مباحث النبوة - حكمة النكاح في الإسلام


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً وعملاً متقبلاً.

أما بعد: فكنا نتكلم عن مشروعية النكاح، وأنه من سنن المرسلين، وذكرنا أهمية الحفاظ على جنس البشر، وما ورد من كلام السلف فيه، ونذكر هنا ما قاله عنه ابن قدامة في المغني في الجزء السابع صفحة خمس وثلاثين ومائتين، والسفاريني في غذاء الألباب شرح منظومة الآداب في الجزء الأول صفحة تسع وأربعين ومائتين، يقول: لو ترك الناس النكاح لم يكن جهاد ولا حج، فقال له أحد تلاميذه: يذكرون عن إبراهيم بن أدهم، يقول -هذا التلميذ-: فصاح بي، وقال: جئتنا ببنيات الطريق -هي الطرق المتعرجة التي إذا سلكها الإنسان ظل وهلك- انظر ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فافعله، أما كون إبراهيم بن أدهم تزوج أو لم يتزوج فما لنا وله.

وقال الإمام أحمد: لو تزوج بشر الحافي لتم أمره، هذا وهو سيد المسلمين وإمام الموحدين في زمنه توفي سنة سبع وعشرين ومائتين للهجرة، وقد أخرج حديثه أبو داود في مسائل أحمد -مجلد مطبوع مشهور- لا في السنن، وأخرج حديثه النسائي في فضائل علي وخصائصه لا في السنن، وكان أئمتنا يقولون: لو وزع عقله على أهل الدنيا لوسعهم، بشر الحافي ما تزوج، نقول: سيلقى الله بتقصير، وفاته خير كثير ولو تزوج لتم أمره، وقد رؤي بشر الحافي عليه رحمة الله بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني وأكرمني وقال: يا بشر ما كنت أحب أن تلقاني عزبا. وكان رضي الله عنه يقول: فضل عليّ أحمد بثلاث؛ نسب إماماً للعامة، وأنا إمام نفسي، وطلب الحلال لنفسه ولغيره، واتسع في النكاح ولم أتزوج، ومع أنه لم يتزوج فإنه يعتبر الزواج فضيلة، وهذا ما أشار إليه أحمد ، ولعله ما ترك الزواج إلا لعذر من الأعذار الشرعية، وغاية ما يقال: تلك الأعذار تسقط اللوم عنه، لكن لا يقال: إن فعله فضيلة ولا يقتدى به في ذلك، وتقدم معنا بأول المبحث أن كل حديث يحض على العزوبة ويحث عليها فهو كذب لا أصل له عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

انظر ما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم فافعله، وتقدم معنا أن بعض الصحابة عندما أراد التبتل والانقطاع عن الدنيا إلى الآخرة زجره النبي عليه الصلاة والسلام وأخبره أن النكاح من سنته، ومن ترك سنته فليس منه، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم مسلكهم التزوج والاقتداء بنبينا عليه صلوات الله وسلامه.

وتحقيقاً لهذه الحكمة ألا وهي إخراج الذرية والمحافظة على جنس الإنسان لعبادة الرحمن وتحقيقاً لإرادة الله، وموافقة له في إرادته ومشيئته أتفق أئمتنا عن بكرة أبيهم بلا خلاف بينهم على تحريم وطء المرأة في دبرها، أي: ما يدل على أنه ليس المراد من الزواج قضاء شهوة، وهذا لا خلاف بينهم في ذلك، وأن فاعل ذلك ملعون مرتكب لكبيرة عاصٍ للحي القيوم؛ لأن الله قال: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223]، وهل ذلك المكان يصلح للحراثة؟ وهل يصلح أن يوضع فيه البذر؟ وهل يخرج منه نبات؟ لا ثم لا، وقال أئمتنا: الوطء في الدبر استبذار في السباخ، فمن أخذ البذر وألقاه في أرض سبخة لا تخرج ثمراً، وهو استفراخ حيث لا إفراخ، فليس موضعاً للتفريخ، إنما ذاك مكان لخروج القذر والأذى، ويحل الانتفاع حيث يوجد ويحصل الازدراع.

وقد ألف أئمتنا كتباً كثيرة في تحريم وطء المرأة في دبرها، منها كتاب لـابن الجوزي سماه تحريم المحل المكروه، والذهبي له جزء في تحريم وطء المرأة في دبرها، وأبو العباس القرطبي شيخ القرطبي المفسر له كتاب سماه إظهار إدبار من أجاز وطء النساء في الأدبار، يعني مدبر معرض عن الحق منحرف من أجاز وطء النساء في الأدبار.

وقد ثبتت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام من طريق اثني عشر صحابياً في تحريم وطء المرأة في دبرها، وأن ذلك هو اللوطية الصغرى، وأن من فعل ذلك فهو ملعون، ولا ينظر الله إليه يوم القيامة، ونقل عن سلفنا عبارات شديدة قوية في ذلك، وأطلقوا عليه لفظ الكفر، ولذلك قال الطحاوي في شرحه لمعاني الآثار في الجزء الثالث صفحة ستٍ وأربعين: تواترت الآثار عن نبينا عليه الصلاة والسلام بتحريم وطء المرأة في دبرها.

وقد عد أئمتنا من الأحاديث المتواترة حديث تحريم وطء المرأة في دبرها، كما في كتاب نظم المتناثر من الحديث المتواتر للشيخ الكتاني وقد ذكر فيه عشرة أحاديث وثلاثمائة حديث متواترة عن نبينا عليه الصلاة والسلام مع بيان طرقها، يقول في الحديث التاسع والخمسين بعد المائة في صفحة سبع وتسعين، حديث تحريم وطء المرأة في دبرها حديث متواتر، يقول: أحاديث النهي عن وطء النساء في أدبارهن، ثم عدد الصحابة الذين روي عنهم هذا الحديث؛ عن خزيمة بن ثابت وأبي هريرة وابن عباس وعلي بن طلق وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأنس وأبي بن كعب وابن مسعود وعقبة بن عامر وعمر وجابر بن عبد الله وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين إلى آخر كلامه.

هذه هي الثمرة والفائدة والحكمة الأولى من إخراج الذرية: أن تسعى في إبقاء الحكمة التي شاءها الله من خلق هذا الوجود، وتحقق إرادته، وإذا أعرضت عن النساء ألغيت هذه الحكمة وعارضت الله في إرادته سبحانه وتعالى.

الفائدة الثانية: كما قلت إقرار عين النبي بكثرة أمته فقد أمرنا عليه صلوات الله وسلامه أن نتزوج، وأن نكثر أمته؛ لأنه يفتخر بذلك ويباهي الأمم والأنبياء يوم القيامة، وما يحصل من نفع في هذه الأمة سيكتب أجره للنبي عليه الصلاة والسلام، فلا يوجد أحد على وجه الأرض يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله إلا كتب أجرها للنبي عليه الصلاة والسلام، ولا يوجد عامل بطاعة الله إلى يوم القيامة إلا كتب مثل أجره للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن من دل على خير فله مثل أجر فاعله، فكل الخير يعمل في هذه الحياة إلى قيام الساعة ولقاء رب الأرض والسماوات يكتب في صحيفة خير المخلوقات محمد عليه صلوات الله وسلامه، فإذا جاءت ذرية عبدت رب البرية، تزداد أجور نبينا عليه الصلاة والسلام، ويفتخر على الأنبياء تحججاً بما من الله به عليه من النعمة والفضل في هذه الأمة التي توحد الله وتعبده.

وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا في أحاديث كثيرة، ففي مسند أحمد وصحيح ابن حبان، وعند الطبراني في معجمه الأوسط وسعيد بن منصور في سننه والبيهقي في السنن الكبرى، انظر في الجزء الرابع صفحة ثمان وخمسين ومائتين من مجمع الزوائد قال: إسناده حسن.

ولفظه من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة -وهي النكاح- وينهى عن التبتل نهياً شديداً ويقول: تزوجوا الولود الودود )، ولود: كثيرة الولادة، ودود: كثيرة المحبة لزوجها: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:35-37]، والعرب: جمع عروب، وهي العشيقة لزوجها المتحببة له، وهذا من الصفات الحسنة في المرأة، أن تكون ودودة، وأن تكون ولودة، وإذا ضاعت هاتان الصفتان فلو اقترن الإنسان بثعبان لكان أخف عليه من هذه المرأة، نعوذ بالله من هذا، ( ينهى عن التبتل نهياً شديداً ويقول: تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة )، وفي رواية: ( فأني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة ).

إذاً: ينبغي أن نحقق أمنيته صلى الله عليه وسلم، ونحن بذلك نتقرب إلى مودة نبينا عليه الصلاة والسلام بهذا النكاح وإخراج الذرية، وكما حافظنا على الحكمة التي أرادها الله من خلق هذا الوجود، في إبقاء مشيئته وإرادته فإننا نفعل شيئا يفرح به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ألا تحب أن تفرح النبي عليه الصلاة والسلام؟ كل مولود يولد في هذه الأمة يفرح به النبي عليه صلوات الله وسلامه؛ لأنه يكاثر بنا الأمم والأنبياء يوم القيامة.

وثبت في سنن أبي داود والنسائي وفي مستدرك الحاكم وقال صحيح، وأقره عليه الذهبي ، انظر المستدرك في الجزء الثاني صفحة اثنتين وستين ومائة، وعند البيهقي في الكبرى عن الصحابي معقل بن يسار رضي الله عنه قال: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال )، وفي رواية المستدرك: ( إني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب ومال )، حسب يعني: نسب وشرف، من أسرة عريقة، وجميلة وأسرتها لها فخر بين الناس، وعندهم جاه ومنصب: لها شأن، ومال: غنية ثرية ( غير أنها لا تلد، أفأتزوجها؟ ) يعني: منصب وجمال وحسب ومال ماذا بقي بعد ذلك من الخيرات؟ لكن لا تلد، أفأتزوجها؟ فنهاه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: لا، ثم أتاه الثانية، أصبت امرأة ذات حسب ومال ومنصب، فنهاه النبي عليه الصلاة والسلام عنها، ثم أتاه الثالثة فنهاه ثم قال: ( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم )، وهذا النهي إخوتي الكرام فيما يظهر لي والعلم عند ربي فيمن أراد أن يقتصر على زوجة واحدة، وإلا لو قدر أنه عنده زوجة وأراد أن يتزوج فهذا محمود لأن فيه ستراً لهذه المرأة، وأما إذا أراد أن يتزوج زوجة واحدة وليس في وسعه أن يتزوج اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وتزوج امرأة لا تلد له ولداً، فهذا في الحقيقة تعطيل لبذره وإتلاف له.

وهذا الحرص من نبينا عليه الصلاة والسلام تعظيم لله، ومحافظة على الحكمة التي شاءها الله وعلى إرادته في مخلوقاته من وجود هذا الخلق لعبادته، وفي ذلك رغبة في الأجر؛ لأنه عندما تكثر الأمة تكثر أجور النبي عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك حرص منه على هذه الأمة في تحصيل الخير لها، وهذا الولد إذا جاء فلا شك أن حوله مشاكل وهموماً وتعباً، لكن بجنب ذلك حسنات وخيرات عاجلات وآجلات، ولا يوجد لذة لا تنغيص فيها إلا في الجنة، أما في الدنيا فكل لذة مقرونة بشيء من المنغصات، فالأكل عندما تأكله تذهب إلى الحمام بعد ذلك هذا منغص، أما في الجنة فأكل بلا حمام، فهي لذة كاملة، لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48]، هناك: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، هناك: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34]، وهنا في الدنيا ولد تجد منه تعباً وإرهاقاً وعناء في الخدمة والتربية والنفقة، وقد يحتاج إلى شيء من الشدة في التربية، ولكن مع ذلك خيرات لا يمكن أن تحيط بها، فأنت مسكين إذا ضيعتها.

كان بعض الشيوخ الصالحين في أبها في الجنوب إذا قابل بعض طلبة العلم ممن تزوجوا أكثر من واحدة يقول: بارك الله فيك بارك الله لك، يقول له: أنت تكثر ذرية أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فأنت تقوم بطاعة فاحمد الله، هذا العمل طيب.

وأذكر بعض الشيوخ الصالحين لما بلغه أن بعض طلبة العلم تزوج ثانية، قال: ليته أكمل النصاب فتزوج الثالثة، قال: ليته أكمل النصاب ثم قال له: تزوج الرابعة قال: الآن يستحق وسام البطولة والفحولة، حقيقة تزوج رابعة، أي: هذا وسام ينبغي أن يشجع هو وأمثاله، بهذا العصر الذي يتخبط الناس في ظلماته، فالإنسان كما يقال لا يريد ولداً، ويهرب من الزوجة، وبعد ذلك يعيش في هم وغم، وإما أن يخبط في الحرام، ولا يوجد من يقدر في هذه الحياة.

ولما عقد في بعض البلاد -مصر- في موضوع النسل وقضية التعدد، قال بعض الشيوخ الصالحين: أنتم عندكم عقول أم لا؟ عندما تبحثون في هذه القضية، قالوا: لم؟ قال: أولاً هل في البلاد مشكلة تعدد، أي: العزاب والعانسات ما أكثرهم من الصنفين، يعني هل عندكم تعدد في مصر؟ لعله من المائة ألف لا يوجد واحد عنده زوجتان، أما ثالثة ورابعة لعله في البلدة من أولها لآخرها التي يزيد عددها على ستين مليوناً لا يوجد واحد عنده أربع زوجات، فالمسألة ليست موجودة، والله لو أنصفتم لجعلتم مكافآت تشجيعية لمن تزوج ثانية وثالثة ورابعة، قال: نحن اجتمعنا لننفر الناس من التعدد، وأنت تقترح على الدولة أن تعطي مكافآت تشجيعية ورواتب ثابتة لمن يتزوج، قال: هذا الذي يخلص البلاد من عنائها، أمة ضائعة فالنساء نتشرت بينهن العنوسة وتذهب إحداهن لتعمل في فندق، وتعمل في مقهى، وتعمل في سوق، ثم الناس يهتكون عرضها، والله لو كانت مصونة والدولة عندها حكمة ورشد وجعلت مكافأة لمن يضمها إلى كنفه ورعايته وبيته، من أجل ستر الأمة وإخراج الذرية من بعد ذلك ستعمل بيديك وتسعى على رجلين، وإن كانت ستأكل بفم، أي: تقدم اقتصاد البلاد، ويقضى على الفساد، هذا خير من مجيئكم تبحثون في أمرٍ في الأصل لا أصل له، هذا الشيخ من الشيوخ الصالحين وهو الآن في مكة المكرمة، والذي يتزوج في أيامنا يتزوج واحدة وكما قال لي بعض الناس مرة: والله لو كان حلاً الاشتراك في الزوجة لاشتركنا جماعة في زوجة واحدة، من أجل هم الحياة وعنائها ومشاكلها، وأنت الآن تقول: التعدد، قلت: يا عبد الله، ما أعلم هذه العقول في أيامنا كيف مسخت!

وسيأتينا عند مبحث التعدد الحكم الذي تقتضي ذلك، واستئصال اللغط الذي أثاره وقال به بعض علماء السوء قبل غيرهم حول هذه القضية، وكأن موضوع التعدد شيء مستهجن أبيح للضرورة البشرية.

الفائدة الثالثة: الانتفاع بالولد إن عاش، الانتفاع به في الدنيا وفي الآخرة، تنتفع بالولد إذا عاش في الدنيا وفي الدين، في العاجل والآجل، أما نفع الدنيا تنتفع به عن طريق الخدمة والقوة والعزة، فرجل ليس عنده أولاد كل واحد يكسر ظهره، ووالد عنده عشرون ولداً والله ما يستطيع أحد أن ينظر له؛ لأن أولاده يكرون عليه كالنحل، عنده أولاد يحمون ظهره، ولذلك يقول الأعشى الشاعر الجاهلي عندما يهجوا علقمة بن علاثة :

ولست بالأكثر منهم حصىً وإنما العزة للكاثر

أي: ما عندك ذرية، ولا عندك عصبات، ولا عندك من يحمي ظهرك.

ولا بد للإنسان من عشيرة يتقوى بها لا ليعتدي على الناس، وإنما ليعيش عزيزا، لئلا يعتدي عليه السفهاء، هذا لابد منه، إذاً في هذه الدنيا تنتفع بالخدمة وعزة تحصلها من هذا الولد، فأنت خدمته وهو يخدمك، وكم من إنسان إذا كبر وشاخ وليس عنده ولد يلقى على مزبلة أو في مستشفى إن كان في تلك البلاد مستشفى يستقبل الشيوخ العجزة، ثم تراه في ذلك المستشفى مهما كان لن يشفق عليه الناس كما يشفق عليه أولاده، أما إذا كان عندك ولد وعندك ذرية فإنك تعيش في نعمة.

وأنا أعلم بعض الأرحام لما امتدت بهم الحياة وأصيبوا بشلل في آخر حياتهم، وبعد ما امتد بهم الشلل مدة خمس عشرة سنة والله الذي لا إله إلا هو لقد كان يخدم كما يخدم الولد الصغير الذي هو ابن يوم واحد، فكيف يخدم؟ وكيف يرعى؟ والجزاء من جنس العمل.

فهذه حكمة تستفيد منها في الحياة، أخرجت ذرية كما يقال عندنا في بلاد الشام يحملوه كرة عندهم، يعني إذا كبر الإنسان يأتي الولد ينفق عليك كما كنت تنفق عليه، ويخدمك كما كنت تخدمه، وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا في كتابه في سورة النعم سورة النحل، وعدد الله نعمه على عباده فيها، وذكر أصول النعم وفروعها، فقال جل وعلا: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [النحل:72]، أنظر لهذه المنة: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72]، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ [النحل:72]، يعني من جنسكم ونوعكم أزواجا: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [الروم:21]، فهي من جنسنا من نوعنا، والإنسان يألف بالشيء إذا كان من جنسه ونوعه، فخلق الله المرأة من جنسنا، وخلقها من أبينا آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، إذاً: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [النحل:72]، انتبه: بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72]، فالحفدة ذكر أئمتنا في بيان المراد به ستة أقوال وانظر لهذه الدلالات في هذا اللفظ، إذاً: جعل الله من أنفسنا أزواجاً نأوي إليها، ونسكن إليها فهذه منّة، مسكين من ليس له زوجة، ومسكين من عنده زوجة ولا تلد، ولذلك تمام المنة والنعمة: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72]، أما البنين فهذا أرفع الصنفين من الأولاد بنين وبنات، أرفع الصنفين في هذه الدنيا، أرفعهما وأعظمهما مساعدة وخدمة البنين، بهم تحصل القوة للأب.

المراد بالحفدة في قوله تعالى: (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة)

وأما الحفدة فقيل المراد من الحفدة هنا البنات، من حفد، يحفد، حفداً، وحفدان، واحتفد، إذا خف في العمل وأسرع في الخدمة، ولا يقال هذا اللفظ إلا على من جمع وصفين: خدمة على وجه السرعة، خدمة وسرعة، يخدم لكن بسرعة، يقال له: حافد، حفد، يعني جعل لكم من يخدمكم بسرعة، لا بتريث وأناة ومهل، ينطلق كالسهم لخدمتكم، (البنين) معروف: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ [النحل:72]، الأولاد الذكور، وجعل لنا أيضاً من أزواجنا نوعاً آخر من الأولاد وهم: الحفدة، نعتهم بالوصف الذي فيهم ولم يقل: بنين وبنات؛ لأن الخدمة في البنت أظهر منها وأقوى من الابن، فالله جل وعلا يريد أن يمتن علينا بما جعل لنا من أزواجنا، بنين نتقوى بهم، بنات يقومون بالخدمة، فالغالب في خدمة البيوت تكون عن طريق البنات والنساء، والخدمة فيهن أتم، ولذلك بيت ليس فيه امرأة فادخل إليه وانظر إلى حاله، والبعثرة الذي فيه من جميع جهاته، انظروا إليه وانظروا لحاله.

ثم بيت فيه بنين ولا بنات فيه يبقى فيه شيء كما يقال من الجفاء وما فيه حيوية ونشاط، وأنت إذا كنت على المائدة وتلفت تريد ماءً من الذي يسرع الابن أو البنت، جرب هذا في جميع أسر الناس، تنطلق البنت كالسهم تأتي بالماء، فهكذا جعل الله فيها صفة الخدمة، والذكر أحياناً قد تصرح ويتباطأ، أما البنت فلا تحتاج إلى تصريح فبمجرد ما تتلفت تجدها تسرع، بل يوجد معه أكثر من ذلك، ففي الغالب الإنسان عندما يريد أن يخرج من بيته يحتاج إلى شيء من الماء لاسيما أيام الحر، فترى البنت واقفة على الباب وبيدها قدح الماء، والولد ما يفعل هذا إلا نادراً، إلا إذا قلت له: يا ولد هات الماء، وإذا دخلت البيت بالمقابل تعلم أنك جئت من تعب والجسم يحتاج إلى رطوبة فتأتي البنت بالماء عن طريق ما جبلها الله عليه دون طلب.

إذاً: معنى الآية: بنين وبنات، أي: جعل لكم أولاداً من أزواجكم ينقسمون إلى ذكور وبنات، وسمى البنات بلفظ الحفدة لوجود هذا الوصف فيهن ألا وهو الخدمة على وجه المسارعة.

المعنى الثاني للفظ الحفدة: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72]، قيل المراد بالحفدة أولاد الأولاد، فالمراد بالبنين الأولاد وغلب الذكور على الإناث، إذاً: جعل لكم من أنفسكم أزواجا، وجعل لكم أولاداً من بنين وبنات وغلب أحد الصنفين على الآخر، وجعل لكم أيضاً مع الأولاد الذين هم بنين وبنات أولاد الأولاد، فالله يمتن علينا بأولادنا كما يمتن علينا بأولاد أولادنا؛ لأن هؤلاء أيضاً زيادة خير ونعمة لك، ولذلك الإنسان يفرح بولد ولده كما يفرح بولده، بل أحياناً كما يقولون ما أفضل من الولد إلا ولد الولد، ويفرح الوالد بوجود ولد لولده أكثر من فرحه بولده، لأنه يصبح جداً, عندما ولد لولده ولد، إذاً: بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72]، البنين: الأولاد، والحفدة: أولاد الأولاد فهم بواسطة الأزواج، فلولا الزوجة لما جاء الأولاد, ولما جاء من هؤلاء الأولاد أولاد أيضاً.

المعنى الثالث: قيل المراد من الحفدة خصوص الأولاد الذكور, وعليه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72]، بنين وبنين أيضاً، نزل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات، فالبنون فيهم صفتان؛ أولاً لأنهم ذكور والنفس تتعلق بهم أكثر من تعلقها بالإناث، وهذه طبيعة بشرية، لا لأن المرأة ممتهنة وفيها نقص عند الله جل وعلا، لا، لكن هذا مما فطر عليه العباد، أن تميل النفس إلى الابن أكثر من ميلها إلى البنت، وتفرح لولادة الابن أكثر من ولادة البنت، فهذا فرح طبيعي وليس معناه أنه بالشرع محبوب.

ثانياً: فيهم صفة الخدمة، وكأن الله يقول: وجعل لكم من أزواجكم أبناءً يخدمونكم، لكن عبر عن الأمر الثاني فيهم كأنه صنف مستقل؛ لأن الحفدة فيهم وصف يختلف عن البنين.

ويدخل في هذا القول ما قاله بعض المفسرين بأن المراد بالحفدة خصوص الأولاد الكبار، والبنون عام لكل ولد ذكر، إذاً: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ [النحل:72]، أولاداً ذكوراً: وَحَفَدَةً [النحل:72]، أولاداً كباراً يخدمونكم؛ لأنهم أقوى على الخدمة، فالكبير يقوى على ما لا يقوى عليه الصغير.

وبعض المفسرين قال عكس هذا، قال: إن المراد من الحفدة خصوص الأولاد الصغار؛ لأنهم أقرب بالانقياد وأسرع في الخدمة، فالصغير ينطلق كالسهم، ثم الطاعة فيهم أقوى من الكبار، فالكبير أحياناً يحتاج أن يحكم عقله، وأما الصغير: فما عنده مجال لتحكيم العقل، تقول: يا ولد هات كذا فيسرع.

على كل حال على هذا القول وما دخل فيه يعتبر قولاً ثالثاً: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72]، بنين وبنين، لكن هؤلاء البنون فيهم صفة الذكورة وفيهم صفة الخدمة على وجه المسارعة.

المعنى الرابع للفظ الحفدة: قيل المراد بالحفدة أولاد المرأة من غير الزوج، يعني: جعل الله لك من زوجتك أولاداً بنين، وجعل لك منها أيضاً حفدة يخدمونك، وهم أولاد من غيرك، لو قدر أن المرأة تزوجت ولها أولاد ثم تزوجتها فأنت تنتفع منها بأمرين، بأولادك وبأولادها من غيرك، لأنهم يكونون ربائب عندك، وأنت تربيهم وهم تحت كنفك فيقومون بخدمتك، والشاهد أنك تنتفع بالولد إن عاش، سواء كان هذا الولد من صلبك أو من زوجتك التي تزوجتها ولها ولد من غيرك يخدمك أيضاً.

المعنى الخامس للفظ الحفدة: قيل المراد بالحفدة الأختان، والأختان يطلق أصالة على أقارب المرأة من أبيها وأخيها، يقال لهم أختان للرجل، وعليه: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72]، أي: أقارب لهذه المرأة يخدمونكم ويساعدونكم، وكم من إنسان يتزوج ويحصل مساعدات من قرابات زوجته لا يحصلها في حياته، وكم من فقير اغتنى بسبب زواجه من أسرة غنية، وهذا لا يحصى، خدموه وساعدوه وأكرموه، فهم حفدة، ويقال: أقارب المرأة أختان الزوج؛ لأن صلته بهم عن طريق التقاء الختانين كما قال أئمتنا، فليس بينه وبينهم صلة لو لم يتزوج هذه المرأة, وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا [الفرقان:54]، ذاك قرابة وَصِهْرًا [الفرقان:54]، وهو المصاهرة والتقاء الختانين.

ويطلق الأختان أيضاً على الأصهار وهم الزوج وأهله، وهنا إذا كان الأمر كذلك ، فاللفظ منصوب كما قال أئمتنا بفعل مقدر؛ لأن الأصهار ليسوا من المرأة بالنسبة لأهلها، الله ماذا يقول: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72]، الحفدة إذا قلنا هم أصهار الإنسان، يعني قرابات زوج ابنته، فهؤلاء ما جاءوا من طريق زوجته، ولكن نقول حفدة منصوب بفعل مقدر والتقدير: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً، وجعل لكم من أزواجكم بنين, وجعل لكم حفدة أيضاً، وهم الأصهار أي: كما أنك تحصل من زوجتك البنين، تحصل أيضاً في هذه الحياة بسبب النكاح الذي يحصل بين الناس أصهاراً يخدمونك، وكم من إنسان اغتنى وسعد بصهر عنده، أسرة فقيرة تزوج منهم صهر غني فسعدت تلك الأسرة بخدمة هذا الصهر زوج البنت التقي البار، وهذا موجود في الحياة بكثرة، لكن كما قلنا لابد من أن يقدر هذا المعنى: وجعل لكم حفدة، أي: أصهاراً يخدمونكم، والمعنى الأول: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72]، إذا قلنا المراد من الحفدة الأختان، فتكون من سببية أي: جعل لكم بسبب أزواجكم -يعني زوجتك المرأة- حفدة يخدمون وهو أقرباء المرأة وأهل المرأة.

والمعنى السادس للفظ الحفدة: قيل المراد منهم الخدم والأعوان، وعليه لا علاقة لهم بموضوع الزوجات، ويصبح التقدير: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً, وجعل لكم من أزواجكم بنين, وجعل لكم في هذه الحياة حفدة وهم الخدم الذين يخدمونكم، والأعوان الذين يعينونكم في هذه الحياة يخلفون ويخدمون، ولذلك قدرنا فعلاً محذوفا: وجعل لكم حفدة يعني خدماً وأعوانا.

والآية تحتمل هذه المعاني الستة وهي منقولة عن أئمتنا، وعليه: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72]، بنين وبنات، وجعل لكم بنين وحفدة، بنين وهم الأولاد، وغلب الذكور على الإناث، وحفدة أولاد الأولاد، وحفدة البنون هم الحفدة وعبر عنهم بوصفين متغايرين هنا فيهم ذكور وهناك فيهم خدمة ومسارعة، (بنين وحفدة) الحفدة هم أولاد المرأة من غير زوجها، و(بنين وحفدة) وهم الأختان أقارب المرأة وأقارب الزوج، (بنين وحفدة) الحفدة هم الخدم والأعوان.

وهذا من منن الله علينا ونعمه في سورة النعم، يذكرنا الله بهذه النعم وهذا من الفوائد التي نحصلها بالنكاح.

ولازلنا في الفوائد الدنيوية من الذرية، ننتفع بهم كما قلت إن عاشوا في الدنيا وفي الآخرة؛ ولذلك سمى الله الأولاد هبة لأبويهم، كما سماهم كسباً لهم، فهذا كسبك وهم هبة لك وسيأتينا تقرير هذا, وما في ذلك من دلالات وأحكام شرعية استنبطها أئمتنا من هاتين الدلالتين وغيرهما من موضوع أخذ الوالد من مال ولده كما يشاء: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49]، في آخر سورة الشورى يهب، فهذا هبة لك، والإنسان يتصرف فيما وهب له كما يريد، فتتصرف فيه وفي ماله كما سيأتينا بقيود شرعية، لكن لك مطلق التصرف في ماله وهو من كسبك كما سيأتينا: ( وأفضل ما أكل الرجل من كسبه, وإن ولده من كسبه، فكلوا من كسب أولادكم ).

إذاً هذا كله انتفاع دنيوي في هذه الحياة عند لفظ الهبة والكسب كما قلت نقف، وأكمل هذا فيما يأتي إن شاء الله، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة, وفي الآخرة حسنة, وقنا عذاب النار، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا, وارحمهم كما ربونا صغاراً, اللهم اغفر لمشايخنا ولمن تعلم منا, ولمن كان سبباً في اجتماعنا, اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, الأحياء منهم والأموات, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, والحمد لله رب العالمين.