خطب ومحاضرات
مباحث النبوة - علامات في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! كنا في المبحث الثالث من مباحث النبوة على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وهذا المبحث -كما تقدم معنا- مبحث جليل يدور حول بيان الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وقلت إخوتي الكرام! أنه لابد من وجود علامات تدل على صدق المحق وكذب المبطل، لا بد من وجود علامات تدل على صدق الصادق، وعلى كذب الكاذب، فنبينا عليه الصلاة والسلام وأنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه لابد وأن يكون فيهم علامات تدل على أنهم رسل رب الأرض والسماوات، وهذه العلامات -كما تقدم معنا إخوتي الكرام- كثيرة وفيرة، ويمكن أن يصل الإنسان إليها عن طريق النظر بعقله وتحكيم فطرته، إذا تأمل هذه العلامات فرق بين النبي والمتنبئ.
وتقدم معنا بعض هذه العلامات عن طريق الإجمال، وذكرت ما استدل به هرقل على صدق نبينا عليه الصلاة والسلام في نبوته، وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً وصدقاً، ودارت أسئلته على عشرة أمور، منها ما يتعلق بنسب النبي عليه الصلاة والسلام وأسرته، ومنها ما يتعلق ببيان دعوته، ومنها ما يتعلق ببيان معاملته لغيره، ومنها ما يتعلق ببيان حال أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، ثم خلص من هذه الأسئلة والأجوبة التي أجاب عليها أبو سفيان ، خلص من ذلك إلى أن نبينا عليه الصلاة والسلام هو رسول الله حقاً، فقال لـأبي سفيان : إن كان ما تقول حقاً فهو نبي، وسيملك موضع قدمي هاتين، وهذا الذي تحقق بعد ذلك على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.
وهذه الأسئلة التي وجهها هرقل إلى أبي سفيان كنت سردتها وبينت جواب أبي سفيان وتعليقنا عليها في الموعظة الماضية، أبو سفيان بعد أن سئل تلك الأسئلة الحسان من قبل هرقل ملك الروم وعظيم الروم، قال: ما رأيت من رجل قط كان أدهى من ذلك الأقلف، أي: الذي لم يختتن، وتقدم معنا أن النصارى لا يختتنون، فيقول: هذه الأسئلة تدل على دهائه وذكائه، وعظم عقله.
انتهينا -إخوتي الكرام- من بيان هذه العلامات عن طريق الإجمال، ووعدتكم أن أتكلم على نهاية هرقل في أول هذه الموعظة، لنكمل إن شاء الله بعد ذلك الكلام على الأمور التي يعلم بها صدق الرسول على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.
هرقل امتدت به الحياة، وعاش بعد وفاة نبينا عليه الصلاة والسلام، لكنه ما شرح الله صدره للإيمان، وأمره عند ربنا الرحمن سبحانه وتعالى، ففي غزوة مؤتة في العام الثامن للهجرة، بعد الأسئلة التي سألها أبا سفيان بسنتين، قاد جحافل الروم وكانوا مائة ألف، وانضم إليه أيضاً مائة ألف من قبائل لخم وجذام، وحصلت بين هؤلاء الجموع من الروم ومن هذه القبائل وبين المسلمين الموقعة الشهيرة في العام الثامن للهجرة وهي غزوة مؤتة، وفيها كان أمير الجيش حب رسول الله عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة ، ثم بعد ذلك جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم أجمعين، ثم لما قتل هؤلاء الثلاثة بتأمير النبي عليه الصلاة والسلام لهم على التوالي والتعاقب، أخذ الراية خالد بن الوليد ، فاستطاع أن يعود بمن بقي من الجيش سالمين إلى المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه، وهذا أقل ما قيل في عدد الروم ومن معهم أنهم مائتا ألف، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف، فكل فرد يقابله سبعون فرداً، هذه الموقعة كان القائد فيها هرقل .
هل أسلم هرقل؟
وهذا الذي حصل من هرقل ، وجواب النبي عليه الصلاة والسلام يدل على أن هرقل مات على نصرانيته، وأنه كذاب في دعوى الإسلام كما أخبر عن ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث الطويل الذي أورده الإمام البخاري في آخر كتاب الوحي، افتتح الإمام البخاري كتاب الوحي بحديث عمر رضي الله عنه وهو في الكتب الستة: (إنما الأعمال بالنيات)، وختمه بهذا الحديث الطويل عن ابن عباس رضي الله عنهما كما تقدم معنا أن أبا سفيان بن حرب أخبره عن هذا الحديث الطويل، وختم الإمام البخاري كتاب الوحي بهذا الحديث الطويل، كأن الإمام البخاري يشير بهذا إلى أن أمر هرقل أمر خفي لم يجر منه إيمان ويثبت عليه، والله أعلم بحقيقة أمره، كأنه يشير بختم كتاب الوحي بهذا الحديث مع بدئه بحديث: (إنما الأعمال بالنيات)، كأنه يشير إلى أن هرقل إذا كان في قرارة نفسه وفي قلبه موحداً مؤمناً بالله ورسوله النبي صلى الله عليه وسلم، لكن منعه خشية القتل من إظهار الإيمان، فبقي في الظاهر على دين قومه، لكنه أقر وأذعن لله جل وعلا ولرسوله عليه الصلاة والسلام، وشهد له بالرسالة، فإن كان كذلك فيبقى الحديث: (إنما الأعمال بالنيات)، والله هو الذي سيحكم في هذا يوم تبلى السرائر، كأن الإمام البخاري كما قال الحافظ ابن حجر يشير إلى هذه المسألة، أن أمر هرقل مشكل غير ظاهر.
فإذا كانت نيته صادقة في قوله: إني مسلم، فلن يضيع ما صدر منه عند الله، لكن جواب النبي عليه الصلاة والسلام الذي ذكرته فيما يظهر والعلم عند الله يزيل هذا الإشكال، وأن أمره ليس بخفي، إنما هو واضح مُصِرّ على نصرانيته، آثر الدنيا على الآخرة.
ذكر الإمام الذهبي عليه رحمة الله في كتابه سير أعلام النبلاء ما يؤيد ما أشار إليه الإمام البخاري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، فكأنه يرى أنه إذا صدر ما صدر من هرقل من الإذعان والإقرار والاعتراف، وأنه لو أمكنه لتجشم الذهاب إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، ولو كان عنده لغسل عن قدمه، ولقبل رأسه، يقول: هذا إذا صدر منه على سبيل الإذعان والحقيقة، ثم ما استطاع أن يظهر هذا وأن يثبت عليه من أجل الخوف الذي يحيط به من رعيته وأهل دينه، لعله ينفعه في يوم من الأيام عند الله.
قصة هرقل مع أسيره عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه
هذا الكلام أورده الإمام الذهبي في ترجمة عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، وهو من الصحابة الأطهار الأبرار، قيل: إنه شهد بدراً، وقيل: لم يشهدها، فحول شهوده بدراً خلاف، لكنه من الصحابة على كل حال، وقد أرسله عمر رضي الله عنه أميراً على جيش ليقاتل الروم، والروم في بلادهم، فأسر على حدود الشام، فقيل لملك الروم: أسر أمير الجيش، وهو صاحب نبي الإسلام على نبينا صلوات الله وسلامه، فقال: ائتوني به، ثم لما جاء عبد الله بن حذافة إلى ملك الروم، عرض عليه أن يتنصر، وقال: أزوجك ابنتي وأعطيك نصف ملكي، كان يطمع في ذلك لأنه صحابي جليل وفي ردته فتنة للمسلمين الذين في قلوبهم ضعف إيمان، لكن الإيمان كما قال هرقل: إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، فقال عبد الله بن حذافة لملك الروم: لو أعطيتني جميع ما تملك ومثله وما يملكه العرب ما رجعت عن ديني محمد عليه الصلاة والسلام طرفة عين، فاقطع أملك من ذلك، قال: أقتلك، قال: أنت وذاك، فقال لأعوانه وحراسه وأفراد جيشه: خذوه وضعوه على شجرة واضربوه بالسهام، لكن لا تسددوا السهام عليه، دعوها تسقط بجواره، ليدخل في قلبه الخوف والفزع، لعله يرتد إذا فاوضناه مرة ثانية.
فأخذوه ووضعوه على شجرة وربطوه بها، ثم سلطوا السهام عليه يضربونه سهاماً كالمطر، لكن لم يقصدوه بالضرب بحيث تقع يميناً أو يساراً، ثم استدعاه هرقل، فقال: هل تكفر وترجع عن دينك وتدخل في النصرانية وأزوجك ابنتي وأعطيك نصف ملكي؟ فرد عليه الكلام السابق، فقال: إذن أقتلك، قال: أنت وذاك، فقال هرقل: هاتوا قدراً كبيراً، ووضعوا فيه ماء، ثم أوقد عليه النار، فأتى بأحد المسلمين فألقاه في الماء أمامه، فظهر عظمه، أي: انسلخ اللحم منه وظهر العظم، فقال: أترجع عن دينك وتدخل في ديني وإلا أفعل فيك كما فعلت، فبكى عبد الله بن حذافة ، فطمع ملك الروم، فقال: علام تبكي؟ قال: أبكي لأنني لا أملك إلا نفساً واحدة، كنت أتمنى أن يكون لي أنفاس، أي: أرواح، بعدد شعر جسمي حتى يكون أعظم لأجري، لكن نفس واحدة تلقيني في القدر وأموت، فأنا أبكي لأن أجري سيقل، فأنا أريد أن تكون لي أرواح متعددة لأحصل أجراً كثيراً، فقال ملك الروم: دعوه في بيت وأغلقوا عليه وضعوا معه الخمر والخنزير، فإما أن يأكل وإما أن يموت، ففتحوا عليه بعد ثلاث فالتوى عنقه، فقال: ما منعك أن تأكل؟ قال: إن الله قد أحل لي ذلك عند الضرورة، لكن لا أريد أن أشمتكم بمسلم، تقولون: أكل خنزيراً وشرب خمراً، هذا لا يمكن، فقد الحياة أيسر، فقال له ملك الروم: هل لك أن تقبل رأسي وأطلق سراحك؟ قال: وتطلق سراح المسلمين؟ وكانوا ثلاثمائة، قال: نعم، قال: أقبل رأسك، فقام عبد الله بن حذافة وقبل رأس هذا الملك النصراني النجس الكافر، فأطلق سراحه وسراح ثلاثمائة من المسلمين مأسورين، وأعطاه ثلاثين ألف دينار، وثلاثين وصيفة، فأخذ كل هذا وعاد بأسرى المسلمين إلى المدينة في عهد خلافة عمر رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.
فقص عبد الله بن حذافة على عمر ما حصل له، وأنه قبل رأس ملك الروم الكافر، فقال عمر : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا أول من يبدأ، فقام وقبل رأسه رضي الله عنه وأرضاه، وحقيقة ما قبل رأس هذا الكافر لمصلحة نفسه، إنما إذا توقف الأمر على إطلاق ثلاثمائة من المسلمين، فحقيقة الأمر يسهل بجانب إطلاق هذه النفوس العزيزة.
الإمام الذهبي بعد أن أورد هذه القصة علق عليها، والقصة صحيحة ثابتة، رواها البيهقي في دلائل النبوة، وابن عساكر في تاريخ دمشق، يقول الإمام الذهبي: ولعل هذا الملك قد أسلم سراً، ويدل على ذلك مبالغته في إكرام عبد الله بن حذافة ، ملك الروم بعد أن رأى من عبد الله بن حذافة ما رأى، لعله أسلم، وقال لعبد الله بن حذافة : قبل رأسي وأنا أعطيك ما أعطيك لئلا ألام أمام رعيتي، ولئلا يبطشوا بي، يقول هذا حيلة عليهم، وما أستطيع أنا أن أظهر الإسلام، يقول الذهبي : وكذا القول في هرقل إذ عرض على قومه الدخول في الدين، فلما خافهم قال: إنما كنت أختبر شدتكم في دينكم، فمن أسلم في باطنه هكذا فيرجى له الخلاص من خلود النار، إذ قد حصل في باطنه إيمان ما، وإنما يخاف أن يكون قد خضع للإسلام والرسول، واعتقد أنهما حق، مع كونه على دين صحيح، هذا لو صدر منه لا ينفعه ذلك الاعتقاد، فتراه يعظم الدينيين كما قد فعله كثير من المسلمانية، فهذا لا ينفعه الإسلام حتى يتبرأ من الشرك، والعلم عند الله جل وعلا.
هذه القصة في ترجمة عبد الله بن حذافة في سير أعلام النبلاء يذكرها أيضاً الإمام ابن حجر في الإصابة، يقول: ومن مناقب عبد الله بن حذافة .. ثم ذكر هذه القصة، وأنه تسبب في إطلاق ثلاثمائة من أسرى المسلمين من ملك الروم.
وعبد الله بن حذافة هو الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه، وكان فيه شيء من الدعابة والمزاح، وهو قائد الغزوة المشهورة التي طلب من المسلمين أن يوقدوا ناراً وأن يضرموها وأن يلقوا أنفسهم فيها، وهذا من باب المداعبة والمزاح ليختبر طاعتهم، وليمزح معهم، وهل سيلقون أنفسهم فيها أم لا؟
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند وابن ماجه في السنن ورواه ابن خزيمة في صحيحه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وإسناده صحيح، من رواية أبي سعيد الخدري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علقمة بن مجزز أميراً على بعث، يقول أبو سعيد : أنا فيهم، فأذن علقمة بن المجزز لطائفة من الجيش من هؤلاء البعث أن ينصرفوا وأن يذهبوا إلى مكان ما، وأمر عليهم عبد الله بن حذافة ، فقال لهم: أوليس لي عليكم حق السمع والطاعة؟ قالوا: بلى، قال: اجمعوا حطباً وأوقدوا ناراً، ثم قال: ألقوا أنفسكم فيها، فلما هم بعضهم أن يلقي نفسه فيها، وبدأ يحتجز، أي: يربط صدره وثيابه من أجل أن يلقي نفسه فيها، قال: أردت أن أختبر حالكم، وهل تطيعوني أم لا؟
وتكررت مثل هذه القصة كما في الصحيحين عن علي رضي الله عنه مع بعض الأنصار عندما أمره النبي صلى الله عليه وسلم على سرية، فغضب منهم، وكأنهم أزعجوه، وخالفوه في بعض الشيء في الطريق، فقال: اجمعوا حطباً ثم أوقدوا ناراً وألقوا أنفسكم فيها، ففريق جادلوه، وقالوا: آمنا برسول الله عليه الصلاة والسلام فراراً من النار، وفريق هم أن يلقي نفسه فيها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه، إنما الطاعة في المعروف)، وقال كما في الصحيحين في حديث علي رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده لو دخلوا فيها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف)، وقوله: (ما خرجوا منها)، أي: إذا استحلوا الدخول من غير تأويل، فهذا استحلال لمعصية فهو كفر، أو أنهم ما خرجوا منها، أي: سيموتون ويحترقون، وواقع الأمر كذلك، أو ما خرجوا منها، أي: أن دخولهم فيها سيوصلهم إلى نار جهنم بعد ذلك، وأمرهم إلى الله جل وعلا، فإن شاء عفا عنهم وإن شاء عذبهم سبحانه وتعالى، فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
الحاصل: يقول الذهبي عليه رحمة الله: لعل ملك الروم أسلم سراً، يقول: وهكذا هرقل ، فإذا كان في قلبه إيمان حقيقي، وما استطاع أن يظهره من أجل خوف قومه، لعله ينفعه ذلك عند ربه، والعلم عند الله جل وعلا.
أقول: هذا احتمال يقوله الذهبي، لكن ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام من أن هرقل كذب، وأنه عدو الله، ولا زال على نصرانيته، هذا يقطع كل احتمال والعلم عند الله جل وعلا.
وجه إيراد الإمام البخاري لاستدلال هرقل بالكهانة على بعثة النبي صلى الله عليه وسلم
ثم في العام التاسع في غزوة تبوك عندما قاد النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة بنفسه في هذه الغزوة الطويلة البعيدة، فلما وصل النبي عليه الصلاة والسلام إلى تبوك كتب إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام مرة ثانية، وكاد هرقل أن يسلم، لكن حصل منه ما حصل في المرة الأولى، عندما عرض الأمر على بطارقته وعلى أهل ديانته نفروا، فبقي على دينه وأرسل إلى النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً من الذهب كما ثبت هذا في صحيح ابن حبان ، فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، وفي رواية المسند كما ذكر هذا الحافظ في الفتح وإسناد الأثر صحيح ( أن
وهذا الذي حصل من هرقل ، وجواب النبي عليه الصلاة والسلام يدل على أن هرقل مات على نصرانيته، وأنه كذاب في دعوى الإسلام كما أخبر عن ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث الطويل الذي أورده الإمام البخاري في آخر كتاب الوحي، افتتح الإمام البخاري كتاب الوحي بحديث عمر رضي الله عنه وهو في الكتب الستة: (إنما الأعمال بالنيات)، وختمه بهذا الحديث الطويل عن ابن عباس رضي الله عنهما كما تقدم معنا أن أبا سفيان بن حرب أخبره عن هذا الحديث الطويل، وختم الإمام البخاري كتاب الوحي بهذا الحديث الطويل، كأن الإمام البخاري يشير بهذا إلى أن أمر هرقل أمر خفي لم يجر منه إيمان ويثبت عليه، والله أعلم بحقيقة أمره، كأنه يشير بختم كتاب الوحي بهذا الحديث مع بدئه بحديث: (إنما الأعمال بالنيات)، كأنه يشير إلى أن هرقل إذا كان في قرارة نفسه وفي قلبه موحداً مؤمناً بالله ورسوله النبي صلى الله عليه وسلم، لكن منعه خشية القتل من إظهار الإيمان، فبقي في الظاهر على دين قومه، لكنه أقر وأذعن لله جل وعلا ولرسوله عليه الصلاة والسلام، وشهد له بالرسالة، فإن كان كذلك فيبقى الحديث: (إنما الأعمال بالنيات)، والله هو الذي سيحكم في هذا يوم تبلى السرائر، كأن الإمام البخاري كما قال الحافظ ابن حجر يشير إلى هذه المسألة، أن أمر هرقل مشكل غير ظاهر.
فإذا كانت نيته صادقة في قوله: إني مسلم، فلن يضيع ما صدر منه عند الله، لكن جواب النبي عليه الصلاة والسلام الذي ذكرته فيما يظهر والعلم عند الله يزيل هذا الإشكال، وأن أمره ليس بخفي، إنما هو واضح مُصِرّ على نصرانيته، آثر الدنيا على الآخرة.
ذكر الإمام الذهبي عليه رحمة الله في كتابه سير أعلام النبلاء ما يؤيد ما أشار إليه الإمام البخاري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، فكأنه يرى أنه إذا صدر ما صدر من هرقل من الإذعان والإقرار والاعتراف، وأنه لو أمكنه لتجشم الذهاب إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، ولو كان عنده لغسل عن قدمه، ولقبل رأسه، يقول: هذا إذا صدر منه على سبيل الإذعان والحقيقة، ثم ما استطاع أن يظهر هذا وأن يثبت عليه من أجل الخوف الذي يحيط به من رعيته وأهل دينه، لعله ينفعه في يوم من الأيام عند الله.
يقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في الجزء الثاني صفحة خمسة عشر: فمن أسلم في باطنه -يقول هذا بعد قصة أذكرها عند نهاية كلامه- فيرجى له الخلاص من خلود النار، إذ قد حصل في باطنه إيمان ما، وإنما يخاف أن يكون قد خضع للإسلام والرسول عليه الصلاة والسلام، واعتقد أنه محق مع كون أنه على دين صحيح، فتراه يعظم الدينين، يعني يقول: الإسلام حق، والنبي عليه الصلاة والسلام صدق، لكن ما هو عليه من النصرانية أيضاً دين صحيح، فيعظم الدينين، يعظم الإسلام ونبي الإسلام، ويبقى على نصرانيته، ويعظم ديانته، فإن كان كذلك فهذا لا شك في كفره، واعتقد أنه محق، مع كون أنه -يعني هرقل وأمثاله- على دين صحيح، فتراه يعظم الدينين كما فعله كثير من المسلمانية، أي: الذين يظهرون الإسلام، وأن الإسلام أحق من النصارى وهم على نصرانيتهم، فهذا لا ينفعه الإسلام حتى يتبرأ من الشرك.
هذا الكلام أورده الإمام الذهبي في ترجمة عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، وهو من الصحابة الأطهار الأبرار، قيل: إنه شهد بدراً، وقيل: لم يشهدها، فحول شهوده بدراً خلاف، لكنه من الصحابة على كل حال، وقد أرسله عمر رضي الله عنه أميراً على جيش ليقاتل الروم، والروم في بلادهم، فأسر على حدود الشام، فقيل لملك الروم: أسر أمير الجيش، وهو صاحب نبي الإسلام على نبينا صلوات الله وسلامه، فقال: ائتوني به، ثم لما جاء عبد الله بن حذافة إلى ملك الروم، عرض عليه أن يتنصر، وقال: أزوجك ابنتي وأعطيك نصف ملكي، كان يطمع في ذلك لأنه صحابي جليل وفي ردته فتنة للمسلمين الذين في قلوبهم ضعف إيمان، لكن الإيمان كما قال هرقل: إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، فقال عبد الله بن حذافة لملك الروم: لو أعطيتني جميع ما تملك ومثله وما يملكه العرب ما رجعت عن ديني محمد عليه الصلاة والسلام طرفة عين، فاقطع أملك من ذلك، قال: أقتلك، قال: أنت وذاك، فقال لأعوانه وحراسه وأفراد جيشه: خذوه وضعوه على شجرة واضربوه بالسهام، لكن لا تسددوا السهام عليه، دعوها تسقط بجواره، ليدخل في قلبه الخوف والفزع، لعله يرتد إذا فاوضناه مرة ثانية.
فأخذوه ووضعوه على شجرة وربطوه بها، ثم سلطوا السهام عليه يضربونه سهاماً كالمطر، لكن لم يقصدوه بالضرب بحيث تقع يميناً أو يساراً، ثم استدعاه هرقل، فقال: هل تكفر وترجع عن دينك وتدخل في النصرانية وأزوجك ابنتي وأعطيك نصف ملكي؟ فرد عليه الكلام السابق، فقال: إذن أقتلك، قال: أنت وذاك، فقال هرقل: هاتوا قدراً كبيراً، ووضعوا فيه ماء، ثم أوقد عليه النار، فأتى بأحد المسلمين فألقاه في الماء أمامه، فظهر عظمه، أي: انسلخ اللحم منه وظهر العظم، فقال: أترجع عن دينك وتدخل في ديني وإلا أفعل فيك كما فعلت، فبكى عبد الله بن حذافة ، فطمع ملك الروم، فقال: علام تبكي؟ قال: أبكي لأنني لا أملك إلا نفساً واحدة، كنت أتمنى أن يكون لي أنفاس، أي: أرواح، بعدد شعر جسمي حتى يكون أعظم لأجري، لكن نفس واحدة تلقيني في القدر وأموت، فأنا أبكي لأن أجري سيقل، فأنا أريد أن تكون لي أرواح متعددة لأحصل أجراً كثيراً، فقال ملك الروم: دعوه في بيت وأغلقوا عليه وضعوا معه الخمر والخنزير، فإما أن يأكل وإما أن يموت، ففتحوا عليه بعد ثلاث فالتوى عنقه، فقال: ما منعك أن تأكل؟ قال: إن الله قد أحل لي ذلك عند الضرورة، لكن لا أريد أن أشمتكم بمسلم، تقولون: أكل خنزيراً وشرب خمراً، هذا لا يمكن، فقد الحياة أيسر، فقال له ملك الروم: هل لك أن تقبل رأسي وأطلق سراحك؟ قال: وتطلق سراح المسلمين؟ وكانوا ثلاثمائة، قال: نعم، قال: أقبل رأسك، فقام عبد الله بن حذافة وقبل رأس هذا الملك النصراني النجس الكافر، فأطلق سراحه وسراح ثلاثمائة من المسلمين مأسورين، وأعطاه ثلاثين ألف دينار، وثلاثين وصيفة، فأخذ كل هذا وعاد بأسرى المسلمين إلى المدينة في عهد خلافة عمر رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.
فقص عبد الله بن حذافة على عمر ما حصل له، وأنه قبل رأس ملك الروم الكافر، فقال عمر : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا أول من يبدأ، فقام وقبل رأسه رضي الله عنه وأرضاه، وحقيقة ما قبل رأس هذا الكافر لمصلحة نفسه، إنما إذا توقف الأمر على إطلاق ثلاثمائة من المسلمين، فحقيقة الأمر يسهل بجانب إطلاق هذه النفوس العزيزة.
الإمام الذهبي بعد أن أورد هذه القصة علق عليها، والقصة صحيحة ثابتة، رواها البيهقي في دلائل النبوة، وابن عساكر في تاريخ دمشق، يقول الإمام الذهبي: ولعل هذا الملك قد أسلم سراً، ويدل على ذلك مبالغته في إكرام عبد الله بن حذافة ، ملك الروم بعد أن رأى من عبد الله بن حذافة ما رأى، لعله أسلم، وقال لعبد الله بن حذافة : قبل رأسي وأنا أعطيك ما أعطيك لئلا ألام أمام رعيتي، ولئلا يبطشوا بي، يقول هذا حيلة عليهم، وما أستطيع أنا أن أظهر الإسلام، يقول الذهبي : وكذا القول في هرقل إذ عرض على قومه الدخول في الدين، فلما خافهم قال: إنما كنت أختبر شدتكم في دينكم، فمن أسلم في باطنه هكذا فيرجى له الخلاص من خلود النار، إذ قد حصل في باطنه إيمان ما، وإنما يخاف أن يكون قد خضع للإسلام والرسول، واعتقد أنهما حق، مع كونه على دين صحيح، هذا لو صدر منه لا ينفعه ذلك الاعتقاد، فتراه يعظم الدينيين كما قد فعله كثير من المسلمانية، فهذا لا ينفعه الإسلام حتى يتبرأ من الشرك، والعلم عند الله جل وعلا.
هذه القصة في ترجمة عبد الله بن حذافة في سير أعلام النبلاء يذكرها أيضاً الإمام ابن حجر في الإصابة، يقول: ومن مناقب عبد الله بن حذافة .. ثم ذكر هذه القصة، وأنه تسبب في إطلاق ثلاثمائة من أسرى المسلمين من ملك الروم.
وعبد الله بن حذافة هو الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه، وكان فيه شيء من الدعابة والمزاح، وهو قائد الغزوة المشهورة التي طلب من المسلمين أن يوقدوا ناراً وأن يضرموها وأن يلقوا أنفسهم فيها، وهذا من باب المداعبة والمزاح ليختبر طاعتهم، وليمزح معهم، وهل سيلقون أنفسهم فيها أم لا؟
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند وابن ماجه في السنن ورواه ابن خزيمة في صحيحه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وإسناده صحيح، من رواية أبي سعيد الخدري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علقمة بن مجزز أميراً على بعث، يقول أبو سعيد : أنا فيهم، فأذن علقمة بن المجزز لطائفة من الجيش من هؤلاء البعث أن ينصرفوا وأن يذهبوا إلى مكان ما، وأمر عليهم عبد الله بن حذافة ، فقال لهم: أوليس لي عليكم حق السمع والطاعة؟ قالوا: بلى، قال: اجمعوا حطباً وأوقدوا ناراً، ثم قال: ألقوا أنفسكم فيها، فلما هم بعضهم أن يلقي نفسه فيها، وبدأ يحتجز، أي: يربط صدره وثيابه من أجل أن يلقي نفسه فيها، قال: أردت أن أختبر حالكم، وهل تطيعوني أم لا؟
وتكررت مثل هذه القصة كما في الصحيحين عن علي رضي الله عنه مع بعض الأنصار عندما أمره النبي صلى الله عليه وسلم على سرية، فغضب منهم، وكأنهم أزعجوه، وخالفوه في بعض الشيء في الطريق، فقال: اجمعوا حطباً ثم أوقدوا ناراً وألقوا أنفسكم فيها، ففريق جادلوه، وقالوا: آمنا برسول الله عليه الصلاة والسلام فراراً من النار، وفريق هم أن يلقي نفسه فيها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه، إنما الطاعة في المعروف)، وقال كما في الصحيحين في حديث علي رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده لو دخلوا فيها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف)، وقوله: (ما خرجوا منها)، أي: إذا استحلوا الدخول من غير تأويل، فهذا استحلال لمعصية فهو كفر، أو أنهم ما خرجوا منها، أي: سيموتون ويحترقون، وواقع الأمر كذلك، أو ما خرجوا منها، أي: أن دخولهم فيها سيوصلهم إلى نار جهنم بعد ذلك، وأمرهم إلى الله جل وعلا، فإن شاء عفا عنهم وإن شاء عذبهم سبحانه وتعالى، فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
الحاصل: يقول الذهبي عليه رحمة الله: لعل ملك الروم أسلم سراً، يقول: وهكذا هرقل ، فإذا كان في قلبه إيمان حقيقي، وما استطاع أن يظهره من أجل خوف قومه، لعله ينفعه ذلك عند ربه، والعلم عند الله جل وعلا.
أقول: هذا احتمال يقوله الذهبي، لكن ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام من أن هرقل كذب، وأنه عدو الله، ولا زال على نصرانيته، هذا يقطع كل احتمال والعلم عند الله جل وعلا.
إخوتي الكرام! في الحديث الذي ذكرته في الموعظة الماضية، حديث ابن عباس رضي الله عنه حول أسئلة هرقل لـأبي سفيان ، تقدم معنا أن هرقل كان حزاءً ينظر في النجوم، وهذا قلنا فيه شيء من التكهن ودعوى وزعم علم الغيب، فكيف يورد الإمام البخاري هذا في صحيحه ويسكت عليه؟ والجواب: أن البخاري عليه رحمة الله أراد أن يورد في كتاب الوحي ما يدل على نبوة النبي عليه الصلاة والسلام، وأن الأدلة والبشارات تتابعت وتواترت على صدق نبينا عليه الصلاة والسلام من كل طريق بكل لسان، بلسان العربي ولسان الأعجمي، بلسان الإنس بلسان الجن، من جميع الطرق ورد ما يدل على أن نبينا عليه الصلاة والسلام رسول الله حقاً وصدقاً، وهذا أبدع ما يشير إليه عالم، وأقوى ما يحتج به محتج، فليس هذا فيه إثبات الكِهانة، لكن طريق الكهانة أشار إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام حق وصدق، وبعثته في هذا الوقت هو الذي يدل عليه كهانتهم، والجن صرحت بذلك، والإنس صرحت بذلك، والعرب صرحت بذلك، والعجم صرحت بذلك، فهذه الطرق على اختلاف أساليبها واعتباراتها متفقة على صدق نبينا عليه الصلاة والسلام في أنه رسول الله حقاً وصدقاً.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مباحث النبوة - الرضاعة حق للطفل | 3297 استماع |
مباحث النبوة - أزواج المؤمنين في جنات النعيم | 3252 استماع |
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [1] | 3230 استماع |
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [1] | 3207 استماع |
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [3] | 3166 استماع |
مباحث النبوة - صفات النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً وخلُقاً | 3152 استماع |
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [2] | 3121 استماع |
مباحث النبوة - كرم النبي صلى الله عليه وسلم وجوده | 3095 استماع |
مباحث النبوة - قوت النبي صلى الله عليه وسلم [1] | 3005 استماع |
مباحث النبوة - ضرب المرأة بين المنع والإباحة | 2950 استماع |