذا أبيت أن تلي لنا عملاً فخذ هذه الجائزة خمسة آلاف درهم، فرفضها عبد الله الأودي وقال: لا آخذ شيئاً، قال هارون : إن أبيت أن تلي لنا عملاً، وأبيت صلتنا، فسيأتيك ولدي مأمون فحدثه بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال: إن جاء مع العامة في المسجد حدثته.

عبد الله بن إدريس الأودي لماذا امتنع من ولاية القضاء؟ لأنه يعلم أنه إذا ولج فيها سيقع في شيء من الشوائب، فرأى أن الامتناع أسلم، وهنا ابن عمر يقول لـعبد الله بن عامر : أنت وليت على البصرة، وتعلم حال الوالي وحال القاضي، ولا يخلو حال واحد من هؤلاء من تقصير، فخير من أن أدعو لك تب إلى ربك وارجع إليه.

القصة الثانية: في ترجمة شيخ الإسلام في زمانه عبد الله بن وهب ، وكان في مصر، توفي بعد عبد الله بن إدريس الأودي بخمس سنين، فتوفي سنة (197هـ)، وحديثه مخرج أيضاً في الكتب الستة، وهنيئاً لأهل مصر بهذا الإمام الصالح والعبد القانت، الذي قال أئمتنا فيه: كان من أوعية العلم وكنوز العمل، ويقول ابن عيينة فيه عندما مات: أصيب به المسلمون عامة، وأصبت به خاصة، ومن فضائل هذا الإمام المبارك أنه عمل عملاً ليتنا نقتدي به، خاصة في هذه الأيام لنقف عند حدنا، يقول: جاهدت نفسي في الغيبة أن لا أغتاب أحداً، فرأيتها تتفلت، فعاهدت الله أنني إذا اغتبت أحداً أن أصوم يوماً، فإذا وقعت في غيبة صمت، حتى أجهدني الصوم وتعبت، والنفس لا تنسى أن تذكر الناس أحياناً بما هو غيبة، ولعله يحصل منا في اليوم الواحد بل في المجلس مئات أو آلاف الغيبة، ونحن نتكلم ونتحدث، ونخوض في غمرات جهنم ولا ندري، وحكم الشرع أنه إذا ذكرت أحداً غائباً بما يكرهه فقد اغتبته، وهذه من الكبائر، يقول ابن وهب : فعاهدت الله أنني لا أغتاب أحداً إلا تصدقت بدرهم -والدرهم يشترى به شاة في ذلك الوقت- يقول: فامتنعت عن الغيبة حباً في الدراهم، ليصون بها عرضه وكرامته فإنه لو أنفقها عقوبة لنفسه على الغيبة لم يبق عنده ما يأكل، وحقيقة: لو أن الواحد منا قال: لله علي أنني إذا اغتبت أحداً أن أتصدق بمائة ريـال، فهذا يصبح بعد ذلك واجباً عليه، فإذا فرط فيه أثم كما لو منع الزكاة، فإذا كان كلما اغتاب أخرج مالاً فسيقول لنفسه: أقف عند حدي وأتقي ربي، وهذا كله من مجاهدة النفس التي أمرنا الله بها، وكل واحد أدرى بشؤون نفسه.

حاصل القصة أنه جاء كتاب من المأمون إلى أمير مصر عباد بن محمد بأن يتولى عبد الله بن وهب قضاء مصر، فلما بلغ الخبر عبد الله بن وهب هرب من بيته، فهدم الوالي جزءاً من الدار عقوبة لـعبد الله بن وهب ، يطلب للقضاء فيهرب ويفر ويتوارى، فهدم بعض داره، وخرب جزءاً منه، وقال بعض خواص الأمير وهو الصباحي ، قال للأمير: عبد الله بن وهب يمتنع عن القضاء، متى كان يطمع أن يكون قاضياً؟ وبدأ يتكلم ويقع فيه، فلما علم ابن وهب بخبره رفع يده إلى ربه وقال: اللهم أعمِ بصره، فما مضى عليه أسبوع حتى عمي هذا الصباحي ، ثم بعد ذلك لا زال الطلب عليه من أجل أن يكون قاضياً، سبحان الله! يفر من القضاء، يريد سلامة الدين؛ لأن القضاء أمانة وهو يوم القيامة خزي وندامة، يأتي ويده مضمومة إلى الرقبة، فهذه مشكلة، فلما جاءه الطلب من أجل أن يذهب إلى أمير مصر عباد بن محمد تظاهر بالجنون، أي: تخابل وأظهر للمسؤولين أنه مجنون، ولا يصلح أن يلي القضاء، ثم بدأ يتذمر ويتسخط، فقيل له: ما بالك؟ فقال: كنت أطمع أن أحشر مع العلماء، وهم ورثة الأنبياء، وتريدون مني أن أحشر مع القضاة، وهم مع الحكام؟ فالحشر مع أيهما أحسن وأكمل؟ وهذا القول قاله ابن جرير الطبري بعده عندما امتنع عن القضاء، فلامه تلاميذه وقالوا: تحيي السنن وتميت البدع وتنشر العدل؟ فقال: كنت أخشى إذا أخذت القضاء أن تلوموني، فإذْ تركته بدأتم تلموني؟ ثم قال: أما بلغكم أن العلماء يحشرون مع الأنبياء، والقضاة يحشرون مع الحكام؟ أما بلغكم هذا؟ فكيف نحن نفرط في تلك المنزلة العالية عند الله جل وعلا؟!

ولا شك أن من أخذ القضاء واتقى الله فلا شك أنه على خير، لكن كما قلت: لما حصل الدنس في الحياة العامة، فالذي سيبتلى بشيء من الولايات فلا ريب أنه يدخل في شيء من البلاء، فإذا كان في العصر الأول يقول ابن عمر لـعبد الله بن عامر : كنت والياً على البصرة، فكيف أدعو لك؟ تب إلى ربك وفتش عن أحوال نفسك.

عبد الله بن عامر الصحابي، ابن خالة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأبوه عامر ابن عمة النبي عليه الصلاة والسلام البيضاء بنت عبد المطلب وعبد الله بن عامر هو الذي روى الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( من قتل دون ماله فهو شهيد )، والحديث في المستدرك في ترجمة عبد الله بن عامر في كتاب: معرفة الصحابة من المستدرك، وقد رواه الإمام أحمد وأهل الكتب الستة من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص ، ورواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة من رواية سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم أجمعين، ورواه الإمام النسائي عن بريدة الأسلمي ، وروي نحو هذا الحديث من رواية أبي هريرة وسويد بن مقرن وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين.

تولي عبد الله بن عامر البصرة وزواجه ابنة معاوية

ولي عبد الله بن عامر البصرة لـعثمان بن عفان ، ثم ولي بعده أيضاً على البصرة لـمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين، فهو أمير على البصرة، في عهد عثمان ، وفي عهد معاوية بن أبي سفيان ، ووفد على معاوية فأكرمه معاوية وزوجه بنته هنداً ، ولما ولي على البصرة من قبل عثمان كان الأمير عليها قبله أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، فسلم له الإمرة وقال لأهل البصرة: جاءكم فتى من قريش، كريم الأمهات والخالات والعمات، يقول بالمال فيكم هكذا -أي: يعطيكم ولا يدخر عنكم شيئاً- وهو الذي افتتح خراسان، وفي عهده قتل كسرى، ولما افتتح تلك البلاد أحرم من نيسابور إلى مكة شكراً لله جل وعلا، وتعظيماً له، وهو الذي جعل السقايات في زمنه في عرفات وفي مكة المكرمة، له هذه المآثر العظيمة ومع ذلك يقول له ابن عمر : كيف أدعو لك وكنت أميراً على البصرة؟ فتش في نفسك، وتب إلى ربك، ولا داعي الآن للدعاء أمامك.

نماذج من مروءة عبد الله بن عامر

وكان صاحب مروءة رضي الله عنه وأرضاه، قام مرة كما في تاريخ ابن عساكر يخطب خطبة عيد النحر، فأرتج عليه وأغلق، فما استطاع أن يتكلم بشيء، فوقف طويلاً، ثم قال: لن أجمع عليكم عياً ولؤماً، من اشترى شاة من السوق فثمنها علي، ثم كبر وأنهى الخطبة، ولسان حاله: إذا لم أتمكن من حسن التعبير فلا أقل من جائزة أكافئكم بها في هذا اليوم، فكل من يريد أن يضحي فثمن أضحيته علي.

ومن مروءته رضي الله عنه وأرضاه، كما في مستدرك الحاكم : أنه طلق زوجه هنداً ، فذهبت إلى أبيها معاوية بن أبي سفيان ، فقال: مالك؟ قالت: طلقني عبد الله بن عامر ، قال: وهل تطلق الحرة؟ قالت: ليس ذلك مني هو طلقني، فاستدعاه، وقال: أعطيتك ابنتي أكرمك بها ثم طلقتها؟ فقال له: إن الله من علي وجعلني كريماً، ولا أحب إلا كريماً، ولا أريد أن يتفضل علي أحد، وإنني نظرت إلى ابنتك هند فأعجزتني بمكافأتها، وحسن خدمتها، ثم أحضرت لي المرآة يوماً، فنظرت إلى المرآة ونظرت معي، فرأيت شيبتي ورأيت حسنها وجمالها، فما رأيت من الإنصاف أن أكون زوجاً لها، فأريد أن تزوجها فتى من الفتيان كأن وجهه ورقة مصحف، أما أنا فلا أصلح لها، يعني: أنا شيخ ذو شيبة مع صبية فتية، وليس هذا من المروءة، رأى في هذا كأنه إنقاص في حقها، والله أعلم بما دار بينهما.

لكن أقول: هذه القصة قصة حقيقية ينبغي أن نعتبر بها.

ويذكر الإمام ابن الجوزي وغالب ظني في الأذكياء، أو في أخبار الحمقى والمغفلين، أو في أخبار الظراف والمتنادمين: أن رجلاً كان يركب فرساً فمر بشابة متحجبة مستورة، فعرض نفسه عليها وقال: هل أنتِ ذات بعل؟ قالت: لا، قال: أتتزوجين؟ قالت: نعم، ولكن بالطريق الشرعي، يعني: يعرض رغبته ليطلبها بعد ذلك من أبيها، ثم قالت: في عيب، قال: وما هو؟ قالت: إن رأسي أبيض، فلو فتحت لك الغطاء وكشفته فلن ترى إلا الشيب في رأسي، يقول الإمام ابن الجوزي : فلوى عنق فرسه وانطلق مسرعاً، وما رد عليها، من زهده فيها بعد أن ظنها صبية تقول هذا الكلام، قال: فتبعته وكشفت عن رأسها وإذا شعر كاللؤلؤ يضيء بهجة ونوراً وإشراقاً، وليس فيه شعرة بيضاء، فقال: سبحان الله! كيف قلتِ: إن شعرك أبيض؟ فقالت: أردت أن أخبرك أننا نكره منكم ما تكرهون منا، أما تستحي فإن لحيتك شائبة، وشعرك شائب وتتعرض لصبايا؟! عندما أخبرتك أن شعري شائب لويت عنان الفرس وذهبت، فلم نحن الشابات نتزوج شيوخاً كباراً منكم لنتحمل، وأنتم لا تأخذون نساء كبيرات منا؟ فنحن نكره منكم كما تكرهون منا، وأردت أن أصرفك إلى أمر تعتبر به في نفسك، فلا تتعرض للشابات، ولكن اذهب واطلب ما يناسبك على حسب قدرك واعتبارك.

فهذا الأمر ينبغي أن ننتبه له، فلا تنكح شابة إلا إذا هي رضيت، وتنازلت عن حقها، فهذا موضوع آخر، أما أن يكون إنسان جاوز الخمسين أو الستين، ليذهب بعد ذلك يريد شابة دون العشرين، فلم هذا؟ ألا تطلب أيها المسن! امرأة قلت الرغبة فيها ممن زاد عمرها على الثلاثين أو الأربعين، فيقول: لا. إن هذا الأمر ينبغي أن ننتبه له، فهو من مروءة الإنسان، وكما قلت: الله أعلم بما دار بينه وبين زوجه، وهو يقول: لا أريد أن يتفضل علي أحد، وأعجزتني بمكافأتها، وحسن صحبتها، فلما نظرت في المرآة رأيت أنني لا أكافئها فما لها إلا أن أفارقها.

بعض المآخذ على عبد الله بن عامر في ولايته

عبد الله بن عامر أمير البصرة، جرى لغط حوله وهو أمير، والحديث في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي ، وسيأتينا في كتاب الفتن من سنن الترمذي ، ورواه أبو داود الطيالسي وإسناده حسن وقال الترمذي : حسن غريب، من رواية زياد بن كتيب العدوي ، قال: كنت مع أبي بكرة -أحد الصحابة واسمه نفيع بن الحارث - تحت منبر عبد الله بن عامر ، وهو يخطب وعليه ثياب رقاق، ثياب المترفين، كأنه يتميز عن الحاضرين، فقال أبو بلال أحد الحاضرين -وقيل: إنه من الخوارج، ويقول برأيهم ويذهب مذهبهم-: انظروا إلى أميركم يلبس ثياب الفساق، ويخطب فيكم؟! فقال له أبو بكرة : اسكت، إنني سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله )، فعندك نصح لهذا الأمير أو المسؤول فبلغه إياه، ولا داعي لهذه الفضيحة وهذا التشهير، بلغ هذه النصيحة إليه ليسمعها دون تحقير أو تشهير، وإسناد هذا الحديث حسن، وصححه عدد من أئمتنا عليهم جميعاً رحمة الله جل وعلا.

إذاً: مع كونه أميراً جرى حوله هذا الكلام، ثم إن الثياب لها اعتبار، وكان أئمتنا يقولون: أول النسك الزي، ومن رق ثوبه رق دينه، يعني: أول علامات الالتزام أن تغير ثيابك، وهذا هو الواقع؛ لأنك ترى من يعيش في الجاهلية ثم يهتدي، فأول شيء يظهر عليه من علامات الهدى الثياب، تراه كان يلبس ثياباً من حرير أو ناعمة فلما استقام تركها، ولبس لباس السنة، واقتصد، فهذا أول ما يظهر عليه، كان يلبس لباساً يشف أحياناً حتى عن فخذيه، وسراويل قصيرة، ثم تراه لبس لباس الكمال والحشمة والمروءة، فأول النسك الزي، ومن رق ثوبه رق دينه.

فـعبد الله بن عمر أراد أن ينبه عبد الله بن عامر على هذا الأمر، ألا وهو التوبة إلى الله جل وعلا، وما قال له: فيك وفيك، وإنما قال: أنت كنت أميراً على البصرة، وأنت أدرى، والأمير والمسؤول في الغالب يفرط في حق الله وفي حق رعيته، فلا داعي أن تتعلق همتك بطلب الدعاء منا، بل تب إلى ربك جل وعلا، فهو الذي يقبل التوبة عن عباده، ولا يريد ابن عمر بذلك أن الدعاء للعصاة لا ينفع، فكمال الدين عندنا أن ندعو للمؤمنات والمؤمنين، كما أن أصل الدين توحيد رب العالمين، والعلم عند الله جل وعلا.