مباحث النبوة - الزواج سكينة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس مقاصد النكاح وحكمه العامة، وتقدم معنا أن هذه المقاصد على كثرتها وتعددها وتنوعها يمكن أن تجمع في خمسة أمور:

أولها: تحصين النفس البشرية من كل آفة ردية، سواء كانت حسيةً أو معنوية.

وثانيها: إنجاب الذرية التي تعبد وتوحد رب البرية.

وثالثها: تحصيل الأجر للزوجين عن طريقين اثنين: حسن عشرة كل منهما لصاحبه، ومساعدته له، ونفقته عليه.

رابعها: تذكر لذة الآخرة.

خامسها: ارتفاق كل من الزوجين بزوجه وبأهل زوجه وقرابته وعشيرته.

إخوتي الكرام! كنا نتدارس الأمر الرابع ونحن على وشك الانتهاء من هذه الأمور، ولعلنا نتدارس بقيته ثم ندخل في الأمر الخامس وننتهي منه لنواصل خطوات بحثنا في المواعظ الآتية -إن شاء الله- فيما يتعلق ببيان الحكمة من التعدد في حق الأمة، وبيان الحكم من التعدد في حق نبينا عليه الصلاة والسلام زيادةً عما أحل الله لأمته على نبينا وآله وأزواجه وصحبه صلوات الله وسلامه.

إخوتي الكرام! الحكمة الرابعة -كما تقدم معنا- من حكم النكاح العامة: تذكر لذة الآخرة، وتقدم معنا شرح هذه الحكمة والدلالة عليها في مواعظ متعددة سابقة.

وآخر شيء وقفت عليه حديث رواه الإمام الترمذي في بيان اشتراك النساء المؤمنات مع الحوريات الحسناوات في الجمال والكمال في نعيم الجنة، فما يكون للحوريات يكون للمؤمنات تماماً، وقول الله جل وعلا: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:35-37] ، شامل للحوريات وللمؤمنات التي كن في هذه الحياة، فالحوريات أنشئن ابتداءً، والمؤمنات أنشئن إنشاءً آخر بتغيير الصفات اللاتي كانت فيهن في هذه الحياة، تغيرت الصفات فيهن، فقد كانت الواحدة منهن ثيبة، وكانت الواحدة منهن عجوزاً، فتغير يوم القيامة وتبدل إلى بكارة وإلى شباب في منتهى الجمال كما تقدم معنا في وصف نساء الآخرة، وآخر شيء ذكرته في ذلك حديث رواه الإمام الترمذي ، أكمل ما بعده وننتقل للحكمة الخامسة إن شاء الله.

حديث أنس: (إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشاً رمصاً)

الحديث رواه الإمام الترمذي ورواه البيهقي في كتاب البعث والنشور، ورواه الطبري في تفسيره، ورواه أبو نعيم في كتاب صفة الجنة، ورواه الإمام هناد بن السري في كتاب الزهد، كما رواه الإمام الكلابي وعبد بن حميد ، وهكذا الإمام ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفاسيرهم، كما في الدر المنثور في الجزء السادس صفحة ثمان وخمسين ومائة، ولفظ الحديث: عن أنس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:35-37] إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشاً رمصاً)، وتقدم معنا أن الرمص: هو وسخ العينين السائل الأبيض الذي يسيل، فإذا سال فهو قذى، وإذا جمد فهو رمص. إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشاً رمصاً ينشئهن الله إنشاءً آخر، إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:35-37].

وقلت: إن الإمام الترمذي بعد أن أخرج هذا الحديث في جامعه وسننه أشار إلى تضعيفه فقال: لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة ، ويزيد بن أبان الرقاشي ، يضعفان. أما موسى فهو موسى بن عبيدة الربذي أبو عبد العزيز المدني ، قال عنه الحافظ في التقريب: ضعيف، ولا سيما في عبد الله بن دينار ، وكان عابداً، كأنه يشير إلى أن التضعيف من جهة حفظه وضبطه لا من جهة ديانته وعدالته، ثم أشار إلى أنه من رجال الترمذي وابن ماجه في السنن، عليهم جميعاً رحمة الله.

وأما يزيد بن أبان فهو يزيد بن أبان الرقاشي أبو عمرو البصري القاص ، زاهد ضعيف، كما قال الحافظ في التقريب، وتوفي قبل العشرين بعد المائة، مائة وعشرين فما دونها، وأما موسى بن عبيدة الربذي فتوفي سنة ثلاث وخمسين ومائة، وقد أخرج حديثه أيضاً -يزيد بن أبان الرقاشي - الإمام الترمذي وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد، وهذا الحديث: (إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشاً رمصاً) مع ضعفه في الإسناد تقدم معنا أنه يشهد له ما سبقه، ومن ذلك: (أن الجنة لا يدخلها عجوز)، في مداعبة نبينا عليه الصلاة والسلام لبعض العجائز، وقلت: إن الحديث صحيح، والمرأة العجوز إذا دخلت الجنة تعود شابةً بكراً عذراء كما تقدم معنا، فهذا الحديث يشهد له ما تقدم من أحاديث كثيرة في وصف نساء أهل الجنة، ويشهد له ما سيأتينا -إن شاء الله- عما قريب من حديث أمنا أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، وعلى نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه سيأتينا.

وهناك أحاديث أخرى تشهد له، منها: حديث أمنا أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، وسأختم به الكلام على هذا المقصد الرابع من مقاصد النكاح إن شاء الله، وهو آخر شيء سأذكره في هذه الموعظة نحو الأمر الرابع، ثم ننتقل إلى الأمر الخامس إن شاء الله.

حديث سلمة بن يزيد في أن المقصود بقوله تعالى: (إنا أنشأناهن إنشاءً) الثيبات والأبكار من نساء الدنيا

أما الحديث الآخر الذي يشهد لحديث أنس رضي الله عنه وأرضاه ولم أذكره فيما سبق، فقد رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير كما في مجمع الزوائد في الجزء السابع صفحة تسع عشرة ومائة من رواية سلمة بن يزيد ، والحديث رواه آدم بن إياس كما في حادي الأرواح للإمام ابن القيم في صفحة إحدى وستين ومائة، ورواه الطبري في تفسيره في الجزء السابع والعشرين صفحة ست ومائة، ورواه أبو داود الطيالسي وابن أبي الدنيا وابن قانع وابن مردويه في تفسيره كما في الدر المنثور في الجزء السابع صفحة ثمان وخمسين ومائة، فهو في الطبراني وغيره، ولفظ الحديث عن سلمة بن يزيد وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: ( إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:35-37] قال نبينا عليه الصلاة والسلام: يعني الثيبات والأبكار. اللاتي كن في الدنيا ) أي: يعدن يوم القيامة لهذه الصورة الحسنة الجميلة، الثيبات والأبكار اللاتي كن في الدنيا ينشئهن الله يوم القيامة إنشاءً آخر، وتبدل فيهن تلك الصفات كما هو الحال في الحوريات، لكن أولئك -كما تقدم معنا- إنشاؤهن مبتدأ، وهؤلاء الإنشاء فيهن في تغيير ما سبق لهن من أوصاف كانت فيهن.

والحديث -إخوتي الكرام- فيه جابر الجعفي ، قال عنه الإمام الهيثمي في المجمع في المكان الذي أشرت إليه يقول: في إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف، وبذلك حكم عليه الحافظ في التقريب، وقد أخرج حديثه أهل السنن الأربعة إلا الإمام النسائي عليهم جميعاً رحمة الله، وتوفي سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين ومائة.

فهذا الحديث مع ضعفه يشهد لحديث أنس رضي الله عنه وأرضاه (إن من المنشئات عجائز عمشاً رمصاً).

وقد ورد هذا عن السلف الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ثبت في كتاب البعث للإمام البيهقي صفحة ست عشرة ومائتين، والحديث رواه سعيد بن منصور في سننه، ورواه ابن المنذر في تفسيره كما في الدر المنثور في الجزء السادس صفحة ثمان وأربعين ومائة، عن الإمام الشعبي أنه قال في تفسير قول الله جل وعلا: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:35-37] ، وفي تفسير قول الله جل وعلا: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] قال: هن للنساء أهل الدنيا خلقهن الله في الخلق الآخر، يعني: في النشأة الثانية اللاتي يكن فيها يوم القيامة، كما قال تعالى: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً [الواقعة:35] ، لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] حين عدن في الخلق الآخر لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان. فقد تكون في هذه الحياة طمثت، وتقدم معنا أن نساء الكفار إذا كن على الإيمان يتزوجهن في غرف الجنة المؤمنون كما تقدم معنا، فهي إذن طمثت، وهكذا الزوجة المؤمنة التي طمثت في هذه الحياة من قبل زوجها وفضت البكارة فتعود يوم القيامة بإذن الله جل وعلا، فقوله: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] هذا في الخلق الآخر، عندما يعدن في الخلق الآخر، ففي تلك الحالة لا يتصل بهن أحد، ولا يمكن أن يقربهن أحد إلا هذا الزوج الذي سيكون لهؤلاء المؤمنات وللحوريات في نعيم الجنة.

الحديث رواه الإمام الترمذي ورواه البيهقي في كتاب البعث والنشور، ورواه الطبري في تفسيره، ورواه أبو نعيم في كتاب صفة الجنة، ورواه الإمام هناد بن السري في كتاب الزهد، كما رواه الإمام الكلابي وعبد بن حميد ، وهكذا الإمام ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفاسيرهم، كما في الدر المنثور في الجزء السادس صفحة ثمان وخمسين ومائة، ولفظ الحديث: عن أنس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:35-37] إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشاً رمصاً)، وتقدم معنا أن الرمص: هو وسخ العينين السائل الأبيض الذي يسيل، فإذا سال فهو قذى، وإذا جمد فهو رمص. إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشاً رمصاً ينشئهن الله إنشاءً آخر، إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:35-37].

وقلت: إن الإمام الترمذي بعد أن أخرج هذا الحديث في جامعه وسننه أشار إلى تضعيفه فقال: لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة ، ويزيد بن أبان الرقاشي ، يضعفان. أما موسى فهو موسى بن عبيدة الربذي أبو عبد العزيز المدني ، قال عنه الحافظ في التقريب: ضعيف، ولا سيما في عبد الله بن دينار ، وكان عابداً، كأنه يشير إلى أن التضعيف من جهة حفظه وضبطه لا من جهة ديانته وعدالته، ثم أشار إلى أنه من رجال الترمذي وابن ماجه في السنن، عليهم جميعاً رحمة الله.

وأما يزيد بن أبان فهو يزيد بن أبان الرقاشي أبو عمرو البصري القاص ، زاهد ضعيف، كما قال الحافظ في التقريب، وتوفي قبل العشرين بعد المائة، مائة وعشرين فما دونها، وأما موسى بن عبيدة الربذي فتوفي سنة ثلاث وخمسين ومائة، وقد أخرج حديثه أيضاً -يزيد بن أبان الرقاشي - الإمام الترمذي وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد، وهذا الحديث: (إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشاً رمصاً) مع ضعفه في الإسناد تقدم معنا أنه يشهد له ما سبقه، ومن ذلك: (أن الجنة لا يدخلها عجوز)، في مداعبة نبينا عليه الصلاة والسلام لبعض العجائز، وقلت: إن الحديث صحيح، والمرأة العجوز إذا دخلت الجنة تعود شابةً بكراً عذراء كما تقدم معنا، فهذا الحديث يشهد له ما تقدم من أحاديث كثيرة في وصف نساء أهل الجنة، ويشهد له ما سيأتينا -إن شاء الله- عما قريب من حديث أمنا أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، وعلى نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه سيأتينا.

وهناك أحاديث أخرى تشهد له، منها: حديث أمنا أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، وسأختم به الكلام على هذا المقصد الرابع من مقاصد النكاح إن شاء الله، وهو آخر شيء سأذكره في هذه الموعظة نحو الأمر الرابع، ثم ننتقل إلى الأمر الخامس إن شاء الله.

أما الحديث الآخر الذي يشهد لحديث أنس رضي الله عنه وأرضاه ولم أذكره فيما سبق، فقد رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير كما في مجمع الزوائد في الجزء السابع صفحة تسع عشرة ومائة من رواية سلمة بن يزيد ، والحديث رواه آدم بن إياس كما في حادي الأرواح للإمام ابن القيم في صفحة إحدى وستين ومائة، ورواه الطبري في تفسيره في الجزء السابع والعشرين صفحة ست ومائة، ورواه أبو داود الطيالسي وابن أبي الدنيا وابن قانع وابن مردويه في تفسيره كما في الدر المنثور في الجزء السابع صفحة ثمان وخمسين ومائة، فهو في الطبراني وغيره، ولفظ الحديث عن سلمة بن يزيد وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: ( إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:35-37] قال نبينا عليه الصلاة والسلام: يعني الثيبات والأبكار. اللاتي كن في الدنيا ) أي: يعدن يوم القيامة لهذه الصورة الحسنة الجميلة، الثيبات والأبكار اللاتي كن في الدنيا ينشئهن الله يوم القيامة إنشاءً آخر، وتبدل فيهن تلك الصفات كما هو الحال في الحوريات، لكن أولئك -كما تقدم معنا- إنشاؤهن مبتدأ، وهؤلاء الإنشاء فيهن في تغيير ما سبق لهن من أوصاف كانت فيهن.

والحديث -إخوتي الكرام- فيه جابر الجعفي ، قال عنه الإمام الهيثمي في المجمع في المكان الذي أشرت إليه يقول: في إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف، وبذلك حكم عليه الحافظ في التقريب، وقد أخرج حديثه أهل السنن الأربعة إلا الإمام النسائي عليهم جميعاً رحمة الله، وتوفي سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين ومائة.

فهذا الحديث مع ضعفه يشهد لحديث أنس رضي الله عنه وأرضاه (إن من المنشئات عجائز عمشاً رمصاً).

وقد ورد هذا عن السلف الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ثبت في كتاب البعث للإمام البيهقي صفحة ست عشرة ومائتين، والحديث رواه سعيد بن منصور في سننه، ورواه ابن المنذر في تفسيره كما في الدر المنثور في الجزء السادس صفحة ثمان وأربعين ومائة، عن الإمام الشعبي أنه قال في تفسير قول الله جل وعلا: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:35-37] ، وفي تفسير قول الله جل وعلا: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] قال: هن للنساء أهل الدنيا خلقهن الله في الخلق الآخر، يعني: في النشأة الثانية اللاتي يكن فيها يوم القيامة، كما قال تعالى: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً [الواقعة:35] ، لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] حين عدن في الخلق الآخر لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان. فقد تكون في هذه الحياة طمثت، وتقدم معنا أن نساء الكفار إذا كن على الإيمان يتزوجهن في غرف الجنة المؤمنون كما تقدم معنا، فهي إذن طمثت، وهكذا الزوجة المؤمنة التي طمثت في هذه الحياة من قبل زوجها وفضت البكارة فتعود يوم القيامة بإذن الله جل وعلا، فقوله: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] هذا في الخلق الآخر، عندما يعدن في الخلق الآخر، ففي تلك الحالة لا يتصل بهن أحد، ولا يمكن أن يقربهن أحد إلا هذا الزوج الذي سيكون لهؤلاء المؤمنات وللحوريات في نعيم الجنة.

إخوتي الكرام! إذاً ما يثبت للحوريات من الصفات يثبت للمؤمنات، بل ورد معنا في الأحاديث السابقة وتقدم أن فضل المؤمنات يزيد على فضل الحوريات من نعيم الجنات؛ للإيمان الذي صدر منهن في هذه الحياة، وللقيام بطاعة رب الأرض والسموات معنا، فللنساء المؤمنات فضل على الحوريات، كما تقدم معنا هذا في عدد من الروايات، وهذا ما أشار إليه أئمتنا، فالإمام ابن كثير عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في كتابه النهاية في الفتن والملاحم في الجزء الثاني صفحة سبع عشرة ومائتين، ينقل عن الإمام القرطبي من كتابه التذكرة في بيان أحوال الموتى وأمور الآخرة، والكلام الذي نقله موجود في التذكرة صفحة سبعين وخمسمائة، يذكر من كلام القرطبي أن الحوريات بعد أن يقلن ما تقدم معنا (نحن الناعمات فلا نبأس أبداً، نحن الخالدات فلا نبيد أبداً، نحن الراضيات فلا نسخط أبداً)، تقدم معنا إنشاد الحوريات، وأنهن بعد أن يقلن هذا يجيبهن المؤمنات بجواب سأذكره يظهر فضل المؤمنات على الحوريات، لكن هذا الجواب الذي يحصل من قبل المؤمنات للحوريات ذكره القرطبي في التذكرة، ونقله عنه الإمام ابن كثير ، وقال الإمام ابن كثير : كذا قال الإمام القرطبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، ولم يعز هذا إلى كتاب، يعني: قال: هذا الجواب يحصل من المؤمنات للحوريات، لكن من أي كتاب أخذ هذا؟ وما مصدره؟ قال: لم يعز هذا إلى كتاب، فهل هو من أخبار ما سبق أو روي مرفوعاً ولم يقف عليه الإمام ابن كثير ؟ حقيقةً لا علم لنا بذلك، إنما هذا موجود في التذكرة، ونقله عنه الإمام ابن كثير في النهاية، يقول: إن الحور إذا قلن ما تقدم معنا من الأناشيد والغناء أجابهن المؤمنات من نساء أهل الجنة بقولهن: (نحن المسلمات صلينا وما صليتن، ونحن المسلمات صمنا وما صمتن)، نحن صدر منا صلاة وصيام وأنتن الحوريات ما حصل منكن هذا، (ونحن المتوضئات توضأنا وما توضأتن، ونحن المتصدقات تصدقنا وما تصدقتن)، يقول الإمام القرطبي : فغلبن، يعني بكلامهن هذا الحوريات وتفوقن عليهن.

والأثر بهذا اللفظ بعد أن ذكره الإمام ابن كثير نقلاً عن الإمام القرطبي عليهم جميعاً رحمة الله قال: هكذا ذكره القرطبي في التذكرة ولم يعزه إلى كتاب، والمعنى حق، وتقدم معنا أن المؤمنات لهن فضل على الحوريات، وقد أشار الإمام ابن كثير عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا إلى هذا في كتابه النهاية في الجزء الثاني صفحة إحدى عشرة ومائتين، فبوب باباً يشير به إلى هذه المسألة فقال: باب في صفة الحور العين في الجنة، وفي صفة بنات آدم، وشرفهن، وفضلهن عليهن، وكم لكل أحد من المؤمنين منهن، أي: من الحوريات ومن المؤمنات.

ثم ذكر أثراً في تقرير هذا، ومن جملة الآثار: ما رواه الإمام هناد بن السري في كتاب الزهد، انظروه في الجزء الأول صفحة ثمان ومائة، ورواه الإمام عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق صفحة اثنتين وسبعين، عن حبان بن أبي جبلة المصري ، وهو إمام ثقة عدل خير مبارك، توفي سنة خمس وعشرين ومائة، ولم يخرج له إلا البخاري في الأدب المفرد، وقد روى هذا الحديث وهو من التابعين: (أن نساء أهل الدنيا إذا أدخلن الجنة فضلن على الحور العين بأعمالهن في الدنيا)، والأثر كما ذكرت عن حبان بن أبي جبلة ، لكنه مرسل إلى نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، والأثر رواه الإمام السيوطي في البدور السافرة في بيان أمور الآخرة صفحة ثلاث وأربعين وأربعمائة، وهو أيضاً في الدر المنثور للإمام السيوطي في الجزء السادس صفحة اثنتين وخمسين ومائة، والإسناد رجاله ثقات أثبات، وليس فيهم من حوله كلام إلا من تقدم معنا التعريف به ألا وهو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ، وتقدم معنا أنه كان قاضياً في بلاد إفريقيا، ونعته الإمام الذهبي بأنه شيخ الإسلام، وحديثه في الأدب المفرد والسنن الأربعة إلا سنن النسائي ، وتوفي سنة ست وخمسين ومائة للهجرة، وقلت: إنه صالح إمام لكن ضعيف في حفظه.

وتقدم معنا ما يقرر هذا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقلت: إنه آخر حديث في كتاب البعث والنشور وقد ذكرته.

وسأختم هذا الأمر الرابع وهذه الحكمة الرابعة بحديث أمنا أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، وفيه تقرير لهذا الأمر ألا وهو فضل نساء أهل الدنيا على الحوريات في الجنة، والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير وفي معجمه الأوسط كما في مجمع الزوائد في الجزء العاشر صفحة سبع عشرة وأربعمائة، وأورده أيضاً في الجزء السابع في التفسير من مجمع الزوائد صفحة تسع عشرة ومائة، وهو في كتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري في الجزء الرابع صفحة ست وثلاثين وخمسمائة، واستشهد به الإمام ابن القيم في حادي الأرواح صفحة ثمان وخمسين ومائة، وذكره الإمام السيوطي في البدور السافرة صفحة أربعين وأربعمائة، وانظروه أيضاً في روضة المحبين للإمام ابن القيم صفحة اثنتين وأربعين ومائة، والأثر كما قلت: في معجم الطبراني الكبير والأوسط، وفي تفسير الطبري في الجزء السابع والعشرين صفحة سبع ومائة، ورواه الإمام ابن مردويه في تفسيره كما في الدر المنثور في الجزء السابع صفحة خمسين ومائة.

وفي إسناد الأثر ضعف أيضاً كما تقدم معنا، لكن الآثار الضعيفة يتقوى بعضها ببعض، وتفيد هذا الحكم ألا وهو: أن نساء أهل الدنيا إذا دخلن الجنة فهن أفضل من الحوريات؛ لما صدر منهن من طاعة في هذه الحياة.

فالإسناد فيه ضعف ففيه سليمان بن أبي كريمة ، قال الهيثمي في المجمع: ضعفه أبو حاتم وابن عدي ، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة، وقال عنه الإمام الذهبي في المغني في الضعفاء: لين صاحب مناكير، وقد ذكره الإمام العقيلي أيضاً في الضعفاء في الجزء الثاني صفحة ثمان وثلاثين ومائة، وقال: إن هذا الحديث رواه الحسن البصري عن أمه عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، وأم الحسن تابعية، والحسن تابعي، وعندما ولدت الحسن كانت تأخذه وكانت تخدم أمنا أم سلمة على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه، فكانت أم سلمة أحياناً تعطي الحسن ثديها المبارك رضي الله عنها وأرضاها، فكان ربما در عليه شيء من اللبن بعد انتقال نبينا عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى إلى جوار ربه، ولذلك فما كان في الحسن من فصاحة وبلاغة وطهارة وصدق وهو سيد المسلمين في زمانه، فهو بهذه الرضعات المباركات اللاتي حصلها من أمنا المباركة أم سلمة على نبينا وأزواجه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

فـالحسن يروي الحديث عن أمه عن أمنا أم سلمة ، وكما قلت: هذا الحديث فيه سليمان بن أبي كريمة ، يقول العقيلي : سليمان بن أبي كريمة عن الحسن ، عن أمه، عن أم سلمة ، لا يتابع عليه سليمان ، ولا يعرف إلا به، أي: ما نقل هذا الحديث إلا من طريق سليمان ، وقال الإمام ابن حجر في لسان الميزان في الجزء الثالث صفحة اثنتين ومائة بعد أن نقل كلام ابن عدي المتقدم: لا يعرف إلا بهذا السند، ثم ذكر ما نقله عن العقيلي أن سليمان بن أبي كريمة روى هذا الحديث عن الحسن ، عن أمه، عن أمنا أم سلمة ، على نبينا وآله وأزواجه وأصحابه وأتباعه صلوات الله وسلامه.

ولفظ الحديث إخوتي الكرام: من رواية أمنا أم سلمة ، وهو في الترغيب والترهيب صفحة ست وثلاثين وخمسمائة، في الجزء الرابع، والإمام المنذري ذكر ما يشير إلى ضعفه على طريق اصطلاحه فصدره بلفظ (روي)، يقول: وروي عن أم سلمة زوج النبي على نبينا وأزواجه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! أخبرني عن قول الله عز وجل: حُورٌ عِينٌ [الواقعة:22] ، قال: حور بيض)، والحوراء: هي البيضاء كما تقدم معنا، وقلنا: هذا البياض يميل إلى الصفرة وهو أجمل وأبهى ما يكون في وصف النساء، قال: (حور بيض، عين ضخام، شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر)، والشفر: بضم الشين ويقال: بفتحها، شُفر وشَفر، وهو حرف جفن العين الذي ينبت عليه الشعر، رموش العينين، هذا الشفر الذي للحوراء كجناح النسر، فكيف ستكون ضخامة العين وجمالها؟! حور: بيض، عين: ضخام الأعين، وشُفر الحوراء حجمه كجناح النسر! قالت: (قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأخبرني عن قول الله عز وجل: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:58] ، قال: صفاؤهن كصفاء الدر الذي في الأصداف)، الذي لم يخرج من صدفه، الذي لا تمسه الأيدي، (قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأخبرني عن قول الله عز وجل: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ [الرحمن:70] ) تسأل عن وصف المؤمنات، وعن وصف الحوريات اللاتي سيكن في نعيم الجنة، (قال: خيرات الأخلاق، حسان الوجوه، قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأخبرني عن قول الله عز وجل: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:49]، قال: رقتهن كرقة الجلد الذي في داخل البيضة مما يلي القشر)، قبل بياض البيض يوجد جلدة رقيقة جداً، رقة النساء في الجنة رقة جلودهن كرقة هذه القشرة الرقيقة التي تكون قبل بياض البيض، بين البياض وبين القشرة.

وقد تقدم معنا الحديث: (نور يتلألأ، تلبس سبعين حلة، يرى مخ ساقها من وراء الحلل).

قالت: ( قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأخبرني عن قول الله عز وجل: عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:37] قال: هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز رمصاً شمطاً) اشتعل الشيب في رءوسهن الواحدة شمطاء (خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى، عرباً متعشقات متحببات، أتراباً على ميلاد واحد، قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة)، وهذا هو الشاهد، أي: أن الثوب الجانب الظاهر منه يكون أجمل من الباطن مما يوضع له من بطانة، قالت: قلت: (يا رسول الله عليه الصلاة والسلام! وبم ذاك؟ قال: بصلاتهن، وصيامهن، وعبادتهن الله عز وجل، ألبس الله عز وجل وجوههن النور، وأجسادهن الحرير، بيض الألوان، خضر الثياب، صفر الحلي، مجامرهن الدر، وأمشاطهن الذهب، يقلن: ألا نحن الخالدات فلا نموت أبداً، ألا نحن الناعمات فلا نبأس أبداً، ألا ونحن المقيمات فلا نظعن أبداً، ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبداً، طوبى لمن كنا له وكان لنا)، وهذا الغناء وهذه الأناشيد مشتركة بين الحوريات والنساء المؤمنات، قالت: (قلت: يا رسول الله على نبينا وآله صلوات الله وسلامه! المرأة منا تتزوج الزوجين والثلاثة والأربعة في الدنيا، ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها، من يكون زوجها منهم؟ قال: يا أم سلمة ! إنها تخير فتختار أحسنهم خلقاً، فتقول: أي رب! إن هذا كان أحسنهم معي خلقاً في دار الدنيا فزوجنيه، يا أم سلمة ! ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة)، رواه الإمام الطبراني في الكبير والأوسط، وهذا لفظه، وتقدم معنا من أخرجه غير الإمام الطبراني .

إخوتي الكرام! كما قلت: هذا الحديث يدل على اشتراك المؤمنات مع الحوريات في صفات الكمال، بل هنا أكمل وأجمل وأبهى وأحسن، وما وردت الإشارة إليه في آخر حديث أمنا أم سلمة على نبينا وأزواجه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه من أن المرأة إذا كان لها أكثر من زوج تخير فتختار أحسنهم خلقاً، هذا هو المعتمد في هذه المسألة كما قرر أئمتنا.

وهناك قول آخر ليس عليه دليل، ألا وهو: أنها تكون لمن افتضها، فهو أولى بها من غيره، وقيل عكس هذا وهو: أنها تكون لمن مات عنها من آخر أزواجها، والقولان طرفان، والوسط: أنها تختار الأحسن من أزواجها، فكما كانت تسر معه في هذه الحياة تكون له بعد الممات في نعيم الجنات، فليست العبرة بمن سبق إنما العبرة بمن صدق، افرض أنه افتضها لكنه كان يؤذيها، ثم جاء بعد زوج ثان وثالث ورابع لكنه كان يكرمها، فالأصل أنها تكون مع من كانت تستريح معه: (ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة).

وهذه المسألة قررها أئمتنا عليهم جميعاً رحمة الله، انظروا النهاية في الفتن والملاحم للإمام ابن كثير عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، فإن آخر مسألة في الجزء الثاني ختم بها كتابه هي: المرأة إذا تزوجت في الدنيا أكثر من زوج لمن تكون؟ ختم الكتاب بهذه المسألة وقرر ما ذكرته أنها تكون لأحسنهم خلقاً، وأشار إليها الإمام القرطبي في التذكرة أيضاً صفحة سبع وسبعين وخمسمائة، وانظروها أيضاً في علوم الأخبار للإمام ابن قتيبة في الجزء الرابع صفحة عشر.

والمعتمد كما قلت من الأقوال الثلاثة: أنها تكون لمن كان أحسن خلقاً معها، ولا دليل يدل على غير ذلك، وينبغي أن تكون في الآخرة مع من كانت ترتاح معه في هذه الحياة، فنسأل الله أن يحسن أخلاقنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام! هذا ما يتعلق بهذا المقصد الرابع من مقاصد النكاح، وقد أخذ الكلام عليه وقتاً طويلاً، ولعلني أجمل الكلام على الأمر الخامس من حكم النكاح العامة في هذه الموعظة وإن طال إلى ما بعدها فقط، بحيث ننتقل بعد ذلك إلى فوائد التعدد وحكمه في المواعظ الآتية إن شاء الله.

الحكمة الخامسة من مشروعية النكاح: ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه وبأهل زوجه وقرابته.

إخوتي الكرام! الإنسان في هذه الحياة -كما يقرر علماؤنا- مدني بطبعه، لا يمكن أن يعيش بمفرده، فلا بد له من صاحب في الخلوة وفي الجلوة، وصاحب الخلوة هي الزوجة، وصاحب الجلوة من تعاشرهم من إخوانك وأصدقائك وأحبابك، لا بد لك من صديق، وأما أن ينفرد الإنسان بنفسه فإن الشيطان يلتقم قلبه، فيخسر الدنيا والآخرة، ولو أراد الإنسان أن يعتزل ولا يريد أن يتزوج ولا يريد أن يعيش مع بني آدم، فعليه أن يسكن في مغارة أو في كهف، هذا حيوان متوحش، وليس من بني آدم، فالإنسان مدني بطبعه، ففي داخل البيت لا بد له من صاحب يأنس ويسر به، سواء كان هذا الصاحب رجلاً بالنسبة للمرأة، أو امرأةً بالنسبة للرجل، لا بد له من صاحب وهو عن طريق النكاح الذي أحله الله، فالرجل لا بد له من زوجة، والزوجة لا بد لها من زوج، وفي خارج البيت لا بد أيضاً للإنسان من صاحب يركن إليه ويستشيره، وإذا انفصل عن هذا وذاك فسيلتقم الشيطان قلبه، ويفسد عليه دنياه وآخرته.

ولذلك ثبت عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لولا الوسواس لم أجالس الناس، وإذا انفرد الإنسان بنفسه يلتقم الشيطان قلبه، والله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] ، والتفرد لا يليق إلا بالفرد الواحد الأحد، الفرد الصمد سبحانه وتعالى، ذاك الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأما نحن فالكمال فينا على حسب نقصنا أن يكون لنا في الخلوة صاحب نأوي إليه ونأنس به، ويأوي إلينا ويأنس بنا، وكلما كثر هذا فهذا خير لنا، وهكذا في الجلوة يكون لنا أصحاب نأنس بهم، ويشد بعضنا بعضاً. ‏

خلق الله تعالى لجميع خلقه أزواجاً من ذكر وأنثى

ولذلك امتن الله على عباده بهذا الأمر وأشار إلى أن من حكمته سبحانه وتعالى أنه خلق أصنافاً مختلفةً في هذه الحياة، وخلق من كل شيء زوجين ليأنس هذا بهذا، ولتتم مصلحة الكون، يقول الله جل وعلا في سورة الذاريات: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49]، ولفظ الزوج يأتي في اللغة العربية بمعنى الفرد الواحد المزاوج للآخر، وبمعنى النوع والصنف والشكل، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [الذاريات:49]، أي: نوعين صنفين شكلين، ويأتي الزوج بمعنى الشفع من عدد اثنين فما فوق بحيث يكون شفعاً، وهو خلاف الوِتر والوَتر الذي هو فرد من الأعداد واحد وثلاثة وخمسة وسبعة، والشفع اثنان أربعة ستة فالزوج يطلق على الشفع كما يطلق على الفرد الواحد المزواج لغيره، فهو يطلق على الاثنين فما فوق.

قال الإمام الجرجاني في التعريفات: الشفع ما به عدد ينقسم بمتساويين، عدد ينقسم بمتساويين يقال له: شفع، فالاثنان ينقسم إلى واحد وواحد، أما هنا الواحد فلا يمكن أن تقسمه بمتساويين، فقوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [الذاريات:49] هل المراد هنا الشفع أو المراد الفرد المزاوج لغيره؟ المراد الفرد المزاوج لغيره، أي: خلقنا شكلين نوعين صنفين.

كما قرر الله هذا في كثير من آيات القرآن، فقال جل وعلا في آخر سورة القيامة: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36] ، أي: هملاً لا يكلف ولا يؤمر ولا ينهى، أو (سدى) لا يبعث يوم القيامة ولا يحاسب فيستقر في جنة أو في نار؟ والقولان منقولان عن السلف في تفسير هذه الآية الكريمة، وهما متلازمان، فالجزاء في الآخرة متوقف على التكليف في الدنيا، فهو لم يخلق هملاً إنما خلق لغاية جليلة ألا وهي عبادة الله جل وعلا، ولم يترك سدى سيئول إلى الله ليحاسبه على النقير والقطمير. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8] .

أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ [القيامة:36-39] ما المراد بالزوجين هل هو عدد يشفع أربعة أو ستة أو أكثر؟ لا، المراد بالزوجين الفردان النوعان ويشكلان ويصفان، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ [القيامة:39] ما هما؟ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى [النجم:45]، بدل من الزوجين، إذاً الذكر نوع والأنثى نوع، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:39-40]، بلى وعزة ربنا إنه على كل شيء قدير.

ونظير هذه الآية قول الله جل وعلا في سورة النجم: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [النجم:45-46]، أي: الزوجين الصنفين النوعين الشكلين الفردين الذكر والأنثى، وقرر الله هذا في كثير من آيات كتابه، واستعمل الزوج -كما قلت- بمعنى الفرد الذي يزاوج غيره ويكون معه، قال جل وعلا في أواخر سورة يس: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36] ، المراد من الأزواج: الأصناف والأشكال والأنواع المتعددة، وليس المراد منه عدد الشفع، والآيات التي تقرر هذا كثيرة.

إخوتي الكرام! ومن استعمال الزوج والفرد بمعنى النوع الذي يشاكل ويماثل ويزاوج غيره: ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام في المسند والصحيحين وسنن الترمذي والنسائي رواه الإمام مالك في الموطأ وابن حبان في صحيحه، وهو في أعلى درجات الصحة فهو في الصحيحين كما قلت من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي: يا عبد الله! هذا خير) ما المراد بالزوجين هنا؟ المراد نوعين صدقتين مختلفتين أو متماثلتين، المقصود تصدق باثنين بصدقتين (من أنفق زوجين) أي: نوعين من صدقة، كما لو تصدق مثلاً بطعام وبمال، بطعام وثياب، بثياب وفلوس دراهم، (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي: يا عبد الله! هذا خير)، أي: إنفاقك وتصدقك خير من إمساكك، وهذا يقربك إلى ربك جل وعلا، قال: ( فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه -صديق هذه الأمة وأفضل خلق الله بعد النبيين والمرسلين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه-: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! بأبي أنت وأمي ما على من دعي من أحد تلك الأبواب من ضر، ما عليه ضر ) ولا مشقة إذا دخل الجنة من أحد هذه الأبواب، ولها ثمانية أبواب، من دخلها لن يصاب بضر وهو في نعمة، ( فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم).

قال الإمام ابن حبان في صحيحه كما في الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان في الجزء الخامس صفحة سبع وسبعين بعد المائة، وهي فائدة، الشق الأول معلوم لطلبة العلم بكثرة، والشق الثاني أضيفوه إليكم من كلام هذا العبد الصالح ابن حبان عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، قال: عسى من الله واجب، وأرجو من النبي عليه الصلاة والسلام حق. فقوله تعالى وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:102] ، (عسى) من الله واجبة؛ لأن الله إذا أطمع حقق، ووعده كما قال أئمتنا: خير من إنجاز غيره، وعده ومشيئته خير من إنجاز غيره، لو أنجز لك إنسان شيئاً، ووعدك لله بشيء، فإن وعد الله متحقق الوقوع أكثر من هذا المنجز من قبل غيره.

وهذا -كما قلت- معلوم لنا بكثرة، وعند طلبة العلم، وهو مذكور في كتب التفسير عندما تذكر (عسى) في القرآن إذا أضيفت إلى الله يقولون: عسى من الله واجبة، مع أنها أصلاً للترجي، لكن إذا أضيفت إلى الله جل وعلا فإنها واجبة؛ لأنه إذا أطمع حقق، قال: وأرجو من النبي عليه الصلاة والسلام حق، هذه الكلمة التي قالها هذا العبد الصالح ابن حبان غريبة على أكثر طلبة العلم، لعلهم لم يسمعوا بها قبل نقلها عن هذا العبد الصالح، فأرجو من النبي عليه الصلاة والسلام حق؛ لأن الله لا يخلف ولا يرد رجاء نبيه عليه الصلاة والسلام، فعندما يقول لـأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه: (أرجو أن تكون منهم)، هل يخيب الله رجاء نبينا عليه الصلاة والسلام؟ لا ثم لا، فكأنه قال: حقيق أن تكون منهم، وأنت أولهم فاطمئن ولا تقلق، وأنت صاحب هذه الصفة.

هذا كلام ابن حبان بعد أن روى هذا الحديث.

إذاً: قوله: (من أنفق زوجين)، وقوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [الذاريات:49] أي: صنفين متماثلين، كل منهما يزاوج الآخر، فكل شيء خلق الله منه زوجين، من بني آدم خلق ذكراً وأنثى، ومن جميع المخلوقات خلق أيضاً أزواجاً متقابلة، حتى ما يحصل في الكهرباء وفي غيرها من وجود سالب وموجب من ذلك، فلا بد من أشياء متقابلة ليحصل المفعول، تتزاوج مع بعضها جميع المخلوقات، من ذكورة وأنوثة، من سالب وموجب، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [الذاريات:49] ، أما فرد بنفسه لا يمكن أن يقوم بالمهمة كما ينبغي، ولذلك الذكر للأنثى والأنثى للذكر كاليدين للبدن، فالذكر بلا أنثى أقطع، والأنثى بلا ذكر مقطوعة إحدى اليدين، فلا يمكن أن تقوم بالمهمة كما ينبغي، والزوجان كاليدين تغسل كل منهما الأخرى وتساعدها.

والزوجان كالعينين أيضاً للرؤية على وجه التمام، فإذا كانت العينان سليمتين ترى بهما على التمام، ولو كانت إحداهما عوراء قلت الرؤية، وهكذا ذكر بلا أنثى عقله ضعيف وبدنه ضعيف، وعنده من النقص لأنه ما كمل نفسه، وهكذا أنثى بلا ذكر كذلك، فلا يمكن أن يحصل الكمال إلا لما أشار إليه ذو العزة والجلال: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49] ، أنثى وذكر على شريعة الله المطهرة، حقيقةً هذا ذهنه يتفتح وصدره ينشرح، وتذهب عنه الأسقام والآثام، سواء ما يضر الدين أو ما يضر الدنيا والبدن والصحة ونحو ذلك وانفراد أحدهما عن الآخر مضرة عليه في دينه ودنياه.

حاجة كل من الذكر والأنثى للآخر وعدم صلاحه إلا به

لا يصلح حال الذكور والإناث إلا باجتماعهما مع بعضهما تحت شرع ربنا، فالمرأة أنس للرجل وراحة له، كما أن الرجل للمرأة عز لها، وبه تحصل سعادتها، تستظل بكنفه، وتعتز به.

هذا -إخوتي الكرام- ما أشار إليه ربنا الرحمن يقوله: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49]، وليس المقصود فقط من الزواج قضاء الوطر هذا من جملة مقاصد النكاح، أن يقضي الإنسان وطره وشهوته وحاجته، فقد يكون الإنسان زاد على الثمانين وهو بحاجة إلى زوجة ولا يتحرك منه شيء، ولا يمكن أن يباشر لكن بحاجة إلى زوجة، ولتقرير حاجة كل منهما إلى الآخر أذكر لكم قصتين:

القصة الأولى أدركتها بنفسي مع بعض الشيبان الذين جاوزوا الثمانين، وكان يؤذن في المسجد الذي كنت فيه وينظفه في حلب، توفيت زوجته وهو يزيد على الثمانين، فقال لي: إنني أبحث عن زوجة، وهو يزيد على الثمانين وفي ضعف ومرض ينهك بدنه، وعندما يمشي كما يقولون: يمشي على أربع، ما يستطيع أن يقوم إلا أن يمد يديه ويحرك رجليه ليقوم وأحياناً يحتاج إلى من يسنده، فقلت له: يا عم! وهو رجل صالح أعرفه، ماذا تريد من الزواج وأنت قد جاوزت الثمانين؟ فقال: سأتزوج لأمرين اثنين، وحقيقةً كان ينطق بالحكمة رحمة الله عليه وعلى أموات المسلمين أجمعين، قال: الأمر الأول: لأنني استوحش في البيت بمفردي، يقول: يا ولدي! إذا دخلت البيت أستوحش، فلا بد من أنيس، قلت: والأمر الثاني؟ قال: تدفئني في فراشي، يقول: إذا نمت في الليل أرتجف من البرد يقول: ولما كانت أم فلان معي كان الفراش دافئاً.

ولا يفكر في قضاء شهوة على الإطلاق، ووالله إنه لصادق.

ثم قال لي: يا ولدي! الإنسان لا يستغني عن زوجة، كما لا تستغني المرأة عن زوج، يقول لي: إذا كان عندي زوجة قبل الفجر تعد لي الماء الدافئ لأتوضأ، ثم هي بعد ذلك تأنس بي وأحضر لها ما يلزمها من خارج البيت، وكما قلت: هما كاليدين لبعضهما، وصدق الله: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49].

فلا يمكن للمرأة أن تستغني عن الرجل مهما بلغت في الجمال والكمال والمال والنسب والعزة ولو ملكت الدنيا بحذافيرها، والرجل كذلك أعطه ما شاء لله يستغني عن الزوجة مهما كان.

ولذلك امتن الله على عباده بهذا الأمر وأشار إلى أن من حكمته سبحانه وتعالى أنه خلق أصنافاً مختلفةً في هذه الحياة، وخلق من كل شيء زوجين ليأنس هذا بهذا، ولتتم مصلحة الكون، يقول الله جل وعلا في سورة الذاريات: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49]، ولفظ الزوج يأتي في اللغة العربية بمعنى الفرد الواحد المزاوج للآخر، وبمعنى النوع والصنف والشكل، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [الذاريات:49]، أي: نوعين صنفين شكلين، ويأتي الزوج بمعنى الشفع من عدد اثنين فما فوق بحيث يكون شفعاً، وهو خلاف الوِتر والوَتر الذي هو فرد من الأعداد واحد وثلاثة وخمسة وسبعة، والشفع اثنان أربعة ستة فالزوج يطلق على الشفع كما يطلق على الفرد الواحد المزواج لغيره، فهو يطلق على الاثنين فما فوق.

قال الإمام الجرجاني في التعريفات: الشفع ما به عدد ينقسم بمتساويين، عدد ينقسم بمتساويين يقال له: شفع، فالاثنان ينقسم إلى واحد وواحد، أما هنا الواحد فلا يمكن أن تقسمه بمتساويين، فقوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [الذاريات:49] هل المراد هنا الشفع أو المراد الفرد المزاوج لغيره؟ المراد الفرد المزاوج لغيره، أي: خلقنا شكلين نوعين صنفين.

كما قرر الله هذا في كثير من آيات القرآن، فقال جل وعلا في آخر سورة القيامة: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36] ، أي: هملاً لا يكلف ولا يؤمر ولا ينهى، أو (سدى) لا يبعث يوم القيامة ولا يحاسب فيستقر في جنة أو في نار؟ والقولان منقولان عن السلف في تفسير هذه الآية الكريمة، وهما متلازمان، فالجزاء في الآخرة متوقف على التكليف في الدنيا، فهو لم يخلق هملاً إنما خلق لغاية جليلة ألا وهي عبادة الله جل وعلا، ولم يترك سدى سيئول إلى الله ليحاسبه على النقير والقطمير. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8] .

أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ [القيامة:36-39] ما المراد بالزوجين هل هو عدد يشفع أربعة أو ستة أو أكثر؟ لا، المراد بالزوجين الفردان النوعان ويشكلان ويصفان، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ [القيامة:39] ما هما؟ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى [النجم:45]، بدل من الزوجين، إذاً الذكر نوع والأنثى نوع، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:39-40]، بلى وعزة ربنا إنه على كل شيء قدير.

ونظير هذه الآية قول الله جل وعلا في سورة النجم: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [النجم:45-46]، أي: الزوجين الصنفين النوعين الشكلين الفردين الذكر والأنثى، وقرر الله هذا في كثير من آيات كتابه، واستعمل الزوج -كما قلت- بمعنى الفرد الذي يزاوج غيره ويكون معه، قال جل وعلا في أواخر سورة يس: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36] ، المراد من الأزواج: الأصناف والأشكال والأنواع المتعددة، وليس المراد منه عدد الشفع، والآيات التي تقرر هذا كثيرة.

إخوتي الكرام! ومن استعمال الزوج والفرد بمعنى النوع الذي يشاكل ويماثل ويزاوج غيره: ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام في المسند والصحيحين وسنن الترمذي والنسائي رواه الإمام مالك في الموطأ وابن حبان في صحيحه، وهو في أعلى درجات الصحة فهو في الصحيحين كما قلت من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي: يا عبد الله! هذا خير) ما المراد بالزوجين هنا؟ المراد نوعين صدقتين مختلفتين أو متماثلتين، المقصود تصدق باثنين بصدقتين (من أنفق زوجين) أي: نوعين من صدقة، كما لو تصدق مثلاً بطعام وبمال، بطعام وثياب، بثياب وفلوس دراهم، (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي: يا عبد الله! هذا خير)، أي: إنفاقك وتصدقك خير من إمساكك، وهذا يقربك إلى ربك جل وعلا، قال: ( فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه -صديق هذه الأمة وأفضل خلق الله بعد النبيين والمرسلين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه-: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! بأبي أنت وأمي ما على من دعي من أحد تلك الأبواب من ضر، ما عليه ضر ) ولا مشقة إذا دخل الجنة من أحد هذه الأبواب، ولها ثمانية أبواب، من دخلها لن يصاب بضر وهو في نعمة، ( فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم).

قال الإمام ابن حبان في صحيحه كما في الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان في الجزء الخامس صفحة سبع وسبعين بعد المائة، وهي فائدة، الشق الأول معلوم لطلبة العلم بكثرة، والشق الثاني أضيفوه إليكم من كلام هذا العبد الصالح ابن حبان عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، قال: عسى من الله واجب، وأرجو من النبي عليه الصلاة والسلام حق. فقوله تعالى وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:102] ، (عسى) من الله واجبة؛ لأن الله إذا أطمع حقق، ووعده كما قال أئمتنا: خير من إنجاز غيره، وعده ومشيئته خير من إنجاز غيره، لو أنجز لك إنسان شيئاً، ووعدك لله بشيء، فإن وعد الله متحقق الوقوع أكثر من هذا المنجز من قبل غيره.

وهذا -كما قلت- معلوم لنا بكثرة، وعند طلبة العلم، وهو مذكور في كتب التفسير عندما تذكر (عسى) في القرآن إذا أضيفت إلى الله يقولون: عسى من الله واجبة، مع أنها أصلاً للترجي، لكن إذا أضيفت إلى الله جل وعلا فإنها واجبة؛ لأنه إذا أطمع حقق، قال: وأرجو من النبي عليه الصلاة والسلام حق، هذه الكلمة التي قالها هذا العبد الصالح ابن حبان غريبة على أكثر طلبة العلم، لعلهم لم يسمعوا بها قبل نقلها عن هذا العبد الصالح، فأرجو من النبي عليه الصلاة والسلام حق؛ لأن الله لا يخلف ولا يرد رجاء نبيه عليه الصلاة والسلام، فعندما يقول لـأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه: (أرجو أن تكون منهم)، هل يخيب الله رجاء نبينا عليه الصلاة والسلام؟ لا ثم لا، فكأنه قال: حقيق أن تكون منهم، وأنت أولهم فاطمئن ولا تقلق، وأنت صاحب هذه الصفة.

هذا كلام ابن حبان بعد أن روى هذا الحديث.

إذاً: قوله: (من أنفق زوجين)، وقوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [الذاريات:49] أي: صنفين متماثلين، كل منهما يزاوج الآخر، فكل شيء خلق الله منه زوجين، من بني آدم خلق ذكراً وأنثى، ومن جميع المخلوقات خلق أيضاً أزواجاً متقابلة، حتى ما يحصل في الكهرباء وفي غيرها من وجود سالب وموجب من ذلك، فلا بد من أشياء متقابلة ليحصل المفعول، تتزاوج مع بعضها جميع المخلوقات، من ذكورة وأنوثة، من سالب وموجب، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [الذاريات:49] ، أما فرد بنفسه لا يمكن أن يقوم بالمهمة كما ينبغي، ولذلك الذكر للأنثى والأنثى للذكر كاليدين للبدن، فالذكر بلا أنثى أقطع، والأنثى بلا ذكر مقطوعة إحدى اليدين، فلا يمكن أن تقوم بالمهمة كما ينبغي، والزوجان كاليدين تغسل كل منهما الأخرى وتساعدها.

والزوجان كالعينين أيضاً للرؤية على وجه التمام، فإذا كانت العينان سليمتين ترى بهما على التمام، ولو كانت إحداهما عوراء قلت الرؤية، وهكذا ذكر بلا أنثى عقله ضعيف وبدنه ضعيف، وعنده من النقص لأنه ما كمل نفسه، وهكذا أنثى بلا ذكر كذلك، فلا يمكن أن يحصل الكمال إلا لما أشار إليه ذو العزة والجلال: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49] ، أنثى وذكر على شريعة الله المطهرة، حقيقةً هذا ذهنه يتفتح وصدره ينشرح، وتذهب عنه الأسقام والآثام، سواء ما يضر الدين أو ما يضر الدنيا والبدن والصحة ونحو ذلك وانفراد أحدهما عن الآخر مضرة عليه في دينه ودنياه.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مباحث النبوة - الرضاعة حق للطفل 3292 استماع
مباحث النبوة - أزواج المؤمنين في جنات النعيم 3249 استماع
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [1] 3227 استماع
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [1] 3203 استماع
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [3] 3160 استماع
مباحث النبوة - صفات النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً وخلُقاً 3149 استماع
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [2] 3119 استماع
مباحث النبوة - كرم النبي صلى الله عليه وسلم وجوده 3086 استماع
مباحث النبوة - قوت النبي صلى الله عليه وسلم [1] 3002 استماع
مباحث النبوة - ضرب المرأة بين المنع والإباحة 2946 استماع