مباحث النبوة - الانتفاع بالولد حياً وميتاً


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فلا زلنا نتدارس المبحث الثالث من مباحث النبوة، وهو بيان الأمور والعلامات التي يعرف بها صدق النبي والرسول، وهي كثيرات متعددات، ويمكن أن تجمل في أربع علامات:

أولها: النظر إلى حال النبي عليه الصلاة والسلام في خلقه وخلقه.

وثانيها: النظر في دعوته التي بعث بها وبلغها إلى أمته.

وثالثها: النظر في المعجزات وخوارق العادات التي أكرمهم بها رب الأرض والسماوات.

ورابعها: النظر في حال أصحابه الكرام، فالتلاميذ صورة لمعلمهم وشيخهم، والصحابة هم صورة لنبينا عليه صلوات الله وسلامه.

وقد بدأنا في مدارسة الأمر الأول منها ألا وهو النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه في خَلقه وخُلقه.

وتقدم معنا أن الله أعطى أنبياءه ورسله الأمرين، أعني الكمال في الخَلق والخُلق، فمنّ عليهم بالجلال والجمال في خَلقهم وفي خُلقهم عليهم صلوات الله وسلامه.

وقد تقدم معنا ما يتعلق بالشق الأول من هذين الأمرين ألا وهو خَلق النبي عليه الصلاة والسلام وما في ذلك من دلالات واضحات على أنه رسول رب الأرض والسماوات عليه صلوات الله وسلامه.

ثم انتقلنا بعد ذلك إلى الشق الثاني ألا وهو النظر إلى خُلق النبي عليه صلوات الله وسلامه، وقلت إن خلق النبي عليه الصلاة والسلام، إما أن يكون مع الحق جل وعلا، وإما أن يكون مع الخلق، وإذا أردنا أن نتدارس خُلقه على وجه الإيجاز مع الخلق، فلابد من الكلام على سبعة أمور:

أولها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام.

ثانيها: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أصحابه وأمته.

ثالثها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع الملائكة الكرام عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

رابعها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من شياطين الإنس.

خامسها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من شياطين الجن.

سادسها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع الحيوانات العجماوات.

سابعها: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع الجمادات الصامتات.

وقد بدأنا بأول واحد منها ألا وهو خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام، وانتهيت من ذلك، وبينت ما في هذا الأمر من دلالات واضحة على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً وصدقاً، سواء ما كان يتعلق بمسكنه أو أثاثه أو طعامه أو معاملته لأهل بيته عليه صلوات الله وسلامه.

وقبل أن ننتقل للأمر الثاني ألا وهو خلقه عليه الصلاة والسلام مع أصحابه وأتباعه من أمته، قلت لابد من ترجمة لأمهاتنا أزواج نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وهذه الترجمة قلت لابد أن يسبقها بيان الحكمة في اقتران نبينا عليه الصلاة والسلام بأكثر من أربع نسوة، وقلت هذه أيضاً لابد من أن يسبقها بيان حكمة التعدد في الإسلام، ولابد من أن يسبق هذا بيان حكمة مشروعية النكاح ومنزلته في الإسلام.

وتقدم معنا أن حكمة مشروعية النكاح تدور على خمسة أمور، والحكمة من التعدد تدور على عشرة أمور، والحكمة من اقتران نبينا عليه الصلاة والسلام بأكثر مما أباح الله لأمته تدور على عشرة أمور أيضاً، فهذه كما تقدم معنا خمسة وعشرون أمراً وحكمة لابد من مدارستها على هذا الترتيب.

بدأنا بالحكم العامة والثمرات النافعة في العاجل والآجل من مشروعية النكاح، وحلّ النكاح في هذه الحياة، وقلت إن الحكم من ذلك كثيرة يمكن أن نجملها كما تقدم معنا في خمس حكم:

أولها: تحصين النفس البشرية من الآفات الردية، سواء كانت حسية أو معنوية، ومضى الكلام على هذا.

الحكمة الثانية: إنجاب الذرية.

الحكمة الثالثة: تحصيل الأجر للزوجين، عن طريق العشرة التي أحلها رب الكونين، وسيأتينا ما في ذلك من أجور عظيمة يحصلها الزوجان عند عشرة كل منهما لصحابه.

الحكمة الرابعة: تذكر لذة الآخرة واستحضارها.

خامس الحكم: ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه وبأهل زوجه.

كنا نتدارس الحكمة الثانية من ثمرات مشروعية النكاح، ألا وهي إنجاب الذرية.

وفي إنجاب الذرية فوائد متعددة يمكن أن تضبط وأن تجمع في خمس فوائد.

أولها: السعي في إبقاء جنس الإنسان محافظة على إرادة الرحمن، في إبقائهم لعبادة ذي الجلال والإكرام، وشرحت هذه الفائدة.

وثانيها: إقرار عين نبينا عليه الصلاة والسلام بكثرة أمته، وشرحت هذه الفائدة، ودخلنا في الفائدة الثالثة: الانتفاع بالولد إن عاش في هذه الحياة، وهذا النفع عن طريقين اثنين، في الدنيا وفي الآخرة.

الفائدة الرابعة من إنجاب الذرية: الانتفاع بالولد إن مات، سواء كان صغيراً أو كبيرا.

الفائدة الخامسة: تحصيل الأجور العظيمة في تربية الأولاد والإنفاق عليهم.

أما الحكمة الثالثة وهي الانتفاع بالولد إن عاش، فقد تقدم معنا أن هذا النفع دنيوي وأخروي، أما النفع الدنيوي فقد مضى الكلام عليه وقلت: إن الإنسان ينتفع بأولاده عندما يأتون، فيخدمونه ويحصل له عز وقوة ومنعة بكثرتهم، وكلما كثر أولاد الإنسان كلما قوي ظهره، وعظم جاهه، وصار له بين الناس منزلة لا يعتدي عليه السفهاء، فإذاً هذه من الحكم المطلوبة في إنجاب الأولاد، وآخر ما ذكرته في هذه الحكمة قول الله جل وعلا في سورة النحل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72]، وتقدم معنا أن الحفدة من الحفد وهو الخدمة على وجه السرعة، حَفد، يحفد، حفداً، وحفدانا إذا خدم بسرعة ونشاط وقوة، وقلت إن المراد بالحفدة هنا ستة أقوال: منها ما يتعلق ببحثنا، ومنها من باب بيان ما قيل في الآية، وقلت إن المراد بالحفدة؛ البنات وهذا القول الأول: والله جعل لكم من أنفسك أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات، وأطلق على البنات لفظ الحفدة لما فيهن من خدمة على وجه التمام والكمال، والثاني: المراد من الحفدة أولاد الأولاد، والثالث: المراد من الحفدة البنون الكبار أو الصغار، وعليه كرر ذكرهم بوصف آخر ونزل تغاير الأوصاف منزلة تغاير الذوات كما تقدم معنا.

الرابع: المراد من الحفدة أولاد المرأة من زوج آخر، فمن تزوج المرأة ينتفع بهم.

الخامس: المراد من الحفدة تقدم معنا أقرباء الزوجين الأختان وهم الذين يقربون للزوجة، والأصهار وهم أقرباء الزوج، فالزوج وأقرباؤه ينتفع بهم الزوجان وأهلهما، فالزوج ينتفع بأهل زوجته، وأهل الزوجة ينتفعون بهذا الصهر وبأهل زوجها.

وآخر الأقوال وهو سادسها: المراد من الحفدة الأعوان والأجراء والخدم، وتقدم معنا توجيه هذه الأقوال فيما مضى.

ثم نأتي هنا ونقرر المنافع الدنيوية والأخروية من إنجاب الذرية، ونبدأ بالمنافع الدنيوية التي نقررها في الآتي:

الذرية هبة من الله

مما يدل على أن هذه الثمرة مطلوبة من إنجاب الأولاد وهي أن الوالد ينتفع بأولاده إن عاشوا، ويحصل له بهم عز وقوة ومنعة، أن الله عبر عن الولد في كتابه بأنه هبة، فهو شيء موهوب لوالده ينتفع به، كالهبة التي تعطى إليك وتمنح إليك، وجاءتك بدون مقابل، جاءتك من الله فضلاً وكرماً وجوداً وإحساناً وامتناناً، وإذا كان الولد هبة وهو موهوب لأبويه فينتفعان به كما ينتفع الإنسان بما وهب له، والله أشار إلى هذا في كتابه فقال في آخر سورة الشورى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49-50]، والله جل وعلا عبر عن الولد بأنه هبة في كثير من آيات القرآن فقال في سورة ص: وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30]، ولد له سليمان عطية من الرحمن سبحانه وتعالى، وهكذا أخبرنا الله جل وعلا عن أنبيائه ورسله أنهم كانوا يحمدون الله على ما وهبهم من الأولاد، فذلك نعمة عظيمة جليلة وكانوا يسألون الله هذه النعمة، فهذا خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يقول كما حكى الله عنه في سورة إبراهيم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم:39]، وأخبرنا الله جل وعلا أنه كافأ خليله إبراهيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسلم بهذه الهبة العظيمة، ألا وهي الأولاد الصالحون المباركون من إسماعيل وإسحاق، وما يعقبه هؤلاء الأولاد من ذرية ومن وراء إسحاق يعقوب، بعد أن اعتزل قومه من أجل ربه يقول الله جل وعلا: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:49]، وهب له الولد، وولد الولد، وهب له إسحاق وهو ولده من صلبه، ويعقوب ولده إسحاق ولد الولد، بنين وحفدة والآية في سورة مريم: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:49]، وقال جل وعلا في سورة الأنبياء: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ [الأنبياء:72]، وأخبر الله عنه هذه الهبة بعد أن بين أن قومه أرادوا به كيدا، فجعلهم الله الأسفلين الأخسرين، ونجى الله خليله إبراهيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسلم، ثم أعطاه هذه الهبة العظيمة: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً [الأنبياء:72]، أي: زيادة على الولد، هبة زائدة بعد أن وهب له إسحاق بشر بأنه سيأتي لهذا الولد ولد آخر، وتقدم معنا أن أولاد الأولاد هبة أيضاً لجدهم.

سنة الأنبياء في طلب الذرية الصالحة

وهكذا كانت تتعلق همم الأنبياء بهذه الهبة العظيمة، فهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه صلوات الله وسلامه يقول كما حكى الله عنه في سورة الصافات: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات:100-101]، وهو نبي الله إسماعيل عليه صلوات الله وسلامه هبة عظيمة، وصلاح الولد من أعظم الهبات والنعم التي يهديها الخالق إلى المخلوقات: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100]، ولذلك كان أئمتنا يقولون ليس المقصود من الأولاد الإعقاب، أي أن يكون لك العقب، إنما المقصود الإنجاب، وبذلك كانت تتعلق همم أنبياء الله ورسله عليه جميعاً صلوات الله وسلامه: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100]، أي: ولداً صالحاً: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات:101].

وهكذا نبي الله زكريا عليه صلوات الله وسلامه، أخبرنا الله عنه أنه سأل ربه هذه الهبة فقال جل وعلا: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم:2]، في أول سورة مريم: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:3-6]، فاستمع للبشارة: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم:7]، إلى آخر الآيات، وهكذا أخبر الله جل وعلا عن نبيه زكريا عليه صلوات الله وسلامه في سورة الأنبياء فقال: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:89-90].

خلاصة الكلام سمى الله الولد هبة لوالده، والموهوب يتصرف فيه من وهب له، فهو ملك لوالده، فينتفع به، وتيتفع بماله، وبخدمته، ويحصل به عز وقوة ومنعة وهذا من نعم الله على عباده في هذه الحياة.

الولد كسب أبيه

والله جل وعلا أخبر عن الولد أيضاً بأنه كسب للوالد، فالولد ثمرة من سعي الوالد، والله يقول في سورة المسد: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:1-2]، ماله معروف، وما كسب ولده، يعني لم ينفعه عند الله ماله ولا ولده، وكان يتعزز أبو لهب بكثرة ماله وكثرة أولاده وعياله، فهو وإن حصل له عز في الدنيا بذلك لكن عندما انحرف عن شريعة الله لم ينفعه أولاده عند الله: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:2]، وقد ثبت في تفسير الطبري ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن أبي الطفيل قال: كنت عند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فجاء بنوا أبي لهب يختصمون عنده بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، فلما حكم بينهم تشاجروا وما قبلوا بحكمه، وقاموا في مجلسه ليتضاربوا فقام عبد الله بن عباس لما بينه وبينهم من رحم ليحجز بينهم فدفعوه في صدره، وكان رضي الله عنه في ذلك الوقت قد طرأ عليه العمى، فدفعوه في صدره فوقع، فلما وقع قال: أخرجوا عني الكسب الخبيث، ثم تلا قول الله جل وعلا: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:2].

وقد جاءت أحاديث كثيرة عن نبينا عليه الصلاة والسلام فيها الإخبار بأن الولد كسب للوالد، وأنه من سعيه وثمرة من ثمرات عمله، وعليه كما قلنا يستخدمه فيما يريد وينتفع بماله كما ينتفع الإنسان بماله تماما.

ثبت في المسند، والسنن الأربعة، ورواه البخاري في التاريخ الكبير، والحاكم في المستدرك، وأبو داود الطيالسي في مسنده، والبيهقي في السنن الكبرى، والدارمي في سننه، والبغوي في شرح السنة، وسعيد بن منصور في سننه، وإسناده صحيح كالشمس وضوحا، من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه )، وفي رواية: ( إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم )، أي: كسب الولد كسب لك، وأنت أفضل ما تأكله من كسبك، وكسب الولد كسب لك، فكل من كسب ولدك.

وثبت في مسند أحمد أيضاً وسنن أبي داود وابن ماجه ورواه ابن الجارود في المنتقى، والبيهقي في السنن الكبرى، والخطيب في تاريخ بغداد، وأبو نعيم في تاريخ أصفهان وإسناد الحديث صحيح، من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي مالاً وولداً، وإن أبي يجتاح مالي )، فكأنه يجعل الكلام الأول مقدمة لاعتراضه على أبيه، يقول: أنا عندي مال لكن عندي أولاد، وكأنه يريد أن يقول أولادي أحق من والدي، ويجتاح يعني: يستأصله ويأخذه كله، ولا يترك لنا شيئاً، كلما أكتسب شيئاً يأتي الوالد ويأخذه، فقال عليه الصلاة والسلام: ( أنت ومالك لأبيك )، أنت هبة من الله له، تعترض لماذا؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم ).

وهذا الحديث روي عن عدة من الصحابة رضوان الله عليهم، وهو في درجة الاستفاضة يقرب من التواتر، روي من رواية عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعمر، وأبي بكر، وأنس، وسمرة بن جندب رضي الله عنهم أجمعين، انظر هذه الروايات والكلام عليها في مجمع الزوائد في الجزء الرابع صفحة أربع وخمسين ومائة إلى صفحة ستٍ وخمسين ومائة.

الحكمة من عدم ذكر بيت الولد في آية الأكل آخر سورة النور

وعندما عدد الله البيوت التي يباح للإنسان أن يأكل منها ويرخص له أن يأكل فيها دون استئذان صاحبها لم يذكر بيوت الولد؛ لأن بيت الولد بيتٌ للوالد، فلا يريد أن يذكر، ولو قلنا للوالد: يجوز لك أن تأكل من بيت ولدك لانكسر خاطره ويقال: ولدي له بيت مستقل عني، وهو كسبي وهبة لي؟ وهذا الاستنباط استنبطه شيخ المسلمين في زمنه أبو محمد سفيان بن عيينة رحمه الله قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا ... [النور:61]، يعني: لا حرج أن يأكل الأعمى مع المبصر، والأعرج مع السليم، والمريض مع الصحيح لا حرج: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ [النور:61]، قوله من بيوتكم: دخل فيها بيوت الأولاد، ولذلك كثيرٌ من المفسرين فسر البيوت هنا ببيوت الأولاد واقتصر على هذا، كالجلالين: من بيوتكم أي: بيوت أولادكم، وأضيفت إليهم لأن بيت الولد بيت للوالد، وهو ملك له وهبة من الله ليتصرف فيه ما شاء، ثم قال: مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ [النور:61]، أي: لا مانع أن تأكل من بيت والدك، ولا غضاضة في ذلك فهو الذي رباك، إنما لو قيل للوالد: لا حرج عليك أن تأكل من بيت ابنك، يقول: سبحان الله! بيت ابني الآن يفضل عن بيتي فينكسر خاطره، وكما تقدم معنا إن الولد هبه للوالد وهو من أحسن ثمرات كسبه، فكيف يقال: من بيوت أولادكم؟

إذاً: مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور:61]، مشتق من الصدق لما بينكما من صلة طيبة بحيث تتصرف في ماله ويتصرف في مالك، وكل منكما يرضى بذلك، لما بينكما من الصدق، وقد كان سلفنا يقولون لبعضهم هل تدخل يدك في جيب أخيك فتأخذ منه ما تريد دون استئذان؟ فيقال: نعم، قال: هذا صديقك، وإن قال: لا، قال: ليس بينكما صداقة، كصداقاتنا في هذه الأيام، فلو مددت يدك إلى جيب أخيك لأمسكها وقال: ماذا تفعل؟ أي صداقة إذاً بيننا؟ وانظر هنا: أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا [النور:61] أي: مجتمعين، أَوْ أَشْتَاتًا [النور:61] أي: متفرقين.

إذاً: لم يذكر بيوت الأولاد لأن بيوتهم بيوت للآباء، ولذلك دخلت في قوله: مِنْ بُيُوتِكُمْ [النور:61]، وهذه الدلالة كما قلت استنبطها أمير المؤمنين سفيان بن عيينة وقال: إن الولد هبة من الله للوالد ولذلك لا يجوز أن يذكر بيته منفصلاً عن بيت الوالد.

مقدار ما يحق للوالد أن يأخذه من مال ولده

هذه الدلالات الثلاث في القرآن؛ أولها: الولد موهوب للوالد، ثانيها: هو كسب للوالد وثمرة من ثمرات سعيه، ثالثها: بيته بيت للوالد, بناء على هذه الدلالات والأحاديث المتقدمة قرر الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله ورضوانه، وهو مذهب الحنابلة بلا خلاف ولا نزاع، كما في المغني في الجزء السادس صفحة تسع ومائتين قرر أن الوالد له الحق في أخذ ما شاء من مال الولد دون استئذانه ويترك ما شاء، ولا يجوز للولد أن يعترض، ولا يحق له أن يأذن ولا أن يمنع ولا أن يتمعر وجهه، وإذا فعل شيئاً من ذلك فهو مغضوب عليه وعاق لوالديه، فيأتي والدك يتصرف في مالك كما يريد، فمثلاً اشتريت سيارة بمائة ألف جديدة وهي أمام بيتك فجاء الوالد قال: أين المفتاح يا ولدي؟ فالواجب عليك أن تقول: هذا المفتاح، لبيك سمعاً وطاعة، شغل السيارة وانطلق، ولا يجوز أن تقول: كيف أخذ والدي السيارة؟

يا صعلوك لولا أن الله جعل هذا الوالد سبباً في وجودك لما وجدت، يقود السيارة ويمشي ولا يجوز أن يتمعر وجهك، ولا تتأفف نفسك ولا يقلق قلبك، فهذا والد، وأنت هبة وكسب له، وبيتك بيته وسيارتك سيارته، يتصرف فيها كما يريد، هذا يقوله الحنابلة بشرطين اثنين.

الشرط الأول: أن لا يجحف بابنه، وأن لا يضر به وأن لا يأخذ شيئاً تعلقت به حاجته الضرورية، فمثلاً عند الابن طعام إذا أخذه الوالد سيموت الابن، فنقول: هنا مصلحة الابن تقدم عليك، فلا تأخذ هذا من أجل أن يتضور الابن بعد ذلك، ويذهب يسأل من هنا ومن هناك، فأنت تجحف به وتضره، لكن السيارة أخذتها أو تركتها فالابن لا يضره أن يمشي على رجليه ويمشي على رأسه، وأما شيء لو أخذته لأجحفت به، وترتب عليه ضرر، فدائماً تقدم حاجة الإنسان على حاجة من عداه إلا النبي عليه الصلاة والسلام فتقدم حاجته على حاجة كل أحد فهو: أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6]، فيقدم عليه الصلاة والسلام على الوالدين وعلى النفس، فلو قدر أنه عليه صلوات الله وسلامه حي وعندك ماء لو لم تشربه لمت والنبي عليه الصلاة والسلام بحاجة إليه لوجب عليك فرضاً أن تؤثره به وأن تموت بين يديه عليه صلوات الله وسلامه، فمقام النبوة لا يصل إليه لا الأب ولا الأم ولا أحد من خلق الله، فهو أول بك من نفسك، أما حاجة الأب فإنها تلي حاجة الابن، فإذا كان عندك ما يزيد على حاجتك فإنه يجوز للوالد أن يتصرف فيه كما يتصرف في ملكه تماما، وكما قلت لا يجوز أن تعترض عليه بلسانك ولا بقلبك فهذا حكم الله، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أنت ومالك لأبيك )، أما أنت لو أردت أن تأخذ من مال أبيك فإنه لا يجوز أن تأخذ ريالاً إلا باستئذان.

الشرط الثاني عند الحنابلة: كما قرر الإمام أحمد قال: أن لا يأخذ من مال ولد ليعطيه ولداً آخر، فهذا يمنع منه الوالد؛ لأنه منهي عن التفضيل بين أولاده في العطية فيما هو من ماله، فكيف يأخذ من مال هذا الولد ليعطي الولد الآخر، هذا لا يجوز من باب أولى، وفي غير هاتين الحالتين يد الوالد مطلقة في مال الأولاد يتصرف فيها كما يشاء، وهذا فيما يظهر لي -والعلم عند ربي- أرجح وأظهر وأقوى المذاهب دليلا لما تقدم معنا، ويكفي دلالات القرآن الثلاثة المشار إليها سلفاً.

أما الجمهور وهم الأئمة الثلاثة فقالوا: لا شك أن الوالد له أن يأخذ ما يحتاج إليه، وهذا لابد منه ولو بدون إذن ولا استشارة، والولد إذا امتنع يؤخذ منه رغم أنفه بقوة القضاء، لكن ما زاد على حاجة الوالد لا يجوز أن يأخذه إلا بطيب نفس من الولد.

وتقدم معنا في أول المبحث عند النكاح هل هو قوت أم تفكه؟

قلت: على القول بأنه قوت يلزم الولد بتزويج والده زوجة وزوجتين وثلاث وأربع على حسب احتياجه فهي قوت، وهذا على قول الجمهور الذين يقولون بأنه لا يجوز للوالد أن يأخذ من مال ولده إلا ما يحتاج إليه، فإذا كان النكاح قوتا وماتت زوجة الوالد أمك أو زوجة أخرى وقال: يا ولدي أنا بحاجة لزوجة ولو ثانية أو ثالثه حتى رابعة، يجب عليك أن تزوجه يبلغ النصاب، وما عدا هذا يقول: انتهى الحد الشرعي، كما يجب عليك أن تطعمه، وتقدم معنا أن كون النكاح قوتا أقوى من كونه فاكهة، وقد قال بعض أئمتنا: أحتاج إلى الجماع كما أحتاج إلى القوت والغذاء، فالجمهور يقولون هذه الأدلة تعطي الحق للوالد في أن يأخذ ما شاء من مال ولده مما يحتاج إليه، ما زاد على هذا لا يجوز إلا بإذن من الولد، نعم يندب للولد أن يبر والده وأن يطلق يد الوالد في ماله، وأن لا يعترض عليه إذا أخذ من باب الندب، وإذا شاء أن يمنعه أخذ الزائد فله حق في أن يمنعه.

ما أطيب هذه الثمرة، وما أحسنها وما أجلها وما أفضلها، تنجب ولداً يخدمك يحصل لك به قوة ومنعة، وما يحصله من كسب تتصرف فيه، فثمرات النكاح مقصودة، والنكاح له شأن عظيم في الإسلام، هذا الانتفاع بالولد كما قلت إن عاش.

وأما الانتفاع في الآخرة بالولد إن عاش فكما انتفعت به في الدنيا، فإذا مت وبقي هذا الولد فكأنما بقيت أنت، وما دامت له ذرية فأنت باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويحصل لك من أدعيتهم بعد انقطاع عملك ما لا يمكن أن تحصله بكثير من الطاعات والعبادات، وهذه ثمرة عظيمة من ثمرات النكاح، فأنت ميت وعملك متصل باق بعد موتك، كما ثبت ذلك ذلك في المسند وكتاب الأدب المفرد البخاري، وعند أبي داود والنسائي والترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )، وتقدم معنا كلام ابن الجوزي: رب جماع خير من عبادة ألف سنة.

فولد صالح كالإمام أحمد يدعو لك بعد موتك، والله مهما عبدت الله لا يمكن أن تصل إلى هذه الدرجة بإنجاب مثل هذه الذرية التي تعبد رب البرية وتدعو لك، وما يحصل من هذه الذرية من طاعات يكتب في صحيفتك؛ لأنك أنت المتسبب فيها: ( أو ولد صالح يدعو له )، ثبت في السنن الكبرى: ( أو ولد صالح يدعو له ).

وفي السنن الكبرى البيهقي في الجزء السابع صفحة تسع وسبعين أن عبد الله بن عمر رضي الله عنها أراد أن لا يتزوج وينقطع عن النكاح، فقالت له أمنا حفصة رضي الله عنها: يا عبد الله تزوج فإنه إذا ولد لك ولد فعاش من بعدك دعوا لك بعد موتك، أما تريد أن يبقى عملك بعد موتك، فإياك أن تترك النكاح، وما تظن أنه مجرد قضاء شهوة، لا، ثم لا، بل هو عبادة عظيمة يتقرب بها الناس إلى الله جل وعلا، لكن تحتاج إلى عقل يعي هذه المعاني، كما نص على ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد في الجزء الرابع صفحة ثمان وخمسين ومائتين، عن أمنا حفصة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يدع أحدكم طلب الولد )، أي: لا يترك طلب الولد، ( فإن الرجل إذا مات ولم يكن له ولد انقطع اسمه )، أي: محي رسمه، وما بقي منه شيء لأنه مات وليس له ولد وذرية وكأنه ما وجد، هذا من عاش فترة ثم ذهب أثره: ( لا يدع أحدكم طلب الولد، فإن الرجل إذا مات ولم يكن له ولد انقطع اسمه )، والحديث في معجم الطبراني الكبير بسند حسن.

إذاً: عملك يستمر بعد موتك إن عاش الولد، وانظر للمنافع الكثيرة الوفيرة التي يحصلها الإنسان بعد موته من أولاده.

فائدة استغفار الولد لأبيه بعد موته

وثبت في مسند أحمد وسنن ابن ماجه بإسناد حسن من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الرجل لترفع درجته بعد موته )، ترفع له درجته منزلة عالية عند الله بعد موته، هو مات ولا يستحق هذه الدرجة بعمله، ( إن الرجل لترفع درجته بعد موته فيقول: ربي أنى لي هذا؟ )، أي: من أين جاءني وعملي قد انقطع؟ ( أنى لي هذا؟ فيقول الله له: هذا باستغفار ولدك من بعدك )، والله هذه فائدة عظيمة لو علمها من ليس عنده زوجة لما أمسى ليلة إلا وعنده زوجة لتخرج منه ذرية توحد الله وتعبده، ثم لتدعو له بعد موته.

وفي موطأ مالك بن أنس في الجزء الأول صفحة سبع عشرة ومائتين عن سعيد بن المسيب موقوفاً عليه من قوله، وله حكم الرفع لأنه لا يعرف من قبل الرأي، وما قاله التابعي إذا كان لا يعرف من قبل الرأي فله حكم الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام لكن يقال له مرفوع مرسل، كما أن قول الصحابي إذا كان لا يدرك بالرأي يقال له مرفوع لكن متصل، قال سعيد بن المسيب: إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده، وقال سعيد بيديه نحو السماء فرفعهما، كأنه يقول درجة عالية يرفع له بعد موته قال ابن عبد البر : هذا الأثر لا يدرك من قبل الرأي، وقد جاء متصلاً بسند جيد، يقصد حديث أبي هريرة المتقدم، وقد روي الأثر عن أبي هريرة موقوفاً وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام ثبت في الأدب المفرد للبخاري في صفحة ثلاثين، وتقدم معنا مرفوعاً في المسند وسنن ابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( ترفع للميت درجته بعد موته، فيقول: ربي أي شيء هذه؟ )، هذه الدرجة من أين جاءت لي؟ ( فيقول الله له: ولدك استغفر لك بعد موتك )، قال أبو هريرة بعد أن روى هذا الأثر: اللهم اغفر لـأبي هريرة ولأم أبي هريرة ، أما أبوه فما أدرك الإسلام، ولذلك يستغفر لأمه، وتقدم معنا في ترجمة راوية الإسلام أبي هريرة رضي الله عنه الحديث الذي ثبت في المسند وصحيح مسلم : ( قال أبو هريرة : يا رسول الله! ادعو الله لي ولأمي أن يحببنا إلى المؤمنين وأن نحب المؤمنين، فقال: النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين )، قال أبو هريرة : فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني، وهذه إن شاء الله بشارة لنا، ويعلم الله أنا نحبه وليتنا رأيناه وتبركنا بالنظر إلى نور وجهه وبتقبيل يديه ورجليه رضي الله عنه وأرضاه، كما أنها نذارة وخذلان للشيعة عليهم غضب الله، وعندهم أعظم عدو من الصحابة هو أبو هريرة، والسبب في ذلك كثرة روايته الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا لا يروق لهم، فـأبو هريرة عندهم يعدل الشيطان الرجيم، إذا ما كان يزيد عليه عندهم في العداوة، ولذلك حبه من علامة الإيمان، فاللهم إنا نشهدك على حبه فنسألك أن تثبت في قلوبنا الإيمان يا أرحم الراحمين.

وبما أنه يوجد هذه الفضائل للأبوين إذا دعا لهما الولد، قال محمد بن سيرين: وأنا أقول اللهم اغفر لـأبي هريرة ولأم أبي هريرة، لأن أبا هريرة قال: اللهم اغفر لـأبي هريرة ولأم أبي هريرة ، ولمن استغفر لـأبي هريرة ولأم أبي هريرة ، فأقول: نحن نستغفر لـأبي هريرة ولأم أبي هريرة ، لندخل في دعاء أبي هريرة ؛ لأنه استغفر لنا قال: من يستغفر لي ولأمي اللهم اغفر له.

من حقوق الوالدين بعد موتهما

إن حقوق الوالدين لا تنقطع عن الأولاد بعد موت الوالدين، ولذلك إن عاش الولد بعد موتك تنتفع به ويدعو لك، وقد قال الله في كتابه في سورة لقمان: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، قال سفيان بن عيينة حول هذه الآية، في بيان أعظم أنواع الشكر وأول ما يدخل في الشكر لله والشكر للوالدين، قال: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، أي: قام بأعظم وأعلى أنواع الشكر، ومن دعا لوالديه عقيب الصلوات المفروضات فقد شكر لوالديه، وعليه إذا لم تدع لوالديك عقيب كل صلاة مفروضة فلم يحصل منك شكر لوالديك.

سبحانك ربي! الوالد ميت والولد كلما صلى دعا للوالد، هنيئاً لهذا الوالد الذي أنجب هذا الولد، كلما يعبد الله عقيب كل فريضة يدعو لوالديه، لأن الله يقول: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، فلهما عليك حق الدعاء ما دمت حياً، وقد أشار إلى هذا نبينا صلى الله عليه وسلم ووضحه ففي الأدب المفرد للبخاري، وعند أبي داود وابن ماجه من رواية أبي أسيد وهو مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: ( بينما نحن مع النبي عليه الصلاة والسلام جلوس جاء رجل فقال: يا رسول الله! هل بقي من بر والدي علي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، الصلاة عليهما )، صلاة الجنازة والدعاء باستمرار، والصلاة بمعنى الدعاء، ( الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما )، أي: من قبلهما، فقرابات الوالدين ينبغي أن تصلها، والوصية تنفذها.

والحديث في إسناده عدي بن عبيد الساعدي وهو مولى أبي أسيد الساعدي، فهو تابعي، وروى عن سيده أبي أسيد وقد وثقه ابن حبان، ولا يعلم فيه جرح، لكن لم يرو عنه إلا راو واحد ولذلك قال عنه الحافظ في التقريب مقبول، وتقدم معنا مراراً أن من وثق من التابعين من قبل ابن حبان ولم يعلم فيه جرح فله حكم التوثيق، وأبو داود روى الحديث في سننه وسكت عنه، يشير إلى أنه صالح وحسن يحتج به، والحديث في الأدب المفرد للبخاري وسنن أبي داود وابن ماجه ، ولم يخرج لـعدي بن عبيد الساعدي إلا أهل هذه الكتب الثلاثة، فالحديث إن شاء الله على شرط أبي داود حسن أو صالح والعلم عند الله جل وعلا.

إذاً: الفائدة الأولى من فوائد الذرية: السعي في إبقاء جنس الإنسان لعبادة الرحمن تحقيقاً لإرادة ذي الجلال والإكرام.

الفائدة الثانية: إقرار عين النبي عليه الصلاة والسلام بكثرة أمته.

الفائدة الثالثة: الانتفاع بالولد إن عاش في الدنيا وفي الآخرة.

ثواب الوالد بموت ولده قبله

والفائدة الرابعة: الانتفاع بالولد إن مات، سواء كان صغيراً لم يبلغ الحلم أو كبيراً بلغ ومات فهنيئاً لك