شرح الترمذي - مقدمات [10]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! فهذا هو الدرس العاشر في المقدمة التي قدرت لها خمسة دروس وإن طالت فلن تتجاوز الدرس العاشر إن شاء الله، وسننتهي بعون الله جل وعلا من مدارسة المقدمة في هذه الليلة المباركة، ثم نقرأ ما تيسر من الكتاب المبارك وهو جامع الإمام الترمذي المعروف بسنن الترمذي عليه وعلى أئمتنا والمسلمين جميعاً رحمة الله جل وعلا.

إخوتي الكرام! كان آخر شيء تدارسناه في المقدمة ما يتعلق بغرض الإمام الترمذي ومقاصده من تأليف كتابه الجامع أو السنن، وقلت: إن غرضه من جمع هذا الكتاب وتصنيفه ثلاثة أمور:

الغرض الأول: جمع الحديث ليستنبط منه الأحكام الفقهية

أولها: الحديث من حيث الناحية الفقهية، أي: أنه جمع الحديث ليستنبط منه أحكاماً يقررها، وهو بهذا تأثر بشيخه الإمام البخاري عليهم جميعاً رحمة الله جل وعلا، لكن بينه وبين شيخه فارق في هذا الأمر، فالإمام البخاري جمع الحديث ليدلل به على فقهه وعلى استنباطه؛ ولذلك قال أئمتنا: فقه البخاري في تراجمه أي: يظهر فقهه واستنباطه ومأخذه للأحكام في تراجم أبوابه، فالإمام البخاري يورد الترجمة ثم يدلل عليها بآيات القرآن وبما صح عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وأحياناً بأقوال السلف الكرام.

فالإمام الترمذي تأثر بشيخه البخاري في هذا الأمر، فأورد الأحاديث، واستنبط منها الأحكام، وذكر منها أحكاماً عزاها إلى أئمة الإسلام الذين استنبطوها، وملأ كتابه -كما سيأتينا- بالنقول عن أئمة المسلمين، لا سيما ستةً منهم كان ينقل عنهم بالإسناد إليهم -كما بين هذا في كتابه (العلل) الملحق بكتابه الجامع، وهم: سفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، وعبد الله بن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق بن راهويه عليهم جميعاً رحمة الله، ونقل عن غيرهم -كما سيأتينا- كثيراً، لكن هؤلاء امتاز بالنقل عنهم أكثر، ثم روى إسناده إليهم عندما ينقل عنهم.

هذا الغرض الأول من تأليف الإمام الترمذي لسننه.

الغرض الثاني: ذكر الحديث باختلاف طرقه ورواته في مكان واحد

الأمر الثاني: أن يجمع الأحاديث وأن يشير إلى طرقها واختلاف رواتها، وتعدد رواياتها في مكان واحد، وقد تأثر في هذا المسلك بشيخه الثاني الإمام مسلم رحمه الله فهو تأثر بشيخيه البخاري ومسلم في طريقة التصنيف، فالإمام البخاري لا يجمع روايات الحديث وطرق الحديث في مكان واحد وإنما يفرقه في كتبه، بينما الإمام مسلم امتاز عنه في هذا الأمر -كما تقدم معنا- فيجمع الأحاديث التي هي في موضوع واحد، ويورد الحديث من عدة طرق، ولا يذكر أحياناً لفظه إلا أنه يروي الحديث ثم يقول: وحدثناه فلان وفلان ثم يورد الأسانيد في مكان واحد بحيث تقف على عدة أسانيد لحديث واحد، وعدة أحاديث لموضوع واحد، فالإمام الترمذي فعل هذا أيضاً في كتابه الجامع سنن الترمذي ، وهذه ناحية حديثية نافعة لطالب العلم عندما يقف على طرق الحديث ورواياته وعلى الأحاديث التي بمعناه وتشهد له، وإذا كان في الحديث أحياناً شيء من الضعف يزول هذا الضعف وينجبر عندما تقف على الطرق المتعددة.

وهذه ناحية حديثية معتبرة سلكها الإمام مسلم عليه رحمة الله؛ ولذلك أئمتنا يقولون: فلان لم يرو له مسلم في الأصول إنما روى له في الشواهد والمتابعات، فالإمام مسلم كان يتساهل في الرواية عن بعض الرواة في الشواهد والمتابعات ما لا يفعله في الأصول، فلا يروي في أصل الباب -أي: الأحاديث التي هي أصل عنده- إلا من طرق الأئمة اللذين بلغوا أعلى درجات التوثيق، ثم ينزل أحياناً كما فعل في محمد بن إسحاق -وحديثه في درجة الحسن- فكان يروي عنه لكن مقروناً بغيره في الشواهد والمتابعات، فلا يخرج له في الأصول، وهذه هي الصناعة الحديثية، عندما يورد الحديث من عدة طرق يظهر لك حقيقة ضبطه وإتقانه، وأنه لا خلل فيه، ولا احتمال للخلل عندما تتعدد الطرق وتكثر، هذا أيضاً مقصود ثانٍ للإمام الترمذي من جامعه أو سننه.

الغرض الثالث: ذكر ما يتعلق بالحديث من قواعد المصطلح

والأمر الثالث لعله انفرد به من بين المحدثين، ولا توجد هذه الميزة في غير كتاب جامع الترمذي ، وهي: أنه جمع الأحاديث في هذا الكتاب، وأراد أن يبين عند جمعه لها ما يتعلق بهذه الأحاديث من قواعد المصطلح، وفن الجرح والتعديل، وهذا قل أن تقف عليه في كتاب كما هو موجود في كتاب الإمام الترمذي ، فالناحية الأولى فقهية والناحية الثانية حديثية، ثم جاء بعد ذلك إلى ما يتعلق بعلوم الحديث ومصطلحه فتكلم على هذه الناحية وأسهب فيها.

وهذا الكتاب انفرد بهذه الناحية الثالثة كما انفرد بالناحية الأولى فجمع أقوال أئمة الإسلام في هذا الكتاب، ثم بعد ذلك تكلم على قواعد علم المصطلح، فلذلك تكلم على الرجال وعلل الحديث، وبين درجة كل حديث حسب قواعد علوم الحديث.

ويعتبر كتاب جامع الترمذي أول كتاب وصلنا في علم المصطلح، وفي علوم الحديث، كما يعتبر أول كتاب وصلنا في الموسوعة الفقهية والفقه المقارن.

أئمتنا في كتب المصطلح يقولون: أول من ألف في علم المصطلح أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي ، الذي توفي سنة ستين وثلاثمائة، لكنه لم يستوعب قواعد هذا العلم، وأنا أقول: قد سبقه إلى التأليف في هذا العلم الإمام الترمذي الذي توفي سنة تسع وسبعين ومائتين للهجرة، فهو قبله، فنوه بقواعد علوم الحديث ومصطلحه في كتابه من أوله إلى آخره.

ويقولون: ثم تلاه الحاكم فألف كتابه معرفة علوم الحديث، لكنه لم يرتب، وجاء بعده أبو نعيم فترك أشياء للمتعقب، ثم جاء بعدهم الإمام الخطيب البغدادي فما ترك فناً من فنون مصطلح الحديث وعلومه إلا وألف فيه كتاباً مستقلاً؛ ولذلك جميع المحدثين بعده عيال على كتبه.

أما الرامهرمزي فتوفي سنة ستين وثلاثمائة، وأما الحاكم فسنة خمس وأربعمائة، وأما أبو نعيم فسنة ثلاثين وأربعمائة، وأما الخطيب البغدادي فتوفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة للهجرة عليهم جميعاً رحمة الله، وأقدم هؤلاء الإمام الترمذي .

نعم لم يجمع الترمذي هذه القواعد في كتاب مستقل، ولا رتبها، والرامهرمزي فعل مثله تقريباً، فكتابه بدون ترتيب وبدون جمع واستقصاء، نعم استقرت بعد ذلك كتب المصطلح في كتب خاصة مرتبة، كما كان ذلك في القرن الخامس للهجرة، لكن الإمام الترمذي هو من فتح الباب لهذه السعة وهذا الإحكام وهذه الدقة كما سيأتينا، فكتابه أول كتاب في المصطلح، وأول موسوعة فقهية، وأول كتاب في الفقه المقارن، وهذان الأمران انفرد بهما جامع الترمذي عن سائر كتب الحديث.

والإمام الترمذي في كتابه العلل كأنه اعتذر عن هذا المسلك وأراد أن يلتمس لنفسه مبرراً في فعله؛ لأنه فعل ما لم يسبق إليه، فقال في كتاب العلل في الجزء التاسع، صفحة ست وثلاثين وأربعمائة في الطبعة الشامية الحمصية: (وإنما حملنا على ما بينا في هذا الكتاب من أقوال الفقهاء وعلل الحديث). هذان أمران انفرد بهما، أما الحديث من حيث الصناعة الحديثية وتتبع الطرق فهذا قد سبقه إليه محدثون كثر وأولهم الإمام مسلم رحمه الله، فلذلك ما نوه الإمام الترمذي بهذا الأمر، يقول: حملنا على جمع أقوال الفقهاء والكلام على علل الحديث؛ لأنا سئلنا عن هذا زماناً فلم نفعله، أي: سألنا طلبة العلم مراراً أن نجمع أقوال الفقهاء عند كل حديث، وأن نبين من ذهب إليه وأخذ به، وأن نتكلم على علل الحديث فلم نفعله، يقول: (ثم فعلناه لما رجونا فيه من منفعة الناس، ووجدنا غير واحد من الأئمة تكلف في التصنيف فيما لم يسبق إليه) أي أن هناك عدداً من الأئمة، صنفوا أشياء لم يسبقوا إليها فنحن وإن لم نسبق إلى مثل هذا التصنيف فلنا أسوة فيمن سبقنا عندما ألفوا ما لم يسبقوا إليه، ثم ذكر أمثلة كالإمام مالك عندما صنف موطأه وهو لم يسبق إلى ذلك، والإمام عبد الله بن المبارك عندما ألف كثيراً من الكتب منها كتاب الزهد ولم يسبق إليه، فهؤلاء فعلوا أشياء لم يسبقوا إليها رجاء نفع الناس والأجر عند ربنا، فنحن -إذاً- نقتدي بهم في هذا الفعل فنذكر أقوال الفقهاء ونجمعها في كتابنا، ونتكلم على علل الحديث وإن لم نسبق إلى ذلك.

يقول: (فجعل الله في تلك الكتب منفعةً كبيرة، ولهم في ذلك الثواب الجزيل عند الله الجليل، ولنا فيهم قدوة).

أولها: الحديث من حيث الناحية الفقهية، أي: أنه جمع الحديث ليستنبط منه أحكاماً يقررها، وهو بهذا تأثر بشيخه الإمام البخاري عليهم جميعاً رحمة الله جل وعلا، لكن بينه وبين شيخه فارق في هذا الأمر، فالإمام البخاري جمع الحديث ليدلل به على فقهه وعلى استنباطه؛ ولذلك قال أئمتنا: فقه البخاري في تراجمه أي: يظهر فقهه واستنباطه ومأخذه للأحكام في تراجم أبوابه، فالإمام البخاري يورد الترجمة ثم يدلل عليها بآيات القرآن وبما صح عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وأحياناً بأقوال السلف الكرام.

فالإمام الترمذي تأثر بشيخه البخاري في هذا الأمر، فأورد الأحاديث، واستنبط منها الأحكام، وذكر منها أحكاماً عزاها إلى أئمة الإسلام الذين استنبطوها، وملأ كتابه -كما سيأتينا- بالنقول عن أئمة المسلمين، لا سيما ستةً منهم كان ينقل عنهم بالإسناد إليهم -كما بين هذا في كتابه (العلل) الملحق بكتابه الجامع، وهم: سفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، وعبد الله بن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق بن راهويه عليهم جميعاً رحمة الله، ونقل عن غيرهم -كما سيأتينا- كثيراً، لكن هؤلاء امتاز بالنقل عنهم أكثر، ثم روى إسناده إليهم عندما ينقل عنهم.

هذا الغرض الأول من تأليف الإمام الترمذي لسننه.

الأمر الثاني: أن يجمع الأحاديث وأن يشير إلى طرقها واختلاف رواتها، وتعدد رواياتها في مكان واحد، وقد تأثر في هذا المسلك بشيخه الثاني الإمام مسلم رحمه الله فهو تأثر بشيخيه البخاري ومسلم في طريقة التصنيف، فالإمام البخاري لا يجمع روايات الحديث وطرق الحديث في مكان واحد وإنما يفرقه في كتبه، بينما الإمام مسلم امتاز عنه في هذا الأمر -كما تقدم معنا- فيجمع الأحاديث التي هي في موضوع واحد، ويورد الحديث من عدة طرق، ولا يذكر أحياناً لفظه إلا أنه يروي الحديث ثم يقول: وحدثناه فلان وفلان ثم يورد الأسانيد في مكان واحد بحيث تقف على عدة أسانيد لحديث واحد، وعدة أحاديث لموضوع واحد، فالإمام الترمذي فعل هذا أيضاً في كتابه الجامع سنن الترمذي ، وهذه ناحية حديثية نافعة لطالب العلم عندما يقف على طرق الحديث ورواياته وعلى الأحاديث التي بمعناه وتشهد له، وإذا كان في الحديث أحياناً شيء من الضعف يزول هذا الضعف وينجبر عندما تقف على الطرق المتعددة.

وهذه ناحية حديثية معتبرة سلكها الإمام مسلم عليه رحمة الله؛ ولذلك أئمتنا يقولون: فلان لم يرو له مسلم في الأصول إنما روى له في الشواهد والمتابعات، فالإمام مسلم كان يتساهل في الرواية عن بعض الرواة في الشواهد والمتابعات ما لا يفعله في الأصول، فلا يروي في أصل الباب -أي: الأحاديث التي هي أصل عنده- إلا من طرق الأئمة اللذين بلغوا أعلى درجات التوثيق، ثم ينزل أحياناً كما فعل في محمد بن إسحاق -وحديثه في درجة الحسن- فكان يروي عنه لكن مقروناً بغيره في الشواهد والمتابعات، فلا يخرج له في الأصول، وهذه هي الصناعة الحديثية، عندما يورد الحديث من عدة طرق يظهر لك حقيقة ضبطه وإتقانه، وأنه لا خلل فيه، ولا احتمال للخلل عندما تتعدد الطرق وتكثر، هذا أيضاً مقصود ثانٍ للإمام الترمذي من جامعه أو سننه.

والأمر الثالث لعله انفرد به من بين المحدثين، ولا توجد هذه الميزة في غير كتاب جامع الترمذي ، وهي: أنه جمع الأحاديث في هذا الكتاب، وأراد أن يبين عند جمعه لها ما يتعلق بهذه الأحاديث من قواعد المصطلح، وفن الجرح والتعديل، وهذا قل أن تقف عليه في كتاب كما هو موجود في كتاب الإمام الترمذي ، فالناحية الأولى فقهية والناحية الثانية حديثية، ثم جاء بعد ذلك إلى ما يتعلق بعلوم الحديث ومصطلحه فتكلم على هذه الناحية وأسهب فيها.

وهذا الكتاب انفرد بهذه الناحية الثالثة كما انفرد بالناحية الأولى فجمع أقوال أئمة الإسلام في هذا الكتاب، ثم بعد ذلك تكلم على قواعد علم المصطلح، فلذلك تكلم على الرجال وعلل الحديث، وبين درجة كل حديث حسب قواعد علوم الحديث.

ويعتبر كتاب جامع الترمذي أول كتاب وصلنا في علم المصطلح، وفي علوم الحديث، كما يعتبر أول كتاب وصلنا في الموسوعة الفقهية والفقه المقارن.

أئمتنا في كتب المصطلح يقولون: أول من ألف في علم المصطلح أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي ، الذي توفي سنة ستين وثلاثمائة، لكنه لم يستوعب قواعد هذا العلم، وأنا أقول: قد سبقه إلى التأليف في هذا العلم الإمام الترمذي الذي توفي سنة تسع وسبعين ومائتين للهجرة، فهو قبله، فنوه بقواعد علوم الحديث ومصطلحه في كتابه من أوله إلى آخره.

ويقولون: ثم تلاه الحاكم فألف كتابه معرفة علوم الحديث، لكنه لم يرتب، وجاء بعده أبو نعيم فترك أشياء للمتعقب، ثم جاء بعدهم الإمام الخطيب البغدادي فما ترك فناً من فنون مصطلح الحديث وعلومه إلا وألف فيه كتاباً مستقلاً؛ ولذلك جميع المحدثين بعده عيال على كتبه.

أما الرامهرمزي فتوفي سنة ستين وثلاثمائة، وأما الحاكم فسنة خمس وأربعمائة، وأما أبو نعيم فسنة ثلاثين وأربعمائة، وأما الخطيب البغدادي فتوفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة للهجرة عليهم جميعاً رحمة الله، وأقدم هؤلاء الإمام الترمذي .

نعم لم يجمع الترمذي هذه القواعد في كتاب مستقل، ولا رتبها، والرامهرمزي فعل مثله تقريباً، فكتابه بدون ترتيب وبدون جمع واستقصاء، نعم استقرت بعد ذلك كتب المصطلح في كتب خاصة مرتبة، كما كان ذلك في القرن الخامس للهجرة، لكن الإمام الترمذي هو من فتح الباب لهذه السعة وهذا الإحكام وهذه الدقة كما سيأتينا، فكتابه أول كتاب في المصطلح، وأول موسوعة فقهية، وأول كتاب في الفقه المقارن، وهذان الأمران انفرد بهما جامع الترمذي عن سائر كتب الحديث.

والإمام الترمذي في كتابه العلل كأنه اعتذر عن هذا المسلك وأراد أن يلتمس لنفسه مبرراً في فعله؛ لأنه فعل ما لم يسبق إليه، فقال في كتاب العلل في الجزء التاسع، صفحة ست وثلاثين وأربعمائة في الطبعة الشامية الحمصية: (وإنما حملنا على ما بينا في هذا الكتاب من أقوال الفقهاء وعلل الحديث). هذان أمران انفرد بهما، أما الحديث من حيث الصناعة الحديثية وتتبع الطرق فهذا قد سبقه إليه محدثون كثر وأولهم الإمام مسلم رحمه الله، فلذلك ما نوه الإمام الترمذي بهذا الأمر، يقول: حملنا على جمع أقوال الفقهاء والكلام على علل الحديث؛ لأنا سئلنا عن هذا زماناً فلم نفعله، أي: سألنا طلبة العلم مراراً أن نجمع أقوال الفقهاء عند كل حديث، وأن نبين من ذهب إليه وأخذ به، وأن نتكلم على علل الحديث فلم نفعله، يقول: (ثم فعلناه لما رجونا فيه من منفعة الناس، ووجدنا غير واحد من الأئمة تكلف في التصنيف فيما لم يسبق إليه) أي أن هناك عدداً من الأئمة، صنفوا أشياء لم يسبقوا إليها فنحن وإن لم نسبق إلى مثل هذا التصنيف فلنا أسوة فيمن سبقنا عندما ألفوا ما لم يسبقوا إليه، ثم ذكر أمثلة كالإمام مالك عندما صنف موطأه وهو لم يسبق إلى ذلك، والإمام عبد الله بن المبارك عندما ألف كثيراً من الكتب منها كتاب الزهد ولم يسبق إليه، فهؤلاء فعلوا أشياء لم يسبقوا إليها رجاء نفع الناس والأجر عند ربنا، فنحن -إذاً- نقتدي بهم في هذا الفعل فنذكر أقوال الفقهاء ونجمعها في كتابنا، ونتكلم على علل الحديث وإن لم نسبق إلى ذلك.

يقول: (فجعل الله في تلك الكتب منفعةً كبيرة، ولهم في ذلك الثواب الجزيل عند الله الجليل، ولنا فيهم قدوة).

ذكرت سابقاً أن جامع الترمذي يمتاز بأمرين اثنين لا يوجدان في كتاب: جمع أقوال الفقهاء وبيان علل الحديث، والتنويه بقواعد علوم الحديث عقب الحديث، أما جمع الحديث في مكان واحد فهذا موجود في سائر كتب المحدثين، وبسبب هاتين الميزتين فضل عدد من أئمتنا كتاب الترمذي على الصحيحين: البخاري ومسلم ، لا من حيث الصحة والمكانة، إنما من حيث الفائدة المرجوة، فطالب العلم إن قرأ جامع الترمذي يستفيد ما لا يستفيده من قراءة صحيح البخاري ، فهناك سيقرأ حديثاً يدل على استنباط رآه الإمام البخاري دون غيره من الفقهاء، فـالبخاري لا يذكر أقوال الفقهاء، ولم يذكر قواعد علوم الحديث من باب أولى، وهكذا صحيح مسلم يجد حديثاً من حيث الصناعة الحديثية ما أجمله وأحسنه! جمع للطرق والروايات في مكان واحد، لكن بلا فقه، وبلا قواعد حديث.

وأما هنا فسيجمع الطالب هذه الفوائد مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثناء شيخ الإسلام الهروي على جامع الترمذي

قال شيخ الإسلام الإمام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الهروي الأنصاري صاحب كتاب منازل السائرين الذي شرحه الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين عليهم جميعاً رحمات رب العالمين، المتوفى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة للهجرة، قال: (جامع الترمذي أنفع عندي من الصحيحين، ثم علل هذا فقال: لأنه لا يقف على الفائدة في الصحيحين إلا المتبحر العالم، وأما سنن الترمذي فيصل إلى الفائدة المرجوة منه كل أحد)، فطالب العلم عندما يقرأ الحديث يرى أقوال الفقهاء واستنباطهم من هذا الحديث، ثم يرى بعد ذلك تعليق الإمام الترمذي على الحديث صحةً وتوثيقاً، ويتكلم على قواعد علوم الحديث بعد ذلك، ففائدته يصل إليها كل أحد، وأما الفائدة في الصحيحين فلا يصل إليها إلا المتبحر العالم.

ثناء ابن العربي على جامع الترمذي

وقد أثنى عدد من أئمتنا على كتاب الإمام الترمذي لامتيازه بهذه الأمور.

قال الإمام أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي في أول شرحه لسنن الترمذي ، المتوفى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة للهجرة، يقول في الجزء الأول صفحة خمسة: (اعلموا أنار الله أفئدتكم، أن كتاب الجعفي - يعني كتاب الإمام البخاري - هو الأصل الثاني في هذا الباب -يعني من كتب علوم الحديث والسنة- وأن موطأ الإمام مالك هو الأول واللباب -أي: هو الأول في التصنيف، وهو الذي افتتح الباب للتصنيف وجمع حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام- وعليهما بناء الجميع -يعني: من جاء بعد الإمام مالك والبخاري تأثر بهذين الإمامين وصنف وجمع كـأبي الحجاج مسلم القشيري ، والإمام الترمذي - وليس فيهم مثل الإمام الترمذي ، حلاوة مقطع، ونفاسة منزع، وعذوبة مشرع، وفيه أربعة عشر علماً، وذلك أقرب إلى العمل وأتبع -عدوا هذه العلوم- أسند، وصحح، وضعف، وعدد الطرق، وجرح، وعدل، وأسمى -أي: ذكر أسماء الرواة- وأكنى -ذكر كناهم- ووصل، وقطع، وأوضح المعمول به، وأوضح المتروك، وبين اختلافهم في رد الحديث وقبوله، وبين اختلافهم في تأويله وتفسيره، هذه أربعة عشر علماً في سنن الإمام الترمذي ، وكل علم من هذه العلوم أصل في بابه، وفرد في نصابه، فالقارئ له لا يزال في رياض مونقة، وعلوم مثقفة منسقة، وهذا شيء لا يعمه إلا العلم الغزير، والتوفيق الكثير، والفراغ والتدبير) أي: كان الإمام الترمذي عنده علم ووقت وتوفيق من الله جل وعلا، حتى جمع هذه العلوم الأربعة عشر في جامعه.

ثناء ابن الأثير على جامع الترمذي

وهكذا الإمام ابن الأثير صاحب كتاب جامع الأصول الذي توفي سنة ست وستمائة للهجرة، وهو يقصد بالأصول الأصول الستة، وهي الأصول الخمسة المتفق عليها بزيادة الموطأ؛ لأنه زاد الموطأ بدل سنن ابن ماجه ، وهذا الكتاب من الكتب النفيسة التي ينبغي أن يقتنيها طالب العلم، خاصة التي بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرنؤوط ففيها خير كثير، فكل ما في الكتب الستة من الصحيحين والسنن الثلاثة مع موطأ الإمام مالك موجود في هذا الكتاب، وهو في أحد عشر مجلداً، بحذف الأسانيد والاقتصار على الصحابي الراوي، ثم تبيين بعد ذلك منزلة كل حديث على وجه الاختصار في الحاشية، فهو كتاب نافع، وفيه خير كثير.

يقول هذا في بيان منزلة كتاب الإمام الترمذي الذي ضمن أحاديثه في كتابه جامع الأصول في الجزء الأول صفحة ثلاث وتسعين ومائة: (وهذا كتابه الصحيح) يعني: الجامع الصحيح، ويقال له: جامع الترمذي ، وقوله: الصحيح من باب الغالب، (أحسن الكتب وأكثرها فائدةً، وأحسنها ترتيباً، وأقلها تكراراً، وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب، ووجوه الاستدلال، وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن والغريب، وفيه جرح وتعديل، وفي آخره كتاب العلل، قد جمع فيه فوائد حسنةً لا يخفى قدرها على من وقف عليها).

قال شيخ الإسلام الإمام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الهروي الأنصاري صاحب كتاب منازل السائرين الذي شرحه الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين عليهم جميعاً رحمات رب العالمين، المتوفى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة للهجرة، قال: (جامع الترمذي أنفع عندي من الصحيحين، ثم علل هذا فقال: لأنه لا يقف على الفائدة في الصحيحين إلا المتبحر العالم، وأما سنن الترمذي فيصل إلى الفائدة المرجوة منه كل أحد)، فطالب العلم عندما يقرأ الحديث يرى أقوال الفقهاء واستنباطهم من هذا الحديث، ثم يرى بعد ذلك تعليق الإمام الترمذي على الحديث صحةً وتوثيقاً، ويتكلم على قواعد علوم الحديث بعد ذلك، ففائدته يصل إليها كل أحد، وأما الفائدة في الصحيحين فلا يصل إليها إلا المتبحر العالم.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3976 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3904 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3785 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3784 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3565 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3481 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3462 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3413 استماع