شرح الترمذي - مقدمات [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الرحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

كنا نتدارس فوائد دراسة حديث خير الأنام عليه الصلاة والسلام، وهذه الفوائد كثيرة غزيرة وفيرة جليلة، أبرزها ثلاث فوائد، وهي ما سنتدارسها بإذن الله جل وعلا:

الفائدة الأولى: حفظ أدلة الشرع المطهر من الضياع والذهاب والاندراس.

الفائدة الثانية: كثرة الصلاة والسلام على نبينا خير الأنام عليه الصلاة والسلام.

الفائدة الثالثة: أن من يدرس حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويعتني بسنته، يفوز بالرحمة والنضارة اللتين دعا بهما نبينا صلى الله عليه وسلم لمن يتلقى سنته ويحفظها وينشرها ويعلمها.

كنا نتدارس الفائدة الأولى ألا وهي: حفظ أدلة الشرع المطهر من الضياع، وقلنا: إن أدلة الشرع المطهر تقوم على دليلين اثنين لا ثالث لهما: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتعلق بهذين الأمرين دليلان، لكن لا يخرجان عن هذين الدليلين؛ لأنهما أخذا من هذين الدليلين وبنيا عليهما.

أولهما: إجماع حق.

وثانيهما: قياس صحيح.

فإذا أجمعت الأمة على أمر من الأمور، وأن حكم الله كذا، فهذا دليل شرعي، ولا يكون الإجماع إلا بناء على نص، وهكذا القياس عندما نلحق فرعاً بأصلٍ في الحكم لعلة جامعة بينهما، فلا يمكن أن نقيس شيئاً إلا على شيء وارد، وعليه فالأدلة إذاً منحصرة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما بني على هذين الدليلين وما أخذ منهما.

وتقدم معنا أن سنة النبي عليه الصلاة والسلام كانت تنزل عليه كما ينزل القرآن، ولا فارق بينهما، إلا أن القرآن وحي يتلى، والسنة وحي لا يتلى، فالقرآن وحي متلو، نتلوه ونتعبد به في صلواتنا، والسنة وحي لكنها لا تتلى ولا يتعبد بها في الصلاة، أما من حيث الحجية فهي كالقرآن.

نص حديث معاذ وإقرار النبي له بالقضاء

وآخر ما وقفنا عليه حديث معاذ رضي الله عنه، الذي صرح فيه معاذ وأقره النبي عليه الصلاة والسلام على أن القضاء إذا عرض للعالم أو القاضي فينبغي أن يقضي بما في كتاب الله، ثم بما في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا لم يجد حكم المسألة فيهما فما عليه إلا أن يقيس ما وقع متأخراً ولم ينزل فيه حكم بما وقع في العصر الأول وورد فيه حكم شرعي إذا اتفقا في العلة، ويكون حكم الله في القضيتين واحداً؛ لأن شريعة الله جاءت بالتسوية بين المتماثلات، والتفرقة بين المختلفات، فإذا وجدت العلة في مسألة متأخرة، وهذه العلة موجودة في أمر متقدم نص على حكم فيه، فإذاً: هذه المسألة التي طرأت ووقعت وحدثت بعد ذلك، الحكم فيها كالحكم في المسألة السابقة، وهذا قياس صحيح معتبر.

فقال معاذ رضي الله عنه: أجتهد إذا لم أجد حكم القضية في كتاب الله ولا في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وحديث معاذ تقدم معنا أن أئمتنا رووه في دواوين الإسلام، فأخرجه الإمام أحمد في المسند والترمذي في الجامع الصحيح وأبو داود في السنن، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، والبيهقي في السنن الكبرى، وابن سعد في الطبقات الكبرى، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرسله إلى اليمن قاضياً، قال له: إن عرض لك قضاء فبم تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ )، أي: لم تجد حكم القضية والمسألة في كتاب الله؟ ( قال: بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب النبي عليه الصلاة والسلام في صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله ).

ذكر من صحح حديث معاذ من العلماء

ذكرت -سابقاً- ما يزيد على عشرة من علمائنا الكبار قبلوا هذا الحديث وصححوه واعتمدوه، فقد نقله الكافة عن الكافة، فمن جملة من صححه ابن كثير وابن تيمية والبغوي في شرح السنة، وتقدم معنا أيضاً أن أبا بكر بن العربي عليه رحمة الله في عارضة الأحوذي قال: الدين القول بصحته.

وصححه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، وشيخنا المبارك عليه رحمة الله في مذكرة أصول الفقه، وهكذا عدد من الأئمة كما تقدم معنا.

شواهد لحديث معاذ

وهذا الحديث وجد ما يشهد له من كلام صديق هذه الأمة أبي بكر ، ومن كلام سيد المحدَّثين فيها عمر رضي الله عنه، ومن كلام عبد الله بن مسعود ، وهذه الآثار في سنن النسائي والبيهقي ، وقد مضت هذه الآثار وكنت ذكرتها! ومضمونها: أن الإنسان إذا جاءه قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن لم يجد فليقض بما في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن لم يجد فليقض بما قضى به الأئمة الراشدون، فإن لم يجد يجتهد ولا يقول: إني أخاف، فإن ( الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات )، ( فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك )، وهذه الآثار صحيحة ثابتة عن هؤلاء الأئمة الأبرار الأخيار، أبي بكر وعمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، وإنما معاذ لم يقل في هذا الأثر: أقضي بما قضى به الصالحون؛ لأنه عندما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام إلى اليمن قاضياً لم يكن ثم قضاء إلا قضاء الله وقضاء رسوله عليه الصلاة والسلام، لكن لو قدر أنه وجد قضاء قبله، فأرسل في خلافة أبي بكر ، فإذا كان عنده قضاء قضى به أبو بكر رضي الله عنه، ووجد هذا القضاء بين الصحابة الكرام، قضى به.

ذكر كلام من صححوا حديث معاذ

اعلم أن بعض الأئمة من متقدمين ومتأخرين اعترضوا على إسناد حديث معاذ، وبعضهم اعترض على معناه، وقالوا: حديث ضعيف ومردود وباطل، وكلامهم هذا باطل قطعاً وجزماً، وأبرز من تولى هذا الأمر الإمام ابن حزم في كتابيه: إبطال القياس، وإحكام الأحكام، وهو يرى أن القياس غير سديد ولا يجوز أن يعول عليه، فتبنى رد هذا الحديث.

لكن سأقرأ عليكم بعض كلام أئمتنا في تصحيح هذا الحديث واعتماده، وأن هذا الحديث ثابت مقرر، وعليه ما ينشر في هذه الأوقات من لغط حول هذا الحديث، وإثارة اللغط القديم، ينبغي أن لا ننصت له وأن لا ننتبه له، والحديث تلقاه أئمتنا بالقبول، ونقله الكافة عن الكافة.

الإمام ابن القيم له كتاب اسمه: إعلام الموقعين، بكسر الهمزة وفتحها، كلاهما صحيح، وما ذهب إليه بعض المعاصرين من أن فتح همزة أعلام غلط وهم قبيح؛ لأنه ظن أن الأعلام جمع علم، وقال: ليس هذا الكتاب تراجم لأعلام المسلمين حتى يقال: أعلام المسلمين، يعني: تراجم أعلام المسلمين، قلت: العَلَم المراد هنا من العلامة بمعنى الراية، كأنه يقول: هذه أعلام -أي: رايات- ومعالم بارزة للموقعين الذين يوقعون عن رب العالمين وعن نبيه الأمين عليه الصلاة والسلام، تبين لهم ما ينبغي أن يفعلوه في توقعيهم عن الله جل وعلا وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، فالعالم إذا أراد أن يفتي فليعلم أنه ينوب عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام في هذه الفتيا، فليتأمل ويعرض نفسه على الجنة والنار قبل أن يفتي، فالأعلام جمع علم بمعنى: الراية والواسطة والدلالة، ليس بمعنى العلم الذي هو إمام معتبر، إذاً: الضبطان صحيحان، وكل منهما معتبر عند أئمتنا الكرام.

يقول الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين في الجزء الأول صفحة (202): فصل: وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصاً عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

سنقرأ حديث معاذ من سنن الترمذي وقد تقدم معنا أن في إسناد الحديث شعبة .

وإذا وجدت شعبة بن الحجاج أبو بسطام في إسناد فاشدد يديك عليه؛ لأنه أمير المؤمنين في الحديث.

يقول شعبة : حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو .. وهو من رجال الترمذي وأبي داود كما سيأتينا، وقد أخرجا حديثه، وفيه جهالة كما قال الحافظ ابن حجر في التقريب؛ لأنه ما روى عنه إلا أبو عون ، وأبو عون ثقة من رجال البخاري كما سيأتينا في ترجمته إن شاء الله.

عن الحارث بن عمرو ؛ وهو ابن أخي المغيرة بن شعبة . عن أناس من أصحاب معاذ رضي الله عنه.

فيقول من يرد هذا الحديث: (أناس)، هؤلاء مجهولون، وإذا لم يسموا فما هو حالهم؟ هل هم عدول ضابطون أم لا؟

عن أناس من أصحاب معاذ، عن معاذ : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله جل وعلا؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجتهد رأيي، ولا آلو )، يعني: لا أقصر في بذل الوسع للوصول إلى مراد الله جل وعلا في هذه القضية.

( قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري، ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم )، فهذا الحديث وإن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضره عدم تسميتهم؛ لأنه يدل على شهرة الحديث، وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا عن واحد منهم، يعني: هم جماعة، وهذا أعلى مما لو سمى واحداً ثقة.

وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سُمي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى؟! ولا يعرف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث؟ وقد قال بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به.

ذكر حافظ المشرق الخطيب البغدادي ، الذي توفي سنة: (463هـ)، وكل الذين جاءوا بعده من المحدثين فهم عيال على كتبه، وما دخل بغداد بعد الإمام الدارقطني أفضل من الخطيب البغدادي ، وما دخل بغداد بعد الإمام أحمد أفضل من الإمام الدارقطني ، عليهم جميعاً رحمة الله، ذكر في كتابه الفقيه والمتفقه، في الجزء الأول، صفحة: (190): وقد قيل: إن عبادة بن نُسي -بضم النون وتخفيف السين المفتوحة- رواه عن عبد الرحمن بن غَنْم -بفتح الغين وإسكان النون- عن معاذ ، إذاً: سميت الواسطة من غير طريق الحارث بن عمرو وعبادة بن نسي ثقة إمام عدل رضا، وعبد الرحمن بن غَنْم من كبار التابعين، وقيل: إنه صحابي، وبهذا اتصل الإسناد.

قال الخطيب : وهذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة، على أن أهل العلم قد نقلوا هذا الحديث واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم، كما وقفنا على صحة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا وصية لوارث )، وقوله في البحر: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا اختلف المتبايعان في الثمن، والسلعة قائمة تحالفا، وترادا البيع )، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( الدية على العاقلة )، وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد، ولكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها، فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعاً غنوا عن طلب الإسناد له. انتهى كلامه.

وقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم للحاكم أن يجتهد رأيه، وجعل له على خطئه في اجتهاد الرأي أجراً واحداً إذا كان قصده معرفة الحق واتباعه.

الكلام حول إسناد حديث معاذ

إن هذا الحديث تلقي من قبل الكافة عن الكافة، ومثله لا يبحث عن إسناده، وقد رواه الإمام الترمذي في سننه في كتاب الأحكام في باب: ما جاء في قاضٍ كيف يقضي، ثم قال: حدثنا هناد ، وسيأتينا الإشارة إلى حاله وحديثه قد أخرجه البخاري لكن في كتاب: خلق أفعال العباد، وهو من رجال مسلم في الصحيح، وحديثه مخرج في السنن الأربعة، قال عنه الحافظ في التقريب: ثقة من العاشرة، أي: من الطبقة العاشرة توفي بعد مائتين بثلاثٍ وأربعين سنة: (243هـ) عليه رحمة الله.

قال هناد: حدثنا وكيع ، وهو ابن الجراح الكوفي ، ثقة حافظ عابد، أخرج حديثه أهل الكتب الستة، فهو ممن تجاوز القنطرة.

عن شعبة ، حديثه مخرج في الكتب الستة، ثقة حافظ متقن، قال عنه الثوري : أمير المؤمنين في الحديث.

عن أبي عون الثقفي واسمه محمد بن عبيد الله بن سعيد الثقفي الكوفي الأعور ، ثقة، حديثه مخرج في الكتب الستة إلا سنن ابن ماجه ، فهو ممن جاوز القنطرة.

إذاً: هناد ووكيع وشعبة وأبو عون كلهم أئمة ثقات عدول. عن الحارث بن عمرو ، وهو ابن أخي المغيرة بن شعبة ، يقول عنه الحافظ في التقريب: مجهول من السادسة، والجهالة فيه أنه لم يرو عنه إلا واحد، وعند الجمهور: لا يخرج الراوي عن الجهالة إلا برواية راويين، وعند ابن حبان إذا روى عن الراوي واحد رفعت عنه الجهالة، وهذا مذهبه في التوثيق.

إذاً: هنا الحارث بن عمرو من رجال أبي داود والترمذي ، عن رجال من أصحاب معاذ ، ورواية أبي داود عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ ، وقلنا: هؤلاء ليسوا بمجهولين، إنما هم أعلى مما لو سمي واحد منهم باسمه وكان ثقة.

الحديث بهذا الإسناد ليس فيه إلا الحارث بن عمرو ، ما روى عنه إلا أبو عون محمد بن عبيد الله الثقفي فقط، هذا الحديث كما قال الخطيب : قيل: إن عبادة بن نفيل رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ ، وعبادة بن نفيل هو أبو عمر الشامي قاضي طبرية ثقة فاضل، أخرج حديثه أهل السنن الأربعة، فهو ثقة، وعبد الرحمن بن غَنْم مختلف في صحبته، قال العجلي : هو من كبار ثقات التابعين، أخرج حديثه البخاري في صحيحه معلقاً وأصحاب السنن الأربعة.

إذاً: على ثبوت رواية عبادة بن نفيل فالحديث إسناده متصل، وإذا لم يثبت لأن في الحارث بن عمرو كلام، وهو وجود الجهالة فيه فأقول: إذا وجد للحديث ما يشهد له يتقوى، وقد تقدم معنا أقوال ثلاثة من كبار الصحابة: صديق هذه الأمة، وفاروق هذه الأمة، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، فهي تشهد لهذا الحديث.

وقد تقدم معنا أن الحديث الضعيف إذا تلقته الأمة بالقبول ينزل منزلة المتواتر، وحديث معاذ لا يوجد كتاب من كتب أصول الفقه إلا وذكره في مبحث القياس كدليل على أن القياس حجة شرعية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة على اعتبار القياس حجة، وأنه يلجأ إليه ويعول عليه، ونقيس ما وقع متأخراً على ما وقع متقدماً إذا اتفقا في العلة، فنلحق المتأخر بحكم المتقدم الذي ثبت حكمه في كتاب الله أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام.

إذاً: هذا الحديث تلقي بالقبول، ونقله الكافة عن الكافة، فلا أقل من أن يكون صحيحاً إن لم يكن في درجة الاستفاضة والتواتر كما قال الإمام السخاوي : الحديث إذا كان فيه ضعف في إسناده، وتلقي بالقبول، ينزل منزلة المتواتر، كما تقدم معنا كلامه عندما قرأته من فتح المغيث في شرح ألفية الحديث.

الكلام حول حديث معاذ من ناحية المعنى

ثم سواء ثبت هذا الحديث أو لا فمعناه صحيح، فالمسلم إذا عرض له قضاء فإنه سيقضي بكتاب الله جل وعلا، فإذا لم يجد فبسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأما توهم بعض المعاصرين أن الحديث فرق بين القرآن والسنة، وجعل السنة في درجة ثانية، وهي وحي كالقرآن، نقول: لم يفرق الحديث بينهما؛ إنما القرآن من ناحية الدلالة أقوى، فأنت عندما تُسأل عن حكم شرعي وهو منصوص عليه في كلام الله فسوف تستدل عليه من كلام الله جل وعلا، فلو قيل: ما حكم نكاح البنت؟ ما حكم نكاح الأم؟ كانت الإجابة في قول الله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [النساء:23]، ولا يلزم أن تأتي بحديث. وقد تقدم معنا: أن صلة السنة بالقرآن لا تخرج عن ثلاثة أقسام: إما أن تكون مقررة مؤكدة موافقة، بمعنى أننا لا نأتي الآن بدليل من السنة على أن النبي عليه الصلاة والسلام حرم على الإنسان أن ينكح أمه أو ابنته؛ لأن هذا لا داعي له، فيكفينا الاقتصار على القرآن.

والقسم الثاني من أقسام السنة: يوضح ويفسر ويبين المراد ويزيل الخفاء.

والقسم الثالث: زائد على ما في القرآن من أحكام، وعليه إذا كان الحكم في القرآن، فهل يعقل أن تأتي السنة بما يعارض القرآن؟ لا يمكن ولا يتصور هذا. وعليه فإذا لم يكن الحكم في القرآن نرجع إلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا لم نجده في السنة، ماذا سنعمل؟ نلجأ إلى القياس للضرورة، وإلا سنعطل أحوال الحياة وأحكام الناس.

انظروا إلى هذه القصة التي قضى بها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بناء على اجتهاده ورأيه بعد توقفه مدة شهر كامل، ثم وافق اجتهاده قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثبت في المسند والسنن الأربعة، ورواه ابن حبان والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن، ورواه أهل المصنفات، وقال ابن حزم في المحلى: لا مغمز فيه بصحة إسناده، فهو حديث صحيح، من رواية مسروق الإمام التابعي تلميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، قال: أتي عبد الله بن مسعود بمسألة عندما كان في بلاد الكوفة قاضياً من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.

حاصل هذه المسألة: أنه قيل له: امرأة توفي عنها زوجها وقد عقد عليها، ولم يسمّ لها مهراً، فما حكم الله في هذه القضية؟ هل عليها العدة؟ هل ترث؟ هل لها مهر؟ ما هو الحكم؟

الله جل وعلا يقول في كتابه في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:49]، فهل هذه التي مات عنها زوجها ولم يسم لها مهراً حالها كحال المطلقة قبل الدخول حيث إنها لا تعتد؟ ولها نصف المهر؟ فما الحكم؟ فتوقف عبد الله بن مسعود فيها شهراً، وهم يراجعونه، قال: سلوا غيري، قالوا: من نسأل وأنت من جملة أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنت المبعوث قاضياً إلى هذه البلاد، وأنت من كبار أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ فقال: والله ما عرضت عليَّ مسألة أشد من هذه بعد مفارقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف أتسرع في القضاء بعد أن قبض رسول الله عليه الصلاة والسلام، قالوا: لابد من قضاء، فلما مضى شهر كامل قال: (أقول فيها برأيي).

هذا مثل الذي ذكره معاذ : أجتهد رأيي ولا آلوا، يعني: أبحث عن الدلالات الشرعية، وأقيس هذه المسألة على المسألة المتفق عليها، عندنا مسألة متفق عليها، وهي أنه لو سمي للمرأة مهراً ومات عنها زوجها فهذه بالإجماع لها المهر، وعليها العدة، ولها الميراث.

إذاً: فلنجعل هذه نظير تلك، أوليس كذلك؟ امرأة لم يسم لها مهر، ماذا نقول؟ الجواب: لها مهر مثلها، وعليها العدة؛ لأن عدة الوفاة ليست كعدة الطلاق، نعمة الزوجية حصلت لهذه المرأة بالعقد، سواء دخل بها أو لم يدخل، فليس من الإنصاف والمروءة أن تتزوج بعد موته بليلة؛ لأن نعمة الزوجية التي خسرتها نعمة عظيمة، فلا بد من أن تحد أربعة أشهر وعشراً على هذا الزوج، ولها الميراث كاملاً كما لو دخل بها، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله من ذلك بريئان، لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط، ولا وكس، يعني: لا نقصان، ولا شطط، أي: لا زيادة.

يأتي أهل الخبرة مثيلاتها فيعرفون بكم تزوجت؟ فالعرف هو الذي يحدد، مهر مثلها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، كان هذا بعد أن توقف عبد الله بن مسعود شهراً.

فقام معقل بن سنان الأشجعي ، وهو من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا عبد الله ! حضرت النبي صلى الله عليه وسلم فقضى بمثل ما قضيت، في بروع بنت واشق )، صحابية جليلة عندما توفي عنها زوجها هلال بن مرة الأشجعي ، ولم يسم لها مهراً، وقد عقد عليها، فقضى النبي عليه الصلاة والسلام لها بأن لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث، فقال عبد الله بن مسعود : الله أكبر! فرفع يديه، وما فرح بشيء بعد الإسلام كما فرح بموافقة قضائه قضاء رسول الله عليه الصلاة والسلام.

الاجتهاد بالرأي وموافقته للشريعة

إننا نحافظ على أدلة الشرع المطهر من الضياع عندما نتعلم سنة النبي عليه الصلاة والسلام وحديثه، وسيأتينا بعد ذلك أن هذه النصوص الشرعية من كتاب وسنة يقال لها: شريعة منزلة، والاجتهادات الفقهية التي قال بها أئمتنا البررة يقال لها: شريعة مؤولة، وبعد ذلك نبين حكم كل من الشريعتين.

ثم أذكر بعد ذلك النوع الثالث وهي الشريعة النجسة المنتكسة الفاسدة الباطلة المبدلة، والشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع الثلاثة: منزلة، مؤولة، مبدلة.

النصوص الشرعية من كتاب وسنة شريعة منزلة، ووحي يوحى، لا دخل فيه لرأي بشر، كما أن اجتهادات أئمتنا شريعة، لكنها مؤولة، وسيأتينا حكمها، كذلك يوجد بيننا قوانين وضيعة وضعية، نقول عنها: شريعة مبدلة نجسة رذيلة، إن هذه الشرائع كل واحدة لها حكم، وعليه فالفقيه عندما يجتهد يقال لاجتهاده حكم شرعي، أصاب أم أخطأ، وله أجر أصاب أم أخطأ، لكن ما هو موقفنا نحو خطئه إن أخطأ؟ نقول: اجتهد في حكم شرعي، ولكنه أخطأ فيه، وفي الغالب الذي لا ينقص عن: (90%) إن لم يصل إلى: (99%) ولا أريد أن أقول: (100%) أنها أحكام شرعية؛ لئلا تثبت العصمة لأئمتنا، فالعصمة لا تكون إلا لنبينا عليه الصلاة والسلام.

والغالب أن المجتهد الذي عنده أدوات الاجتهاد كأئمتنا: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، إذا اجتهد في مسألة وما بلغه نص فيها، يكون حكمه فيها موافقاً لنص لو وجد، ولا يخرج عن هذا أبداً؛ لأن هدي النبي عليه الصلاة والسلام قد اختلط بأنفاسهم وقلوبهم وأرواحهم وأشعارهم وأبشارهم وأبصارهم، فيعرفون مراد النبي عليه الصلاة والسلام ومراد الله، مما ثبت عندهم عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، فعندما يقيسون النظير على النظير في قضية لا يعلمون لها نصاً، ثم لو وجد حكم في هذه القضية من النبي عليه الصلاة والسلام وما بلغهم سيوافق بعد ذلك هذا الحكم ما قضوا به، كما حصل من عبد الله بن مسعود قضى دون أن يبلغه الحديث بعد توقف شهر، ثم قيل له: هذا قضاء النبي عليه الصلاة والسلام، هذا وقد أخذ الأئمة قاطبة بهذا الحديث، إلا الإمام الشافعي توقف فيه، فانظر لديانته وورعه وإمامته وصلاحه وخشيته من ربه وإجلاله لنبيه عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وهو الذي يقول: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت حديثاً ثم خالفته، والإمام السبكي عليه رحمة الله شرح هذا الكلام في رسالة مستقلة سماها: شرح قول المطلبي -يعني: الإمام الشافعي -: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وهذه الرسالة مطبوعة ضمن الرسائل المنيرية المجلد الثاني، في بيان قول المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي.

قال الإمام الشافعي : إذا ثبت حديث بروع بنت واشق قلت به، يعني: الحديث بلغني، ولكن ما بلغني من وجه لا يثبت، بلغني من طريق فيه كلام، فأنا أتوقف وأعلق الحكم في هذه المسألة على ثبوت الحديث، قال الحاكم أبو عبد الله في المستدرك بعد أن روى هذا الحديث، وذكر كلام الإمام الشافعي ، والإمام الحاكم شافعي المذهب عليهم رحمة الله، قال: قال شيخنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب ، وهو المعروف بـابن أخرم ، توفي سنة (324هـ)، قال: لو أدركت الإمام الشافعي، لأن الإمام الشافعي توفي سنة (204هـ)، وابن أخرم توفي سنة (324هـ)، يعني: بعده بمائة وعشرين سنة، يقول: لو أدركت الإمام الشافعي لقمت على رأسه، ثم صحتُّ بأعلى صوتي: يا إمام! قد صح الحديث فقل به، يعني: أنك علقت الحكم في هذه القضية على ثبوت الحديث، فقلت: حديث بروع إذا ثبت قلت به، فأنا أقول لك: يا إمام! الحديث قد صح، وثبت عندنا من طرق صحاح فقل به، وهذا هو مذهب الشافعي وغيره من أئمة الإسلام -رضي الله عنهم أجمعين- بأن المرأة إذا عقد عليها دون تسمية مهر ومات زوجها قبل أن يدخل بها، فلها مهر مثيلاتها، وعليها العدة، وترث كما لو دخل بها، هذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

دفع شبهة تأخير السنة في حديث معاذ

وآخر ما وقفنا عليه حديث معاذ رضي الله عنه، الذي صرح فيه معاذ وأقره النبي عليه الصلاة والسلام على أن القضاء إذا عرض للعالم أو القاضي فينبغي أن يقضي بما في كتاب الله، ثم بما في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا لم يجد حكم المسألة فيهما فما عليه إلا أن يقيس ما وقع متأخراً ولم ينزل فيه حكم بما وقع في العصر الأول وورد فيه حكم شرعي إذا اتفقا في العلة، ويكون حكم الله في القضيتين واحداً؛ لأن شريعة الله جاءت بالتسوية بين المتماثلات، والتفرقة بين المختلفات، فإذا وجدت العلة في مسألة متأخرة، وهذه العلة موجودة في أمر متقدم نص على حكم فيه، فإذاً: هذه المسألة التي طرأت ووقعت وحدثت بعد ذلك، الحكم فيها كالحكم في المسألة السابقة، وهذا قياس صحيح معتبر.

فقال معاذ رضي الله عنه: أجتهد إذا لم أجد حكم القضية في كتاب الله ولا في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وحديث معاذ تقدم معنا أن أئمتنا رووه في دواوين الإسلام، فأخرجه الإمام أحمد في المسند والترمذي في الجامع الصحيح وأبو داود في السنن، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، والبيهقي في السنن الكبرى، وابن سعد في الطبقات الكبرى، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرسله إلى اليمن قاضياً، قال له: إن عرض لك قضاء فبم تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ )، أي: لم تجد حكم القضية والمسألة في كتاب الله؟ ( قال: بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب النبي عليه الصلاة والسلام في صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله ).




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3975 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3904 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3785 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3784 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3565 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3481 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3462 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3413 استماع