خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/122"> الشيخ عبد الرحيم الطحان . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/122?sub=8329"> سلسلة مباحث النبوة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
مباحث النبوة - غذاء الرسول صلى الله عليه وسلم [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس المبحث الثالث من مباحث النبوة، الذي دار حول بيان الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.
وهذه الأمور -إخوتي الكرام- مع كثرتها وتعددها وتنوعها يمكن أن أجملها في أربعة أمور: أولها: النظر إلى حال النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه في خَلقه وخُلقه، وثانيها: النظر إلى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام وشريعته التي بعث بها وبلغها، وثالث الأمور: النظر إلى معجزات النبي عليه الصلاة والسلام والكرامات التي أيده الله بها وخرق له بها العادة، ورابع الأمور: النظر إلى حال أصحابه وأتباعه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
وقد كنا نتدارس الأمر الأول من هذه الأمور ألا وهو: النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه في خَلقه وخُلقه، وقد تقدم معنا الكلام مفصلاً على ما يتعلق بالشق الأول من هذا الأمر، أعني الكلام على خَلق النبي عليه الصلاة والسلام، وبينت وجه دلالة ذلك على صدق نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، فالله أعطى رسله أجمعين على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه الكمال في خلقهم وفي خلقهم، فمنحهم الجمال والجلال في الأمرين على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.
وشرعنا بعد ذلك -إخوتي الكرام- في مدارسة الشق الثاني في خُلق نبينا عليه الصلاة والسلام، وقلت بإيجاز في أول هذا المبحث: لا يمكن لمخلوق أن يحيط بخلق النبي عليه الصلاة والسلام على وجه الكمال والتمام كما أنه لا يمكن لمخلوق أن يحيط بمعاني القرآن على وجه التمام والكمال، فخلق نبينا عليه الصلاة والسلام كان القرآن، ولا يمكن الإحاطة بالأمرين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
إخوتي الكرام! وقلت: لكن إذا أردنا أن نبحث في خلق نبينا عليه الصلاة والسلام حسبما في وسعنا؛ لنصل بعد ذلك إلى الدلالة القاطعة على بحثنا الذي نبحثه ألا وهو صدق النبي عليه الصلاة والسلام في دعوته وفي رسالته، إذا أردنا أن نقف على صدق النبي عليه الصلاة والسلام على حسب ما في وسعنا فينبغي أن نتدارس خلقه مع الحق ومع الخلق، أما خلقه عليه الصلاة والسلام مع الخلق فقلت: يدور حول سبعة أمور:
أولها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع أهله وآل بيته، ثانيها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع أصحابه وأمته وأتباعه، ثالثها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع الملائكة الكرام على نبينا وعليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى السلام، رابعها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع أعدائه اللئام من شياطين الإنس، خامسها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع أعدائه العتاة من شياطين الجن، سادسها: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع الحيوانات، وآخر هذا الأمور وهو سابعها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع الجمادات، وأما خلقه مع الحق مع ربه جل وعلا فقلت: سوف أختم الكلام به على خلق نبينا عليه الصلاة والسلام.
وهذه الأمور السبعة المتعلقة بخلقه عليه الصلاة والسلام مع الخلق كنا نتدارس الأول منها، ألا وهو خلقه عليه الصلاة والسلام مع أهله، وقلت أيضاً هذا الأمر ينبغي أن نتدارسه وأن نعلمه ضمن أربعة أمور، مضى الكلام على اثنين من هذه الأمور الأربعة فيما يتعلق بسكن النبي عليه الصلاة والسلام وحجره، وفيما يتعلق بأثاثه الذي هو في تلك الحجر الشريفة الطيبة المطهرة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام.
ووعدت أن نتدارس في هذه الموعظة من أولها بعد أن انتهينا من الكلام على ما يتعلق بتركة نبينا عليه الصلاة والسلام وإخراج المشركين من جزيرة العرب، أشرع في مدارسة الأمر الثالث، في بيان غذاء النبي عليه الصلاة والسلام وطعامه الذي كان يتناول في حجره بينه وبين أهله عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وإذا انتهينا من هذا الأمور الثلاثة نشرع بعد ذلك في كيفية معاملته لمن معه في بيته عليه الصلاة والسلام.
وأما هذه الأمور الثلاثة فهي -كما قلت- ضرورية للأمر الرابع، وكما تقدم معنا حال المسكن وحال الأثاث فسيأتي معنا أن حال الطعام كذلك، وليس في بيت نبينا عليه الصلاة والسلام ما يرغب من حيث الدنيا، لا في السكن ولا في الأثاث ولا في القوت والطعام، وعليه عندما جلس نساؤه على نبينا وعليهن صلوات الله وسلامه معه لو لم يعلمن أنه رسول الله حقاً وصدقاً لما جلست الواحدة منهن معه طرفة عين عليه الصلاة والسلام، وسيأتينا بيان القوت وقد مر معنا بيان السكن، ولو رفع الإنسان يده لنال السقف، ولو مد رجليه إلى أي جهة من الجهات لنال الجدار، وأما الأثاث فتقدم معنا ماذا يوجد في ذلك البيت الصغير المتواضع من أثاث، الفراش من أدم حشوه ليف، هذا هو بيت النبوة على نبينا صلوات الله وسلامه.
أما الطعام فطعام النبي عليه الصلاة والسلام على حسب حجره وأثاثه عليه الصلاة والسلام، كما كان المسكن بمقدار الضرورة، والأثاث بمقدار الضرورة، وقلت: لقد جعل سكنه في هذه الحياة سكن من جعل الدنيا معبراً ولم يتخذها مقراً، وجعل أثاثه في هذه الحياة كأثاث وكزاد المسافر، وأما الطعام فهو أيضاً على هذه الشاكلة، وعندما نتدارس طعام النبي عليه الصلاة والسلام سنرى عجباً عجاباً، ولا عجب في بيت النبوة، فهذا هو حال من أعطى الدنيا قدرها ورجا ما عند الله جل وعلا من نعيم عظيم.
إخوتي الكرام! تقدم معنا حال سكن النبي عليه الصلاة والسلام وأثاثه، ودائماً كنت أذكر ما بين الحين والحين أن ذلك الوضع اختاره نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام لا لفقر عنده ولا لبخل فيه، فقد أعطاه الله من الغنى ما لم يملكه أحد، لكنه آثر غيره به ورضي بما تقدم معنا من مسكن متواضع وأثاث قليل، وهكذا القوت والطعام الذي كان يقدم في تلك الحجر المباركة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه أيضاً كان بتلك الصفة، طعام بمقدار الضرورة، بحيث يحفظ البدن من الهلاك والتلف، فكان عليه الصلاة والسلام يختار الدون من حيث نوعية الطعام، كما يختار القلة من حيث مقدار الطعام، طعام دون من حيث النوعية، وطعام قليل من حيث الكمية.
فجمع بين الدون غير المرغوب فيه وبين القليل اليسير، هذا هو طعام البشير النذير عليه صلوات الله وسلامه، وقد كان يسأل ربه ذلك، ولا يريد توسعة، إذا جاءه صرفه مباشرة عليه صلوات الله وسلامه.
ثبت في المسند والصحيحين، والحديث رواه الترمذي وابن ماجه في السنن ورواه البيهقي في دلائل النبوة، ورواه البيهقي أيضاً في شعب الإيمان، ورواه البيهقي أيضاً في السنن الكبرى، ورواه البيهقي أيضاً في الأربعين في حال عباد الله المتصوفين الصادقين، بإسناد صحيح كالشمس، ورواه الإمام أبو الشيخ في كتاب أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، ورواه الإمام حماد بن إسحاق في كتاب تركة النبي عليه الصلاة والسلام، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً )، وفي رواية: ( اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً )، كان يسأل ربه هذا، أن يرزقه طعاماً يقيته ويقيت أهله ويكف نفسه وأهله عن سؤال الغير، ويكون بمقدار الكفاية والحاجة، ولو سأل أن تسير معه الجبال ذهباً لسارت عليه صلوات الله وسلامه، والقوت: هو ما يقوم بحاجة الإنسان من الطعام، أي: يحفظك من التلف والمرض والموت، ومعنى الكفاف في الرواية الثانية: (كفافاً): ما كان بمقدار الكفاية وقدر الحاجة وكف عن السؤال، هذا هو سؤال خير خلق الله عليه الصلاة والسلام أن يجعل ربه قوته وقوت عياله بمقدار الكفاية والحاجة لا يزيد ولا ينقص، فإذا نقص الإنسان ضعيف ولا يتحمل، ولا يريد أن يزيد لئلا ينقص من درجاته عند رب الأرض والسماوات. وإنما فعل النبي عليه الصلاة والسلام هذا في قوته وفي أثاثه وفي مسكنه لعدة أمور يمكن أن نجملها في ثلاثة أمور، أتكلم عليها على سبيل الإيجاز، ثم أشرح قوت النبي عليه الصلاة والسلام وأفصل الكلام عليه بمقدار أيضاً.
السبب الأول: حقارة الدنيا ومهانتها وأنها إلى زوال
ففي سنن الترمذي وابن ماجه والحديث رواه البيهقي أيضاً، وقد نص على تحسينه الإمام الترمذي في السنن وهكذا شيخ الإسلام الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، ولفظ الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً, ومتعلماً )، فما أريد به وجه الله خرج من اللعنة، وما عدا هذا فهو مجرم عليه لعنة الله.
والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير بسند لا بأس به كما قال شيخ الإسلام الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام بلفظ: ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما ابتغي به وجه الله منها )، وعليه فلا داعي للتكثر لا في السكن ولا في الأثاث ولا في الطعام. والحديث رواه البزار أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو ذكراً لله عز وجل )، والحديث رواه الإمام الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، وأبو نعيم في الحلية، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها )، والحديث رواه الإمام الدارمي في سننه موقوفاً عن كعب الأحبار رحمه الله ورضي الله عنه، وهو من التابعين الأبرار، فهو من كلامه قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا متعلماً خيراً أو معلمه)، فمن يعلم الخير ومن يتعلمه لا يلعن، وكما تقدم معنا في الروايات أن كل ما أريد به وجه الله خرج عن اللعنة، وما عداه فهو ملعون في هذه الحياة، إذاً هذه حال الدنيا، فهل يستكثر منها العاقل ويتزود منها من عرضها الفاني الذي سيفارقه؟ لا.
ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً للدنيا بطعام ابن آدم إلى أي شيء يصير
فمن ذلك ما تقدم معنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند وابن حبان في صحيحه، والحديث رواه أبو نعيم في حلية الأولياء، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، والإمام البيهقي في الزهد، ورواه الإمام الطيالسي في مسنده، وهو في كتاب الزهد والرقائق لشيخ الإسلام عبد الله بن المبارك ، وكذلك في كتاب الزهد للإمام ابن أبي عاصم ، ورواه سعيد بن منصور في سننه رحمهم الله جميعاً، ولفظ الحديث عن أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن مطعم ابن آدم جعل مثلاً للدنيا، فهو وإن قزحه وملحه فلينظر إلى أي شيء يصير )، قوله: (فهو وإن قزحه)، أي: وضع له القزح وهو التوابل والبهارات من أجل أن تطيب الرائحة: (وملحه): وضع له الملح من أجل أن يطيب طعمه: (فلينظر إلى أي شيء يصير)، هذه حال الدنيا من أولها لآخرها، كحال الطعام الذي تأكله وتخرجه بعد ساعات.
وقد تقدمت معنا روايات الحديث، وقلت: إنه حديث صحيح ثابت رواه الإمام أحمد أيضاً في المسند من رواية الضحاك بن سفيان الكلابي ، ورواه الطبراني في معجمه الكبير من رواية سلمان الفارسي رضي الله عنهم أجمعين.
إذاً: العاقل إذا علم حال الدنيا يقنع باليسير الذي يقيم قوته ويكفي حاجته ويكفه عن سؤال الغير:
اقنع برزق يسير أنت نائله واحذر ولا تتعرض للزيادات
فما صفا البحر إلا وهو منتقص وما تكدر إلا بالزيادات
البحر كلما قلّ مائه صفا، وكلما جاءته الأمطار والسيول من هنا وهناك تكدر وتعفن.
إخوتي الكرام! وقد كان سلفنا الكرام يشيرون إلى هذا المعنى، وينبهوننا على الدوام أن لا نركن إلى هذه الدنيا وأن لا نطلب منها المزيد، وأن نأخذ منها ما يكفينا، وأن نوجه الباقي بعد ذلك بين يدينا لينفعنا عند ربنا جل وعلا، يقول الإمام الحسن البصري كما في حلية الأولياء في الجزء الثاني صفحة ست وثلاثين ومائة في بيان حال الدنيا في مواعظ كثيرة يذكرها عن حال الدنيا في حلية الأولياء:
فمن ذلك يقول: لو كان الخالق جل وعلا لم يخبر عن الدنيا بخبر، ولم يضرب لها مثلاً، ولم يأمر فيها بزهد، أي: ما أخبر عن حالها ولا ضرب لها الأمثال في فنائها وسرعة تقلبها وزوالها ولم يأمرنا بأن نزهد فيها وأن لا نركن إليها، لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل. هي بنفسها وتقلباتها وكل يوم نودع غادياً ورائحاً إلى الله، قد فارق الأحباب ووسد التراب ولقي رب الأرباب، هي بنفسها تنبه الغافل وتوقظ النائم، يقول: فكيف وقد جاء من الله عنها زاجر وفيها واعظ، فما لها عند الله قدر، وليس لها عند الله وزن. فلا تزن مقدار حصاة من الحصى، وليس لها قدر ثراة في الثرى، وهي ذرة الرمل والتراب من جميع الثرى فليس لها هذا الوزن عند الله جل وعلا، ولا خلق الله خلقاً أبغض إليه منها، من الركون إليها والاطمئنان إليها ونسيان الآخرة، ولا نظر الله إليها منذ أن خلقها.
ولقد عرضت على نبينا صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها -كما تقدم معنا هذا بالروايات وتخريجها- عرضت على النبي عليه الصلاة والسلام بمفاتيحها وخزائنها، وقيل له: لن ينقص ذلك العرض من درجتك عند الله شيئاً، درجتك ستبقى كما هي، فأبى النبي عليه الصلاة والسلام قبولها، وما منعه من قبولها -مع أنه لو قبلها لم تنقص درجته عند الله جل وعلا- ما منعه إلا أنه أبغض شيئاً أبغضه الله جل وعلا. كيف يحب شيئاً وقد أبغضه الله؟ ما منعه إلا أنه أبغض ما أبغضه الله جل وعلا، وصغر ما صغره الله، وحقر ما حقره الله، ووضع ما وضعه الله، ثم قال الحسن البصري : ولو قبلها النبي عليه الصلاة والسلام لكان قبوله دليلاً على حبه إياها، فكيف يحبها وقد كرهها من خلقها جل وعلا؟! كيف يحب ما كرهه خالقه؟ وكيف يرفع ما وضعه مليكه؟
ثم قال: لو لم يدل على صغرها وتحقير أمرها إلا أن الله جل وعلا لم يجعل خيرها ثواباً للمطيعين، ولم يجعل عقوبتها عقوبة للعاصين، فأخرج ثواب الطاعة منها، وعقوبة المعصية عنها، لكفى دليلاً على حقارتها.
الدنيا ما جعل الله فيها ثواب الطاعة للمطيعين، ولا جزاء المعصية للعاصين، ليست بمحل جزاء، لا في حال الطاعة ولا في حال المعصية، إنها لا وزن لها ولا اعتبار، فكيف تعاقب في هذه الدار وهي لا وزن لها ولا اعتبار؟ إنما في دار القرار هناك الثواب ينفع والعقوبة تضر، أما هنا فالعقوبة فانية والثواب يزول، فما جعل الله هذه الدنيا محلاً لثواب المطيعين ولا محلاً لعقوبة العاصين؛ لهوانها ولعدم اعتبارها.
إذا كانت الدنيا هذا شأنها وهذا حالها، فحال أكيس العقلاء وخير من خلقه الله جل وعلا على الإطلاق نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً )، ( اللهم اجعل رزق آل محمد عليه الصلاة والسلام قوتاً )، اختار نبينا عليه الصلاة والسلام هذا من الدنيا لهوان الدنيا ولحقارتها، فنأخذ الشيء الضروري منها.
السبب الثاني: لما يترتب على الشبع والزيادة عن الحاجة من آفات في العاجل والآجل
وقد ذكر أئمتنا آفات كثيرة للشبع، هذا إذا لم يزد الإنسان على مقدار الشبع، وقد أشار الإمام الغزالي عليه رحمة الله في الإحياء في الجزء الثاني صفحة إحدى وثلاثين إلى آفات الشبع، وما يترتب على الشبع من آفات وبلايا، وبين أن ذلك من أعظم أبواب الشيطان، فيقول عليه رحمة الله: ومن أبوابه العظيمة -أي من أبواب الشيطان- الشبع من الطعام، وإن كان حلالاً صافياً، فإن الشبع يقوي الشهوات، والشهوات أسلحة الشيطان، ثم قال: روي أن إبليس عليه لعنة ربنا العزيز، ظهر لنبي الله يحيى بن زكريا على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه، فرأى نبي الله يحيى على إبليس معاليق من كل شيء، والمعاليق: جمع معلاق وهو ما يعلق عليه الشيء، رأى عليه أشياء معلقة من كل شيء يحملها قد تعلقت به، فقال له يحيى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: ما هذه المعاليق التي تحملها؟ قال: هذه الشهوات التي أصيب بها ابن آدم، فقال له نبي الله يحيى: فهل فيَّ منها من شيء؟ يعني ويمكن أن تصيدني بهذه التعاليق؟ قال: ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة وعن الذكر. ما لنا حظ نحو الأنبياء إلا إذا جرى منك هذا، إذا شبعت تسكن نفسك عن الصلاة وعن الذكر، هذا حظنا فقط ما عدا هذا لا تتجاوزه، فقال: هل غير ذلك؟ قال: لا، فقال نبي الله يحيى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: لله عليّ أن لا أملأ بطني من الطعام أبداً.
إذا كان الأمر كذلك أنني إذا شبعت تنال مني أيها اللعين هذا الحظ، بحيث تثقلني عن الصلاة وعن الذكر، دون أن يقع في معصية لا صغيرة ولا كبيرة، لكن يشغل عن الطاعة وتفوته، فلله عليّ أن لا أملأ بطني من الطعام أبداً، فقال إبليس عليه لعنة الله: ولله عليّ أن لا أنصح مؤمناً أبداً. إذا كان الأمر كذلك ذكرتك بهذا فانتفعت به فلن أنصح مسلماً ولن أدله على خير مهما كان الأمر.
آفات الشبع
أولها: أن يذهب خوف الله من قلبه. وحقيقة إذا شبع الإنسان قسا قلبه، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي.
الثاني: أن يذهب رحمة الخلق من قلبه. يظن أن الناس كلهم عندهم خير ونعمة، وأنهم يتجشئون كما يتجشأ، وقد كان نبي الله سليمان على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه الذي عنده ما عنده من الملك يجوع يوماً ويشبع يوماً، يأكل يوماً واليوم الثاني ما يأكل فيه أبداً، يقول: لأنني إذا شبعت على الدوام أنسيت المساكين، أظن أن الناس كلهم كذلك، فيفعل ذلك حتى يذوق ألم الجوع الذي يذوقه المحتاجون.
الخصلة المذمومة الثالثة في الشبع: أنه يثقل عن الطاعة. كما قال اللعين إبليس: لا يصيب منكم إلا أنكم إذا شبعتم ثقلناكم عن الصلاة وعن الذكر.
الرابعة: أنه إذا سمع كلام الحكمة لا يجد له رقة، لا يتفاعل معه، وقد جعل بينه وبين قلبه مخلاة من الطعام وكيساً من الطعام، فكيف سيعي الحكمة ويتفاعل معها؟
الخامسة: أنه إذا تكلم بالموعظة والحكمة لا يقع في قلوب الناس. وهذا حالنا، قال لي مرة بعض الإخوة: قل لي يا شيخ أنت تخطب الجمعة، وأنا أخص نفسي وبعض الناس ينامون، قلت: لا لوم عليهم، أولاً: المحل فاسد، والمتكلم أفسد، فكيف ستكون أحوالنا؟ لا متكلم يؤثر ولا محل يقبل، كيف سيكون حال الناس؟
يقول الحسن البصري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: لقد أدركت أناساً كانت الكلمة الواحدة منهم تحيي فئاماً من الناس: إذا تكلم أحيا الناس لأنه يخرج من قلب حيّ، فالكلام ليس له أثر من المتكلم، والقابل المحل أيضاً غير قابل أرض سبخة، لو قدر ونزل عليها ماء طيب لما انتفعت، فكيف إذا اجتمع الأمران! لا كلام يؤثر ولا يخرج من قلب طاهر، ولا أرض قابلة، وهذا ما نراه الآن في مواعظنا، نرى الواحد منا في موعظة في رياض الجنة ينام، مع أني ما رأيت أحداً نام على الطعام أبداً، أما في مجالس الذكر فما أكثر من نام؛ لأن القلوب خبيثة، مريضة، قلوب عشعش فيها الشيطان، ومن يعظ كذلك، لئلا نتهم غيرنا ونبرئ نفوسنا، كلنا نعيش في بلاء، ونسأل الله أن يلطف بنا، فلا متكلم يخرج كلامه من القلب، وليس عند المستمع أيضاً قلب فحتماً سينام.
يذكر أئمتنا في ترجمة العبد الصالح صفوان بن محرز ، وهو من رجال الكتب الستة توفي سنة أربع وسبعين للهجرة، من الأئمة التابعين، أدرك عدداً من الصحابة الكرام وروى عنهم، وسيأتينا ذكره إن شاء الله ضمن روايات الحديث: كان الناس إذا اجتمعوا وقالوا له: عظنا، فإذا قال: بسم الله والحمد لله، بدأ الناس بالبكاء، قلب طاهر وقلوب طاهرة، ولا يزيد على ذلك، حقيقة كانوا دواء يتداوى به، فصرنا داءً لا دواء له، العالم فينا الآن هيئته كهيئة الشرطي تماماً، نور العلم وهيبة العلم وأنس العلم ذهبت، مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31]، ذهب هذا الوصف مع علمائنا الطيبين الصالحين، ولذلك إذا تكلم لا يؤثر كلامه في المستمع، وإذا استمع لا ينتفع بالكلام، بلاء من الجهتين.
الآفة والخصلة المذمومة السادسة: أنه يهيج الأمراض والآفات في البدن، هذه بلايا الشبع.
ثم قال: ومن أبوابه -أي: من أبواب الشيطان- العظيمة: حب التزين من الأثاث والثياب والدار. فكيف يفعل هذا نبينا المختار عليه الصلاة والسلام؟! أثاث فاخر ودار فاخرة، وطعام من ألوان متعددة على الدوام، هذا من أبواب الشيطان. فإن الشيطان إذا رأى ذلك غالباً على قلب الإنسان باض فيه وفرخ، فلا يزال يدعوه إلى عمارة الدار وتزيين سقوفها وحيطانها وتوسيع أبنيتها، ويدعونا للتزين بالثياب والدواب ويستسخره فيها طول عمره، وإذا أوقعه في ذلك فقد استغنى أن يعود إليه ثانية، نعوذ بالله من ذلك، فإن بعض ذلك يجره إلى البعض، فلا يزال يرديه من شيء إلى شيء إلى أن يساق إليه أجله فيموت وهو في سبيل الشيطان واتباع الهوى، ويخشى من ذلك سوء العاقبة بالكفر نعوذ بالله منها.
وحالنا الآن هو هذا: مسكن نسعى وراءه، وأثاث نؤثثه، وملابس نتجمل ونتزين بها، وطعام نلقيه في النهاية إلى الحمام، أما القلب فخراب؛ لأنه لا أحد يفكر فيه، يريد فقط أن يكسو بدنه ولا يريد أن ينور قلبه، فهذا يخشى منه سوء العاقبة بالكفر نعوذ بالله من ذلك، إذاً من أعظم أبواب الشيطان، فكيف يفعل هذا نبينا عليه الصلاة والسلام!
ذكر ما يستفيده الإنسان من قلة الطعام وعدم الشبع
قال: ثم عرضها على الأرض فأبت، ثم عرضها على الجبال الشم الشوامخ التلال الصعاب فقال لها: هل تحملين الأمانة بما فيها؟ قالت: ربي وما فيها؟ فذكر الجزاء والعقوبة فقالت: لا، ثم عرضها على الإنسان فحملها إنه كان ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر ربه، فقد رأيناهم والله اشتروا الأمانة بأموالهم، فأصابوا آلافاً فماذا صنعوا فيها؟ والأصل أن الأمانة هي تكاليف الله، والغاية التي خلقنا من أجلها هي عبادة الله، فتركوا الغاية وبدءوا يكدسون الأموال، فماذا صنعوا فيها؟ قال: وسعوا بها دورهم وضيقوا بها قبورهم، وأسمنوا براذينهم، وهي بغالهم ودوابهم ومراكبهم فارهة جميلة، وأسمنوا براذينهم وأهزلوا دينهم، وأتعبوا أنفسهم بالغدو والرواح إلى دار السلطان يتعرضون للبلاء وهم من الله في عافية، يقول أحدهم: تبيعني أرض كذا وكذا وأزيدك كذا وكذا، يتكئ على شماله ويأكل من غير ماله، حديثه سخرية وماله حرام، حتى إذا أخذته الكرة -يعني التخمة أكل كثيراً وتخم، ونزلت به البطنة- قال: يا غلام! ائتني بشيء أهضم به طعامي، يا لكع! أطعامك تهضم، إنما دينك تهضم، أين الفقير؟ أين الأرملة؟ أين المسكين؟ أين اليتيم الذي أمرك الله بهم؟
إخوتي الكرام! إذا كان هذا حال الشبع، فكيف بعد ذلك يختار نبينا عليه الصلاة والسلام الألوان من حيث الكيفية، والكثرة من حيث المقدار؟! هذا لا يتناسب مع من هو رسول الله عليه الصلاة والسلام ويعرف حقيقة الدنيا، ويعلم علماً أكثر حقيقة الآخرة، فإذا كان الأمر كذلك فهو القائل: ( اللهم اجعل رزق آل محمد عليه الصلاة والسلام قوتاً )، ( اللهم اجعل رزق آل محمد عليه الصلاة والسلام كفافاً )، فذاك مسكنه المتواضع، وتلك أمتعته وأثاثه القليل اليسير، وهذا هو الطعام يجوع يوماً ويشبع يوماً، بل يجوع أياماً -كما سيأتينا- ويشبع يوماً، عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام! هذا الأمر كان سلفنا يولونه عناية عظيمة وأخذوه من نبينا عليه الصلاة والسلام، ولما ابتعدنا عن مسلكهم فرطنا فيه.
ثبت في ترجمة شيخ الإسلام في الصحابة عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن أبيه وعن الصحابة أجمعين، كما في كتاب الزهد للإمام أحمد وكتاب الورع له أيضاً، والأثر رواه وكيع في كتاب الزهد، ورواه ابن سعد في الطبقات، ورواه أبو نعيم في الحلية: أنه قيل لـابن عمر رضي الله عنهم أجمعين: ألا نحظر لك جوارش؟ والجوارش: شراب مركب إذا شربه الإنسان سهل عليه هضم الطعام، ألا نحضر لك جوارش؟ ألا نشتري لك من هذا شيئاً إذا امتلأت بطنك تشربه فيزول عنك وتشعر بارتياح؟ فقال ابن عمر رضي الله عنه: وما الجوارش؟ قالوا: شيء إذا كظك الطعام -أتعبك- أخذت منه وأصبت منه فسهل عليك إخراجه واسترحت، فقال: سبحان الله! والله ما شبعت منذ كذا وكذا، في بعض الروايات: منذ ثلاث عشرة سنة. إذاً ما شبع في حياته مطلقا رضي الله عنه وأرضاه، يقول: وليس لأني لا أجده ولا أقدر عليه. الطعام موجود والخيرات كثيرة، لكنني وجدت قوماً يجوعون أكثر مما يشبعون، وعلى رأسهم نبينا الميمون عليه الصلاة والسلام. يقول: أنا ما شبعت منذ كذا وكذا سنة، وأنتم تريدون أن تحضروا لي شراباً إذا كرك الطعام أشربه من أجل أن يتقطع ذلك الطعام ويسهل خروجه، فالذي لا يشبع ليس بحاجة إلى تلك المهضمات التي عكفنا عليها في هذه الأوقات.
وبلغ من عناية سلفنا بهذا الأمر وتحذيرهم من الشبع، وعدم عكوفهم عليه، أنه قيل لـسمرة بن جندب رضي الله عنه وأرضاه، وهو من الصحابة الأبرار، كما في كتاب الزهد للإمام أحمد والزهري ووكيع أيضاً، قيل لـسمرة : إن ابناً لك أكل هذه الليلة حتى بشم، أي: أصيب بالتخمة، فقال: والله لو مات لم أصل عليه. وكم يموت الآن من الناس بسبب بطونهم والتخليط في الأطعمة التي ابتلينا بها!
ورحمة الله على بشر الحافي سيد المسلمين في زمانه، يقول: والله ما شبعت منذ خمسين سنة، يقول: ونحن في زمن لا ينبغي أن يشبع الإنسان فيه من الحلال لأنه يقوده إلى الحرام. وتقدم معنا أن الشبع هو سلاح الشيطان، قال: فكيف من هذه الأقذار! ورحمة الله على العبد الصالح صفوان بن سليم الذي توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة للهجرة، وهو من رجال الكتب الستة، يقول عنه الإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله: يستشفى بحديثه وينزل قطر السماء عند ذكره، يقول صفوان بن سليم : ليأتين على الناس زمان همة أحدهم بطنه ودينه هواه. همة أحدهم بطنه لا هم له إلا أن يملأ ويفرغ، وما يهواه يفعله ولا رادع يردعه، والله كأنه ينظر إلينا من ستر، من ذاك الزمن إلى وقتنا، همة أحدهم بطنه ودينه هواه.
إذاً: الأمر الأول: أن الدنيا مهينة، فكيف يتزود منها أطيب الطيبين عليه صلوات الله وسلامه؟ وكيف يستكثر منها؟ الأمر الثاني: في الشبع مضار كثيرة في العاجل والآجل، فكيف يختار الألوان ويستكثر منها خير الأنام عليه الصلاة والسلام؟
السبب الثالث: أن من تمتع في الدنيا بشيء فإنه ينقص من درجته عند الله بمقدار تمتعه منها
إخوتي الكرام! ثبت عن سيد المسلمين وشيخ الإسلام في الصحابة الكرام عبد الله بن عمر ، وقد نقل شيخ الإسلام الإمام ابن حجر العسقلاني هذا الكلام عن الحافظ ابن جرير في فتح الباري في الجزء الحادي عشر صفحة ثمانين ومائتين وأقره وقال: إسناده جيد، كما قال الإمام المنذري ، وهذا الأثر الذي رواه ابن أبي الدنيا رواه أبو نعيم في الحلية أيضاً في الجزء الأول صفحة ست وثلاثمائة في ترجمة عبد الله بن عمر، ورواه هناد أيضاً في كتابه الزهد، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف انظروه في الجزء الثالث عشر صفحة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وكما قلت: إسناده صحيح كالشمس، وروي أيضاً عن بعض علماء المسلمين، قاله الفضيل بن عياض الذي توفي سنة سبع وثمانين ومائة للهجرة، وهو شيخ الإسلام في زمنه، وحديثه مخرج في الكتب الستة إلا سنن ابن ماجه ، ولفظ الأثر كما في الحلية في الجزء الثامن صفحة ثمان وثمانين : عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: (ليس من عبد أعطي شيئاً من الدنيا إلا كان نقصاً له من الدرجات في الجنة وإن كان على الله كريماً).
وروي أيضاً من كلام الفضيل بن عياض ، قال الإمام المنذري : وروي أيضاً عن أمنا عائشة مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام لكن بإسناد ضعيف، وإذا ثبت أثر عبد الله بن عمر -وهو ثابت كما تقدم معنا- فله حكم الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فمثله لا يمكن أن يقال من قبل الرأي لأنه يتعلق بجزاء يكون في الآخرة، ولا يمكن لصحابي أن يتكلم بهذا على حسب عقله ورأيه، إنما أخذ هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
وهذا القول ورد في صحيح السنن ما يدل عليه ويقرره، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، ومسلم في صحيحه ورواه أهل السنن الأربعة إلا سنن الترمذي من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا الغنيمة تم لهم أجرهم عند ربهم )، وفي رواية في صحيح مسلم أيضاً: ( ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم، وما من غازية أو سرية تخفق وتصاب إلا تم أجورهم )، قوله: (وما من غازية أو سرية تخفق) أي: فلا تنتصر (أو تصاب) يقع فيها قتل وتنكسر ويستشهد من يستشهد من أفرادها (إلا تم أجورهم)، والحديث في صحيح مسلم ، قال شيخ الإسلام الإمام النووي في شرح هذا الحديث في الجزء الثالث عشر صفحة اثنتي وخمسين: الصواب الذي لا يجوز غيره: أن الغزاة إذا سلموا وغنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم، أو من أجر من سلم ولم يغنم، إذاً: إذا سلموا وغنموا أجرهم أقل من أجر من لم يسلم، إما استشهد وإما أصابته الجراح، أو سلم لكن لم يغنم، يبقى أجره أكثر من أجر من سلم وغنم، وتكون الغنيمة مقابل جزء من أجرهم، وهذا موافق للأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة. وأورد أحاديث متعدد في ذلك ليس غرضنا الآن تقرير هذا الأمر، إنما فقط أردت أن أشير إلى هذا الأمر الثالث ضمن المعالم الثلاثة في أول المبحث، قال: وهو موافق للأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وهو الصواب، وظاهر الحديث -يعني معنى حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين- يدل على هذا، ولم يأت حديث يخالف هذا، فتعين حمله على ما ذكرنا، وهذا الذي قاله الإمام النووي قاله أيضاً الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري في الجزء السادس من صفحة ثمان إلى صفحة عشر، وقاله أيضاً الإمام الألوسي في روح المعاني في الجزء الحادي عشر صفحة ثمان وعشرين.
ولذلك -إخوتي الكرام- من انهمك في اللذات في الحلال والمباحات في هذه الحياة فإنه ينقص من أجره عند رب الأرض والسماوات، ونبينا عليه الصلاة والسلام ضمن الله له إن أعطاه الدنيا برمتها وخزائنها ومفاتيحها أن لا ينقص أجره عند الله، ومع ذلك رفضها، أما من عداه من أي كان من نبي أو غيره فإنه بمقدار ما يحصل له من تمتع ينقص من درجته، وقد تكون درجته أعلى من غيره، لكن لو لم يحصل تلك المتعة الدنيوية لكانت درجته أعلى بالنسبة لنفسه، ونحن لا نتكلم عن المفاضلة بينه وبين غيره فهذا لا يعلمه إلا الله، فقد يكون غنياً ويتوسع وذاك فقير لكن درجة هذا الغني أعلى لما يقوم به من أعمال الخير، هذا أمر آخر، لكن بالنسبة إليه متعته تسببت في نقص درجته، ولو لم يتمتع لارتفعت درجته أكثر، ولو قدر أنه يوجد من يساويه في الصلاح ولم تحصل له تلك المتعة في هذه الحياة لكانت درجة ذاك أعلى قطعاً وجزماً، كما دلت على ذلك الأحاديث، فالذين خرجوا للجهاد فغنموا تعجلوا ثلثي الأجر؛ لأنهم سلموا وغنموا، والأصل أنهم باعوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أن يصابوا وأن يستشهدوا فيكون لهم الأجر، فإذا غنموا تعجلوا الثلثين، وإذا سلموا ولم يغنموا الأجر نقص بمقدار الثلث، وإذا أصيبوا تم لهم أجرهم، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا كلام عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وله حكم الرفع كما قلت: ( لا يصيب أحد من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجته عند الله وإن كان عليه كريماً ).
نهي السلف وتحذيرهم من التمتع بمتاع الدنيا الزائل
يروي الإمام أحمد في المسند وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين، والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير والطيالسي في مسنده، وقال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء العاشر صفحة خمس عشرة وثلاثمائة: رجال المسند -أي: مسند الإمام أحمد - رجال الصحيح، ولفظ الحديث: عن موسى بن عمرو بن العاص رضوان الله عليهم أجمعين قال: رقى والدي عمرو بن العاص في مصر المنبر فقال -للمسلمين التابعين الطيبين-: ما أبعد هديكم من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم! أما هو فأزهد الناس في الدنيا وأما أنتم فأرغب الناس فيها. وشتان شتان بين الأمرين، وفي رواية: قال: لقد أصبحتم وأمسيتم ترغبون فيما كان يزهد فيه نبيكم صلى الله عليه وسلم. أصبحتم وأمسيتم ترغبون في الدنيا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزهد فيها، والله ما أتت على النبي عليه الصلاة والسلام ليلة أو يوم إلا كان الذي عليه أكثر من الذي عنده، فقام بعض الصحابة الكرام وقال: صدقت، لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام يستسلف، أي: يستقرض من أجل أن يحصل قوتاً بهذا القرض، وقد مات ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعاً من شعير، عليه وعلى آله وأصحابه صلوات الله وسلا