مباحث النبوة - قوت النبي صلى الله عليه وسلم [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس المبحث الثالث من مباحث النبوة في بيان الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول، على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.

وقلت إخوتي الكرام: إن الأمور التي يعرف بها صدق أنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه فيما يبلغونه عن الله وأنهم رسل الله، الأمور كثيرة وفيرة متعددة يمكن أن نجملها في أربعة أمور:

أولها: النظر إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه في خَلقه وخُلقه.

وثانيها: النظر إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته التي بعث بها، وشريعته التي بلغها.

وثالث الأمور: خوارق العادات والمعجزات التي أيد الله بها رسله الكرام، على نبينا وعليهم جميعاً الصلاة والسلام.

ورابع الأمور وآخرها: النظر إلى حال أصحاب النبي عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، فهم صورة لمعلمهم ومرشدهم وهاديهم ونبينهم على نبينا وأصحابه وآله صلوات الله وسلامه.

وهذه الأمور الأربعة -إخوتي الكرام- كنا نتدارس الأمر الأول منها ألا وهو النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه في خَلقه وخُلقه، وتقدم معنا أن الله منح رسله الكمال في خلقهم وفي أخلاقهم، فمنحهم الجمال والجلال في الأمرين وكمل لهم الحسنى في خلقهم وفي أخلاقهم عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

وقد تقدم معنا -إخوتي الكرام- ما يتعلق بالشق الأول من هذين الأمرين، فيما يتعلق بخلق النبي عليه الصلاة والسلام، وما في ذلك من دلالات على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً وصدقاً، ثم انتقلنا لمدارسة الشق الثاني وهو التأمل في خُلق النبي عليه الصلاة والسلام، وقلت: إن خلقه لا يمكن أن يحيط به إنسان كما لا يمكن أن يحيط بمعاني القرآن على التمام، إنما نبحث في خلقه عليه صلوات الله وسلامه حسبما في وسعنا، وقلت: إذا كان الأمر كذلك وأردنا أن نتعرف على أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام ووجه دلالة ذلك الأمر على أنه رسول ذي الجلال والإكرام، فينبغي أن نتدارس سبعة أمور تتعلق بأخلاقه عليه صلوات الله وسلامه:

أولها: خلقه عليه الصلاة والسلام في بيته ومع أهله، وثانيها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع أصحابه وأمته، وثالثها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع الملائكة الكرام، ورابعها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من شياطين الإنس، وخامسها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من شياطين الجن، وسادسها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع الحيوانات العجماوات، وسابعها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع الجمادات الصامتات.

وهذه الأمور السبعة إخوتي الكرام! بدأنا بالأول منها ألا وهو خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله في بيته، وقلت: إن هذا الأمر أيضاً ينبغي أن نتدارسه ضمن أربع مراحل بها يحصل الكلام على خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام في بيته عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وهذه المراحل الأربع والأمور الأربعة هي:

أولها: النظر إلى مسكن النبي عليه الصلاة والسلام وإلى حجره التي كان يسكن فيها مع نسائه الطيبات الطاهرات المطهرات، عليه وعليهن صلوات الله وسلامه، وثانيها: أثاث ذلك المسكن وما فيه من متاع دنيوي، وثالثها: الطعام الذي كان يقدم في تلك الحجر في بيوت نبينا عليه الصلاة والسلام، ورابعها: وهو آخر الأمور وما تقدم من الأمور الثلاثة مقدمة للأمر الرابع: كيفية معاملة نبينا عليه الصلاة والسلام مع نسائه وحال نسائه معه عليه وعليهن صلوات الله وسلامه، لتظهر لنا هذه الصورة المثالية في خلق خير البرية، عليه صلوات الله وسلامه مع نسائه في تلك البيوت التي تقدم معنا وصفها ووضعها.

أما بيوته عليه صلوات الله وسلامه وأثاثه وطعامه فقد تقدم معنا حاله في هذه الأمور، وأنه حال من جعل الدنيا معبراً ولم يتخذها وطناً ومقراً عليه صلوات الله وسلامه، فقد رضي بالدون من تلك الأشياء في الكم وفي الكيف، فأخذ القليل من تلك الأمور الثلاثة، فأما حجره فتقدم معنا أنه لو مد الإنسان رجليه إلى أي جهة من جهات حجر نبينا عليه الصلاة والسلام وهو في داخل الحجرة لنالت رجلاه الجدار، ولو رفع يده لنال السقف، ثم تلك الجدران تقدم معنا أنها جريد نخل كسي بطين على نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.

وأما الأثاث فتقدم معنا ما فيها من أثاث قليل لا قيمة له من حيث الكم، ثم هو خشن من حيث الكيف، فغاية فراش نبينا عليه الصلاة والسلام من أدم من جلد حشوه ليف وهو خوص النخل كما تقدم معنا، وأما الطعام فكنا نتدارسه في الموعظة الماضية، وقلت أيضاً: أخذ نبينا عليه الصلاة والسلام بالقليل من حيث الكمية في طعامه عليه الصلاة والسلام، وبالخشن أيضاً من حيث الكيفية في طعامه عليه الصلاة والسلام، فكان جوعه أكثر من شبعه عليه صلوات الله وسلامه، ثم بعد ذلك عندما كان يأكل ما عنده الألوان التي نملأ بها بطوننا في هذه الأيام، فقد فارق الدنيا فداه نفسي وأبي وأمي عليه صلوات الله وسلامه وما ملأ بطنه من خبز الشعير، وما شبع ثلاثة أيام تباعاً من خبز الشعير حتى لحق بالله الجليل على نبينا صلوات الله وسلامه.

وقلت -إخوتي الكرام-: ما كان هذا من قلة ولا من بخل عليه صلوات الله وسلامه، فقد أعطاه الله من الغنى ما لم يعط أحداً من خلقه، وكان يهب أحياناً من الهدايا والعطايا للفرد الواحد ألف بعير عليه صلوات الله وسلامه، ويعطي من الغنم ما يملأ ما بين جبلين، فالغنى جاءه لكنه آثر به غيره، فكان إذا جاءه الغنى آثر غيره، وإذا أصيب بالشدة والفقر رضي وصبر عليه صلوات الله وسلامه، فقام بالعبودية التامة لله جل وعلا في الحالتين: في حال الغنى إيثار، وفي حال الفقر صبر والتجاء إلى العزيز القهار سبحانه وتعالى.

وتقدم معنا -إخوتي الكرام- ما يتعلق بطعام نبينا عليه الصلاة والسلام، وذكرت حديث أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وهي أدرى الناس بما يأكله نبينا عليه الصلاة والسلام وآل بيته الكرام عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا أنه كان يمر ثلاثة أهلة في شهرين وما يوقد في بيت نبينا عليه الصلاة والسلام نار، لا لخبز ولا لطبخ عليه وعلى آله صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا أن الحديث في الصحيحين وغيرهما، فلما قيل لأمنا عائشة رضي الله عنه: فماذا كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء.

وقلت: هذا المعنى متواتر عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وكان يعرفه الخاص والعام، والصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعاً على علم به على وجه التمام؛ ولذلك قررت هذا المعنى بعشرة أحاديث من رواية أصحاب مختلفين متعددين، والروايات كلها صحيحة كما تقدم معنا في نوع أكل نبينا عليه الصلاة والسلام، وفي مقدار طعامه عليه الصلاة والسلام هو وآله بيته الكرام عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

وختمت الحديث على ذلك -إخوتي الكرام- بما قلت سأختم الحديث به في بيان شدة جوع نبينا عليه الصلاة والسلام، وكيف كان يعالج ذلك الجوع أحياناً بربط حجر على بطنه الشريف فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه، وذلك الحجر الذي كان يشده على بطنه عليه صلوات الله وسلامه كان كثيراً ما يقرن الله به معجزات واضحات تدل دلالة بينة على أنه رسول رب البريات على نبينا وآله صلوات الله وسلامه.

وتقدم معنا الحديث من رواية جابر بن عبد الله في موقعة الخندق، وكيف أكل ألف صحابي رضوان الله عليهم أجمعين من شعير قليل، وعناق صغير، ولا زالت البرمة تغط باللحم كما كانت وأكثر، فأهدي إلى الجيران بعد أن أكل من هذا الطعام ألف من الصحابة الكرام.

أيضاً حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه عندما أكل من مد من شعير، والمد قلت بقرابة نصف كيلو وأقل كما تقدم معنا، أكل منه ثمانون صحابياً وأهدي منه أيضاً، وهذا بعد أن شد حجراً على بطنه عليه صلوات الله وسلامه، ثم ختمت الكلام بحديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أنه إذا نزلت بالمؤمنين شدة وكانوا يشدون الحجر على بطونهم، فكان نبينا عليه صلوات الله وسلامه يأخذ من تلك الشدة النصيب الأوفى فكان يشد حجرين والصحابة يشدون حجراً حجراً على بطونهم.

هذا انتهينا من مدارسته -إخوتي الكرام- فيما مضى، وقلت: سأتكلم على ما يتعلق بشد الحجر على بطن نبينا الشريف الطيب المطهر على نبينا وآله صلوات الله وسلامه، وهل في ذلك من فائدة؟ وقلت: إن بعض علمائنا الكرام طعن في هذه الرواية لوهم عنده في ذلك، فلنرد له وهمه ولنلتمس له العذر ولنسأل ربنا لنا وله المغفرة والرحمة.

إخوتي الكرام! أما شد الحجر على بطن نبينا عليه الصلاة والسلام فهذا ثابت عنه وقد فعله كثير من الصحابة الكرام عندما تشتد بهم الشدائد في الأيام، وشد الحجر على البطن وربط الحجر على البطن له فوائد كثيرة يمكن أن نجملها في أربع فوائد، إذا شد الإنسان الحجر على بطنه عند الجوع لذلك فوائد كما قلت كثيرة.

إقامة الصلب

أولها: ليقيم الإنسان صلبه، فالذي تضمر بطنه ولا يبقى فيها طعام وتصبح عنده مخمصة، ربما انثنى بطنه وسقط وخر على وجهه، ولذلك يقول أئمتنا الكرام: كنا نظن أن الرجلين تحملان الإنسان، وتحملان البطن، فتبين لنا أن البطن هو الذي يحمل الرجلين، فإذا خوي البطن سقطت مع أن الرجلين منتصبتان؛ ولذلك كان نبينا عليه الصلاة والسلام -وهو طبيب القلوب والأبدان فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه- إذا اشتد به الجوع يربط على بطنه حجراً، وكما قلت: هذا من باب الاختيار، ومن باب معاملة الدنيا بما يليق بحالها ووضعها ومكانتها فلا تزن عند الله جناح بعوضة، من هوانها على الله أنه جاع فيها الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

أما الآخرة فهي عند ربك للمتقين، هناك لا يشبع إلا الأتقياء، لا يمكن لكافر هناك أن يذوق طعاماً ولا أن يشرب شراباً، وعندما يستغيث أهل النار بأهل الجنة ويصرخون: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]، هناك الطعام والشراب إكرام، وأما هنا فهذه نعمة من الله للكافر وللمؤمن، فقد يترتب عليها إهانة، وقد يترتب عليها مثوبة هذا أمر آخر، ولذلك من هوان الدنيا على الله جل وعلا أنه أعطاها لمن يحب ولمن لا يحب، أما الجنة فلا يمكن أن يدخلها من لا يحبه الله جل وعلا.

ولذلك فإن لنبينا عليه الصلاة والسلام في الآخرة من الدرجات العلا والكرامة عند ربنا ما لا يحصل لغيره، مع أنه عانى وقاسى عليه صلوات الله وسلامه في هذه الحياة ما لم يقاسه غيره عليه صلوات الله وسلامه.

إذاً: هذا الطبيب طبيب القلوب والأبدان عليه صلوات الله وسلامه، كان يوجه الناس إلى هذا التوجيه السديد إذا جاعوا ضمرت البطون خشية أن يخر الإنسان على وجهه فليشد حجراً على بطنه وليعقد الإزار عليه، حتى يبقى بطنه منتصباً وصلبه ظاهراً قائماً منتصباً لا انحناء فيه ولا يعتريه سقوط بعد ذلك، وكما قلت: أن البطن يحمل الرجلين لا العكس، والرجلان لا تحملان البطن، فإذا امتلأ البطن مشى الإنسان، وإذا خوى وضعف وخر الإنسان على وجهه فماذا تغني عنه بعد ذلك رجلاه ويداه؟ ولذلك كان نبينا عليه الصلاة والسلام يضع الحجر وهي صفائح رقيقة بحجم الكف توضع على البطن، ثم يشد الإزار عليها حتى يبقى البطن منتصباً والظهر قائماً، هذه الحكمة الأولى من وضع الحجر على البطن.

منع كثرة التحلل في البطن والأمعاء بسبب عدم وجود طعام

الحكمة الثانية: ليمنع نبينا عليه الصلاة والسلام كثرة التحلل في بطنه عليه صلوات الله وسلامه، فإن البطن إذا خويت ولم يبق فيها طعام ليهضم، ستشتغل بعد ذلك عملية الهضم والتآكل إلى نفس الأمعاء، فلأجل أن تقف هذه الأمعاء عند حدها ولا يصبح فيها ضعف وتآكل، يضع النبي عليه الصلاة والسلام الحجر ويشد بعد ذلك المئزر عليه عليه صلوات الله وسلامه، ليمنع كثرة التحلل في أمعائه وفي داخلة بطنه عليه صلوات الله وسلامه؛ لأن الأكل إذا لم يوجد في البطن فإن عملية الهضم ستشتغل بالأمعاء وتأخذ منها، وتحلل شيء منها يضعفها، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يضع الحجر ويشده من أجل أن يخفف التحلل في أمعائه الداخلية عليه صلوات الله وسلامه.

الشعور بالراحة والسكينة والهدوء خاصة عند شدة الحر

الأمر الثالث من الحكم: أن الإنسان إذا جاع يضعف، وهذه الحجارة فيها رقة ورطوبة ونداوة ولطافة، فإذا وضعها على بطنه شعر بشيء من الراحة والسكينة، لا سيما في شدة الحر في بلاد الحجاز، جائع يتضور جوعاً وحر شديد فجسمه يلتهب، فيأخذ هذه الحجارة ويضعها على البطن فكأنها بمثابة مروحة تروح القلب وتسكنه وتهدئه بواسطة ما فيها من رطوبة ونداوة، وهي من الأجسام العازلة للحرارة، فعندما يضعها على بطنه الشريف عليه صلوات الله وسلامه، يشعر براحة، لتخفيف الألم الذي يعانيه من الجوع وحرارة الجوع وقرص الجوع، فهذه أيضاً حكمة معتبرة كان نبينا عليه الصلاة والسلام يفعلها، وكان أبو هريرة كثيراً ما يضع بطنه على الأرض وعلى الحصى من أجل أن يشعر بشيء من الرطوبة واللطافة والنداوة التي يجد ما يقابلها من الحرارة والجوع والشدة من حدة الجوع، فيلصق بطنه وكبده على الأرض، وهكذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام يشد الحجارة من أجل أن يشعر برطوبة بنداوة بشيء من الراحة عندما يضع الحجر على بطنه.

التذلل والانكسار لله تعالى

المعنى الرابع من شد الحجر على البطن: تذلل وانكسار لله جل وعلا، لهذه الأمور الأربعة كان نبينا عليه صلوات الله وسلامه يشد الحجر على بطنه عندما يشتد به الجوع، وتقدم معنا أنه أحياناً كان يشد حجراً واحداً وأحياناً حجرين، فمن كثرة ضمور بطنه يضع حجراً فوق حجر عليه صلوات الله وسلامه ويشد الإزار عليه، أو حجراً بجنب حجر؛ لأن الضمور امتد إلى البطن والخاصرتين فيضع حجرين من جميع الجوانب ثم يشدها عليه صلوات الله وسلامه.

أولها: ليقيم الإنسان صلبه، فالذي تضمر بطنه ولا يبقى فيها طعام وتصبح عنده مخمصة، ربما انثنى بطنه وسقط وخر على وجهه، ولذلك يقول أئمتنا الكرام: كنا نظن أن الرجلين تحملان الإنسان، وتحملان البطن، فتبين لنا أن البطن هو الذي يحمل الرجلين، فإذا خوي البطن سقطت مع أن الرجلين منتصبتان؛ ولذلك كان نبينا عليه الصلاة والسلام -وهو طبيب القلوب والأبدان فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه- إذا اشتد به الجوع يربط على بطنه حجراً، وكما قلت: هذا من باب الاختيار، ومن باب معاملة الدنيا بما يليق بحالها ووضعها ومكانتها فلا تزن عند الله جناح بعوضة، من هوانها على الله أنه جاع فيها الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

أما الآخرة فهي عند ربك للمتقين، هناك لا يشبع إلا الأتقياء، لا يمكن لكافر هناك أن يذوق طعاماً ولا أن يشرب شراباً، وعندما يستغيث أهل النار بأهل الجنة ويصرخون: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]، هناك الطعام والشراب إكرام، وأما هنا فهذه نعمة من الله للكافر وللمؤمن، فقد يترتب عليها إهانة، وقد يترتب عليها مثوبة هذا أمر آخر، ولذلك من هوان الدنيا على الله جل وعلا أنه أعطاها لمن يحب ولمن لا يحب، أما الجنة فلا يمكن أن يدخلها من لا يحبه الله جل وعلا.

ولذلك فإن لنبينا عليه الصلاة والسلام في الآخرة من الدرجات العلا والكرامة عند ربنا ما لا يحصل لغيره، مع أنه عانى وقاسى عليه صلوات الله وسلامه في هذه الحياة ما لم يقاسه غيره عليه صلوات الله وسلامه.

إذاً: هذا الطبيب طبيب القلوب والأبدان عليه صلوات الله وسلامه، كان يوجه الناس إلى هذا التوجيه السديد إذا جاعوا ضمرت البطون خشية أن يخر الإنسان على وجهه فليشد حجراً على بطنه وليعقد الإزار عليه، حتى يبقى بطنه منتصباً وصلبه ظاهراً قائماً منتصباً لا انحناء فيه ولا يعتريه سقوط بعد ذلك، وكما قلت: أن البطن يحمل الرجلين لا العكس، والرجلان لا تحملان البطن، فإذا امتلأ البطن مشى الإنسان، وإذا خوى وضعف وخر الإنسان على وجهه فماذا تغني عنه بعد ذلك رجلاه ويداه؟ ولذلك كان نبينا عليه الصلاة والسلام يضع الحجر وهي صفائح رقيقة بحجم الكف توضع على البطن، ثم يشد الإزار عليها حتى يبقى البطن منتصباً والظهر قائماً، هذه الحكمة الأولى من وضع الحجر على البطن.

الحكمة الثانية: ليمنع نبينا عليه الصلاة والسلام كثرة التحلل في بطنه عليه صلوات الله وسلامه، فإن البطن إذا خويت ولم يبق فيها طعام ليهضم، ستشتغل بعد ذلك عملية الهضم والتآكل إلى نفس الأمعاء، فلأجل أن تقف هذه الأمعاء عند حدها ولا يصبح فيها ضعف وتآكل، يضع النبي عليه الصلاة والسلام الحجر ويشد بعد ذلك المئزر عليه عليه صلوات الله وسلامه، ليمنع كثرة التحلل في أمعائه وفي داخلة بطنه عليه صلوات الله وسلامه؛ لأن الأكل إذا لم يوجد في البطن فإن عملية الهضم ستشتغل بالأمعاء وتأخذ منها، وتحلل شيء منها يضعفها، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يضع الحجر ويشده من أجل أن يخفف التحلل في أمعائه الداخلية عليه صلوات الله وسلامه.

الأمر الثالث من الحكم: أن الإنسان إذا جاع يضعف، وهذه الحجارة فيها رقة ورطوبة ونداوة ولطافة، فإذا وضعها على بطنه شعر بشيء من الراحة والسكينة، لا سيما في شدة الحر في بلاد الحجاز، جائع يتضور جوعاً وحر شديد فجسمه يلتهب، فيأخذ هذه الحجارة ويضعها على البطن فكأنها بمثابة مروحة تروح القلب وتسكنه وتهدئه بواسطة ما فيها من رطوبة ونداوة، وهي من الأجسام العازلة للحرارة، فعندما يضعها على بطنه الشريف عليه صلوات الله وسلامه، يشعر براحة، لتخفيف الألم الذي يعانيه من الجوع وحرارة الجوع وقرص الجوع، فهذه أيضاً حكمة معتبرة كان نبينا عليه الصلاة والسلام يفعلها، وكان أبو هريرة كثيراً ما يضع بطنه على الأرض وعلى الحصى من أجل أن يشعر بشيء من الرطوبة واللطافة والنداوة التي يجد ما يقابلها من الحرارة والجوع والشدة من حدة الجوع، فيلصق بطنه وكبده على الأرض، وهكذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام يشد الحجارة من أجل أن يشعر برطوبة بنداوة بشيء من الراحة عندما يضع الحجر على بطنه.


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مباحث النبوة - الرضاعة حق للطفل 3297 استماع
مباحث النبوة - أزواج المؤمنين في جنات النعيم 3252 استماع
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [1] 3230 استماع
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [1] 3207 استماع
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [3] 3166 استماع
مباحث النبوة - صفات النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً وخلُقاً 3152 استماع
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [2] 3121 استماع
مباحث النبوة - كرم النبي صلى الله عليه وسلم وجوده 3095 استماع
مباحث النبوة - قوت النبي صلى الله عليه وسلم [1] 3005 استماع
مباحث النبوة - ضرب المرأة بين المنع والإباحة 2951 استماع