خطب ومحاضرات
شرح الترمذي - مقدمات [5]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.
اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.
سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك.
سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فقد كنا نتدارس فوائد مدارسة حديث نبينا عليه الصلاة والسلام، وقلت: هذه الفوائد كثيرة غزيرة وفيرة، يمكن أن نجمعها في ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى: نحفظ أدلة الشرع من الضياع والذهاب والاندراس والإقدام.
والفائدة الثانية: نكثر الصلاة والسلام على خير الأنام نبينا عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك خيرات حسان في الدنيا وفي الآخرة عظام، يحصلها من يكثر الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام.
والفائدة الثالثة: الفوز بالنضرة والرحمة اللتين دعا بهما نبينا صلى الله عليه وسلم لمن ينشر حديثه ويدرس سنته عليه صلوات الله وسلامه.
الفائدة الثانية كنا نتدارسها في الموعظة الماضية، وبينت أثر هذه الفائدة، وما يحصله المحدثون وطلبة الحديث ودارسو علم السنة من خيرات حسان في الدنيا وفي الآخرة، فالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام منبع الخيرات في العاجل والآجل، ومن جعلها شغله الشاغل كفاه الله همه وغفر له ذنبه، وتولى أمره سبحانه وتعالى.
تقدم معنا فضائل الصلاة والسلام على نبينا عليه الصلاة والسلام، وسأذكر هنا تعليقاً للذهبي في السير ذكره في ترجمة الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم، ثم أنتقل إلى الفائدة الثالثة، وبعد ذلك أنتقل إلى ترجمة الإمام المبارك الإمام الترمذي عليه الصلاة والسلام ومنزلة كتابه من كتب السنة.
إخوتي الكرام! هذه الصلاة التي نصليها على نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا السلام الذي نسلم به عليه عليه الصلاة والسلام، يحصل لنا فيهما من الأجر عشر رحمات من رب الأرض والسماوات، فمن صلى على النبي عليه الصلاة والسلام مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً، وتقدم معنا أن صلاة الله على عباده رحمته لهم، وقلنا: هذا أقل ما يحصل، وإذا عظم في القلب تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام والشوق إليه فستضاعف الخيرات والأجور لمن يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، فيصلي الله عليه وملائكته سبعين صلاة، ويكتب الله له عشر حسنات، ويرفع له عشر درجات، ويمحو عنه عشر سيئات، ويرد عليه مثلها، كما تقدم معنا، وإذا جعل الإنسان الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ورداً له على الدوام، كفاه الله همه وغفر له ذنبه.
هذه الصلاة التي لها هذه الفوائد العظيمة، عندما نفعلها نحو نبينا عليه الصلاة والسلام تبلغه كما لو كان حياً وصلينا عليه وسلمنا عليه، عليه صلوات الله وسلامه، تبلغه ويسمعها، ويعرف المصلي والمسلم عليه، ثم يرد بعد ذلك على من صلى عليه وسلم، عليه صلوات الله وسلامه.
حديث أبي هريرة في بلوغ الصلاة والسلام إليه
الأمر الأول: لا تجعلوا البيوت لا خير فيها معطلة عن التلاوة والقراءة وذكر الله كحال القبر؛ لأن الميت إذا مات انقطع عمله، فعندما يقبر يتوقف عمله، فهو في قبره لا يصلي ولا يصوم، ولا يصدر منه عمل، فلا تجعلوا بيوتكم كالمقابر ليس فيها صلاة وصيام وذكر للرحمن، ولذلك ثبت في المسند وصحيح مسلم وسنن الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، فإن البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة ينفر منه الشيطان )، أي: يهرب منه ويطرد ويبتعد.
فإذاً: المراد اذكروا الله كثيراً في بيوتكم، واقرءوا القرآن، وخاصة هذه السورة العظيمة؛ سورة البقرة، فإذا قرئت يطرد الشيطان من هذا البيت، وأهل القبور من الموتى لو أمكن أن نخاطبهم وقلنا لهم: ماذا تتمنون؟ لقالوا: نتمنى حياة ساعة فقط، لنعمرها بذكر الله جل وعلا، والصلاة على رسوله عليه الصلاة والسلام، ونعمرها بالطاعات والأوقات، ونحن نضيعها بعد ذلك بلا فائدة، يتحسرون على ساعة لو أمكنهم أن يدركوها.
الأمر الثاني: الدفن في البيوت، ينبغي إذا مات الإنسان أن يدفن في مقابر المسلمين، ومن خصائص نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام أن يدفن حيث قبض، فإذا قبض في بيته يدفن في بيته عليه الصلاة والسلام، أما من عداه فيدفن في مقابر المسلمين، فلما دفن نبينا عليه الصلاة والسلام في بيته صار لبيته حكم المقبرة، فشرع بعد ذلك دفن أبي بكر ؛ لأنه دفن في مقبرة، ثم شرع دفن عمر ، فلا حرج في ذلك؛ لأنه لما قبر النبي عليه الصلاة والسلام صار لهذا المكان هذا الحكم، وأما أن يدفن الإنسان في بيته فهذا منهي عنه.
( ولا تجعلوا قبري عيداً )، أي: تعكفون عليه وتلازمونه، كما يجتمع الناس في الأعياد، فهذا منهي عنه، إنما يزار النبي عليه الصلاة والسلام من قبل من يسكن في المدينة المنورة ما بين الحين والحين، والذي يأتي مسافراً أينما يدخل إلى المسجد يصلي ركعتين، ثم يسلم على سيد الكونين نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن هذا القبر ما ينبغي أن يعكف الناس عليه ويجتمعون كما يحصل الاجتماع في يوم العيد، فيحصل غلو وتعظيم وخروج عن صراط الله المستقيم، فيزار هذا القبر الشريف على نبينا صلوات الله وسلامه، ما بين الحين والحين.
إذاً: صلاتنا تبلغ نبينا عليه الصلاة والسلام ويسمعها، ويرد علينا سواء كنا في مسجده الشريف وأمام حجرته الشريفة، أو كنا في أقصى أطراف الأرض.
حديث ابن مسعود في بلوغ الصلاة والسلام إلى رسول الله
حديث الحسن بن الحسن في بلوغ الصلاة على رسول الله إليه والمراد منه
يقول الإمام الذهبي : أخرج ابن عجلان عن سهيل وسعيد مولى المهري عن الحسن بن الحسن بن علي : ( أنه رأى رجلاً وقف على البيت الذي فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له ويصلي عليه، فبدأ يدعو للنبي عليه الصلاة والسلام ويصلي عليه، فقال
الحسن بن الحسن بن علي أراد بهذا ألا يلازم هذا الرجل الحجرة الشريفة وألا يعكف على القبر، وما أراد أن الإنسان لا يشرع له أن يقف أمام الحجرة، ولا يشرع له أن يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام من جوار القبر الشريف، إنما كأنه يريد أن يقول له: لا داعي للاعتكاف والملازمة في هذا المكان، فالإمام الذهبي يعلق على هذا الأثر بما وضحته أن الحسن خشي من هذه الملازمة، ولا يعني الحسن أن الذي يقف أمام الحجرة الشريفة ويسلم على النبي حاله كحالنا نحن في قطر عندما نسلم على النبي عليه الصلاة والسلام، فذاك له مزية علينا قطعاً وجزماً، ليس حال من يقف أمام حجرة النبي عليه الصلاة والسلام ويسلم عليه كحال من يسلم عليه في غير المسجد من مكان بعيد عن الحجرة النبوية، إنما خشي عليه الملازمة والاعتكاف والبقاء في ذلك المكان على الدوام، فقال له: سلم على النبي عليه الصلاة والسلام، وصل عليه، فهذا مكان مبارك ولك أجر زائد، لكن لا تلازم هذا المكان، صل عليه وسلم حيثما كنت.
قال الإمام الذهبي : هذا الأثر مرسل؛ لأن الحسن بن الحسن تابعي وليس من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا المرسل تقدم معنا أنه روي متصلاً عن أبي هريرة بإسناد حسن، ورواه القاضي إسماعيل في فضل الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، ورقمه عشرون من طريق علي بن الحسين أيضاً، أنه رأى رجلاً كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي عليه الصلاة والسلام ويصلي عليه ويصنع ذلك، فقال له علي بن الحسين : هل لك أن أحدثك حديثاً عن أبي؟ يعني: عن علي ، فقال: نعم، فقال له علي بن الحسين : أخبرني أبي عن جدي -أنعم بهذا الإسناد- أي عن النبي عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه أنه قال: ( لا تجعلوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم فسيبلغني صلاتكم وسلامكم )، يقول الإمام الذهبي : هذا مرسل، لكن ورد من طرق أخرى متصلة كما تقدم معنا.
وما استدل الحسن في فتواه بطائل من الدلالة، يقول الحسن : عندما أراد أن يمنع هذا الرجل ما استدل بحجة تشهد له، الحديث لا يشهد لهذا، الحديث فقط يدل على أن من صلى على النبي عليه الصلاة والسلام من مكان بعيد أنه يبلغ النبي عليه الصلاة والسلام، وليس فيه أنه لا يأتي ويسلم على النبي عليه الصلاة والسلام أمام الحجرة المشرفة.
وأنا قلت: مراد الحسن أن ينهى هذا وأن يحذره من العكوف والملازمة، ولا يقصد الحسن رضي الله عنه أن الذي يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام أمام الحجرة كالذي يصلي عليه من مكان بعيد، قال الذهبي : فمن وقف عند الحجرة المقدسة ذليلاً مسلماً مصلياً على نبيه عليه الصلاة والسلام فيا طوبى له، فقد أحسن الزيارة وأجمل في التذلل والحب، وأتى بعبادة زائدة على من صلى عليه في أرضه أو في صلاته، إذ الزائر له أجر الزيارة وأجر الصلاة عليه -جمع بين حسنيين: زائر ومصلي- والمصلي عليه في سائر البلاد له أجر الصلاة فقط، على نبينا صلوات الله وسلامه، فمن صلى عليه واحدة صلى الله عليه عشراً، ولكن من زاره وأساء أدب الزيارة، أو سجد للقبر، أو فعل ما لا يشرع فهذا فعل حسناً وسيئاً. فالحسن زيارة النبي عليه الصلاة والسلام والتسليم عليه، والسيئ تمسحه بالقبر والسجود له وما شاكل هذا.
قال: فيعلم برفق -أن هذا من الغلو الذي نهينا عنه- والله غفور رحيم، فوالله ما يحصل الانزعاج لمسلم والصياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء إلا وهو محب لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، فحبه المعيار، والفارق بين أهل الجنة وأهل النار، فزيارة قبره من أفضل القرب.
كلام الذهبي في مسألة شد الرحال لزيارة قبر النبي
والحديث في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وفي روية لـمسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: ( لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ).
وكأن الإمام الذهبي عليه رحمة الله يريد أن ينهي خصاماً وقع حول هذه المسألة، وهي: هل تشرع الزيارة وشد الرحل إلى زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام؟ فالإمام الذهبي يقول: كل هذا الكلام في غير محله، زيارة المسجد مشروعة، وهي من القرب بلا نزاع، وهل يمكن أن نزور النبي عليه الصلاة والسلام وأن نسلم عليه في حجرته الشريفة دون أن ندخل المسجد؟ لا، وعليه فكأن الخلاف إذاً لفظي كلامي، فكأنه يقول: دعونا إذاً مما لا يترتب عليه أثر، زيارة المسجد قربة وطاعة، وإذا نهينا عن شد الرحل إلى قبور الأنبياء وقبور الأولياء، فقبر نبينا عليه الصلاة والسلام في مسجده الشريف عليه صلوات الله وسلامه، ولا يمكن أن نزور النبي عليه الصلاة والسلام في المسجد إلا إذا زرنا المسجد ودخلناه، فكأنه يقول: لا تختلفوا بعد ذلك فيما لا حقيقة له، وفيما لا طائل من الخلاف عليه، أجمعنا على أنه يجوز أن يشد الرحل إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، فالذي سيزوره سيشد الرحل إلى مسجده، وعليه فلا داعي بعد ذلك لتضخيم المسألة ولا لتكبيرها.
والإمام الذهبي عليه رحمة الله ذكر هذا في صفحة (4/ 483)، وذكر نحوه وقريباً منه في صفحة (4/ 42)، وينبغي أن نعطر هذا المجلس بهذا الكلام الذي ذكره هذا الإمام المبارك الإمام الذهبي الذي توفي سنة (748هـ) عليه رحمات رب العالمين، يقول في ترجمة عبيدة السلماني ، وهو من تلاميذ علي رضي الله عنه، ومن الرواة عنه، يقول: قال محمد يعني: ابن سيرين قلت لـعبيدة : إن عندنا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من قِبل أنس بن مالك ؛ لأن سيرين والد محمد بن سيرين كان عبداً رقيقاً عند أنس بن مالك ، ثم كاتبه وأعتقه وحرره، ومحمد بن سيرين هو ولد هذا المولى، فـسيرين الذي هو مولى أنس أخذ شعرة من شعرات النبي عليه الصلاة والسلام من أنس بن مالك خادم النبي عليه الصلاة والسلام.
فقال محمد بن سيرين لـعبيدة السلماني : إن عندنا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من قبل أنس بن مالك ، فقال عبيدة : لأن يكون عندي منه شعرة أحب إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر الأرض.
يعني: لو خيرت بين الذهب بكامله والفضة بكاملها الموجودة في الدنيا، وبين شعرة من شعرات النبي عليه الصلاة والسلام لآثرت شعرة النبي عليه الصلاة والسلام على كل صفراء وبيضاء، أي: على كل ذهب وفضة، يقول الذهبي معلقاً على هذا الكلام:
قلت: هذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب وفضة بأيدي الناس، ومثل هذا يقوله هذا الإمام بعد النبي عليه الصلاة والسلام، بخمسين سنة، يعني: العهد به قريب.
فما الذي نقوله نحن في وقتنا لو وجدنا بعض شعره بإسناد ثابت، أو شسع نعل كان له، وهو خيط يربط به نعله عليه الصلاة والسلام، أو قلامة ظفر، أو شقفة من إناء شرب فيه؟ الإمام الذهبي يقول: نحن في القرن الثامن، وإذا كان عبيدة يقول هذا بعد خمسين سنة من موت النبي الأمين، فماذا نقول نحن بعد سبعمائة وخمسين سنة؟ ماذا نقول لو حصلنا قلامة ظفر أو شقفة من إناء. يعني: قطعة، أو شسع نعل، أو شعرة من شعراته ماذا نقول؟ يعني: ذاك الذي رأى من رأى النبي عليه الصلاة والسلام عنده هذا الحب وهذا التعلق، فكيف نحن وبيننا وبينه مسافات؟ الأمر عندنا أعظم وأعظم.
فلو بذل الغني معظم أمواله في تحصيل شيء من ذلك عنده، أكنت تعده مبذراً أو سفيهاً؟ كلا، فابذل مالك في زيارة مسجده الذي بناه بيده، والسلام عليه عند حجرته في بلده عليه صلوات الله وسلامه، والتذ بالنظر إلى أحده -جبل أحد- وأحبه، فقد كان نبيك صلى الله عليه وسلم يحبه، وتملَّأ بالحلول في روضته ومقعده، يعني: امكث في هذه الروضة المشرفة والمكان الذي كان يقعد فيه نبينا عليه الصلاة والسلام.
فلن تكون مؤمناً حتى يكون هذا السيد أحب إليك من نفسك وولدك وأموالك والناس كلهم.
وقبل حجراً مكرماً نزل من الجنة، -يعني: الحجر الأسود في الكعبة المشرفة- وضع فمك لاثماً مكاناً قبله سيد البشر بيقين عليه صلوات الله وسلامه، فهنأك الله بما أعطاك، فما فوق ذلك مفخرة.
ولو ظفرنا بالمحجن -وهي العصا المعكوفة الذي استلم بها النبي عليه الصلاة والسلام الحجر الأسود، ثم قبلها- لو ظفرنا بها لحق لنا أن نزدحم على ذلك المحجن بالتقبيل والتبجيل، لو رأيناها يحق لنا أن نزدحم عليها كما نزدحم على الحجر الأسود لنقبل هذا المحجن ونبجل آثار النبي صلى الله عليه وسلم.
ونحن ندري بالضرورة أن تقبيل الحجر أرفع وأفضل من تقبيل محجنه ونعله، وقد كان ثابت البناني إذا رأى أنس بن مالك أخذ يده فقبلها، ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن إذ فاتنا ذلك فعندنا حجر معظم بمنزلة يمين الله في الأرض مسته شفتا نبينا صلى الله عليه وسلم لاثماً له، فإذا فاتك الحج وتلقيت الوفد فالتزم الحاج وقبل فمه، وقل: فم مس بالتقبيل حجراً قبله خليلي صلى الله عليه وسلم.
فهذه المعاني ينبغي أن نعيها، وهذا كله من تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام وتبجيله وتعزيره، وتوقيره عليه صلوات الله وسلامه، ومن حبه ومن التعلق به، فلن تكون مؤمناً حتى تحب هذا السيد الكريم عليه الصلاة والسلام أكثر من نفسك ومالك وولدك وأهلك والناس أجمعين.
حال الصلاة والسلام على النبي بين المتقدمين والمتأخرين
الأولى: الزيارة، والثانية: الصلاة والسلام على نبينا عليه الصلاة والسلام، والذين غلظت أكبادهم وقلوبهم في هذه الأيام، لعلهم يعتبرون هذا من الغلو، ويعتبرونه من الإطراء، ما الغلو والإطراء؟ أن ترفع الإنسان فوق منزلته التي أنزله الله فيها، وهو خير العالمين، وحبه دين.
التقيت مرة بواحد من هؤلاء في مدينة نبينا عليه الصلاة والسلام، فقال لي: أنا منذ ثلاثة أيام في المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه، وما ذهبت وسلمت على النبي عليه الصلاة والسلام، قلت: ويحك ماذا أصابك، عندك مرض أو عذر؟ قال: أخشى على نفسي من الشرك! أخشى إذا وقفت أمام الحجرة أن يدخل في قلبي تعظيم للنبي عليه الصلاة والسلام فأشرك، فخشية من الشرك أبتعد عن السلام على خير الأنام عليه الصلاة والسلام، ماذا تقول لهذا الإنسان، الذي خبل في عقله؟! الوقوف أمام الحجرة الشريفة، والسلام على أفضل خلق الله عليه الصلاة والسلام شرك، ومن فعل هذا خاف على نفسه من الشرك، أي شرك تفعل؟ هل صارت القربة ذريعة إلى الشرك وتخاف أن توصلك إلى الشرك؟ قلت: يا عبد الله! أما تعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام مخلوق؟ قال: بلى، قلت: أما تعلم أنه لا يضر ولا ينفع؟ قال: بلى، قلت: أما تعلم أن الله هو الذي ينبغي أن يعبد ويدعى ويرجى ونتعلق به ونتوكل عليه؟ قال: بلى، قلت: فأين الشرك يا عبد الله؟! واجب عليك أن تسلم على النبي عليه الصلاة والسلام، تركت هذا وتقول خشية الشرك! أين حبك للنبي عليه الصلاة والسلام؟
والله أنا أعجب غاية العجب، رحمة الله على الحسن البصري ، وهو من التابعين، عندما كان يذكر حنين الجذع الذي حن لنبينا عليه الصلاة والسلام وسمع له صوت كصوت العشار -كالناقة إذا كانت حاملاً في الشهر العاشر كيف تئن عندما يريد ولدها أن يخرج ويبرز- وسمع له صوت كصوت الصبي، وهذا الجذع الذي من النخل بدأ يصيح حتى كادت أن ينشق؛ والسبب في ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم على هذا الجذع من النخل، فلما بني له المنبر عليه الصلاة والسلام، ووضع له المنبر من ثلاث درجات رقى عليه وترك الجذع، وبدأ الجذع يحن شوقاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ويصيح في المسجد حتى ارتج المسجد، ونزل النبي عليه الصلاة والسلام فمسه ووضع يده عليه، وفي رواية فالتزمه فسكن، ولو لم يفعل هذا لبقي يخور إلى قيام الساعة، كان الحسن يقول: جذع جماد حن إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، ألا تحنون إلى نبيكم يا معشر المسلمين؟! على نبينا صلوات الله وسلامه؛ نسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يكرمنا برؤية نبينا عليه الصلاة والسلام في جنات النعيم، وأن يكرمنا أيضاً برؤية نور وجهه الكريم في جنات النعيم إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
هذه المعاني كما قلت: كلها من حب النبي عليه الصلاة والسلام، ولا إطراء ولا غلو، فينبغي أن نعي هذه القضية، وكلام الذهبي عندما قال: أنت عندما تستدل بهذا الحديث ما أتيت بطائل وليس في الحديث دلالة، يقصد أن الحديث ليس فيه دلالة على المنع من المجيء إلى الحجرة الشريفة بالصلاة والسلام على نبينا عليه الصلاة والسلام، وكل واحد لحظ ملحظاً: الحسن بن الحسن أراد من هذا ألا يعتكف الإنسان عند الحجرة الشريفة، والإمام الذهبي كأنه يقول: نعم الاعتكاف غير وارد، لكن ليس معنى هذا أن من سلم على النبي عليه الصلاة والسلام عند الحجرة الشريفة كحال من سلم عليه من بُعد، فذاك أعظم وأفضل، فله طاعتان: طاعة الزيارة، وطاعة الصلاة والسلام على نبينا عليه الصلاة والسلام.
أدلة أخرى تدل على وصول الصلاة والسلام على النبي ورده لذلك
ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود بإسناد حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام )، على نبينا صلوات الله وسلامه.
وروى الإمام الطبراني في معجمه الأوسط، قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب: إسناده لا بأس به، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من صلى علي بلغتني صلاته، وصليت عليه، وكتب له سوى ذلك عشر حسنات ).
فإذاً: هذه خيرات عظيمة يحصلها دارس الحديث الشريف ومتعلم السنة المطهرة، فالذين يجلسون لمدارسة حديث نبينا عليه الصلاة والسلام يكثرون من الصلاة والسلام على نبينا عليه الصلاة والسلام فيفوزون بهذه الخيرات العظام، فالنبي عليه الصلاة والسلام يصلي ويسلم عليهم، الله يصلي ويسلم عليهم ويرحمهم، الملائكة تسلم عليهم وتصلي، ويكتب الله لهم بعد ذلك الحسنات، ويمحو السيئات ويرفع لهم درجات، فأي خيرات بعد هذه الخيرات؟ هذه كلها يحصلها من يدرس حديث خير البريات، على نبينا صلوات الله وسلامه، هذه الفائدة الثانية التي يحصلها المسلم عندما يدرس حديث نبينا عليه الصلاة والسلام.
والدليل على هذا ما ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وإسناد الحديث حسن، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم )، (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً)، هذا شامل لأمرين كل منهما حق:
الأمر الأول: لا تجعلوا البيوت لا خير فيها معطلة عن التلاوة والقراءة وذكر الله كحال القبر؛ لأن الميت إذا مات انقطع عمله، فعندما يقبر يتوقف عمله، فهو في قبره لا يصلي ولا يصوم، ولا يصدر منه عمل، فلا تجعلوا بيوتكم كالمقابر ليس فيها صلاة وصيام وذكر للرحمن، ولذلك ثبت في المسند وصحيح مسلم وسنن الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، فإن البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة ينفر منه الشيطان )، أي: يهرب منه ويطرد ويبتعد.
فإذاً: المراد اذكروا الله كثيراً في بيوتكم، واقرءوا القرآن، وخاصة هذه السورة العظيمة؛ سورة البقرة، فإذا قرئت يطرد الشيطان من هذا البيت، وأهل القبور من الموتى لو أمكن أن نخاطبهم وقلنا لهم: ماذا تتمنون؟ لقالوا: نتمنى حياة ساعة فقط، لنعمرها بذكر الله جل وعلا، والصلاة على رسوله عليه الصلاة والسلام، ونعمرها بالطاعات والأوقات، ونحن نضيعها بعد ذلك بلا فائدة، يتحسرون على ساعة لو أمكنهم أن يدركوها.
الأمر الثاني: الدفن في البيوت، ينبغي إذا مات الإنسان أن يدفن في مقابر المسلمين، ومن خصائص نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام أن يدفن حيث قبض، فإذا قبض في بيته يدفن في بيته عليه الصلاة والسلام، أما من عداه فيدفن في مقابر المسلمين، فلما دفن نبينا عليه الصلاة والسلام في بيته صار لبيته حكم المقبرة، فشرع بعد ذلك دفن أبي بكر ؛ لأنه دفن في مقبرة، ثم شرع دفن عمر ، فلا حرج في ذلك؛ لأنه لما قبر النبي عليه الصلاة والسلام صار لهذا المكان هذا الحكم، وأما أن يدفن الإنسان في بيته فهذا منهي عنه.
( ولا تجعلوا قبري عيداً )، أي: تعكفون عليه وتلازمونه، كما يجتمع الناس في الأعياد، فهذا منهي عنه، إنما يزار النبي عليه الصلاة والسلام من قبل من يسكن في المدينة المنورة ما بين الحين والحين، والذي يأتي مسافراً أينما يدخل إلى المسجد يصلي ركعتين، ثم يسلم على سيد الكونين نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن هذا القبر ما ينبغي أن يعكف الناس عليه ويجتمعون كما يحصل الاجتماع في يوم العيد، فيحصل غلو وتعظيم وخروج عن صراط الله المستقيم، فيزار هذا القبر الشريف على نبينا صلوات الله وسلامه، ما بين الحين والحين.
إذاً: صلاتنا تبلغ نبينا عليه الصلاة والسلام ويسمعها، ويرد علينا سواء كنا في مسجده الشريف وأمام حجرته الشريفة، أو كنا في أقصى أطراف الأرض.
وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والحديث رواه ابن حبان وصححه والحاكم في المستدرك وصححه، ووافقه عليه الإمام الذهبي ، والحديث رواه الإمام الدارمي في مسنده، من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن لله ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام )، يعني: يبلغوني السلام من أمتي ممن سلم علي، على نبينا صلوات الله وسلامه.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] | 4045 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] | 3979 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] | 3906 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] | 3793 استماع |
شرح الترمذي - مقدمات [8] | 3787 استماع |
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] | 3771 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] | 3570 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] | 3486 استماع |
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] | 3465 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] | 3416 استماع |