مباحث النبوة - خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء المرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! لازلنا نتدارس المبحث الثالث من مباحث النبوة، وعنوانه كما تقدم معنا مراراً: الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.

وهذه الأمور إخوتي الكرام قلت: إنها على كثرتها وتعددها وتنوعها يمكن أن تجمل في أربعة أمور:

أولها: النظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه.

ثانيها: النظر في دعوته ورسالته.

ثالثها: النظر إلى حال أصحابه.

رابعها: النظر في المعجزات التي أيده الله بها وأكرمه وهي خوارق العادات.

وقد كنا نتدارس الأمر الأول من هذه الأمور الأربعة، والنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، في خلقه وخلقه، على نبينا صلوات الله وسلامه، وتقد تقدم معنا إخوتي الكرام أن الله أعطى رسله وأنبياءه الكمال في الأمرين: الجلال والجمال في خلقهم وفي أخلاقهم على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

وقد تقدم معنا ما يتعلق بالشق الأول فيما يتعلق بخلق النبي عليه الصلاة والسلام، ودلالة ذلك على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً وصدقاً، ثم شرعنا بعد ذلك في مدارسة الشق الثاني في خلق النبي صلى الله عليه وسلم، ودلالة ذلك على أنه رسول الله حقاً وصدقاً، وتقدم معنا في أول هذا الشق الثاني من المبحث الأول من الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا صلوات الله وسلامه، تقدم معنا أنه ليس في وسع بشر أن يحيط بخلق النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الكمال والتمام، فخلقه عليه الصلاة والسلام كمعاني القرآن، وكما أنه ليس في وسع الإنسان أن يقف على وجه التمام على معاني كلام ذي الجلال والإكرام، فهكذا هو الحال تماماً بالنسبة لأخلاق نبينا عليه الصلاة والسلام.

نعم إذا أردنا أن نقف على صورة واضحة من خلقه عليه الصلاة والسلام لنستدل بذلك على أنه رسول ربنا الرحمن، فقلت: نبحث في سبعة أمور على وجه الاختصار كما يليق بحالنا وحسبما في وسعنا، خلقه عليه الصلاة والسلام مع أهل بيته، خلقه عليه الصلاة والسلام مع أصحابه وأمته، خلقه عليه الصلاة والسلام مع الملائكة الكرام على نبينا وعليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى السلام، خلقه عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من عتاة الإنس، خلقه عليه الصلاة والسلام مع الشياطين والجن، خلقه عليه الصلاة والسلام مع الحيوانات العجماوات، خلقه عليه الصلاة والسلام مع الجمادات الصامتات، هذه الأمور السبعة قلت: إنها كلها فيما يتعلق بخلق المصطفى عليه الصلاة والسلام مع الخلق، وأختمها بأمر آخر ألا وهو خلقه مع الحق عليه الصلاة والسلام بعد الانتهاء من هذه الأمور السبعة.

وشرعنا أيضاً إخوتي الكرام في مدارسة أول واحد من هذه الأمور السبعة ألا وهو خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع أهل بيته، مع أسرته، مع أزواجه أمهاتنا على نبينا وعليهن صلوات الله وسلامه، وقلت: هذا الخلق سأبينه بأربعة أمور أيضاً: مسكن النبي عليه الصلاة والسلام، أثاث ذلك المسكن ما يقدم فيه من طعام، وقد تقدم الكلام على هذه الأمور الثلاثة في مواعظ متعددة بأدلتها كما سمعتم، وسننتقل إلى الأمر الأول من خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله.. في كيفية معاملة نبينا عليه الصلاة والسلام لمن في بيته من أمهاتنا على نبينا وعليهن صلوات الله وسلامه، وقبل أن أبدأ في هذا الأمر لأربط ما تقدم بما سأذكره الآن.

إخوتي الكرام! عندما استعرضت مسكن النبي عليه الصلاة والسلام وأثاثه وطعامه الذي يقدم في تلك الحجر المباركة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام، تقدم معنا أن النبي عليه الصلاة والسلام قنع بالضرورة، وأخذ مقدار البلغة فيما يتعلق بسكنه وأثاثه وطعامه عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا أنه أخذه اختياراً عليه الصلاة والسلام لا اضطراراً، فقد خيره الله جل وعلا بين أن يكون رسولاً ملكاً، وبين أن يكون رسولاً عبداً عليه الصلاة والسلام، وبين أن يصير له بطحاء مكة ذهباً، فاختار عليه الصلاة والسلام الآخرة، وسأل ربه أن يجعل رزقه ورزق آله كفافاً وقوتاً على نبينا صلوات الله وسلامه.

وختمت المبحث على هذه الأمور الثلاثة بما ذكرته في آخر الموعظة الماضية بأن هذه الحالة التي اختارها نبينا صلى الله عليه وسلم لنفسه هي التي شاءها الله جل وعلا لأكثر المؤمنين وأكثر الصالحين في هذه الأمة المباركة المرحومة وهي حالة الكفاف، حالة الفقر، لا يكون عندهم سعة وغناء، وتقدم معنا أن هذا الأمر هو أسلم للإنسان وأحسن في هذه الحياة، وأرفع لدرجته بعد الممات، سأذكر بعض الآثار التي تقرر ما تقدم ذكره ثم أنتقل إن شاء الله إلى الأمر الرابع بعون الله.

إخوتي الكرام! كما قلت: إن الله زوى الدنيا عن نبيه عليه الصلاة والسلام، وعن أوليائه وأحبابه في هذه الحياة الدنيا؛ لئلا يشغلهم بغير طاعته سبحانه وتعالى، ولذلك يحمي الله جل وعلا عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي أحدنا سقيمه ومريضه من الماء، ثبت الحديث بذلك في سنن الترمذي وقال عنه: حسن غريب، والحديث رواه الحاكم في المستدرك بسند صحيح على شرط الشيخين وأقره عليه الذهبي ، ورواه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في شعب الإيمان، وهو حديث صحيح صححه عدا عمن تقدم ذكرهم شيخ الإسلام الإمام عبد الرحيم بن الحسين الأثري في تخريج أحاديث الإحياء، ولفظ الحديث: عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه وأرضاه وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء)، وفي رواية: (كما يحمي أحدكم مريضه الماء)، فما زويت الدنيا عمن زويت عنهم من الصالحين إلا لكرامتهم عند رب العالمين، (إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا، كما يحمي أحدكم سقيمه الماء).

والحديث رواه الإمام الحاكم في المستدرك من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وإسناده صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب)، كما تمنعون المريض من الطعام والشراب براً به ورفقاً به وإحساناً إليه وشفقةً عليه، هكذا يزوي الله الدنيا عن أنبيائه وأحبابه في هذه الحياة من أجل ألا يشغلوا بغير الغاية التي خلقوا من أجلها على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.

والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير بسند حسن كما نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء العاشر صفحة خمس وثمانين ومائتين، وشيخ الإسلام الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الرابع صفحة ثلاث وثلاثين من رواية رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء)، والحديث رواه أبو يعلى أيضاً بسند حسن، كما في الكتابين المتقدمين مجمع الزوائد والترغيب والترهيب من رواية عقبة بن رافع رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الماء ليشفى)، والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وهو في المسند في الجزء الخامس صفحة سبع وعشرين وأربعمائة من رواية محمود بن لبيد .

وقد تقدم معنا إخوتي الكرام! أن المعتمد أنه صحابي كما أثبت ذلك الإمام البخاري وابن عبد البر وابن خزيمة رضوان الله عليهم أجمعين، وأما قول أبي حاتم عليه رحمة الله: لم تثبت صحبته، أي: لم يثبت سماعه، وقلت: لا يشترط للصحبة ثبوت السماع، فقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام -وهذا باتفاق- وهو صغير فهو صحابي، وروايته بعد ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام بواسطة صحابي آخر فلا يضر، وقد أشار الإمام الترمذي إلى هذه الرواية في سننه فقال: روي الحديث عن محمود بن لبيد مرسلاً، أي: من مراسيل الصحابة، وحكمها أنها موصولة كما قال أئمتنا:

أما الذي أرسله الصحابي فحكمه الوصل على الصواب

الحديث أيضاً روي من رواية محمود بن لبيد في المسند وغيره، هذه الأحاديث تقرر ما تقدم معنا من أن اختيار نبينا عليه الصلاة والسلام لما اختاره في هذه الحياة من عيشة الكفاف فيما يتعلق بمسكنه وأثاثه وطعامه عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا أسلم له ولمن يقتدي به من أمته، وأرفع له في درجته عند ربه على نبينا صلوات الله وسلامه.

بعد هذا إخوتي الكرام أنتقل إلى الأمر الرابع في خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع من كان يعيش في بيته، وهذا هو المقصود أصالةً من مقدمة هذا البحث؛ لأننا إذا أردنا أن نبحث في خلق نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وكيف كان يعامل من في بيته هذه الصورة المثالية المثلى لا بد لها من مقدمة، ما وضع ذلك البيت؟ وضع ذلك البيت كما تقدم معنا وصفه من سكن وأثاث وطعام، فلا يجلس الإنسان فيه إلا إذا أراد الله والدار الآخرة فقط، وإذا كان لا يريد ذلك لا يمكن أن يستقر في ذلك البيت طرفة عين، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من ذكر الأمور الثلاثة المتقدمة من أجل أن نعلم بعد ذلك كيف كان النبي يعامل نساءه عليه وعليهن صلوات الله وسلامه في تلك الحجر.

إخوتي الكرام! هذا المبحث الذي هو المبحث الرابع أيضاً سنتدارسه ضمن أربعة أمور:

أولها: سأثبت في أول هذا المبحث وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك أيضاً عند بيان هذا الأمر الأول من الأمور الأربعة التي يعرف بها صدق النبي على نبينا صلوات الله وسلامه النظر إليه في نفسه.. في خلقه وخلقه، تقدم الكلام على أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه على خلق عظيم، سأشير الآن أيضاً إشارةً موجزة إلى أن نبينا عليه الصلاة والسلام هو أحسن الخليقة خلقاً.. أحسن الخليقة خلقاً مع الحق ومع الخلق عليه صلوات الله وسلامه، هذا الأمر الأول.

والأمر الثاني: سأقرر هذا بشهادة أخبر الخلق بنبينا عليه الصلاة والسلام ألا وهي أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها التي عرفت حاله في الجاهلية قبل أن تقترن به، وقبل أن يكرمها الله جل وعلا بالزواج منه، ثم عرفت حاله أيضاً في الجاهلية قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام عندما تزوجته وأكرمها الله بالزواج منه، وبقيت معه خمس عشرة سنة قبل أن يبعثه الله بالرسالة، ثم بعد ذلك عرفت حاله بعد أن أكرمه الله بالرسالة وهي زوج له مدة عشر سنين، فعرفته قبل البعثة عندما لم تقترن به، وهذا الذي دعاها للاقتران به وعرض نفسها عليه كما سيأتينا، وعرفته عندما اقترنت به قبل البعثة أيضاً، وعرفته عندما اقترنت به بعد البعثة، فهي أعلم الخلق حقيقةً بحال هذا المخلوق عليه صلوات الله وسلامه، سأذكر شهادتها وقولها في نبينا عليه الصلاة والسلام فيما يتعلق بكلامها فيه قبل أن تقترن به، وبعد أن اقترنت به، وبعد أن جاءه الملك في غار حراء.

والأمر الثالث: سأستعرض حسن صلة النبي بنسائه وصلتهن به عليه وعليهن صلوات الله وسلامه.

الأمر الرابع كما وعدت: سيكون لمحة موجزة مختصرة في التعريف بأمهاتنا أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام، وبذرية نبينا الطاهرة المطهرة، وكيف ذلك يدل دلالةً واضحةً على أن هذا البيت الفريد هو بيت النبوة على نبينا صلوات الله وسلامه.

حسن عشرة النبي لنسائه ووصيته لأمته بالنساء

أما الأمر الأول إخوتي الكرام فيما يتعلق بأن نبينا عليه الصلاة والسلام هو كما تقدم معنا أحسن الخليقة خلقاً، فما خلق الله ولا ذرأ مخلوقاً أجمل من نبينا عليه الصلاة والسلام، تقدم معنا كأن الشمس تجري في جبهته عليه الصلاة والسلام، ونور القمر ليلة البدر يتضاءل عند نور وجهه عليه صلوات الله وسلامه، وكما تقدم معنا هذا في خلق نبينا الشريف عليه صلوات الله وسلامه.

وأما خلقه عليه الصلاة والسلام فكذلك، فهو أنفع الخلق للخلق عليه صلوات الله وسلامه، وهو أرحم الخلق بالخلق عليه صلوات الله وسلامه، وإذا كان كذلك فأزواجه اللائي يعشن معه عليه وعليهن صلوات الله وسلامه ينبغي أن يكون لهن من ذلك الخلق.. من تلك الرأفة والرحمة وحسن المعاملة، أن يكون لهن من ذلك النصيب الأوفى، وهذا الذي حصل من نبينا عليه الصلاة والسلام لأمهاتنا زوجاته الطاهرات المطهرات الكريمات على نبينا وعليهن صلوات الله وسلامه.

وليس حسن الخلق إخوتي الكرام كما يفهم كثير من الناس كف الأذى، لا، حسن الخلق احتمال الأذى، وبذل الندى، تبذل المعروف ثم تتحمل بعد ذلك من هذا المخلوق ما يجري عليك من جهل وتقصير، وحقيقةً سنستعرض هذا في الأمر الثالث، وكيف كان يجري منهن ما لا تنفك عنه الطبيعة البشرية، فمهما كان حالهن فيهن ما فيهن، وصدر نبينا عليه الصلاة والسلام يتسع لهن، وصدره أوسع من السموات والأرض عليه صلوات الله وسلامه حلماً ورحمةً ورأفةً عليه صلوات الله وسلامه، ويجري منهن أحياناً بعض التصرفات، حقيقةً لعلها لو جرت لبعضنا من زوجاته لما صبر، وأين نحن من نبينا عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يحلم ويصبر ويشفق ويرحم عليه صلوات الله وسلامه مع ما يجري منهن ويداعبهن، وهو الصورة المثلى للزوج الكريم في تلك البيوت الطاهرة المباركة المشرفة على نبينا صلوات الله وسلامه.

ولا يستبعد هذا إخوتي الكرام من خلق نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو الذي أوصانا بالنساء في مناسبات كثيرة آخرها أعظم مناسبة شهدها النبي عليه الصلاة والسلام مع أمته في حجة الوداع، في تلك المناسبة العامة الشهيرة العظيمة الكثيرة يذكر بعشرة النساء والرفق بهن والحديث ثابت في صحيح مسلم وسنن أبي داود وابن ماجه ، ومسند الدارمي من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة يوم عرفة في حجة الوداع في خطبته الطويلة الشهيرة: (فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، اتقوا الله في النساء، أحسنوا صحبتهن، وعشرتهن، ومعاملتهن، واقتدوا بنبينا عليه الصلاة والسلام بذلك، (أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، وهي قول الله: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] ، بكلمة الله وهي لا إله إلا الله.. كلمة التوحيد، فلولا أنكم على التوحيد لما حل لكم النساء الصالحات المؤمنات، (بكلمة الله) بقول الله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، بالكلمة التي أمر الله بها عند اتصال الرجل بالمرأة عن طريق ما أحل ألا وهي الإيجاب والقبول، (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، هذا في أعظم اجتماع يقوله خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

وهذه العشرة الطيبة سيأتينا إيضاحها في حياة نبينا عليه الصلاة والسلام إنما قلت أن حسن الخلق لا أن تكف أذاك، إنما أن تحتمل الأذى من غيرك، يقع عليك وأنت تحتمل، وهذا حال نبينا عليه الصلاة والسلام، وسيأتينا حديث الصحيحين إنما أذكره الآن محل الشاهد في هذه الجزئية، وسيأتينا ضمن المبحث الثالث من هذه الأمور الأربعة، الحديث في الصحيحين وفي سنن الترمذي والنسائي من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (قال عمر بن الخطاب رضوان الله عليهم أجمعين: كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما هاجرنا إلى المدينة المنورة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم)، الأمر انعكس، كان الرجال يغلبون النساء في مكة معشر قريش، فلما جاءوا إلى الأنصار وجدوا أن النساء يغلبن الرجال، (قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فطفق نساؤنا يتعلمن من أزواج هؤلاء الرجال -يعني: من النسوة من أجل أن تغلب الواحدة الرجل منا- فتغضبت يوماً على امرأتي فردت في وجهي الكلام، فأنكرت ردها، فقالت: علام تنكر علي ونساء النبي عليه الصلاة والسلام يراجعنه الكلام وتهجره الواحدة منهن يوماً إلى الليل؟ يقول: فدخلت على حفصة لأسألها قلت: أتراجعن النبي عليه الصلاة والسلام الكلام وتهجرنه يوماً إلى الليل؟ فقالت حفصة : نعم نراجعه الكلام، ونهجره اليوم إلى الليل، فقال: لقد خبتن وخسرتن) كما سيأتي الحديث بكامله.

انظر لهذا الخلق لنبينا عليه الصلاة والسلام، خير خلق الله، تتبرك الملائكة برؤيته وصحبته، ويتشرف الجماد بمشي نبينا عليه الصلاة والسلام عليه، فهو خير العباد، ومع ذلك أمهاتنا لا أقول من باب طياشتهن لكن هذا هو حال القصور البشري والضعف الإنساني، يجري منهن أحياناً ما يجري، فيتسع صدره عليه الصلاة والسلام ويحمل، ثم هو الذي يبدأ بعد ذلك عليه الصلاة والسلام بالمصالحة وحسن الكلام على نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام، ولا يستبعد هذا ممن نعته الله جل وعلا بأنه رءوف رحيم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:128-129].

بعض ما ورد عن النبي في وصيته بحسن معاشرة النساء

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن خيرنا خيرنا لأهلنا، فهو خير البشرية لأهله عليه صلوات الله وسلامه، فاستمع لتقرير هذا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام في المبحث الأول لنتدارس بعد ذلك ما بعده من مباحث.

ثبت في المسند وسنن الترمذي وصحيح ابن حبان ، والحديث إسناده صحيح كالشمس، قال عنه الترمذي : حسن صحيح، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم)، الخير فيكم هو صاحب الخلق الحسن مع أهله، وتقدم معنا مراراً إخوتي الكرام أن دين الله يقوم على دعامتين: تعظيم لله، وشفقة على خلق الله، وأولى الناس بشفقتك وحسن معاملتك أهلك، أولى الناس بإحسانك ومعروفك ولين كلامك زوجتك، (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم).

والحديث رواه الإمام أحمد أيضاً في المسند، والترمذي في السنن، والحاكم في المستدرك، وقال: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وتعقبه الذهبي ، فقال: فيه انقطاع، والحديث صححه الإمام الترمذي ، ومع ذلك قال: لا نعرف لـأبي قلابة سماعاً من أمنا عائشة ، والحديث مروي عن أمنا عائشة رضي الله عنها بواسطة هذا الراوي ألا وهو أبو قلابة ، وهو عبد الله بن زيد الجرمي ، ثقة فاضل كثير الإرسال، حديثه مخرج في الكتب الستة، توفي سنة أربع ومائة للهجرة وتوفي في بلاد الشام بعد أن هرب من بلاد البصرة، وهروبه لأنه أريد منه أن يتولى القضاء في تلك البلاد فتخفى وهرب حتى وصل بلاد الشام فقبض فيها، وكان يقول: ما لي وللقضاء، مثل القاضي كمثل من وقع في البحر فما عسى أن ينجو.

ومن كلام هذا العبد الصالح ما ذكرته أيضاً مراراً في بعض المواعظ أنه كان يقول: إذا حدثت الرجل بحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام فقال: دعنا من هذا وهات القرآن، فاعلم أنه ضال. وهذا الأثر رواه عنه الإمام ابن سعد في الطبقات، أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي ، حديثه في الكتب الستة، توفي سنة أربع ومائة للهجرة، روى عن أمنا عائشة ولم يسمع منها، والترمذي يقول: لا نعرف لـأبي قلابة سماعاً من عائشة ، إذاً كيف صححت الحديث؟ صححه لشواهده، فالمتن ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام، تقدم معنا من رواية أبي هريرة ، وهذا من رواية أمنا عائشة ، سيأتينا روايات كثيرة بهذا المعنى، مع أنه هو الذي يقول: لا نعرف لـأبي قلابة سماعاً من أمنا عائشة رضي الله عنها، ثم يقول: إن الحديث صحيح، ولفظ حديث أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله)، هذا أكمل أهل الإيمان إيماناً: خلق حسن، وملاطفة للأهل في البيت، (إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله).

وهذا المعنى ثابت إخوتي الكرام في أحاديث كثيرة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، منها ما في المستدرك في الجزء الرابع صفحة ثلاث وسبعين ومائة بسند صحيح على شرط الشيخين، أقره عليه الذهبي من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، الأول من رواية أبي هريرة ، والثاني من رواية أمنا عائشة ، وهذا من رواية أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، قال النبي صلى الله عليه وسلم من رواية عبد الله بن عباس الرواية الثالثة لكن مختصرة، ولفظها: (خيركم خيركم للنساء)، دون الشق الأول من الحديث، يعني: الخير فيكم هو صاحب المعاملة الحسنة مع أهله وأزواجه، (خيركم خيركم للنساء).

والحديث رواه الطبراني من رواية أبي كبشة ، وفي إسناده عمر بن روبة ، (روبة) الواو ساكنة وليس عليها همزة، وثقه ابن حبان وغيره، وقال الحافظ في التقريب: صدوق، وقد أخرج حديثه أهل السنن الأربعة، من رواية أبي كبشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم خيركم للنساء).

ورواه الطبراني أيضاً من رواية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين، وفي إسناده علي بن عاصم الواسطي ، قال الإمام الهيثمي : أنكر عليه كثرة الغلط، وتماديه فيه، وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ ويصر، توفي سنة واحدة ومائتين للهجرة، وحديثه في السنن الأربعة إلا سنن النسائي ، إذاً هنا من رواية معاوية أيضاً: (خيركم خيركم للنساء).

والحديث رواه ابن ماجه بسند صحيح على شرط الشيخين من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خياركم خياركم لنسائهم)، وإذا كان الأمر كذلك فخير الناس فينا، خيرنا خلقاً ومعاملةً مع أهله، فخير الخليقة على الإطلاق نبينا عليه الصلاة والسلام، فينبغي إذاً أن يكون خير الناس مع أهله عليه صلوات الله وسلامه، وهذا هو الواقع والحاصل.

ثبت في سنن الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه ابن حبان من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، وإذا مات صاحبكم فدعوه)، والحديث رواه الإمام الدارمي دون الجملة الثانية، ولفظه: (خيركم خيركم لأهله، وإذا مات صاحبكم فدعوه).

قول نبينا عليه الصلاة والسلام: (إذا مات صاحبكم فدعوه)، إما أن يريد به غيره، أي: هذا الصاحب هو غير النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: إذا مات واحد منكم من قريب أو غيره فدعوه، أي: لا تتكلموا عليه، كما أمرنا بأن نحسن أخلاقنا مع الأحياء فلنحسن أخلاقنا مع الأموات، والمجاملة وحسن المعاملة مطلوبة منك نحو الأحياء والأموات، لا ينبغي أن تتكلم على صاحبك في حال حياته فمن باب أولى بعد مماته، (وإذا مات صاحبكم فدعوه).

ويحتمل أيضاً الحديث معنىً آخر: (إذا مات صاحبكم فدعوه)، أي: دعوا التعلق به والبكاء عليه فقد قضى نحبه، وجاءه أجله، (إذا مات صاحبكم فدعوه)، ولذلك إذا مات المريض فانتهى، أما في حال مرضه قد الإنسان يبذل ما في وسعه لعلاجه والشفقة عليه، لكن إذا مات دعوه، لا داعي بعد ذلك للتعلق به والصراخ والعويل.

والمعنى الثالث الذي يحتمله الحديث على أن الصاحب وهو غير النبي عليه الصلاة والسلام، (إذا مات صاحبكم فدعوه)، إلى رحمة الله، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198] ، وهو قد انتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، فدعوه إلى رحمة الله، ودعوه يلقى كرامة الله جل وعلا في قبره، وعجلوا بدفنه. وقيل: إن الصاحب هو النبي عليه الصلاة والسلام، يعني نفسه، إذا مت فدعوني، وإن صاحبكم خليل الله، وعلى هذا فتحتمل هذه الجملة المباركة أمرين اثنين:

أولهما: (فدعوه)، أي: لا داعي للجزع والتحسر، ففي الله خلف من كل فائت، وحياة النبي عليه الصلاة والسلام خير لكم، وموته خير لكم عليه الصلاة والسلام، فإذا مات فدعوه، ولا داعي للجزع والتحسر كما هو الحال أيضاً في حق غيره عليه صلوات الله وسلامه.

والمعنى الثاني: (وإذا مات صاحبكم -يعني النبي عليه الصلاة والسلام- فدعوه)، أي: فلا تؤذوه عليه الصلاة والسلام في أهل بيته، وصحابته، وفي المؤمنين به من أهل ملته من أمته على نبينا وعليها صلوات الله وسلامه، فإيذاء هؤلاء إيذاء له، (وإذا مات صاحبكم -يعني النبي عليه الصلاة والسلام- فدعوه)، من الأذى، وحذار أن تصيبوه بأذى بواسطة إيذاء آل بيته وصحابته والمؤمنين به عليه الصلاة والسلام.

(خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، وإذا مات صاحبكم فدعوه)، والحديث إخوتي الكرام مروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما في سنن ابن ماجه وصحيح ابن حبان من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).

والحديث رواه البزار من رواية عبد الرحمن بن عوف كما في مجمع الزوائد في الجزء الرابع صفحة ثلاث وثلاثمائة: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). وفي إسناده محمد بن عمرو بن علقمة ، قال الهيثمي : وثق وفيه ضعف، وقد حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه صدوق وله أوهام، وحديثه في الكتب الستة، أي: في الصحيحين وغيرهما، وتوفي سنة خمس وأربعين ومائة للهجرة، فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن، وللشواهد المتقدمة يرتقي إلى درجة الصحة، فالحديث ثابت من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها، ومن رواية ابن عباس ، ومن رواية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).

إذاً هو عليه الصلاة والسلام أحسن الخليقة خلقاً مع الخلق، وهذا يظهر بصورة جلية واضحة مع أهله وأسرته عليه صلوات الله وسلامه.

أما الأمر الأول إخوتي الكرام فيما يتعلق بأن نبينا عليه الصلاة والسلام هو كما تقدم معنا أحسن الخليقة خلقاً، فما خلق الله ولا ذرأ مخلوقاً أجمل من نبينا عليه الصلاة والسلام، تقدم معنا كأن الشمس تجري في جبهته عليه الصلاة والسلام، ونور القمر ليلة البدر يتضاءل عند نور وجهه عليه صلوات الله وسلامه، وكما تقدم معنا هذا في خلق نبينا الشريف عليه صلوات الله وسلامه.

وأما خلقه عليه الصلاة والسلام فكذلك، فهو أنفع الخلق للخلق عليه صلوات الله وسلامه، وهو أرحم الخلق بالخلق عليه صلوات الله وسلامه، وإذا كان كذلك فأزواجه اللائي يعشن معه عليه وعليهن صلوات الله وسلامه ينبغي أن يكون لهن من ذلك الخلق.. من تلك الرأفة والرحمة وحسن المعاملة، أن يكون لهن من ذلك النصيب الأوفى، وهذا الذي حصل من نبينا عليه الصلاة والسلام لأمهاتنا زوجاته الطاهرات المطهرات الكريمات على نبينا وعليهن صلوات الله وسلامه.

وليس حسن الخلق إخوتي الكرام كما يفهم كثير من الناس كف الأذى، لا، حسن الخلق احتمال الأذى، وبذل الندى، تبذل المعروف ثم تتحمل بعد ذلك من هذا المخلوق ما يجري عليك من جهل وتقصير، وحقيقةً سنستعرض هذا في الأمر الثالث، وكيف كان يجري منهن ما لا تنفك عنه الطبيعة البشرية، فمهما كان حالهن فيهن ما فيهن، وصدر نبينا عليه الصلاة والسلام يتسع لهن، وصدره أوسع من السموات والأرض عليه صلوات الله وسلامه حلماً ورحمةً ورأفةً عليه صلوات الله وسلامه، ويجري منهن أحياناً بعض التصرفات، حقيقةً لعلها لو جرت لبعضنا من زوجاته لما صبر، وأين نحن من نبينا عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يحلم ويصبر ويشفق ويرحم عليه صلوات الله وسلامه مع ما يجري منهن ويداعبهن، وهو الصورة المثلى للزوج الكريم في تلك البيوت الطاهرة المباركة المشرفة على نبينا صلوات الله وسلامه.

ولا يستبعد هذا إخوتي الكرام من خلق نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو الذي أوصانا بالنساء في مناسبات كثيرة آخرها أعظم مناسبة شهدها النبي عليه الصلاة والسلام مع أمته في حجة الوداع، في تلك المناسبة العامة الشهيرة العظيمة الكثيرة يذكر بعشرة النساء والرفق بهن والحديث ثابت في صحيح مسلم وسنن أبي داود وابن ماجه ، ومسند الدارمي من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة يوم عرفة في حجة الوداع في خطبته الطويلة الشهيرة: (فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، اتقوا الله في النساء، أحسنوا صحبتهن، وعشرتهن، ومعاملتهن، واقتدوا بنبينا عليه الصلاة والسلام بذلك، (أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، وهي قول الله: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] ، بكلمة الله وهي لا إله إلا الله.. كلمة التوحيد، فلولا أنكم على التوحيد لما حل لكم النساء الصالحات المؤمنات، (بكلمة الله) بقول الله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، بالكلمة التي أمر الله بها عند اتصال الرجل بالمرأة عن طريق ما أحل ألا وهي الإيجاب والقبول، (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، هذا في أعظم اجتماع يقوله خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

وهذه العشرة الطيبة سيأتينا إيضاحها في حياة نبينا عليه الصلاة والسلام إنما قلت أن حسن الخلق لا أن تكف أذاك، إنما أن تحتمل الأذى من غيرك، يقع عليك وأنت تحتمل، وهذا حال نبينا عليه الصلاة والسلام، وسيأتينا حديث الصحيحين إنما أذكره الآن محل الشاهد في هذه الجزئية، وسيأتينا ضمن المبحث الثالث من هذه الأمور الأربعة، الحديث في الصحيحين وفي سنن الترمذي والنسائي من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (قال عمر بن الخطاب رضوان الله عليهم أجمعين: كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما هاجرنا إلى المدينة المنورة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم)، الأمر انعكس، كان الرجال يغلبون النساء في مكة معشر قريش، فلما جاءوا إلى الأنصار وجدوا أن النساء يغلبن الرجال، (قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فطفق نساؤنا يتعلمن من أزواج هؤلاء الرجال -يعني: من النسوة من أجل أن تغلب الواحدة الرجل منا- فتغضبت يوماً على امرأتي فردت في وجهي الكلام، فأنكرت ردها، فقالت: علام تنكر علي ونساء النبي عليه الصلاة والسلام يراجعنه الكلام وتهجره الواحدة منهن يوماً إلى الليل؟ يقول: فدخلت على حفصة لأسألها قلت: أتراجعن النبي عليه الصلاة والسلام الكلام وتهجرنه يوماً إلى الليل؟ فقالت حفصة : نعم نراجعه الكلام، ونهجره اليوم إلى الليل، فقال: لقد خبتن وخسرتن) كما سيأتي الحديث بكامله.

انظر لهذا الخلق لنبينا عليه الصلاة والسلام، خير خلق الله، تتبرك الملائكة برؤيته وصحبته، ويتشرف الجماد بمشي نبينا عليه الصلاة والسلام عليه، فهو خير العباد، ومع ذلك أمهاتنا لا أقول من باب طياشتهن لكن هذا هو حال القصور البشري والضعف الإنساني، يجري منهن أحياناً ما يجري، فيتسع صدره عليه الصلاة والسلام ويحمل، ثم هو الذي يبدأ بعد ذلك عليه الصلاة والسلام بالمصالحة وحسن الكلام على نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام، ولا يستبعد هذا ممن نعته الله جل وعلا بأنه رءوف رحيم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:128-129].