مباحث النبوة - خلُق النبي صلى الله عليه وسلم مع أسرته


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! كنا نتدارس الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وقلت: إن الأمور التي تدل على صدق أنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه في أنهم رسل الله حقاً وصدقاً، الأمور التي تدل على ذلك كثيرة وفيرة يمكن أن نجمعها في أربعة أمور:

أولها: النظر إلى حال النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه، في خلقه وخلقه.

والأمر الثاني: النظر إلى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، والشريعة التي بعث بها وبلغها إلى الناس.

والأمر الثالث: المعجزات التي أيده الله بها، والكرامات التي أكرمه الله بها.

وآخر الأمور الأربعة: النظر إلى حال أصحابه، فهم صورةٌ لقائدهم ونبيهم وهاديهم على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.

إخوتي الكرام! كنا نتدارس الأمر الأول، وقد انتهينا من أحد شقيه مدارسةً وتفصيلاً وتحليلاً، ألا وهو النظر إلى حال النبي عليه الصلاة والسلام في خلقه، فالله أعطى رسله الكرام على نبينا وعليهم جميعاً الصلاة والسلام أعطاهم الكمال في خلقهم، وفي خلقهم، فخلقهم أحسن خلق، جمع حلاوةً ومهابةً، وخلقهم أحسن خلق، جمع أيضاً مهابةً وحلاوةً عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

تقدم معنا -إخوتي الكرام- ما يتعلق ببيان خلق أنبياء الله ورسله، وبينت على سبيل التخصيص خلق نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وأنه كان أفضل المخلوقات خلقاً، بهاءً وملاحةً عليه صلوات الله وسلامه.

ثم انتقلنا بعد ذلك في الموعظة الماضية إلى دراسة الشق الثاني من الأمر الأول الذي نعرف به صدق النبي والرسول على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، والأمر الثاني: النظر إلى خلق النبي عليه الصلاة والسلام.

وبينت في الموعظة الماضية أن الكمال كما حصل لجميع أنبياء الله ورسله في خلقهم، حصل لهم الكمال أيضاً في خُلُقهم، فنبينا عليه صلوات الله وسلامه على خلقٍ عظيم، وقلت: يستحيل الإحاطة بخلق نبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه، كما يستحيل الإحاطة بجميع معاني القرآن العظيم، كما تقدم معنا الدلالة في أثر أمنا عائشة رضي الله عنها على هذه القضية في الموعظة الماضية.

إخوتي الكرام! قلت: مع جزمنا باستحالة وقوفنا على كمال خلق النبي عليه الصلاة والسلام على وجه الإحاطة والاستقصاء والتمام والكمال، مع جزمنا بذلك، وأننا عندما نتكلم على خلقه، ونعرف فضائله عليه صلوات الله وسلامه في خلقه الحسن، فإننا نتعرف على قطرةٍ من بحر، كما هو الحال عندما نفسر كلام الله جل وعلا نفسره على حسب استطاعتنا، ولا يعلم المعنى على وجه التمام والكمال كما يليق بهذا الكلام إلا ربنا الرحمن، وهكذا لا يمكن لبشرٍ أن يحيط بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام على وجه التمام والكمال، لكن قلت: سنتدارس بعض الأمور التي يتضح لنا منها حسن خلق نبينا الرسول عليه صلوات الله وسلامه، والتي تقرر جلياً واضحاً أنه رسول الله حقاً وصدقاً عليه صلوات الله وسلامه.

هذه الأمور -إخوتي الكرام- قلت: تنقسم إلى قسمين: فحسن الخلق إما أن يكون مع الحق، أو مع الخلق، وحسن الخلق تقدم معنا تعريفه باختصار وأنه: هيئةٌ راسخةٌ في النفس تصدر عنها الأفعال الحسنة بسهولةٍ من غير فكرٍ ولا روية، وهذه الأفعال الحسنة إما أن تكون مع الحق جل وعلا، وإما أن تكون مع الخلق، فسنتدارس خلق نبينا عليه صلوات الله وسلامه مع ربه ومع خلق الله سبحانه وتعالى.

وقلت: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع الخلق يتضح بعدة أمورٍ لا بد من الكلام عليها كما ذكرت، أولها: خلقه مع أسرته أزواجه وآل بيته عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وخلقه مع أصحابه وأمته عليه وعلى أمته وأصحابه وأتباعه إلى يوم القيامة صلوات الله وسلامه، وخلقه مع الملائكة الكرام عليه وعليهم جميعاً الصلاة والسلام، وخلقه مع أعدائه من شياطين الإنس والجن، كيف كان يعاملهم ويظهر حسن خلقه معهم عليه صلوات الله وسلامه، ومعاملته عليه صلوات الله وسلامه للحيوانات والجمادات.

كل هذا -إخوتي الكرام- لا بد من بحثه للوقوف على حسن خلق نبينا عليه صلوات الله وسلامه، فلنبدأ بما هو أظهر هذه الأمور للناس، وهو الذي يكشف بصورةٍ واضحة خلق الإنسان، وهذا الأمر يعين نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام ويقررها على وجه الكمال والتمام، ألا وهو خلقه مع أهله عليه صلوات الله وسلامه، وكما قلت سأبدأ بمدارسة خلقه مع المخلوقات قبل أن نتدارس خلقه مع رب الأرض والسموات، فهذا هو ما سوف نختم به الكلام على خلق نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وماذا كان يبذل من معاملةٍ مع الله جل وعلا، يظهر فيها أنه عبدٌ لله حقاً وصدقاً، وأنه قام بمقتضى العبودية، ولم يقم بذلك كما قام به نبينا عليه الصلاة والسلام أحدٌ من البرية، فهو أكمل العباد عند الله جل وعلا في الخلق وفي الخلق، في معاملته مع العباد، وفي معاملته مع رب العباد على نبينا صلوات الله وسلامه.

الفضل والإحسان خير من العدل في الحياة الزوجية

إخوتي الكرام! كما قلت: أظهر ما يعين حسن خلق الإنسان عندما يتعامل مع المخلوقات خصوص معاملته مع أهله، فهذا حقيقةً يظهر لك وضع الإنسان، وهل هو حسن الخلق أو في خلقه شراسةٌ وسوء؟ وكنت ذكرت في مواعظ سابقة أنه يوجد حالتان لا يستقيم فيهما العدل، وإذا تعامل الناس فيهما على حسب العدل، أو إذا وقعت المعاملة فيهما على حسب العدل فلن تحصل السعادة، ولن يحصل الارتياح، ولن يحصل السرور، فلا بد من المعاملة فيهما على حسب الفضل، أول هاتين الحالتين: الحياة الزوجية، إذا دخل العدل فيها وذهب الفضل، وكل واحدٍ يحاسب صاحبه على النقير والقطمير، فهذه حياة سوء، ولن يستريح فيها أحد الزوجين على الإطلاق، وكل من في البيت سيكون في نصب وشقاق، كل واحدٍ يحاسب صاحبه على كل صغيرة وكبيرة، هذا قد يكون في أمور المبايعات، عندما تشتري من الدكان تتحاسبون على النقير والقطمير، فيمكن أن يحصل حساب على الأمور التافهة الصغيرة بينك وبين غيرك في أمور المعاملات التي مبناها على المماسكة والمخاصمة والشح، وكل واحدٍ يريد أن يأخذ حقه كاملاً، أما الحياة الزوجية فهي مبنيةٌ على المساهلة والمسامحة، فإذا ما ظهر فيها حسن الخلق لن يظهر في غيرها حسن الخلق من بابٍ أولى، ومن عدم حسن الخلق في معاملته مع أسرته، فلن يحصل عنده حسن خلقٍ في معاملة لغيره من باب أولى.

الحالة الثانية: الآخرة، كل من حوسب يوم القيامة بالعدل هلك وإلى جهنم وبئس المصير، فنسأل الله أن يعاملنا بفضله لا بعدله، وكل من حوسب ووضع الله عليه عدله فقد ألقاه على وجهه في نار جهنم، ولذلك فالجنة دار الفضل، والنار دار العدل، فلا يوجد ظلمٌ ولا جور في أفعال الله: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، ما عذب أحدٌ إلا بعدل الله، وما نعم أحدٌ إلا بفضل الله، ما أحدٌ يدخل الجنة بعمله ولا يؤهله ذلك لدخولها مهما عمل، إنما هذا محض فضل من الله عز وجل، نعم، أهل الجنة يقتسمون الدرجات بعد ذلك بأعمالهم، هذا شيءٌ آخر، أما دخولها فهذه رحمة الله يرحم بها من يشاء، فنسأل الله أن يعاملنا بفضله وجوده وكرمه ورحمته في الآخرة، وأن يجعلنا ممن يتعاملون مع أهليهم وأولادهم وأصحابهم بالفضل أيضاً في هذه الحياة الدنيا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

المودة والرحمة بين الزوجين

فالفضل -كما قلت- لا بد منه في الحياة الزوجية، ولا بد منه في ساحة الحساب، إذا وجد العدل وذهب الفضل في الحياة الزوجية صارت نكداً، وإذاً وجد العدل وذهب الفضل في محاسبة الله لعباده هلك العباد، وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا الجانب في الحياة الزوجية في سورة الروم فقال جل وعلا: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]، (لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)، ليحصل السكن والاستقرار وهدوء النفس وراحة البال، (وجعل بينكم)، قوله: (بينكم)، إما أن يكون من باب التغليب، تغليب الأزواج من الذكور على الأزواج من النساء، أي: جعل بينكم يا معشر الأزواج من رجالٍ ونساء، وإما أن يكون المعطوف محذوفاً على المعطوف عليه المذكور، أي: وجعل بينكم وبينهن مودةً ورحمة.

ثم قال بعد ذلك: (وجعل بينكم مودة) ولم يقل: حباً؛ لأن الود هو منتهى الحب، خالص الحب، تمام الحب، إذا كمل الحب يقال له: ود، فكأن الله جل وعلا يقول: ينبغي أن يحصل في الحياة الزوجية أتم أنواع الحب ألا وهو الود، (وجعل بينكم مودةً ورحمة)، ثم هذا الود أيضاً ينبغي أن يصاحبه رحمةٌ وحنوٌ وشفقةٌ ورقةٌ من أحد الزوجين على الآخر، (وجعل بينكم مودةً ورحمة)، رفق الراحم وعطفه بمن يرحمه ويحبه.

وهذا هو المراد من الود والرحمة، ولا يصح قولٌ غير هذا، وأما ما نقل في بعض كتب التفسير أن ذلك كناية عن الوطء؛ لأنه يحصل بذلك الحب والود، وميل كل زوجٍ إلى زوجه، (ورحمة)، قال: إشارة إلى الولد؛ لأنه يتراحم الزوجان بسبب الولد، هذا كلامٌ باطل، وأبطل منه من قال: (وجعل بينكم مودةً) هذا للشابة، فيحصل بينها وبين زوجها مودة، (ورحمة) للعجوز الكبيرة، يعني: لا يوجد في قلبه محبة نحوها، لكنه يرحمها ويعطف عليها ولا يفارقها، هذا كلامٌ باطل.

(وجعل بينكم مودةً) يا معشر الأزواج! جعل بينكم وبينهن هاتين الصفتين المعتبرتين، أي: أمركم بأن تحافظوا عليهما، (وجعل بينكم مودة) وهو منتهى الحب وخالصه وكماله وتمامه، ورحمة عطف الراحم على من يحبه ويرحمه وشفقته عليه، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].

فإذا وجدت هاتان الصفتان استقرت الحياة الزوجية على وجه الكمال والتمام، فانتبه لحياة نبينا عليه الصلاة والسلام مع أزواجه في بيته عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه.

إخوتي الكرام! كما قلت: أظهر ما يعين حسن خلق الإنسان عندما يتعامل مع المخلوقات خصوص معاملته مع أهله، فهذا حقيقةً يظهر لك وضع الإنسان، وهل هو حسن الخلق أو في خلقه شراسةٌ وسوء؟ وكنت ذكرت في مواعظ سابقة أنه يوجد حالتان لا يستقيم فيهما العدل، وإذا تعامل الناس فيهما على حسب العدل، أو إذا وقعت المعاملة فيهما على حسب العدل فلن تحصل السعادة، ولن يحصل الارتياح، ولن يحصل السرور، فلا بد من المعاملة فيهما على حسب الفضل، أول هاتين الحالتين: الحياة الزوجية، إذا دخل العدل فيها وذهب الفضل، وكل واحدٍ يحاسب صاحبه على النقير والقطمير، فهذه حياة سوء، ولن يستريح فيها أحد الزوجين على الإطلاق، وكل من في البيت سيكون في نصب وشقاق، كل واحدٍ يحاسب صاحبه على كل صغيرة وكبيرة، هذا قد يكون في أمور المبايعات، عندما تشتري من الدكان تتحاسبون على النقير والقطمير، فيمكن أن يحصل حساب على الأمور التافهة الصغيرة بينك وبين غيرك في أمور المعاملات التي مبناها على المماسكة والمخاصمة والشح، وكل واحدٍ يريد أن يأخذ حقه كاملاً، أما الحياة الزوجية فهي مبنيةٌ على المساهلة والمسامحة، فإذا ما ظهر فيها حسن الخلق لن يظهر في غيرها حسن الخلق من بابٍ أولى، ومن عدم حسن الخلق في معاملته مع أسرته، فلن يحصل عنده حسن خلقٍ في معاملة لغيره من باب أولى.

الحالة الثانية: الآخرة، كل من حوسب يوم القيامة بالعدل هلك وإلى جهنم وبئس المصير، فنسأل الله أن يعاملنا بفضله لا بعدله، وكل من حوسب ووضع الله عليه عدله فقد ألقاه على وجهه في نار جهنم، ولذلك فالجنة دار الفضل، والنار دار العدل، فلا يوجد ظلمٌ ولا جور في أفعال الله: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، ما عذب أحدٌ إلا بعدل الله، وما نعم أحدٌ إلا بفضل الله، ما أحدٌ يدخل الجنة بعمله ولا يؤهله ذلك لدخولها مهما عمل، إنما هذا محض فضل من الله عز وجل، نعم، أهل الجنة يقتسمون الدرجات بعد ذلك بأعمالهم، هذا شيءٌ آخر، أما دخولها فهذه رحمة الله يرحم بها من يشاء، فنسأل الله أن يعاملنا بفضله وجوده وكرمه ورحمته في الآخرة، وأن يجعلنا ممن يتعاملون مع أهليهم وأولادهم وأصحابهم بالفضل أيضاً في هذه الحياة الدنيا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

فالفضل -كما قلت- لا بد منه في الحياة الزوجية، ولا بد منه في ساحة الحساب، إذا وجد العدل وذهب الفضل في الحياة الزوجية صارت نكداً، وإذاً وجد العدل وذهب الفضل في محاسبة الله لعباده هلك العباد، وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا الجانب في الحياة الزوجية في سورة الروم فقال جل وعلا: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]، (لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)، ليحصل السكن والاستقرار وهدوء النفس وراحة البال، (وجعل بينكم)، قوله: (بينكم)، إما أن يكون من باب التغليب، تغليب الأزواج من الذكور على الأزواج من النساء، أي: جعل بينكم يا معشر الأزواج من رجالٍ ونساء، وإما أن يكون المعطوف محذوفاً على المعطوف عليه المذكور، أي: وجعل بينكم وبينهن مودةً ورحمة.

ثم قال بعد ذلك: (وجعل بينكم مودة) ولم يقل: حباً؛ لأن الود هو منتهى الحب، خالص الحب، تمام الحب، إذا كمل الحب يقال له: ود، فكأن الله جل وعلا يقول: ينبغي أن يحصل في الحياة الزوجية أتم أنواع الحب ألا وهو الود، (وجعل بينكم مودةً ورحمة)، ثم هذا الود أيضاً ينبغي أن يصاحبه رحمةٌ وحنوٌ وشفقةٌ ورقةٌ من أحد الزوجين على الآخر، (وجعل بينكم مودةً ورحمة)، رفق الراحم وعطفه بمن يرحمه ويحبه.

وهذا هو المراد من الود والرحمة، ولا يصح قولٌ غير هذا، وأما ما نقل في بعض كتب التفسير أن ذلك كناية عن الوطء؛ لأنه يحصل بذلك الحب والود، وميل كل زوجٍ إلى زوجه، (ورحمة)، قال: إشارة إلى الولد؛ لأنه يتراحم الزوجان بسبب الولد، هذا كلامٌ باطل، وأبطل منه من قال: (وجعل بينكم مودةً) هذا للشابة، فيحصل بينها وبين زوجها مودة، (ورحمة) للعجوز الكبيرة، يعني: لا يوجد في قلبه محبة نحوها، لكنه يرحمها ويعطف عليها ولا يفارقها، هذا كلامٌ باطل.

(وجعل بينكم مودةً) يا معشر الأزواج! جعل بينكم وبينهن هاتين الصفتين المعتبرتين، أي: أمركم بأن تحافظوا عليهما، (وجعل بينكم مودة) وهو منتهى الحب وخالصه وكماله وتمامه، ورحمة عطف الراحم على من يحبه ويرحمه وشفقته عليه، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].

فإذا وجدت هاتان الصفتان استقرت الحياة الزوجية على وجه الكمال والتمام، فانتبه لحياة نبينا عليه الصلاة والسلام مع أزواجه في بيته عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه.

ثبت في المسند والصحيحين، والحديث رواه أبو داود في السنن، ورواه الإمام مالك في الموطأ، والبيهقي في دلائل النبوة، من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله), والحديث كما قلت في الصحيحين وغيرهما من رواية أمنا عائشة ، ورواه البزار والطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وانظروا رواية البزار ومعجم الطبراني الأوسط في مجمع الزوائد في الجزء التاسع صفحة خمس عشرة.

إذاً: هذا خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله ومع غيرهم، لكن مع الأهل لهن هذا النصيب الأكبر، (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وما انتقم لنفسه عليه صلوات الله وسلامه قط)، هذا الأمر لا بد له من واقع عملي في الحياة الزوجية، فاستمع لكلام أمنا عائشة رضي الله عنها، ثبت في المسند وسنن أبي داود ، وكتاب دلائل النبوة للإمام البيهقي ، والحديث رواه مسلم في صحيحه، فهو صحيحٌ، من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده، ولا امرأةً ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله، وما نيل منه شيءٌ فينتقم من صاحبه)، سبحان الله! يموت نبينا عليه صلوات الله وسلامه عن تسع نسوة، ويجري بينهن أحياناً ما يجري في حياته مع أهله عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، ثم بعد ذلك لا ينتقم لنفسه قط، طوال حياته ما ضرب بيده امرأة من نسائه عليه صلوات الله وسلامه، وسيأتينا حقيقة الرفق الذي كان يتحلى به هذا الرءوف الرحم على نبينا صلوات الله وسلامه، يعني بحيث لا يمكن أن يصل بشرٌ إلى هذا إلا اصطنعه الله لنفسه، ونشأه بعد ذلك تنشئةً خاصةً، وهذا هو الذي يحصل في أنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

إذاً: ما ضرب عليه صلوات الله وسلامه شيئاً قط بيده لا امرأةً ولا خادماً إلا إذا جاهد في سبيل الله عليه صلوات الله وسلامه.

وكيف يحصل هذا الضرب والانتقام للناس وفي قلبه ودٌ ورحمة، وهذا الأمر قد طولب به الناس، فكيف بإمام الأكياس وأفضل الناس عليه صلوات الله وسلامه؟! هل يتصور من هذا النبي الكريم عليه صلوات الله وسلامه أن يضرب امرأةً؟ لا يمكن أبداً، أو أن يضرب خادماً، أو أن يعنف، أو أن يوبخ من أجل حاجة نفس، أو مصلحةٍ دنيوية، أو أمرٍ لا محظور فيه؟! لا ثم لا، التعنيف يكون عندما تنتهك حرمات الله، أما أن يجري من الزوجة نحوه ما يجري، فهذه حياةٌ دنيوية، ولا بد من أن يتحمل كل واحدٍ صاحبه في الله جل وعلا.

هذا حال النبي عليه الصلاة والسلام.

النبي عليه صلوات الله وسلامه هو خير خلق الله، وأفضل البشر على الإطلاق، وأفضل من الملائكة الكرام عليه صلوات الله وسلامه، فماذا كان يعمل في بيته، هل كان يخدمه أحد، أو يقوم بخدمة نفسه عليه صلوات الله وسلامه؟ اسمع لهذا الخلق العالي الرفيع الذي اتصف به نبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه.

ثبت في المسند وصحيح البخاري وسنن الترمذي عن الأسود بن يزيد رضي الله عنه قال: (قلت لأمنا عائشة رضي الله عنها: أخبريني ماذا يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في بيته)، يعني نحن نرى من خلقه خارج البيت عجباً، لكن في داخل البيت أخبريني ماذا يعمل؟ هذا الخلق الحسن الذي نحن اطلعنا عليه في الظاهر حتماً في الباطن أحسن منه، فماذا يعمل خير خلق الله، وأفضل رسل الله عليه صلوات الله وسلامه، إذا كان معك ومع نسائه في بيوته؟ (فقالت أمنا عائشة رضي الله عنها: كان يكون في مهنةِ أهله)، بكسر الميم وفتحها، أي: خدمة أهله، (كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)، عليه صلوات الله وسلامه، يكون في مهنة أهله، يزاول أمور البيت داخل البيت، هذا هو النبي الكريم عليه صلوات الله وسلامه.

وضحي لنا أكثر يا أمنا الطاهرة المباركة المطهرة، هذه المهنة ماذا تقصدين بها؟ ماذا كان يصنع؟ انتبه لهذه المهنة التي كان يقوم بها خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه في بيته لا كسلاً من نسائه، كما إذا كان بين أصحابه يقوم أيضاً عليه صلوات الله وسلامه بالعمل لا كسلاً من أصحابه، إنما هذا حسن خلقٍ منه عليه صلوات الله وسلامه، كل واحدةٍ تفديه بنفسها، وكل صحابيٍ يفديه بنفسه عليه صلوات الله وسلامه، لكن يأبى إلا أن يظهر هذا الحسن في خلقه عليه صلوات الله وسلامه، وأن يقوم بخدمة أهله وأصحابه عليه صلوات الله وسلامه.

ثبت في المسند وصحيح ابن حبان ، والحديث رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي في الشمائل المحمدية على نبينا صلوات الله وسلامه، والبيهقي في دلائل النبوة، وإسناد الحديث صحيح عن أمنا عائشة أيضاً رضي الله عنها وأرضاها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه)، (يفلي ثوبه)، أي: ينظفه عليه صلوات الله وسلامه، ويزيل عنه ما أصابه من أذى فهو الذي يتعهد ثوبه وينظفه.

(ويحلب شاته)، الشاة الموجودة يقوم بحلبها عليه صلوات الله وسلامه بيده الشريفة، ولا يكلف نساءه بذلك، بل يخدم نفسه، إذا أراد أن يشرب لا يقول لزوجته: ناوليني قدحاً من ماء، إنما يقوم ويشرب عليه صلوات الله وسلامه، وإذا أراد حاجةً يقوم ويقضيها بنفسه، هذا هو خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، الذي يتقرب الحجر إلى الله بخدمته، ويتقرب إلى الله بالتبرك بفضلاته عليه صلوات الله وسلامه، ومع ذلك يأبى إلا أن يخدم نفسه، وأن يحلب شاته، وأن يفلي ثوبه، عليه صلوات الله وسلامه، وصدق الله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فمع أنه متزوج بتسع نسوة إلا أنه يأبى إلا أن يخدم نفسه في البيت ويتعهد أموره ولا يطلب هذا من أحد عليه صلوات الله وسلامه، هذا خلقه في بيته عليه صلوات الله وسلامه، فهل يتصور من هذا النبي الكريم عليه صلوات الله وسلامه أن يلوح بيده لخادمٍ أو امرأة؟ حاشا وكلا!

وثبت في المسند وصحيح ابن حبان ، والأثر رواه البيهقي في دلائل النبوة أيضاً، وابن سعد في الطبقات، وإسناده حسن أيضاً، عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويخيط ثوبه)، زاد ابن حبان في روايته: (ويرقع دلوه)، والدلو هو الذي يستقون به، إذا تخرق يرقعه ويخيطه بنفسه عليه صلوات الله وسلامه، وكذلك ثوبه يأخذ الإبرة ويرقع ذلك الثوب خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه.

(ويخصف نعله) إذا احتاج النعل إلى غرز إلى تثبيت فهو الذي يفعل ذلك عليه صلوات الله وسلامه، هذا خلق النبي عليه الصلاة والسلام، مع أنه لو طلب من الصحابة الكرام، بل لو طلب لو علم الصحابة بحاجته لاستبقوا إلى خدمته، لكن يقوم عليه صلوات الله وسلامه بهذه الأمور لتظهر أخلاقه الحسنة الطيبة عليه صلوات الله وسلامه.

وعنده أيضاً سرية عليه صلوات الله وسلامه، وعنده نساء، وعنده أمة، وعنده من يتطوع ويتبرك بخدمته من الصحابة، ثم هو لا يكلف أحداً بذلك، إذا تخرق الدلو قام برقعه، والثوب إذا انفتق قام بإصلاحه وخياطته، وقد أدركت بعض شيوخنا الكرام الطيبين الطاهرين وهو الشيخ عبد الرحمن زين العابدين ، وهو من آل البيت الكرام الطيبين الطاهرين على نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه، عندما كان يدرسنا في الثانوية الشرعية، رأيته مرة انقطع أحد أزراره في الفصل، فأخرج إبرة من جيبه وبدأ يخيط ذلك الزر ويثبته مكانه، وأنا على يقين أنه يفعل هذا في بيته، فلو قدر أن هذا وقع له في بيته لا يكلف أحداً، بل هو الذي يخيط ثوبه، وهو الذي إذا انفتق يرقعه، مع أنه شيخٌ كبير وقور صالحٌ جليل، لكن يأخذ هذا الخلق من جده رسول الله عليه صلوات الله وسلامه.

وفي كتاب الإكليل للإمام الحاكم كما ذكر هذا الحافظ في الفتح في الجزء الثاني صفحة ثلاثٍ وستين ومائة، زاد على الرواية المتقدمة عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (ولا رأيته ضرب بيده امرأةً ولا خادماً)، وتقدم معنا هذا في الروايات المتقدمة وهي ثابتة عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه، هذا خلق النبي عليه الصلاة والسلام في بيته، وهو خير خلق الله، وأكرم الخلق على الله عليه صلوات الله وسلامه.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مباحث النبوة - الرضاعة حق للطفل 3292 استماع
مباحث النبوة - أزواج المؤمنين في جنات النعيم 3249 استماع
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [1] 3227 استماع
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [1] 3203 استماع
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [3] 3160 استماع
مباحث النبوة - صفات النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً وخلُقاً 3149 استماع
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [2] 3119 استماع
مباحث النبوة - كرم النبي صلى الله عليه وسلم وجوده 3086 استماع
مباحث النبوة - قوت النبي صلى الله عليه وسلم [1] 3002 استماع
مباحث النبوة - ضرب المرأة بين المنع والإباحة 2946 استماع