خطب ومحاضرات
مباحث النبوة - خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع السيدة خديجة [2]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس المبحث الثالث من مباحث النبوة، وقد كان عنوان هذا المبحث: بيان الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول، وقلت: إن الأمور كثيرة متعددة وفيرة، ويمكن أن نجملها في أربعة أمور:
أولها: النظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه.. في خلقه وخلقه.
وثاني الأمور: النظر إلى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام والتأمل في رسالته التي بلغها.
وثالثها: النظر إلى المعجزات وخوارق العادات التي أيده بها رب الأرض والسموات.
ورابعها: تأمل حال أصحابه الكرام، فهم صورة لنبينا عليه الصلاة والسلام.
وهذه الأمور الأربعة إخوتي الكرام كما قلت سيطول الكلام عليها كثيراً، ونسأل الله أن يتقبل منا، وأن يبارك لنا في أوقاتنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
وقد شرعنا في مدارسة الأمر الأول منها ألا وهو النظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه.. في خلقه وخلقه، وتقدم معنا أن الله أعطى الكمال لرسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه في الأمرين: في الخلق والخلق، فهم حصلوا الجمال والجلال فيما يتعلق بخلقهم وخلقهم على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وقد تقدم معنا ما يتعلق بالشق الأول والشطر الأول من هذين الأمرين، ألا وهو: النظر إلى خلق النبي عليه الصلاة والسلام، واستعرضت الأدلة على هذا الأمر، وبينت دلالة ذلك على أن نبينا وأنبياء الله ورسله هم رسل الله حقاً وصدقاً، بما في أبدانهم من علامات خلقية تبين أنهم رسل رب البرية.
ثم بعد ذلك بدأنا إخوتي الكرام في مدارسة الشق الثاني من هذين الأمرين ألا وهو: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام، وبينت على سبيل الإجمال أنه ليس في وسع إنسان أن يحيط بأخلاق نبينا عليه الصلاة والسلام، فخلقه القرآن، فكما أنه لا يمكن لأي بشر كان أن يحيط بمعاني القرآن على وجه التمام، وهكذا لا يمكن لنا أن نحيط بأخلاق نبينا عليه الصلاة والسلام، كما كان يتصف بها، نعم بإمكاننا أن نقف على صورة موجزة مجملة حسب أحوالنا وإمكاناتنا، وقلت: هذه الصورة يمكن أن نجملها أيضاً ضمن سبعة أمور فيما يتعلق بخلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع الخلق، وأختمها بأمر ثامن فيما يتعلق بخلقه مع الحق جل وعلا.
أما خلقه عليه الصلاة والسلام مع الخلق، قلت: خلقه عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، خلقه عليه الصلاة والسلام مع أصحابه الكرام والمؤمنين من أمته إلى يوم القيامة، خلقه عليه الصلاة والسلام مع الملائكة الكرام على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، خلقه عليه الصلاة والسلام مع الكافرين شياطين الإنس، خلقه عليه الصلاة والسلام مع الكافرين من شياطين الجن ومردتهم وعتاتهم، خلقه عليه الصلاة والسلام مع الحيوانات العجماوات، وسابعها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع الجمادات الصامتات.
وهذه الأمور السبعة قلت: إذا انتهينا من هذا فيما يتعلق بحسن الخلق مع الخلق، سنتدارس الأمر الثامن وهو الأمر الثاني بالنسبة للأمور السبعة خلقه عليه الصلاة والسلام مع الحق.
بدأنا إخوتي الكرام في الأمر الأول في مدارسة خلقه عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام، وقلت: سيدور هذا على أربعة أمور:
أولها: في بيان مسكن نبينا عليه الصلاة والسلام.
وثانيها: في بيان أثاث ذلك المسكن.
وثالثها: في بيان الطعام والقوت الذي يقدم في ذلك المسكن. وانتهينا من هذا على وجه التفصيل الموجز، ثم شرعنا في الموعظة الماضية والتي قبلها في غالب ظني في معاملة نبينا عليه الصلاة والسلام لأهل بيته الكرام، وقلت: هذا الأمر الرابع أيضاً سيقوم على أربعة أمور:
أولها: في إثبات كون نبينا عليه الصلاة والسلام هو أحسن الخلق خلقاً ومعاملةً لأهله الكرام، على نبينا وعلى آل بيته صلوات الله وسلامه. ثم تقرير هذا بشهادة أعلم الخلق به ألا وهي أمنا خديجة الطاهرة المطهرة رضي الله عنها وأرضاها.
والأمر الثالث: في كيفية معاملة نبينا عليه الصلاة والسلام لأهل بيته الكرام، وضمن ذلك مراحل متعددة كما ستأتينا، وقلت: أختمها ببيان لمحة موجزة عن أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام، والحكمة من تعددهن، واقتران نبينا عليه الصلاة والسلام بأكثر من أربع زوجات عليه صلوات الله وسلامه.
إخوتي الكرام! تقدم معنا ما يتعلق بالأمر الأول من هذه الأمور الأربعة، وهو أن نبينا عليه الصلاة والسلام أحسن الخلق معاملةً للخلق قاطبةً، وعلى وجه الخصوص في أهله، (فأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخيرهم خيرهم لأهله)، ونبينا عليه الصلاة والسلام هو خير الخليقة على الإطلاق لأهله عليه صلوات الله وسلامه.
وقررت بعد ذلك هذا بشهادة أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها التي عرفت حاله قبل البعثة، وعرفت حاله قبل البعثة بعد أن صارت زوجةً له، وعرفت حاله بعد البعثة عندما كانت زوجةً له، على نبينا وعليها صلوات الله وسلامه، وذكرت من أحوالها أخباراً كثيرة أبرزها أمران:
أولها: كلامها رضي الله عنها وأرضاها الذي يدل على رجاحة عقلها، وضبطها لأحوال نبينا عليه الصلاة والسلام عندما جاءه الوحي، وجاء فزعاً عليه صلوات الله وسلامه إليها وقال: (زملوني زملوني)، وبعد أن ذهب عنه الروع قال: (خشيت على نفسي)، فتقدم معنا الأثر ومن خرجه، وقلت: هو في أصح رتب الحديث، فالحديث في الصحيحين وغيرهما، فقالت: (كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)، وشرحت هذه الجمل كما تقدم معنا.
ثم استثبتت وتثبتت من نبوته عليه الصلاة والسلام بأمر آخر عندما أجلسته على فخذها الأيمن وفخذها الأيسر وفي حجرها، ثم أدخلته بعد ذلك بينها وبين قميصها، بحيث يلاصق بدنها الطيبة المباركة رضي الله عنها وأرضاها، فقالت له في الحالة الرابعة: (هل رأيت الذي جاءك؟ قال: لا، قالت: أبشر هذا ملك، ولو كان شيطاناً لما استحيا).
وتقدم معنا أنها فعلت ذلك تستوثق من نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، وتتبين أن ما جاءه هو ملك وليس من الجن.
سلام الشجر والحجر على النبي عند مروره بها
وختمت الكلام برواية مسند أبي داود الطيالسي ، هذا آخر شيء تكلم عليه في الموعظة الماضية، وفيه يقول نبينا عليه الصلاة والسلام بعد أن ذكر أن جبريل جاءه في غار حراء قال: (ثم جئت إلى منزلي فما تلقاني حجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم لما دخل على أمنا
إخوتي الكرام! الأحاديث في ذلك كثيرة سأقررها بحديثين، وأما الكلام على هذه الأحاديث فسيأتينا الكلام على توجيهها والكلام عليها عند المبحث الثالث من الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وهو خوارق العادات، وأتكلم هناك أنه ينطق الجماد، وينطق الحيوان الأعجم، وينطق الإنسان، فالله إذا أراد أن ينطق الشيء أنطقه وهو على كل شيء قدير، ولكن كثيراً من الناس يركبون عقولهم، ويستعظمون ما لم يجر به إلفهم، فلسانهم ينطق لا يستغربون، فإذا نطقت اليد يتعجبون، لم؟ اللسان أيضاً قطعة لحم، وإذا شاء الله له ألا ينطق لا ينطق، وهكذا اليد إذا شاء الله لها أن تنطق تنطق، بالنسبة لقدرة الله الأمران مستويان، فإذا أذن الله لليد بالنطق نطقت، وإذا لم يأذن للسان بالنطق لم ينطق، ولذلك يوم القيامة يختم الله على أفواه الكفار وتتكلم أيديهم، وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، كما سيأتينا تقرير هذا إن شاء الله كما قلت عند خوارق العادات، وأن من ينكر هذا أو يستبعده فلا عقل له، وشرائع الله لا تأتي بما تحيله العقول، نعم تأتي بما تحار فيه العقول، وهذه الحيرة على قسمين: حيرة مألوفة، فلا يعتبر بها الإنسان، فكون لسانه يتكلم، يا عبد الله أنت تنطق بلحم، وتبصر بشحم، وتسمع بعظم، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، فلم إذا نطق لحم آخر أو جماد آخر من حجر أو شجر تستغرب؟ لم؟ هذا يحار فيه العقل، كون اللسان ينطق يحار فيه العقل، لكن هذه الحيرة كما قلت مألوفة، فالعقل ما يستبعدها، عندما ينطق الأصبع يستغرب، وإذا كان مكابراً يجحد وينكر، لم يا عبد الله؟ الأمران مستويان، وليس في اللسان خاصية النطق من ذاته، قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21]، سبحانه وتعالى، فإذاً هو الذي أنطق اللسان، إذا أراد أن ينطق بعد ذلك الرجل وسائر جوارح الإنسان وقفت، والله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، والقوانين التي وضعها الله جل وعلا في وفيك تتحكم فيّ وفيك وفي خلق الله، لكن لا تتحكم في الله، هو وضعها، وهو يبطلها، وهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.
سيأتينا إخوتي الكرام كما قلت البحث في هذا، وشرائع الله لا تأتي بما يحيله العقل، لكن تأتي بما يحار فيه العقل، ليسلم الإنسان بعجزه إلى ربه جل وعلا، ويصدق فيه قول الله: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فإذا نطقت الجمادات قلنا: هذا أمر غريب عظيم عجيب، أما أنه مستحيل لا ليس بمستحيل، ولذلك إذا حصل هذا فلا بعد ولا استحالة، لكن كون العادة ما جرت به وما جرت به سنة الله هذا موضوع آخر، فإذا أراد الله أن يخرقهم فهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.
حديث علي بن أبي طالب وبرة العبدرية في استقبال الشجر والحجر لرسول الله وسلامهم عليه
ثبت في سنن الترمذي ومسند الدارمي ومستدرك الحاكم ، والحديث في الحاكم في الجزء الثاني صفحة عشرين وستمائة، وقد صحح الحديث الإمام الحاكم ، وأقره على التصحيح الإمام الذهبي ، والحديث في معجم الطبراني الأوسط أيضاً كما في مجمع الزوائد في الجزء الثامن صفحة ستين ومائتين، ورواه البيهقي في دلائل النبوة، وأبو نعيم في دلائل النبوة عن علي رضي الله عنهم أجمعين، قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرجنا معه في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله)، عليه الصلاة والسلام، (فما استقبله شجر ولا جبل)، ويقصد بالجبل تلك الحجارة، والصحابة الكرام يسمعون ومنهم علي رضي الله عنه وأرضاه الذي ينقل هذا الخبر.
وثبت في طبقات ابن سعد في الجزء الأول صفحة سبع وخمسين ومائة عن برة العبدرية رضي الله عنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتداءه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى بيتاً، ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحداً)، إنما هذه الجمادات تسلم على خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، وكما قلت هذا في أول الأمر عندما أراد الله أن يرسل إليه الملك كما تقدم معنا رؤيا صادقة في النوم مدة ستة أشهر، ثم هذه الإرهاصات الكثيرة؛ سلام من الحجر.. من الشجر.. من الجبل، أينما ذهب يشعر بهذه للإشارة إلى أنه عما قريب سيكرمك الله بأمر عظيم عجيب فتهيأ له.
وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فهذا آخر ما وقفنا عنده، فقلت: كان على برهان تام لما حصل له من المبشرات والإرهاصات وخوارق العادات قبل مجيء الملك إليه، وبعد مجيء جبريل إليه، وقلت: إن من هذه الإرهاصات والمعجزات وخوارق العادات أنه كان إذا خرج من مكة إلى شعابها وجبالها ووديانها لا يستقبله حجر ولا شجر ولا جبل إلا ويقول: السلام عليك يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك تثبيت له وتطمين، وتقدم معنا أن الأحاديث في ذلك صحيحة، وذكرت عدداً من الأحاديث في ذلك، وآخر شيء ذكرته الحديث الذي رواه البزار وأبو نعيم في دلائل النبوة عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما نبئت جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله)، عليه الصلاة والسلام.
وختمت الكلام برواية مسند أبي داود الطيالسي ، هذا آخر شيء تكلم عليه في الموعظة الماضية، وفيه يقول نبينا عليه الصلاة والسلام بعد أن ذكر أن جبريل جاءه في غار حراء قال: (ثم جئت إلى منزلي فما تلقاني حجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم لما دخل على أمنا
إخوتي الكرام! الأحاديث في ذلك كثيرة سأقررها بحديثين، وأما الكلام على هذه الأحاديث فسيأتينا الكلام على توجيهها والكلام عليها عند المبحث الثالث من الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وهو خوارق العادات، وأتكلم هناك أنه ينطق الجماد، وينطق الحيوان الأعجم، وينطق الإنسان، فالله إذا أراد أن ينطق الشيء أنطقه وهو على كل شيء قدير، ولكن كثيراً من الناس يركبون عقولهم، ويستعظمون ما لم يجر به إلفهم، فلسانهم ينطق لا يستغربون، فإذا نطقت اليد يتعجبون، لم؟ اللسان أيضاً قطعة لحم، وإذا شاء الله له ألا ينطق لا ينطق، وهكذا اليد إذا شاء الله لها أن تنطق تنطق، بالنسبة لقدرة الله الأمران مستويان، فإذا أذن الله لليد بالنطق نطقت، وإذا لم يأذن للسان بالنطق لم ينطق، ولذلك يوم القيامة يختم الله على أفواه الكفار وتتكلم أيديهم، وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، كما سيأتينا تقرير هذا إن شاء الله كما قلت عند خوارق العادات، وأن من ينكر هذا أو يستبعده فلا عقل له، وشرائع الله لا تأتي بما تحيله العقول، نعم تأتي بما تحار فيه العقول، وهذه الحيرة على قسمين: حيرة مألوفة، فلا يعتبر بها الإنسان، فكون لسانه يتكلم، يا عبد الله أنت تنطق بلحم، وتبصر بشحم، وتسمع بعظم، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، فلم إذا نطق لحم آخر أو جماد آخر من حجر أو شجر تستغرب؟ لم؟ هذا يحار فيه العقل، كون اللسان ينطق يحار فيه العقل، لكن هذه الحيرة كما قلت مألوفة، فالعقل ما يستبعدها، عندما ينطق الأصبع يستغرب، وإذا كان مكابراً يجحد وينكر، لم يا عبد الله؟ الأمران مستويان، وليس في اللسان خاصية النطق من ذاته، قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21]، سبحانه وتعالى، فإذاً هو الذي أنطق اللسان، إذا أراد أن ينطق بعد ذلك الرجل وسائر جوارح الإنسان وقفت، والله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، والقوانين التي وضعها الله جل وعلا في وفيك تتحكم فيّ وفيك وفي خلق الله، لكن لا تتحكم في الله، هو وضعها، وهو يبطلها، وهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.
سيأتينا إخوتي الكرام كما قلت البحث في هذا، وشرائع الله لا تأتي بما يحيله العقل، لكن تأتي بما يحار فيه العقل، ليسلم الإنسان بعجزه إلى ربه جل وعلا، ويصدق فيه قول الله: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فإذا نطقت الجمادات قلنا: هذا أمر غريب عظيم عجيب، أما أنه مستحيل لا ليس بمستحيل، ولذلك إذا حصل هذا فلا بعد ولا استحالة، لكن كون العادة ما جرت به وما جرت به سنة الله هذا موضوع آخر، فإذا أراد الله أن يخرقهم فهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.
سأذكر كما قلت إخوتي الكرام حديثين في ذلك، ثم أكمل البحث بعون الله جل وعلا.
ثبت في سنن الترمذي ومسند الدارمي ومستدرك الحاكم ، والحديث في الحاكم في الجزء الثاني صفحة عشرين وستمائة، وقد صحح الحديث الإمام الحاكم ، وأقره على التصحيح الإمام الذهبي ، والحديث في معجم الطبراني الأوسط أيضاً كما في مجمع الزوائد في الجزء الثامن صفحة ستين ومائتين، ورواه البيهقي في دلائل النبوة، وأبو نعيم في دلائل النبوة عن علي رضي الله عنهم أجمعين، قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرجنا معه في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله)، عليه الصلاة والسلام، (فما استقبله شجر ولا جبل)، ويقصد بالجبل تلك الحجارة، والصحابة الكرام يسمعون ومنهم علي رضي الله عنه وأرضاه الذي ينقل هذا الخبر.
وثبت في طبقات ابن سعد في الجزء الأول صفحة سبع وخمسين ومائة عن برة العبدرية رضي الله عنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتداءه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى بيتاً، ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحداً)، إنما هذه الجمادات تسلم على خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، وكما قلت هذا في أول الأمر عندما أراد الله أن يرسل إليه الملك كما تقدم معنا رؤيا صادقة في النوم مدة ستة أشهر، ثم هذه الإرهاصات الكثيرة؛ سلام من الحجر.. من الشجر.. من الجبل، أينما ذهب يشعر بهذه للإشارة إلى أنه عما قريب سيكرمك الله بأمر عظيم عجيب فتهيأ له.
إخوتي الكرام! هذا ما يتعلق بالأمر الثاني شهادة أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها وما يتعلق به، قبل أن أفارقه إلى الأمر الثالث في بيان معاملة نبينا عليه الصلاة والسلام لأمهاتنا أزواجه الطيبات الطاهرات على نبينا وعليهن صلوات الله وسلامه، أحب أن أشير إلى حديث في فضل أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها يكافئها ربنا جل وعلا على رجاحة عقلها، وسلامة فطرتها، وحرصها على الخير رضي الله عنها وأرضاها، وهذا الحديث سيأتينا له نظائر كثيرة في ترجمة أمهاتنا أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام عند استعراض آل بيته وذريته الطيبة الطاهرة على نبينا وآله صلوات الله وسلامه، لكن عندما ذكرت هنا خديجة رضي الله عنها، فمن حقها علينا أن نذكر حديثاً واحداً في فضلها نستنزل به رحمة الله علينا وعليها.
وهذا الحديث إخوتي الكرام ثابت في المسند والصحيحين، ورواه الإمام النسائي في فضائل الصحابة عن ثلاثة من الصحابة، الحديث في الصحيحين عن هؤلاء الثلاثة: عن عبد الله بن أبي أوفى ، وعن أمنا عائشة ، وعن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، والحديث رواه الإمام أحمد ، وأبو يعلى والطبراني في معجمه الكبير، والحاكم في المستدرك، والإمام الدولابي في الذرية الطاهرة على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، عن عبد الله بن جعفر ، والرواية الرابعة إسنادها صحيح، وقال الحاكم : على شرط مسلم ، وأقره عليه الذهبي ، والحديث روي أيضاً من رواية جابر بن عبد الله في معجم الطبراني الكبير والأوسط، فهذه خمس روايات عن خمسة من الصحابة لهذا الحديث، وهو صحيح صحيح، فالروايات الثلاث تقدم معنا أنها في الصحيحين، ولفظ الحديث قال: (أتى جبريل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: هذه
أولها: قول جبريل لنبينا عليه الصلاة والسلام: (بشرها ببيت في الجنة من قصب)، المراد من القصب كما وضح هذا في روايات الحديث اللؤلؤ المنظوم بالدر والياقوت، وليس المراد من القصب الذي هو من فصيلة الخشب، لا، إنما هو لؤلؤ منظوم بالدر والياقوت، وإنما اختير هذا اللفظ وهو القصب لأمرين معتبرين:
الأمر الأول: لأن أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها أحرزت قصب السبق في الإيمان، فهي أول الخليقة إيماناً بنبينا عليه الصلاة والسلام، فهي إذاً السباقة، ينبغي أن تبشر ببيت من قصب، ما قيل: من لؤلؤ ودر، ليشير إلى أنها أحرزت قصب السبق، وهذا يقال عندما يتسابق الناس وينصب قصبة فمن سبق أخذ القصبة، فيقال: أحرز قصب السبق، يعني: هو السابق والقصبة بيده التي جعلت هدفاً، وهنا كذلك اختير لفظ القصب لهذه النكتة، وهي أنها سبقت هذه الأمة للإيمان، فهي أول الخليقة إيماناً بنبينا عليه الصلاة والسلام، نعم إن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه هو أول من آمن من الرجال، وعلي رضي الله عنه وأرضاه هو أول من آمن من الشباب والصبيان، وبلال هو أول من آمن من العبيد والأرقاء، وزيد بن حارثة هو أول من آمن من الموالي، لكن هذه هي أول من آمن بنبينا عليه الصلاة والسلام من النساء، بل هي أول من آمن به مطلقاً، أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها ينبغي أن تبشر بهذه البشارة ببيت في الجنة من قصب، أحرزت قصب السبق، وسبقت الناس إلى الإيمان بنبينا عليه الصلاة والسلام، فلها هذه البشارة.
والدلالة الثانية في لفظ القصب أشار إليها الحافظ ابن حجر في فتح الباري فقال: القصب تستوي أكثر أنابيبه في الطول وفي العرض، طبيعة الأنابيب القصب أنك ترى كل أنبوبة فيه مستوية مع تلك في الطول متساوية، قال: وفي ذلك إشارة إلى أن حياتها مع نبينا عليه الصلاة والسلام من أولها حتى لحقت بربها مستوية ما جرى فيها عكر ولا كدر، وهذا امتازت به أمنا خديجة لم يشاركها في ذلك أحد من زوجات نبينا عليه الصلاة والسلام، وسيأتينا في ترجمة نسائه الطيبات الطاهرات أنه كان يجري منهن قصور وتقصير لكن يتسع لذلك صدر البشير النذير عليه الصلاة والسلام، ويجري منهن أحياناً أفعال ما ينبغي أن تصدر من غيرهن فضلاً عن صدورها منهن، لكن نبينا عليه الصلاة والسلام كما سيأتينا يتحمل ويتسع صدره ويؤلف بين نسائه عليه صلوات الله وسلامه.
أما أمنا خديجة فهي فريدة، هذه طول حياتها مع نبينا عليه الصلاة والسلام ما كدرت حياته، ولا أثرت في حياته بكلمة ولا شائبة، صفاء، كأنها ملك من السماء، فإذاً ينبغي أن يكون لها بيت من قصب، فيه هذا اللؤلؤ المنظوم المتساوي كحياتها المتساوية مع نبينا عليه الصلاة والسلام في جميع أحوالها، من إكرام الله لها بتزوجها به حتى انتقالها إلى رحمة ربها حياتها سليمة، ما وجد منها منغصاً ولا مكدراً، ولذلك سيأتينا بشهادة نبينا عليه الصلاة والسلام أنه ما أبدله الله بخير منها، وما أتاه من يعدلها من نسائه الصالحات الفضليات، هذه لها ميزة خاصة، ولذلك عبر عن هذا البيت الذي هو من لؤلؤ منظوم بالدر والياقوت بأنه من قصب لهاتين الفائدتين المعتبرتين.
الأمر الثاني من دلالات الحديث، قوله: (ببيت) وأيضاً في هذا اللفظ دلالات كثيرة وفيرة منها: هذا البيت إخوتي الكرام قال أئمتنا: هو زائد على ما تستحقه أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها، هي لها كرامة من ربنا كما يكرم الله المؤمنين على حسب سعيهم، فيكافئهم ربنا جل وعلا، ثم بعد مكافأتها بما لا يخطر ببال أحد لها هذه الكرامة هذه تحفة خاصة تتميز بها، أخذت ما شاءت من النعيم العظيم المقيم مع نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام في جنات النعيم، ثم لها تحفة خاصة تتميز بها عن غيرها، بيت من لؤلؤ منظوم بالدر والياقوت.
إذاً هذا بيت زائد على ما تستحقه بفعلها وكسبها، تحفة لا سعي لها فيه، ولا جهد لها فيه، كما أنها لم تتعب في تحصيله جاءها هذا فقط كما قلت هدية خالصة، فتحصل سعادةً فيه تامة، لا يمكن أن تتعب لا فيه ولا تعبت بتحصيله، بيت زائد على ما تستحقه رضي الله عنها وأرضاها، وعبر عن هذا القصر العظيم الجميل الجليل بالبيت، قال الإمام السهيلي : للإشارة إلى وصف في أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها، ينبغي أن يقتدي به النساء الصالحات في جميع الأوقات، ألا وهو أنها ربة بيت، أميرة بيت، ملكة بيت، وهذا أحسن ما في المرأة من صفة، وأمنا خديجة كانت كذلك قبل زواجها بنبينا عليه الصلاة والسلام، وبعد زواجها به عليه صلوات الله وسلامه هي ربة بيت، ملكة بيت، أميرة بيت، لا تفارقه ولا تخرج منه، وهذا من الصفات المستحسنة في المرأة، وما طاب نساء الجنة إلا بهذا الوصف الذي ذكره الله فيهن فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ [الرحمن:56]، حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72]، مقصورة لا تخرج، فالخروج والبروز هذا من الصفات المستهجنة القبيحة في المرأة، أمنا خديجة فيها هذه الصفة وهي قرارها في بيتها، فجاءت (بيت) مناسبةً لحالها.
وفي ذلك إشارة أيضاً إلى أن بيت النبوة منحصر في نفسها، وليس لنبينا عليه الصلاة والسلام ذرية إلا من أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها، الذرية الطيبة الطاهرة منها، وما رزق ذريةً من قبل غيرها، فرزقه الله منها الأولاد ولم يرزق من غيرها من النساء من أمهاتنا أزواج نبينا عليه وعليهن جميعاً صلوات الله وسلامه، إذاً ربة بيت، وهي كما قلت المختصة الوحيدة بذرية نبينا عليه الصلاة والسلام، وهي المنجبة له، وما شاركها في ذلك أحد من نسائه الطاهرات الطيبات الفاضلات، إذاً ينبغي أن تكافأ بجزاء يناسب حالها، حتماً مع الاختلاف الكبير بين الجزاء وبين حالها، هي ربة بيت، وذرية بيت النبي عليه الصلاة والسلام منحصرة في نفسها، فلها بيت جزاءً على ذلك، لكن شتان ما بين الجزاء وما بين الفعل، ودائماً يقرن الله جل وعلا ويوحد بين الجزاء والفعل في اللفظ مع الاختلاف في الحقيقة، فمن بنى بيتاً لله في هذه الحياة بنى الله له بيتاً في الجنة، المسمى واحد، لكن الحقيقة شتان شتان، وهنا كذلك، فإذاً بيت فيه هذه الدلالة.
قوله بعد ذلك: (ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)، الصخب هو الصياح والمنازعة برفع الصوت، وكان لها هذا البيت جزاءً على سعيها، فلم ترفع صوتها على نبينا عليه الصلاة والسلام، ولم تتعبه في يوم من الأيام، يسلم عليها ذو الجلال والإكرام، وجبريل عليه السلام، ونبينا عليه صلوات الله وسلامه، (أقرئها من ربها السلام، ومني السلام، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب)، وانظر لفكرها ووعيها ورجاحة عقلها، فماذا قالت؟ ثبت في معجم الطبراني الكبير وغيره، وثبت في سنن النسائي من فضائل الصحابة، ورواه الإمام ابن السني في عمل اليوم والليلة، والنسائي في عمل اليوم والليلة أيضاً، والحاكم في المستدرك بسند صحيح على شرط مسلم ، قالت لما بلغت بهذا: (إن الله هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام)، وفي رواية المستدرك عن أنس رضي الله عنه الذي ذكرتها قالت: (إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام ورحمة الله وبركاته)، زاد ابن السني في عمل اليوم والليلة: (وعلى من سمع السلام إلا الشيطان)، انتبه كيف فرقت في التعبير، (إن الله هو السلام، ومنه السلام)، لكن (على جبريل السلام، وعليك السلام، وعلى من سمع السلام إلا الشيطان).
الحديث رواه أيضاً الإمام الدولابي في كتاب الذرية الطاهرة على نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه، لم تقل: وعلى الله السلام، لماذا؟ لأن السلام إما أن يكون اسماً من أسماء الله، وإما دعاء بالسلامة، وعلى الأمرين لا يجوز أن يرد به الإنسان على الله، فإذا قيل لإنسان: الله يسلم عليك، فيقول: وعلى الله السلام، السلام اسم من أسمائه أو دعاء بالسلام، فلا يجوز، إنما تقول: الله هو السلام، هو الذي يسلم علينا، ومنه السلام سبحانه وتعالى، وإليه السلام، أما أن تقول: وعلى الله السلام هذا لا يجوز، وهذا من فقهها، فانظر كيف فرقت في الرد على هؤلاء الثلاثة: على الله، وعلى جبريل، عليه صلوات الله وسلامه.
(إن الله هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك السلام، وعلى من سمع السلام ورحمة الله وبركاته إلا الشيطان)، وعليه سلمت على جبريل مرتين: مرة على التخصيص، ومرةً على التعميم وعلى من سمع، وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام مرتين، وخاطبت رب العالمين بما يليق بجلاله وجماله، (إن الله هو السلام ومنه السلام)، حقيقةً هذا يدل على رجاحة عقلها، وعلى وعيها، وعلى علمها بصفات ربها جل وعلا، وقد كان كثير من الصحابة في أول الأمر يسلمون على الله في صلاتهم فنهاهم عن ذلك نبينا عليه صلوات الله وسلامه، فقارن بين العقلين، الصحابة الكرام وهم رجال جرى منهم خطأ في حق ذي العزة والجلال ونبهوا، وامرأة راجحة العقل ذكية زكية يقال لها: (الله يسلم عليك تقول: إن الله هو السلام ومنه السلام)، يعني كيف أسلم عليه سبحانه وتعالى، ما لنا إلا أن نثني عليه فقط، أما أن ندعو له بالسلامة هذا لا يصلح ولا ينبغي، نحن نطلب منه السلام ونثني عليه؛ لأن السلام منه، أما أن نقول: وعلى الله السلام هذا لا يمكن، فانتبه لفهمها وفقهها ووعيها.
وقد ثبت في المسند والكتب الستة في الصحيحين والسنن الأربعة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا نقول في الصلاة مع النبي عليه الصلاة والسلام: السلام على الله)، وفي رواية: (السلام على الله من قبل العباد) ، وفي رواية كانوا يقولون: (السلام على الله من قبل عباده، السلام على الله قبل عباده، السلام على الله من عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان وفلان من الملائكة)، كان الصحابة يقولون هذا في أول الأمر إذا جلسوا للتشهد، الحديث كما قلت في الكتب الستة، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين -فإنه ما من صالح في السماء ولا في الأرض إلا أصابته هذه الدعوة- أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، على نبينا صلوات الله وسلامه، فالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يقولون: السلام على الله، السلام على الله قبل عباده، السلام على الله من عباده فنهوا عن ذلك.
وأمنا خديجة وهذا في أول الأمر يقول لها جبريل بواسطة نبينا الجليل على نبينا وأنبياء الله وملائكته صلوات الله وسلامه: (الله يسلم عليك، وأنا أسلم عليك، فتقول: الله هو السلام، ومنه السلام)، حقيقةً هذه المرأة أمنا رضي الله عنها وأرضاها كما قلت لا يصلح أن نفارق شهادتها لنبينا عليه الصلاة والسلام قبل أن نذكر هذا الحديث في مكانتها، وأما ما يتعلق بحالها يأتينا إن شاء الله ذكره عند بيان أزواج نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
إخوتي الكرام! هذه المرأة السيدة الطاهرة المباركة أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها، حقيقةً من تعظيمها وحبها والتعلق بها ينبغي أن يسمى البنات باسمها، والإنسان دائماً يسمي ذريته بمن يحب، ونحن ما ينبغي أن نقدم على أمنا خديجة رضي الله عنها امرأةً من النساء لتقديم الله لها، ولتقديم نبينا عليه الصلاة والسلام لها، ولذلك ينبغي أن يشيع هذا الاسم في بيوت المسلمين، والبيت الذي ليس فيه اسم خديجة ينبغي أن تنكسر خواطرهم وقلوبهم، وماذا سيكون حالهم إذا قابلوا أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها، ألا تحبون هذه السيدة الجليلة الفاضلة التي أحبها الله وسلم عليها؟
وأخبرني مرةً بعض إخواننا في بعض وسائل الإفساد المسماة بوسائل الإعلام في بعض البلاد عملوا تمثيلية، وجاء فيها دور ممثلة اسمها خديجة ضمن الكلام، ثم يقول لها ذاك البذيء في التمثيل: اسمك خديجة، ما هذا الاسم الثخين خديجة، هلا سميت نفسك بزوزو وسوسو، خديجة، أعوذ بالله، أعوذ بالله من عمى البصيرة، وفساد العقول، وخبث السريرة، ولذلك إخوتي الكرام من حق أمنا علينا أن نسمي البنات باسمها إذا رزقنا الله الإناث، خديجة ، فاطمة ، عائشة ، وهكذا سائر أمهاتنا أزواج نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
قسمه صلى الله عليه وسلم بين أزواجه في الحضر
تقدم معنا إخوتي الكرام الإشارة إلى صورة مجملة لخلق نبينا عليه الصلاة والسلام، فمما تقدم معنا -ولا أريد أن أفصل الكلام عليه في هذه الموعظة- حديث في المسند وصحيح البخاري والترمذي عن أمنا عائشة رضي الله عنها عندما قيل لها: (ماذا كان يصنع النبي عليه الصلاة والسلام في بيتك؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)، عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا هذا في بداية الشق الثاني من هذين المبحثين ألا وهو خلق النبي عليه الصلاة والسلام بعد الانتهاء من بيان خلقه عليه صلوات الله وسلامه، (يكون في مهنة أهله)، وهو خير خلق الله عليه الصلاة والسلام، وبينت ما كان يزاوله من المهن في ذلك البيت الفاضل المكرم كما تقدم معنا.
وتقدم معنا أيضاً حديث في صحيح مسلم ، ودلائل النبوة للإمام البيهقي ، وسنن أبي داود عن أنس رضي الله عنه قال: (ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله عليه الصلاة والسلام)، تقدم معنا هذا.
وتقدم معنا حديث في صحيح مسلم أيضاً، ودلائل النبوة للإمام البيهقي عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً بيده قط لا امرأةً ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله)، أما رجل يلوح بيده لزوجته هذا ليس من خلق نبينا عليه الصلاة والسلام، فانظر لهذا الخلق الكريم مع أمهاتنا أزواج نبينا على نبينا وعليهن صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا حديث الترمذي وصحيح ابن حبان عن أمنا عائشة رضي الله عنها أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)، وتقدم معنا هذا الحديث من رواية عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين.
هذا تقدم ولن أعيده ضمن هذا الأمر الثالث من معاملة نبينا عليه الصلاة والسلام لأمهاتنا عليه وعليهن صلوات الله وسلامه، إنما سأذكر شيئاً آخر فانتبهوا إخوتي الكرام لهذه الأمور المتتابعة في هذا المبحث الثالث في معاملة نبينا عليه الصلاة والسلام لأمهاتنا، وصلته بهن، وصلتهن به، وما بين الزوج والزوجات من صلة وثيقة تامة كاملة.
أولها: كان من خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع نسائه في بيوته المشرفة المفضلة، أنه في كل يوم يزور سائر زوجاته، ويتفقد أحوالهن، وما يمر يوم إلا ويجتمع بكل واحدة ويباسطها، ويؤانسها، ويلمسها عليه صلوات الله وسلامه، حتى إذا وصل إلى من هي ليلتها بات عندها، لكن تسع زوجات ما تراه الواحدة إلا في كل تسعة أيام مضت، هذا لا يصلح، يتمتعن بنور النبي عليه الصلاة والسلام وأوصافه في اليوم مرة، وما من يوم يمر إلا ويجود عليهن عليه صلوات الله وسلامه، وهذا مما ينبغي أن يعتني به الإنسان، فالليل لصاحبة الليلة، لكن في النهار تتفقد الزوجات والأهل كما هو حال النبي عليه الصلاة والسلام.
ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود ، وإسناد الحديث صحيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا)، كل واحدة لها ليلتها، فيمكث عند كل واحدة بمقدار ما يمكث عند الأخرى، وكل واحدة لها ليلتها، (وكان أقل يوم يأتي إلا وهو عليه صلوات الله وسلامه يطوف علينا جميعاً)، صاحب الخلق الطاهر الكامل الفاضل يسوي بين نسائه في هذا، التسع يدور عليهن كل يوم، يجلس عندها، يداعبها، يلاعبها، يباسطها، يلمسها من غير مسيس، حتى يصل إلى التي هي ليلتها فيبيت عندها عليه صلوات الله وسلامه.
وهذا إخوتي الكرام يفعله نبينا عليه الصلاة والسلام ويحافظ عليه على الدوام، وكان يعدل بين نسائه عليه الصلاة والسلام في القسم، مع أن الله أسقط عنه العدل كما سيأتينا، وإذا أراد أن يركن لواحدة طول حياته فليس عليه سؤال ولا مؤاخذة، العدل هذا يطالب به أنا وأنت، لعدم العصمة فينا، ولتغليب حظ النفس على حظ الشرع، أما النبي عليه الصلاة والسلام لو قدر أنه قدم واحدة لا يقدمها إلا لحظ الشرع ولاعتبارات شرعية، وهو الطيب لا يختار إلا طيباً عليه صلوات الله وسلامه، ثم هو معصوم، من أجل العصمة لا يمكن أن ينحرف ويبتعد عن الحق، فالقسم ليس بواجب عليه، ومع ذلك كان يراعي القسم بين نسائه الطيبات الطاهرات عليه وعليهن صلوات الله وسلامه في الحضر بل وفي السفر.
ثبت في المسند والسنن الأربعة وصحيح ابن حبان والحديث رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط مسلم ، وأقره عليه الذهبي ، وهو في مسند الدارمي ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، وابن أبي شيبة في مصنفه، والبزار في مسنده، وإسحاق بن راهويه في مسنده عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملكه ولا أملك)، وتقدم معنا الحديث في ترجمة أمنا عائشة رضي الله عنها في شرح سنن الإمام الترمذي رحمة الله عليه: (كان يقسم فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، في ميل القلب هذا لا حرج عليك فيه، كون القلب يميل إلى بعض الزوجات أو إلى بعض الأولاد لا حرج، لكن المعاملة الظاهرة على حسب شريعة الله المطهرة، (يقسم فيعدل)، ولذلك ما كان يفضل واحدةً على واحدة في المكث، ولا يزيد واحدة على واحدة في المكث، ليلة ليلة، جلس عند هذه وقتاً في النهار يجلس عند تلك وقتاً يعدله عليه صلوات الله وسلامه، ثم يقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، القلوب بيد علام الغيوب، كونه جعل في قلبك ميلاً مثلاً إلى أمنا خديجة أكثر من غيرها، وإلى أمنا عائشة أكثر ممن بعدها، هذا بيد الله جل وعلا، لكن من حيث المعاملة الظاهرة التساوي والمساواة بين جميع الزوجات.
والحديث إخوتي الكرام صححه كما قلت الحاكم والذهبي ، وصححه الإمام ابن كثير في تفسيره في الجزء الثالث صفحة خمسمائة وواحد وقال: إسناده صحيح ورجاله ثقات كلهم، وقد نص جم غفير من أئمتنا على تصحيح الحديث، نعم اختلف في رفعه وفي إرساله، والوصل زيادة ثقة فهي مقبولة، فـحماد بن سلمة بن دينار وصل الحديث عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وحماد بن زيد وقف الحديث على أبي أيوب ورفعه مرسلاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وحذف بعد ذلك الواسطة بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام، فهو مرسل في رواية حماد بن زيد ، ومتصل في رواية حماد بن سلمة ، وقلت: صحح الحديث متصلاً، ومعناه صحيح ثابت في أحاديث كثيرة، (كان نبينا عليه الصلاة والسلام يقسم فيعدل، ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك).
إقراع النبي صلى الله عليه وسلم بين أزواجه إذا أراد السفر
إذاً إذا أراد سفراً كان عليه الصلاة والسلام يقرع بين النساء، لا يمكن أن يأخذ جميع الزوجات، إن أراد أن يأخذ واحدة أو اثنتين يقرع، فإذا خرجت القرعة على إحداهن أخذها، وهذا هو العدل، هو لا اختيار له، من يقدر الله لها الخروج خرجت معه عن طريق القرعة، وكان يقسم بعد ذلك لكل واحدة يومها وليلتها، ففي النهار يتغدى عندها، وفي الليل يبيت عندها، وهكذا عند كل زوجة من زوجاته الطاهرات على نبينا وعليهن صلوات الله وسلامه.
(يقسم لكل واحدة يومها وليلتها، وإذا أراد سفراً أقرع بين نسائه)، هذا ما كان يفعله نبينا عليه الصلاة والسلام، والله لم يطالبه بالعدل بين الزوجات، ووكل ذلك إليه كما قال الله جل وعلا: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا [الأحزاب:51].
(ترجي من تشاء منهن)، ترجيها وتؤخرها فلا تعطيها ليلتها، ولا تجعل لها قسماً، وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ [الأحزاب:51]، تصرف كما تريد، قال الإمام القرطبي في تفسيره: أصح ما قيل في تفسير هذه الآية: فيها التوسعة على النبي عليه الصلاة والسلام في ترك القسم، وهذا الذي اختاره الإمام ابن كثير والإمام ابن جرير عليهم جميعاً رحمة الله، وما قيل من أن معنى الآية: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ [الأحزاب:51]: من الواهبات، وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ [الأحزاب:51]، يعني: من وهبت نفسها لك أن تؤخرها وألا تقبلها، ولك أن تقبلها وأن تؤويها وأن تضمها إليك، وهذا من خصائص نبينا عليه الصلاة والسلام أنه تحل له الموهوبة من غير ولي، ومن غير عقد، ومن غير مهر، وهو الذي يقدم على الأب والابن ومن عداهما، فمن سيحضر إذا حضر النبي عليه الصلاة والسلام، إذا جاءت امرأة ووهبت نفسها للنبي عليه الصلاة والسلام يقدم على أبيها، وعلى أوليائها، فإذا قال: قبلت تم الزواج، هذه خصيصة من خصائص نبينا عليه الصلاة والسلام، وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50].
والسبب في ذلك كما قلت إخوتي الكرام لعدم وجود تهمة، هذا خير خلق الله معصوم، وأما أنا وأنت ومن عدا النبي عليه الصلاة والسلام مهما علا فهو بشر، يخطي ويصيب، وقد يقدم حظ النفس على حظ الشرع، ولذلك لا بد من أن يلتزم بشريعة الله المطهرة، أما هذا يسيره الله ويسدده، ولا يختار إلا ما يرضاه الله ويحبه، ولذلك إذا قبل تم الزواج بدون ولي ولا مهر ولا عقد، فقال بعض المفسرين: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ [الأحزاب:51]، من الواهبات، وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ [الأحزاب:51]، والآية تشمل هذا وهذا كما قال الإمام ابن كثير وابن جرير ، وقال الإمام ابن كثير : وهذا حسن جيد قوي، يعني: كونها تشمل أنه لا قسم عليه بالنسبة لزوجاته، وله الخيار نحو الواهبات إن شاء ضمهن إلى عصمة النكاح وإلى بيته الطيب المبارك وإن شاء لم يقبل عرضهن، فله الخيار، تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ [الأحزاب:51].
هذا حال النبي عليه الصلاة والسلام، مع أن الله كما قلت لم يوجب عليه العدل بين زوجاته، ولم يلزمه بذلك، فكان يعدل ويطوف عليهن جميعاً في كل يوم، فإذا أفضى إلى من هي ليلتها بات عندها عليه صلوات الله وسلامه، هذه معاملة خير خلق الله عليه الصلاة والسلام للزوجات إذا كن أكثر من واحدة، وحقيقةً يجب علينا أن نقتدي بنبينا عليه الصلاة والسلام عندما نعدد، أما أن نقتدي به في التعدد ولا نقتدي به في المعاملة هذا لا يصلح، وما أساء إلى التعدد إلا من عدد، وسيأتينا حكمة التعدد عند مبحث أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام لنكون على بصيرة، وأذكر الحكم العشرة من تعداد نبينا عليه الصلاة والسلام للزوجات الطيبات الطاهرات المباركات لـابن رجب الحنبلي ، فانتبهوا لهذا إخوتي الكرام.
إخوتي الكرام! بعد هذا ننتقل إلى الأمر الثالث من المعاملة الكريمة من نبينا الكريم لآل بيته الطيبين الطاهرين.
تقدم معنا إخوتي الكرام الإشارة إلى صورة مجملة لخلق نبينا عليه الصلاة والسلام، فمما تقدم معنا -ولا أريد أن أفصل الكلام عليه في هذه الموعظة- حديث في المسند وصحيح البخاري والترمذي عن أمنا عائشة رضي الله عنها عندما قيل لها: (ماذا كان يصنع النبي عليه الصلاة والسلام في بيتك؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)، عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا هذا في بداية الشق الثاني من هذين المبحثين ألا وهو خلق النبي عليه الصلاة والسلام بعد الانتهاء من بيان خلقه عليه صلوات الله وسلامه، (يكون في مهنة أهله)، وهو خير خلق الله عليه الصلاة والسلام، وبينت ما كان يزاوله من المهن في ذلك البيت الفاضل المكرم كما تقدم معنا.
وتقدم معنا أيضاً حديث في صحيح مسلم ، ودلائل النبوة للإمام البيهقي ، وسنن أبي داود عن أنس رضي الله عنه قال: (ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله عليه الصلاة والسلام)، تقدم معنا هذا.
وتقدم معنا حديث في صحيح مسلم أيضاً، ودلائل النبوة للإمام البيهقي عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً بيده قط لا امرأةً ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله)، أما رجل يلوح بيده لزوجته هذا ليس من خلق نبينا عليه الصلاة والسلام، فانظر لهذا الخلق الكريم مع أمهاتنا أزواج نبينا على نبينا وعليهن صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا حديث الترمذي وصحيح ابن حبان عن أمنا عائشة رضي الله عنها أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)، وتقدم معنا هذا الحديث من رواية عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين.
هذا تقدم ولن أعيده ضمن هذا الأمر الثالث من معاملة نبينا عليه الصلاة والسلام لأمهاتنا عليه وعليهن صلوات الله وسلامه، إنما سأذكر شيئاً آخر فانتبهوا إخوتي الكرام لهذه الأمور المتتابعة في هذا المبحث الثالث في معاملة نبينا عليه الصلاة والسلام لأمهاتنا، وصلته بهن، وصلتهن به، وما بين الزوج والزوجات من صلة وثيقة تامة كاملة.
أولها: كان من خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع نسائه في بيوته المشرفة المفضلة، أنه في كل يوم يزور سائر زوجاته، ويتفقد أحوالهن، وما يمر يوم إلا ويجتمع بكل واحدة ويباسطها، ويؤانسها، ويلمسها عليه صلوات الله وسلامه، حتى إذا وصل إلى من هي ليلتها بات عندها، لكن تسع زوجات ما تراه الواحدة إلا في كل تسعة أيام مضت، هذا لا يصلح، يتمتعن بنور النبي عليه الصلاة والسلام وأوصافه في اليوم مرة، وما من يوم يمر إلا ويجود عليهن عليه صلوات الله وسلامه، وهذا مما ينبغي أن يعتني به الإنسان، فالليل لصاحبة الليلة، لكن في النهار تتفقد الزوجات والأهل كما هو حال النبي عليه الصلاة والسلام.
ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود ، وإسناد الحديث صحيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا)، كل واحدة لها ليلتها، فيمكث عند كل واحدة بمقدار ما يمكث عند الأخرى، وكل واحدة لها ليلتها، (وكان أقل يوم يأتي إلا وهو عليه صلوات الله وسلامه يطوف علينا جميعاً)، صاحب الخلق الطاهر الكامل الفاضل يسوي بين نسائه في هذا، التسع يدور عليهن كل يوم، يجلس عندها، يداعبها، يلاعبها، يباسطها، يلمسها من غير مسيس، حتى يصل إلى التي هي ليلتها فيبيت عندها عليه صلوات الله وسلامه.
وهذا إخوتي الكرام يفعله نبينا عليه الصلاة والسلام ويحافظ عليه على الدوام، وكان يعدل بين نسائه عليه الصلاة والسلام في القسم، مع أن الله أسقط عنه العدل كما سيأتينا، وإذا أراد أن يركن لواحدة طول حياته فليس عليه سؤال ولا مؤاخذة، العدل هذا يطالب به أنا وأنت، لعدم العصمة فينا، ولتغليب حظ النفس على حظ الشرع، أما النبي عليه الصلاة والسلام لو قدر أنه قدم واحدة لا يقدمها إلا لحظ الشرع ولاعتبارات شرعية، وهو الطيب لا يختار إلا طيباً عليه صلوات الله وسلامه، ثم هو معصوم، من أجل العصمة لا يمكن أن ينحرف ويبتعد عن الحق، فالقسم ليس بواجب عليه، ومع ذلك كان يراعي القسم بين نسائه الطيبات الطاهرات عليه وعليهن صلوات الله وسلامه في الحضر بل وفي السفر.
ثبت في المسند والسنن الأربعة وصحيح ابن حبان والحديث رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط مسلم ، وأقره عليه الذهبي ، وهو في مسند الدارمي ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، وابن أبي شيبة في مصنفه، والبزار في مسنده، وإسحاق بن راهويه في مسنده عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملكه ولا أملك)، وتقدم معنا الحديث في ترجمة أمنا عائشة رضي الله عنها في شرح سنن الإمام الترمذي رحمة الله عليه: (كان يقسم فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، في ميل القلب هذا لا حرج عليك فيه، كون القلب يميل إلى بعض الزوجات أو إلى بعض الأولاد لا حرج، لكن المعاملة الظاهرة على حسب شريعة الله المطهرة، (يقسم فيعدل)، ولذلك ما كان يفضل واحدةً على واحدة في المكث، ولا يزيد واحدة على واحدة في المكث، ليلة ليلة، جلس عند هذه وقتاً في النهار يجلس عند تلك وقتاً يعدله عليه صلوات الله وسلامه، ثم يقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، القلوب بيد علام الغيوب، كونه جعل في قلبك ميلاً مثلاً إلى أمنا خديجة أكثر من غيرها، وإلى أمنا عائشة أكثر ممن بعدها، هذا بيد الله جل وعلا، لكن من حيث المعاملة الظاهرة التساوي والمساواة بين جميع الزوجات.
والحديث إخوتي الكرام صححه كما قلت الحاكم والذهبي ، وصححه الإمام ابن كثير في تفسيره في الجزء الثالث صفحة خمسمائة وواحد وقال: إسناده صحيح ورجاله ثقات كلهم، وقد نص جم غفير من أئمتنا على تصحيح الحديث، نعم اختلف في رفعه وفي إرساله، والوصل زيادة ثقة فهي مقبولة، فـحماد بن سلمة بن دينار وصل الحديث عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وحماد بن زيد وقف الحديث على أبي أيوب ورفعه مرسلاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وحذف بعد ذلك الواسطة بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام، فهو مرسل في رواية حماد بن زيد ، ومتصل في رواية حماد بن سلمة ، وقلت: صحح الحديث متصلاً، ومعناه صحيح ثابت في أحاديث كثيرة، (كان نبينا عليه الصلاة والسلام يقسم فيعدل، ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك).
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مباحث النبوة - الرضاعة حق للطفل | 3297 استماع |
مباحث النبوة - أزواج المؤمنين في جنات النعيم | 3252 استماع |
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [1] | 3230 استماع |
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [1] | 3207 استماع |
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [3] | 3166 استماع |
مباحث النبوة - صفات النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً وخلُقاً | 3152 استماع |
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [2] | 3121 استماع |
مباحث النبوة - كرم النبي صلى الله عليه وسلم وجوده | 3095 استماع |
مباحث النبوة - قوت النبي صلى الله عليه وسلم [1] | 3005 استماع |
مباحث النبوة - ضرب المرأة بين المنع والإباحة | 2951 استماع |