أثر الدين على الشعوب


الحلقة مفرغة

الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

إنها لفرصة طيبة ولحظات سعيدة نسأل الله تعالى أن تكون زيادة لنا من الإيمان والتقوى والقربى من الله عز وجل، وإنني لأشكركم على تجشمكم هذه الصعاب التي تلقونها في طريقكم إلى هذا المخيم، فإنها خطوات مكتوبة قال الله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12].

وأشكر الإخوة القائمين على هذا المخيم، وخاصة بلدية مدينة عنيزة، التي سهرت على توفير الخدمات اللازمة له، وقامت به خير قيام، وإن هذه من أعظم المهمات، التي ينبغي أن تقوم بها مثل هذه المؤسسات والدوائر،وهي -أيضاً- بادرة طيبة وتجربة فريدة.

والموضوع هو (أثر الدين على الشعوب) هذا الموضوع في الواقع موضوع كبير جداً؛ لأن يتصور نتحدث عن أثر الدين كل الدين على الشعوب كل الشعوب، ويتصور أننا سوف نحيط به أو حتى بشيء كبير منه فهو يطلب محالاً؛ لأن هذا الموضوع في الواقع هو موضوع التاريخ كله، من لدن آدم عليه الصلاة والسلام، لا أقول إلى يوم الناس هذا بل إلى قيام الساعة، فإن الله عز وجل منذ خلق الإنسان وأهبطه إلى ظهر هذه الأرض، أنـزل عليه الدين، فكان آدم عليه الصلاة والسلام أبو البشر {كان نبياً مكلماً} كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي صحيح البخاري لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام حديث الشفاعة، ذكر {أن الناس يأتون إلى آدم فيقولون: يا آدم أنت أول نبي بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض} .

إذاً قضية الدين قضية تاريخية، تبدأ من بداية الإنسان وتنتهي بنهاية الكون، فلا يتصور أحد منكم أن أتحدث عن هذا الموضوع كما يدل عليه عنوانه؛ لكني أحببت أن ألقي بعض النظرات، وبعض المفاهيم، وبعض القضايا الكلية التي يمكن أن يستفيد منها الإنسان في موضوع كهذا الموضوع.

فالدين هو غريزة فطرية ركبها الله عز وجل في كل مخلوق، قال تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله [الروم:30] فالتدين جبلة مغروزة ومغروسة ومركوزة في كل إنسان، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من حديث p=1000136>أبي هريرة

رضي الله عنه: {كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية- ما من مولود إلا يولد على الفطرة -حتى يعرب عنه لسانه- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه}.

مفهوم الفطرة

ما هي الفطرة؟ الفطرة هي الصفاء والنقاء والاستعداد لقبول الهداية، والبحث عن الهداية -أيضاً- وهي التوحيد والإيمان والتطهر، سواء أكان التطهر باطناً بصلاح القلب، أم كان التطهر ظاهراً بصلاح الجوارح، لذلك عد النبي صلى الله عليه وآله سلم من الفطرة ومن سنن الفطرة: الاستحداد، والختان، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، فكل هذه الأشياء من الفطرة، ومثله السواك وغيره من الأشياء التي فيها طهارة للإنسان، في خلقه، وفي سلوكه، وفي ظاهره، وفي باطنه، وفي قلبه، وفي عقله، وكل هذه الأشياء تدخل تحت المفهوم العام للفطرة.

ما هي الفطرة؟ الفطرة هي الصفاء والنقاء والاستعداد لقبول الهداية، والبحث عن الهداية -أيضاً- وهي التوحيد والإيمان والتطهر، سواء أكان التطهر باطناً بصلاح القلب، أم كان التطهر ظاهراً بصلاح الجوارح، لذلك عد النبي صلى الله عليه وآله سلم من الفطرة ومن سنن الفطرة: الاستحداد، والختان، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، فكل هذه الأشياء من الفطرة، ومثله السواك وغيره من الأشياء التي فيها طهارة للإنسان، في خلقه، وفي سلوكه، وفي ظاهره، وفي باطنه، وفي قلبه، وفي عقله، وكل هذه الأشياء تدخل تحت المفهوم العام للفطرة.

إن الإنسان بطبيعته عابد ولابد أن كل إنسان عابد، ولا يمكن أن تجد في الكون إنساناً غير عابد، لهذا قال الله عز وجل: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60-61] إذاً الإنسان بين خَيَارين لا ثالث لهما، إما أن يعبد الله إما أن يعبد الشيطان، لهذا نهانا الله عز وجل عن الثاني وأمرنا بالأول فقال: أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ * وَأَنِ اعْبُدُونِي[يّـس:60-61] إذاً أنت وغيرك من البشر كلهم عابدون، لكن منهم من يعبد الله، ومنهم من يعبد الشيطان.

ولهذا قال الله عز وجل: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:1-6].

إذاً حتى الكافرون لهم دين يدينون به، بغض النظر عن ماذا يكون هذا الدين، منهم من يعبد -مثلاً- الحجر أوالشجر، ومنهم من يعبد الشيطان، وهناك طوائف مثل اليزيدية موجودون في بعض البلاد الإسلامية يعبدون الشيطان، وفي أوروبا وأمريكا ظهرت عبادة الشيطان في هذا العصر بشكل جديد، فيعبدونه فعلاً ويسمونه "شاتان"، ويعبدونه وله يسجدون، هذا في قلب الحضارة والتقدم، ويضعون وينصبون التماثيل للشيطان ويعبدونه!!.

إذاً، فالإنسان عابد ولابد، لكنه إما أن يكون عابداً لله عز وجل وإما أن يكون عابداً للشيطان، ولهذا -أيضاً- قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من حديث p=1000136>أبي هريرة

رضي الله عنه قال: {تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار}.

إذاً هو عبد، فعبوديته للشيء الذي سلب لبه، وأخذ قلبه، واستعبده، فصار يعمل من أجله، إن أحب فمن أجل الدرهم والدينار، وإن والى فمن أجله، وإن عادى فمن أجله، وليست القضية قضية الدرهم والدينار، فكل شيء تألهه الإنسان وملأ قلبه، وشغل قلبه، واستخدم جوارحه في تحصيله، فإنه يكون عبداً له.

ولهذا نقول -أيضاً-: إن هناك غير عبد الدرهم والدينار، فهناك عبد الشهوة واللذة، وهناك عبد الدنيا، وهناك عبد الكرسي، وهناك عبد الزوجة، وهناك عبد الشهرة.

فالعبوديات كثيرة جداً ولا تتناهى، فكل من تأله لشيء، وملك عليه قلبه، واستخدم جوارحه فيه، وارتكب ما حرم الله تعالى من أجله، فهو يكون عبداً لهذا الشيء الذي تأله قلبه.

إذاً القلب هو مثل إناء أو وعاء، لا بد أن يملأ؛ فإما أن تملأه بمواد طيبة نظيفة كالماء أو العسل أو غيره، وإما أن تملأه بمواد خبيثة نجسة ضارة، ولابد من هذا أو ذاك، وهما طريقان لابد للإنسان من أحدهما.

وفي عقيدة الإسلام هناك تصور واضح لهذا الموضوع، فمنذ أن وجد الإنسان، أي أنه من يوم أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض، كان معه الدين الصحيح، وعلمه آدم لأولاده، حتى توارثه الأجيال جيلاً بعد جيل، كما قال الله عز وجل: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] قال ابن عباس: [[كان بعد آدم عشرة قرون كلهم على الهدى]].

إذاً، لا يستخفنك أن الباطل له صولة وجولة ودولة، ولا تتعجب وتنظر حين تجد الإيمان ضعيفاً في بعض البلاد، بل في معظم البلاد، بل ربما في كل البلاد، والغلبة في غالب الأحيان للباطل وأهله، فلا تستغرب هذا!!؛ لأنه كما قال الله عز وجل: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] وتذكر أنه بعد آدم بعشرة قرون، كلهم على الهدى وعلى الإسلام، أمةً واحدةً ليس من بينهم أحد يشذ، قد يعصي الواحد منهم، فالمعصية أمر موجود طبيعي كما وقعت من آدم عليه الصلاة والسلام في الجنة ومن ابنيه أيضاً، قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ [المائدة:27] إلى قوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ [المائدة:30] ولكن كانوا جميعاً على التوحيد وعلى الهدى.

لم يكن بينهم من يشرك بالله عز وجل شيئاً، هذه عقيدة المسلمين في الإيمان وهذا أمر طبيعي؛ لأن كمال عدل الله عز وجل يقتضي أن لا يعذب البشر إلا بعد أن يقيم عليهم الحجة كما قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الاسراء:15] وكما قال: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].

فكل أمة بعث الله فيها رسولاً بشيراً ونذيراً، يبشرهم ويأمرهم بالتوحيد والإيمان والتقوى، وينذرهم وينهاهم عن الشرك، والكفر والضلال، فكل أمم الدنيا بعث الله عز وجل فيهم نذيراً.

وأمة العرب هم من ذرية المؤمنين، ومن ذرية الأنبياء، لكن لا يمنع أن تكون الأمة العربية نبيها هو الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما بعث الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم إلى العرب، كان من حكمة هذه البعثة وهذه النبوة أن لا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير كما قال تعالى: أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [المائدة:19] وقال تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [يس:6] بعض أهل العلم يقول: (ما أنذر آباؤهم) ما: هنا نافية. أي ما أنذر أباؤهم من قبل، وعلى هذا يكون العرب نبيهم هو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وبعضهم يقول: (ما أنذر آباؤهم) أن (ما) هاهنا موصولة بمعنى الذي، يعني: لتنذر قوماً الذين أنذر أباؤهم، فتنذرهم النار التي أُنذرَها من قبلهم، وتذكرهم بالجنة، وتأمرهم بالمعروف الذي أُمِر به من قبلهم، وتنهاهم عن المنكر الذي نُهي عنه من قبلهم، وعلى كل حال فالتفسير أن قوله: مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ [يس:6] نفي، أي: لم ينذر العرب من قبل النبي صلى الله عليه وسلم.

الإنسان بطبيعته -كما قلت- عابد، وذلك منذ أول نـزوله إلى هذه الأرض، ومن الجوانب التي تدل على عبودية الإنسان وحاجته إلى التدين، أنه يشعر بالضعف بطبيعته، فهو مخلوق ضعيف محتاج، وهو يرى من حوله من مظاهر الكون، والسحاب، والمطر، والعواصف، والرعود، والبروق، والزلازل، والبراكين، والجبال، والأشجار، والأنهار والأكوان، بل يرى المرض الذي ينـزل به، وبولده، وبزوجته، وبحبيبه، فلا يملك له دفعاً، ويرى الموت الذي ينـزل قضاءً محتوماً على الكبير والصغير، والمأمور والأمير، والمملوك والملك، والجميع ينـزل عليهم كما قال الله عز وجل: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:86-87] يعني: إن كنتم فعلاً صادقين أنه لا يوجد بعث ولا جزاء ولا حساب فهذا الآن الميت يحتضر وينـزل به القضاء المحتوم، هل تستطيعون أن تدفعوا عنه؟! هيهات!!.

فالإنسان يشعر بضعفه، وقد خلق ضعيفاً محتاجاً، لذلك الله تعالى كمَّل ضعف الإنسان بالتدين، كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في كلمة مضيئة جميلة: [[إن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الاجتماع على الله عز وجل وفقراً لا يغنيه إلا دعاء الله -تعالى- والافتقار إليه، فإذا أعرض العبد عن ربه، أعرض الله تعالى عنه حتى لا يبالي في أي أودية الدنيا هلك]].

إذاً هذا الضعف الفطري الموجود في الإنسان، لا يمكن أن القوى المادية من الابتكارات والاختراعات والتقنية والصناعة، والتقدم العلمي والحضاري، والطب والاكتشافات، والأموال والصولجان، والشُرط والأعوان والحشود، لا يمكن أن تسد هذا الفقر الموجود عند الإنسان، فلا بد أن يرجع الإنسان إلى طبيعته يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94] إذاً يرجع الإنسان إلى طبيعته التي فطر عليها، بضعفه وبعجزه قال تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [الروم:54] فالإنسان بدأ من الضعف ويعود إلى الضعف، والضعف أمرٌ ملازم للعبد لا مخلص له ولا مخرج منه.

أما النظريات الجاهلية فحدث ولا حرج، فمثلاً! في بعض الكتب والدراسات التي تتكلم عن قضية الأديان، يتكلمون عن تطور الأديان، ويعتقدون -لأنهم جاهليون ما استناروا بنور الوحي- أن الإنسان أول ما وجد على ظهر الأرض لم يكن هناك دين يرشده أو يوجهه، وكانت حوله هذه القوى الطبيعية التي لا يستطيع أن يواجهها، فكان يعبدها حتى إنهم زعموا أنه كان يعبد الطوطم، أو يعبد الحجر، أو الشجر، أو يعبد الأفلاك، أو ما شابه ذلك.

فيزعمون أن الإنسان أصله الشرك، والتوحيد طارئ عليه، والنظرة الإسلامية الصحيحة تنكر ذلك، وتقول: إن الإنسان أصله التوحيد، وإن الشرك طارئ عليه.

وعلى كل حال فالذين يتنكرون للأديان، مهما كثروا فهم قلة، ومنذ فجر التاريخ كم عدد الذين ينكرون وجود الله عز وجل؟! وكم عدد الذين لا يدينون بدين سماوي؟! إنهم شواذ، وأفراد قلائل لا وزن لهم ولا قيمة، لذلك كانوا على مدار التاريخ يستَخْفُون ويستترون.

أما في هذا العصر فقد حدثت ظاهرة قد تكون جديدة، وهي: أنه منذ عشرات السنين قامت دولة قوية -وهي روسيا الشيوعية- على أساس مبدأ إنكار وجود الله عز وجل والتنكر للأديان، وقامت بالحديد والنار، وكان اليهود وراء الثورة البلشفية الشيوعية في روسيا، التي قامت فيما أعتقد عام 1917م بالتاريخ الميلادي.

وعلى كل حال فالمقصود أن الناس كانوا يتعجبون، ويقولون: سبحان الله! دولة قوية راسخة، ممكن لها! جذورها ضاربة في التربة، وأغصانها باسقة ممتدة، ولها أتباع! ولها دول تدين بدينها، وتتحالف معها في المشرق والمغرب، وحتى في جزيرة العرب وفي كل مكان، ومع ذلك هي دولة تقوم على أساس مبدأ الإلحاد وإنكار وجود الله عز وجل فكان الناس يتعجبون، وهذه من طبيعة الإنسان، قال تعالى: وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً [الإسراء:11].

أي: أن أكثر الناس ليس لديه قدرة أن يبعد بنظره عن الواقع الذي يعيشه لينظر إلى الماضي -مثلاً- أو ينظر إلى المستقبل، فهو -غالباً- محصور بالواقع القريب، والآن انظر كيف أن الله عز وجل أبان لنا بعبرة قوية واضحة الآية الربانية، أن هذه الدولة التي قامت على أساس مبدأ الإلحاد والتنكر للفطرة البشرية، سقطت بين يوم وليلة، لماذا سقطت بين يوم وليله! ولم تسقط بالتدرج، سقطت دفعة واحدة؛ لأنها كانت دولة مدعومة بالحديد والنار والقوة.

وزعماء هذه الدولة مثل إستالين وغيرهم، كانوا نماذج للبطش والقتل والتشريد، حتى إنهم أسالوا دماء المسلمين في الجمهوريات التي يسمونها الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، إذ كانت مدناً إسلامية شهيرة وعريقة، ومعروفة في التاريخ كـسمرقند وطشقند وبخارى، وغيرها من المدن العريقة التاريخية ذات السمعة المعروفة، فسحقوا هذه المدن، وسحقوا الإسلام فيها، وسحقوا النصرانية أيضاً، ودمروا كل شيء يمت إلى الدين بصلة، وحولوا المعابد سواء أكانت مساجد أم كنائس أم غيرها إلى إسطبلات للخيول، ومستودعات، بل أحياناً أماكن للفساد والرذيلة.

وخلال ستين أو سبعين سنة بل أكثر من ذلك، وهم يستخدمون كل ما أعطاهم الله عز وجل من القوة في إبادة جميع المشاعر الدينية، وإبادة حتى الانتماءات القومية، كون هذا من عنصر أو من جنسية أو من قوم، وهذا من قوم آخرين، أي: محاولة صهر الشعوب الروسية كلها في بوتقة واحدة، فما الذي حصل؟! بمجرد أن سقطت الشيوعية وتضعضعت وتزعزعت، ما الذي حدث؟

حدث أنهم لما استنشقوا عبير الحرية والهواء الطلق وبداية الانفتاح، أصبحنا نسمع عن كثير من هؤلاء أنهم رجعوا سبحان الله كأنهم أناس ساكتون ينتظرون متى تتاح الفرصة لهم!

وهذا يعني أن الدين موجود في قلوبهم، لكنهم مضغوط عليهم ومحاربون؛ لذلك كانوا يعلمون أبناءهم الدين بطريقة سرية جداً، أي: كأن الدين عند الروس أشد خطورة من المخدر بلا شك، لذلك يحاربونه حرباً شعواء ولا يقبلون أي تسامح.

ففي مرة من المرات قام مجموعة من العلماء بزيارة روسيا في بعض المناسبات، والتقى العلماء بالمفتي-كما يسمونه- فما وجد شيئاً يستقبلهم به إلا أنه وضع أغنية لأحد المغنيات العربيات ليسمعهم إياها، فكان هذا هو الأسلوب الذي يستطيع أن يستقبلهم به، ويعبر عن محبته لهم، فما عندهم شيء، فالقرآن لا يوجد، وتعاليم الإسلام محيت، أو كاد القضاء المبرم على كل شيء يمت إلى الدين بصلة، وبمجرد ما تنفسوا تنفساً بسيطاً وبدت رائحة الانفتاح في روسيا؛ عاد النصارى إلى نصرانيتهم، وعمروا كنائسهم ومعابدهم ورجعوا إليها، والمسلمون هم الآخرون بدءوا يعودون إلى دينهم، وبدءوا يقبلون ويقيمون الجسور والعلاقات مع المسلمين في كل مكان.

وبدأنا نسمع أخباراً وأشياءً من وراء الستار الحديدي الذي ضرب على المسلمين زماناً طويلاً في الجمهوريات السوفيتية، إذاً الدين كان موجوداً مختفياً تحت أكوام من الرماد، وبمجرد ما أتيحت لهم فرصة عبروا عن تدينهم، وحتى القوميات رجعت، وأنتم تسمعون أخباراً في روسيا عن المطالبة بالاستقلال في عدد من جمهوريات البلطيق وغيرها، سواء جمهوريات إسلامية أم نصرانية.

هذا أمر يجعلنا نقول: إن الدين قضية فطرية غريزية، والذين يحاربون الدين أو يقفون في وجه الدين، لا يحاربون شخصاً معيناً، ولا يحاربون فئة معينة، ولا يحاربون مجتمعاً معيناً، إنما يحاربون الله عز وجل لكنهم بعد ذلك يحاربون فطرة مركوزة في كل إنسان، يتنفسها كالهواء، فهو كما يحتاج إلى الطعام وإلى الشراب؛ فإنه كذلك يحتاج إلى التدين، الذي يلبي ويشبع هذا الظمأ الموجود في روح الإنسان وفي قلبه.

فالدين أمر فطري جبلي لا حيلة في دفعه، والذين يحاربون الدين هم كما قيل في الشعر:

كناطح صخرة يوماً ليوهنها      فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

افعل ما شئت، ودبر، واقض ما أنت قاض، وخطط، واعمل، وحارب في السر والعلن، بكل وسيلة، واستخدم ما تملك من وسائل، ومن إمكانيات، ومن قوى، ومهما تكن لن تبلغ قوة الاتحاد السوفيتي في وقت من الأوقات، وفي النهاية يظهر الدين بقوته، لذلك حتى أعداء الدين من الفلاسفة وغيرهم آمنوا بأن الدين قدرٌ لا محالة في دفعه، ولا يمكن محاربته، لكن ممكن أن يقللوا من تأثير الدين في حياة الناس، أو يعملوا على ذلك، وممكن أن يحاولوا إعطاء الناس معلومات خاطئة عن الدين والمتدينين، فيشوهوا صورتهم -مثلاً- إلى غير ذلك.

لكن حرب الدين نفسه، هذه حرب خاسرة، والذي يحارب الدين وأهل التدين سوف يبوء بالخسران، والفشل، والخيبة، والذل، والعار، والنار.

وإن قضية الاتحاد السوفيتي وما جرى فيه، إنما أذكرها فقط لأبين لكم أن الذين يحاربون الدين، أو يتنكرون للدين أصلاً ولوجود لله عز وجل هم دائماً وأبداً شذاذ.

ولذلك يقولون: حتى في زمن هيمنة وقوة الاتحاد السوفيتي، لما ذهب رائد من رواد الفضاء إلى الطبقات العليا من الجو -كما يذكرون- ولما رجع تحدث بصورة المتأثر المؤمن بالله عز وجل وقال: إنني بعدما ارتفعت ونظرت إلى الكون، وإلى هذه المنظومات والأفلاك، وكذا وكذا وكذا، أي: ذكر أنه طفق يبحث عن الله، أي: أنه شعر في قلبه بأنه لابد من إله يدبر هذا الكون، ويدير شئونه، ويصرفه كيف يشاء.

فلما أدلى بهذا التصريح، فما هي إلا ساعات حتى غيروا هذا التصريح وقلبوا معناه إلى معنى آخر، ويذكر أن الرائد الفضائي فعلوا له ما فعلوا لمحاولة قتله، أو ما أشبه ذلك.

والنماذج من قضية التدين والدين ليست نماذج محددة -كما ذكرت لكم- ولا مانع أن نستعرض معكم -سواء أكانت من التاريخ أم من الواقع القريب- شيئاً منها، فمثلاً: العرب في الجاهلية كان عندهم بقايا من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكانت هذه البقايا تتمثل في أشياء مثلاً: الحرم الآمن، وهذا الحرم الآمن قد ورثوه عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فمسألة الحرم وتعظيم الحرم من تلك البقايا؛ لهذا كانت العرب لا تقاتل في الحرم، ومعروف في سبب فتح مكة، أن بعض قريش غاروا على خزاعة في الشهر الحرام، وفي المكان الآمن، وفي الحرم الآمن، وقتلوهم، حتى لما ذكروهم بالحرم، إذا واحدٌ منهم سيئ الطوية، سليط اللسان، قال كلمة كفرية عظيمة كان العرب يتناقلونها بشيء من الاستعظام لها، والاستهوال، أن إنساناً تبلغ به الوقاحة، ويبلغ به الإجرام إلى حد أنه يقول مثل تلك الكلمة في مثل هذا البلد الآمن، وفي مثل ذلك الشهر الآمن.

فأقول: من الأشياء التي كانت أيضاً عند العرب، قضية الأشهر الحرم، فكانوا يحرمون القتال في الشهر الحرام ولذلك لما اعتدى بعض المسلمين عليهم، كسرية عبد الله بن جحش، استعظمت قريش ذلك، وقالوا: استحل محمد وأصحابه القتال في الشهر الحرام؛ فأنـزل الله تعالى قوله: يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ [البقرة:217] المهم كانت العرب إذا أرادت أو احتاجت إلى أن تقاتل لا تقاتل في الشهر الحرام.

ومن ذلك قضية تحريم المحرمات من النساء، هل كنت تعلم في الجاهلية أحداً من العرب يتجرأ على بعض المحارم بنكاح أو سفاح؟ أبداً، بل كانوا يعظمون الدين في قضايا المعاملات الاجتماعية، في حدود ما وصل إليهم، تعظيماً كبيراً، ولهذا كانت العرب قد ورثت بعض بقايا من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكانت تعظمها غاية التعظيم، ولا تسمح لأحد بالمساس بها بحال من الأحوال.

أما قضية المشاعر، وما يتعلق بالحج والعمرة، فـقريش لما حصل بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم ما حدث، كانت تسأل أهل الكتاب، أمحمد صادق أم غير صادق؟! أهو على حق أم نحن على حق؟! ولهذا يقولون لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتوحيد الله عز وجل ونهاهم عن الشرك، قالوا: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:7] ويعنون بالملة الآخرة النصرانية، وهم طبعاً ليسوا أهل كتاب، ولا يعرفون حقيقة الأديان، ولا ماذا فيها، وإنما سألوا بعض أهل الكتاب من النصارى وغيرهم، فقالوا لهم: إن هذا الشيء الذي جاء به محمد لا يعرف.

أما القصة المعروفة، لما صارت الأحزاب، وذهب بعض اليهود إلى قريش منهم -حيي بن أخطب وغيره- قالت لهم قريش: أخبرونا ما بيننا وبين محمد؟ أنحن على حق أم هو على حق؟ أينا أهدى سبيلاً؟ قالوا: بل أنتم أهدى سبيلاً، وهكذا وقفت اليهودية في صف الوثنية ضد التوحيد، وضد الإيمان، لمجرد العداء لهذا الدين الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذم الله تعالى عليهم هذا الموقف الشائن القبيح فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً [النساء:51-52].

إذاً ما كانت العرب تعظم أهل الكتاب إلا من أصل تعظيمها للدين، بغض النظر عن كونه تعظيماً منحرفاً بعيداً، وقد أصيب بلوثات الوثنية، التي جاء بها عمرو بن لحي الخزاعي منالشام، فتأثرت بها الأمة العربية، بل إنها عبدت الأوثان والأصنام، كما هو معروف، وكان لكل قبيلة صنم يعبدونه، لكن حتى عبادتهم للصنم، على أي أساس عبدوه؟ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].

أما بعد الإسلام فماذا تقول في أمة أو فرد الدين معه! لا أقول منذ ولادته وتسميته بل قبل ذلك من يوم أن كان نطفة، بل قبل ذلك، فالإسلام نظم عملية لقاء الزوج بزوجته، بل قبل ذلك مسألة الزواج نفسها ضبطها الإسلام، بضوابط كثيرة جداً، تجعل من هذا العمل ليس عملاً عادياً، أو عملاً شهوانياً بحتاً، وإنما هو عملٌ محفوف بهداية الله عز وجل، محاط بتوجيهات القرآن والسنة.

ماذا تقول في أمة كان الأخذ بالثأر من أعظم عادات العرب، ويعدون أن عدم الأخذ بالثأر مذلة، فإذا قتل أبوه أو أخوه أو قريبه رأى أن عليه أن يأخذ بثأر من قُتل مهما تكن الظروف، فلما جاء الإسلام ضبطهم بهذا الأمر، فكان الواحد منهم يرى قاتل أبيه، فلا يعتدي عليه ولا يمسه بسوء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وضع جميع دماء الجاهلية، وجميع ثاراتها، كما قال عليه الصلاة والسلام في خطبته المعروفة في حجة الوداع.

مع أن مسألة الأخذ بالثأر كانت مغروسة ومركوزة وعميقة في نفوسهم، ومع ذلك تخلصوا منها وصبروا أنفسهم.

وكذلك كان العربي عزيزاً يأبى الضيم، كانت فيه أنفة وفيه قوة وفيه شهامة، لذلك ما كان من الممكن أن تأخذ من العربي قطرة ماء بالقوة، حتى لو يبذل روحه في سبيلها؛ أبداً.

وكان عندهم عزة وعندهم نخوة وكرامة، ومن أسباب ذلك أنهم تربوا في الصحراء، فتربوا على معاني الرجولة والمروءة والقوة والشجاعة، ولذلك ذكرت في بعض المناسبات أن رجلاً عربياً كان عنده فرس -خيل- جيدة وعريقة ونسيبه، اسمها "سكاب"، فجاءه ملك من الملوك يريد أن يأخذها منه، ما قال: الأمر بسيط والإنسان يفدي نفسه بماله. لا، قال له: أبيت اللعن، هذه تحية كانت معروفة عند العرب في الجاهلية.

أبيت اللعن إن سكاب عِلْق      نفيس لا يعار ولا يباع

فلا تطمع أبيت اللعن فيها      ومنعكها بشيء يستطاع

ما دام أنني أتستطيع أن أمنعك هذا الفرس، فإنك لن تستطيع الحصول عليه بحال من الأحوال، مع أن العربي في مقابل ذلك كان كريماً، يمكن أن يعطي أغلى وأعز وأثمن ما يملك بدون مقابل، لأنه رجل كريم، يعطي قطعة من قلبه، وكان الشاعر العربي حتى في الجاهلية يقول:

ولو أني حبيت الخلد فرداً           لما أحببت في الخلد انفرادا

فلا هطلت علي ولا بأرضي           سحائب ليس تنتظم البلادا

فكان عندهم معاني الكرم، ومع ذلك ما كان أحد يستطيع أن يأخذ منهم أموالهم بالقوة بحال من الأحول.

ولذلك العرب في الجاهلية، ما خضعوا لأحد أبداً، ولا جمعهم جامع، ولا ربطهم رابط، حتى جاء الإسلام فوحد صفوفهم تحت شعار السمع والطاعة لولي الأمر ما لم يأمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع له ولا طاعة.

ومن النماذج التي أحب أن أقف عندها بعض الشيء، قضية اليهود، واليهودية ديانة قديمة-كما تعلمون- فهم يزعمون أنهم أتباع لموسى عليه الصلاة والسلام، وقد تعرضت اليهودية في تاريخها الطويل، لحملات ضارية من التعذيب والتنكيل على يد ملوك، وزعماء كبار من النصارى ومن الوثنيين، وهذا -أيضاً- موجود في العصور المتأخرة -كما تعرفون- في ألمانيا وغيرها، وكيف يذكر في بعض المصادر أنهم كانوا يحرقون ويسحقون، وإن كانت هناك مبالغة في مثل هذه الأخبار على كل حال.

لكن المهم أن اليهود تعرضوا لحملات قاسية جداً، من حملات تصفية جسدية، وحرق بالنار، وقد ذكر بعض المؤرخين النصارى -أيضاً- قصصاً من اضطهاد النصارى لليهود يندى لها الجبين، وكيف كانوا يدفنونهم أحياءً في مقابر جماعية، وكيف كانوا يحرقونهم! وكيف كانوا يجعلون الشموع فوق رءوسهم ويوقدونهم حتى ينتهو! إلى غير ذلك، ومع هذا كله وعبر هذا التاريخ الطويل تجد أن اليهود اليوم ومنذ عشرات السنين تمكنوا من أن يجمعوا كلمتهم ويوحدوا صفوفهم في دولة فلسطين.

هذه الدولة تبدأ باسمها إسرائيل، اسم ديني لأن إسرائيل هو اسم للنبي يعقوب عليه السلام، فاسمها اسم ديني، فهذه الدولة تكونت من الأحزاب التي يسمونها أحزاباً متطرفة، مثل حزب كاهانا -هذا الذي قتل في أمريكا- وغيره، بل حتى جمهور الناس الساكنين فيها، وسائر الأحزاب الموجودة فيها والأشخاص تجد أنهم ينطلقون من منطلقات دينية، ويلتزمون بتعاليم دينهم التي استقرت عندهم الآن، وليس الدين الأصلي الذي نـزل على موسى عليه الصلاة والسلام؛ ويحترمونها.

حتى إن أحدهم يقول: ليس اليهود هم الذين حفظوا التوراة، لكن التوراة هي التي حفظت اليهود، يعني أن اليهود ليسوا هم الذين حفظوا التوراة، وتناقلوها جيلاً بعد جيل، حتى وصلت إلى المعاصرين، لا! وإنما التوراة هي التي حفظت لليهود وحدتهم وتماسكهم، حتى استطاعوا في هذا العصر أن يجتمعوا تحت ظل دولة واحدة، ليست دولة ذات حدود، بل دولة تطمع أن تكون بلا حدود؛ فالآن هي دولة إسرائيل، وغداً يطمعون أن تكون دولة إسرائيل الكبرى.

وتدخل فيها أطرافاً من الدول المجاورة، ولعل قضية هجرة اليهود من الاتحاد السوفيتي إلى إسرائيل الآن، والعدد فيها قد يقارب ثلاثمائة ألف مهاجر، لعل هذه خطوة كبيرة؛ لأنه لو تصورت ثلاثمائة ألف مهاجر إلى إسرائيل، هؤلاء أين سيسكنون؟! من أين سيعيشون؟! ماذا سيزرعون؟! وماذا سيعملون؟! وفي أي المصانع سيشتغلون؟! أنا أطرح هذا السؤال وأترك الإجابة عليه لك.

فهل تتصور أن دولة محدودة ودولة ضيقة ودولة محصورة يمكن أن تستوعب هذه الهجرة الكبيرة؟! خاصة إذا تذكرت أن العنصر الفلسطيني الموجود في إسرائيل يتوالد بكثرة، وهذا من الأشياء التي تزعج الغرب واليهود، (كثرة التناسل والتوالد في عالم المسلمين).

لأنها شكلت عندهم خطورة، ولعل قضية ما يسمى بالانتفاضة هم أطفال، شكلوا لـإسرائيل مشكلة كبيرة وخطيرة هزتهم هزة عنيفة، وما ذلك إلا لأسباب لا شك كثيرة، لكن موضوع الكثرة العددية أو ما يسمونه بالانفجار السكاني هذا من أخطر الأشياء التي تهدد وتواجه إسرائيل، فإذا أضفت إلى هذا أنهم زادوا الطين بلة، بثلاثمائة ألف مهاجر من روسيا وغيرها، أدركت أن إسرائيل تخطط جدياً وربما في القريب، تخطط لتوسع معين، وهذا التوسع نحن مطمئنون بحول الله وقوته، وواثقون بوعد الله تعالى ونصره عز وجل.

إنهم حينئذ يتجمعون لميعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: {تقاتلون اليهود حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي تعال فاقتله} وفي رواية البزار وغيره: {على نهر الأردن أنتم شرقيه، وهم غربيه}.

إذاً ليتجمع اليهود ما تجمعوا، وليقضوا ما هم قاضون، وليحشدوا قواهم وإمكانياتهم، وليستعينوا بحلفائهم من الشرق والغرب، وليدعو مهاجريهم من روسيا وأمريكا وأوروبا وغيرها؛ فإنهم إنما يجتمعون لمعركة حاسمة فاصلة لمّا يشهدها التاريخ بعد، ولن تكون مع العرب الذين يرفعون شعار العروبة، ولا مع الذين يرفعون شعار الوطنية، ولا مع الذين يرفعون شعار القومية، ولا مع الذين يرفعون شعار الاشتراكية، إنما تكون مع حملة لا إله إلا الله محمد رسول الله، الذين تربوا عليها وآمنوا بها، وأشربتها قلوبهم، فأصبح الواحد منهم مجاهداً يمضي ويقول:

ماض وأعرف ما دربي وما هدفي      والموت يرقص لي في كل منعطف

وما أبالي به حتى أحاذره      فخشية الموت عندي أبرد الطُّرَف

والآخر الذي يخاطب نفسه فيقول:

أقول لها وقد طارت شُعاعاً      من الأبطال ويحك لن تراعي

فإنك لو سألت بقاء يوم      على الأجل الذي لك لن تطاعي

فصبراً في مجال الموت صبراً      فما نيل الخلود بمستطاع

ومن لا يعتبط يسأمْ ويهرمْ      وتسلمه المنون إلى انقطاع

وما للمرء خير في حياة      إذا ما عُدَّ من سَقَطِ المتاعِ




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5007 استماع
حديث الهجرة 4966 استماع
تلك الرسل 4144 استماع
الصومال الجريح 4140 استماع
مصير المترفين 4078 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4043 استماع
وقفات مع سورة ق 3969 استماع
مقياس الربح والخسارة 3922 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3862 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3821 استماع