أساس تجديد الرابطة الإسلامية
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
أساس تجديد الرابطة الإسلاميةإلى أمير البيان، وبهجة أولي العلم والعرفان، الأمير شكيب أرسلان، أعز المولى به دولة العلم والأدب، وأقر به عين الإسلام والعرب.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فقد اطلعت على جوابك الكريم، فحمدت الله تعالى على ما بشرتني به من تمام شفائك، وما سرك من حسن هواء الطائف، وقد قرأت في اليوم الثاني الكتاب الوارد إليكم من دمشق الشام في موضوع التأليف بين المسلمين، وتخفيف لهجة (الإصلاح) المكية الغراء على المخالفين.
فأقول:
أما ما جاء في أول الكتاب من الثناء على أمير البيان، وما رجاه له وفيه ومنه من الخير العام فهو متفق عليه، ونحن ولله الحمد مشتركون فيه، وأما موضوعه فجدير بالاهتمام، وحقًّا لقد أحسن الكاتب بتوجيه نظر الأمير إليه - وهو من هو في نضاله عن الإسلام - ودعوة أهله إلى التضامن والتعاون على تطهيره من البدع والآثام التي ارتكبها بعض منتحليه، وعلى تجديد الحضارة العربية الإسلامية بالوسائل المنتجة الفعالة.
وهنا يتساءل المفكرون الباحثون: على أي أساس يُبنى تجديد الرابطة الدينية بين المسلمين؟ أليس على أساس العمل بصريح الكتاب والسنة الموافقين لصحيح العقل والوجدان والحس، واطراح الأهواء والخرافات التي صرفت الناس عن العمل لدينهم ودنياهم، وهبطت بهم إلى حضيض الجهالة والمهانة، وعلى النظر في مناشئ الخلاف وأسبابه، والسعي في إزالتها بقدر المستطاع؟
وقول الأمير أعزه الله في كتابه: لا أحب الخوض بهذه المباحث الاعتقادية؛ لأنها لا تنتهي، أقول: له الحق في ذلك؛ فقد صرَّح أشهر علماء الكلام وأكثرهم خوضًا فيه بأن مباحثهم الكلامية الجدلية، لم يكن لهم فيها خير ولا للناس، قال قائلهم:
فلم أرَ إلا واضعًا كفَّ حائرٍ
على ذقن أو قارعًا سنَّ نادمِ
وقال الآخر:
ولم نستَفِد من بحثنا طول عُمْرنا
سوى أن جَمْعنا فيه قيل وقالوا
وقال:
"لقد تأمَّلتُ الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تَشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾ [فاطر: 10]، وأقرأ في النفي ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11] ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110]، ومَن جرَّب مِثل تجرِبتي عرف مِثل معرفتي" ا.
هـ، ويقول الآخر: "لقد خضتُ البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن أن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان، وهأنذا أموت على عقيدة أمي" ا.
هـ.
وقول الأمير: وكثير من الاختلافات بعد التمحيص يعود لفظيًّا صرفًا، هو كما قال فلا نضع الوقت في مناقشتهم فيه.
ولكني أقول: إن الخلاف الواقع الآن بين أكثر المسلمين في العقائد هو خلاف عظيم في فَهْم النصوص القطعية، أدى إلى اختلاف عظيم في الأخلاق والأعمال، وكانت أضراره عليهم مِثل الجبال.
وليسمح لي الأمير في أن أُورد مثالين من مناشئ الاختلاف الكلي الذي أصار جمهور الأمة على طرفي نقيض قولاً وفعلاً واعتقادًا.
المثال الأول: اختلافهم في معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، التي هي أساس الدين وركنه الأعظم، فإن جمهور المتكلمين المؤولين فسَّروها بمعنى توحيد الربوبية الذي كان معروفًا ومعترفًا به في الجاهلية، وهو أن الله تعالى واحد لا شريك له في أفعاله من خلق ورزق وإحياء وإماتة، وتصريف لجميع الأمور إلى آخر ما وجدوه به من أفعاله التي استوى في العلم بها أعلم البشر وأجهلهم، ووحَّد الله بها مؤمنهم وكافرهم، فأهل الجاهلية قد عرفوا الله تعالى بأفعاله، واستدلوا على وجوده ووحدانيته بآثاره، ولم يشركوا معه أحدًا من مخلوقاته في شيء منها، كما ثبت ذلك بنص القرآن العظيم، قال الله تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [لقمان: 25]، وقال عزت كلمته: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 31].
وقال جلَّت حكمته: ﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 84 - 89].
إذًا فتوحيد الربوبية، أو توحيد الرب تعالى بأفعاله، لم يكن محل نزاع بين النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقومه، ولم يبعث إليهم من أجله؛ لأنهم كانوا موحدين لله تعالى في أفعاله كما تقدم، والدعوة إلى هذا النوع من التوحيد هو على خلاف اللغة والشرع والواقع، إذ لم يكن أهل الجاهلية جاهلين به ولا جاحدين له، ولا مستكبرين عن النطق بكلمة التوحيد لو كان المراد بها ما أسلفنا، وإنما استكبروا عنها لما فَهِموا أن المراد منها بُطلان عبادة آلهتهم إذا كانوا يتقربون بعبادتهم إلى ربهم، كما أخبر تعالى عنهم بقوله: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [يونس: 18].
وأما العارفون بلغة القرآن وتاريخ الجاهلية فهم يقولون: إن أهل الجاهلية قد عرفوا الله بأفعاله ووحدوه بها، ولكن لم يوحدوه بأعمالهم، ولم يخلصوا له بعبادتهم: كالدعاء والخوف والرجاء، والحب والتعظيم والاستغاثة، والاستعاذة والاستعانة والتوكل، والذبح والنذر والرغبة والرهبة، والخضوع والخشوع والالتجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة التي كان يصرفها المشركون لمعبوداتهم من الصالحين وغيرهم لتُقرِّبهم إلى الله زلفى فجاءت كلمة التوحيد تلقف ما يأفكون، وتنفي ما يثبتون، فكلمة (لا إله) نفي لكل معبود في الوجود وإبطال لعبادته، وكلمة (إلا الله) إثبات لعبادة المعبود بحق وحده: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾[الحج: 62]، فمعنى (إله) في لغة العرب وفي الشرع هو المعبود بحق أو بغير حق، ولفظ الجلالة علَم على المعبود بحق وهو الله - عز وجل - فكلمة التوحيد مسقطة لجميع آلهتهم، هادمة لأنواع عبادتهم، مثبتة العبادة كلها لله وحده، الذي وحَّدوه بربوبيته ولم يوحدوه بإلاهيته، فأقام عليهم الحجة بما أقروه على ما أنكروه، وبين أن من تفرد بالإيجاد والإمداد، يجب أن يفرد بالعبادة، ولما كان المشركون يفهمون من كلمة (لا إله إلا الله) هذا المعنى الذي قدمناه لغة وشرعًا، كانوا يستكبرون عنها - كما قال تعالى -: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الصافات: 35]، أما دعاة غير الله تعالى فقد سَهُل عليهم الأمر، لأنهم قد فهموا من كلمة التوحيد ما يُخالف الوضع والشرع، وفسَّروها بمعنى وحدانية الله تعالى بأفعاله وبالقدرة على الإبداع والاختراع، وأخرجوا كل ما ذكرناه من أنواع العبادة عن معناه اللغوي والشرعي، وأجازوا فعله كله لغير الله بعد أن نحلوه لقب التوسل والاستشفاع، مع أن تغيير الأسماء لا يغيِّر شيئًا من الحقائق.
إذًا فكلمة التوحيد هذه لا بد من فَهم معناها وعدم نقضها بمعاول الجهل، والعمل بمقتضاها بما بعث به النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعا إليه وقاتل عليه، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية".
فهذا شرط أساسي: وركن أصلي، لا يتم التفاهم بدونه ولا يقع الاتفاق إلا عليه.
المثال الثاني: من العقائد المذكورة في كتب الكلام، التي يتلقاها جماهير طلبة العلم في الأمصار الإسلامية أن الله تعالى يوجد المسببات عند أسبابها لا بها، فيقولون: السكين لا يقطع بنفسه، ولكن القاطع هو الله تعالى والسكين سبب عادي خلق الله تعالى القطع عنده؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وهؤلاء هم الاقترانية الذين يقولون: إن الله يخلق عند السبب لا بالسبب ومن نحا نحوهم - إلى أن قال: وأما أئمة السنة وجمهورهم فيقولون ما دل عليه الشرع والعقل، قال تعالى: ﴿ فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾ [فاطر: 9] وبعد أن أورد أمثلة أخرى من الكتاب العزيز قال: ومِثل هذا كثير في الكتاب والسنة يخبر تعالى أنه يحدث الحوادث بالأسباب.
وقال العالم الرباني ابن قيم الجوزية:
"قالوا - أي: الاقترانية -: وهكذا حكم الطاعات مع الثواب، والكفر والمعاصي مع العقاب، هي أمارات محضة لوقوع الثواب، لا أنها أسباب له، وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار والحرق مع الإحراق والإزهاق مع القتل، ليس شيء من ذلك سببًا البتة ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا بمجرد الاقتران العادي، لا التأثير السبَبِي"، قال ابن القيم: "وخالفوا بذلك الحِسَّ والعقل والشرع والفطرة وسائر طوائف العقلاء: بل أضحكوا عليهم العقلاء - إلى أن قال: وقد رتَّب الله - سبحانه - حصول الخيرات في الدنيا والآخرة، وحصول الشر في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ترتيب الجزاء على الشرط والمعلول على العلة والمسبب على السبب، وهذا في القرآن يزيد على ألف موضِع" ا.
هـ.
أقول:
وفي طليعة كتابه "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" تحقيق بديع لهذا المبحث، وقد أورد له القواعد والشواهد الشرعية من القرآن العظيم الذي أيد العقل والحس والفطرة وطبيعة البشر في ذلك، ولكنك بعد هذا كله تجد في بعض الكتب الكلامية قولين في تكفير من ذهبوا هذا المذهب أخذًا بهداية الشرع ودَلالة العقل وجريًا مع الحس، ووفاقًا لعقلاء البشر (أحدهما) أنهم يكفرون لنسبتهم التأثير إلى الحوادث؛ أي: وإن صرحوا بأن الله تعالى هو الذي أودع القوى والخواص في جميع الموجودات، (الثاني) أنهم مبتدعة أو ضُلال على كل حال.
وإذا أضيف إلى ما سبق دعوى التصرف في الكون - التي يدعيها العوام وبعض من يسمون الخواص - لبعض الصالحين، أو تقسيم الدنيا إلى أربع مناطق وتخصيص كل قسم منها بواحد منهم، ودعوى وجود الله تعالى بذاته - تقدست وعلت - في كل مكان، أو دعوى أنه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، وما يضاف إليها من سلبه تعالى صفات كماله ونعوت جلاله، فقد وقع الإشكال العظيم في التوحيد بأقسامه الثلاثة توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، ونعوذ بالله من سوء الفَهْم والخذلان، والحق يقال: إن هذه العقائد قد عظم ضررها، وقبح أثرها، وكان من نتائجها خروج جماهير المتعلمين على الطريقة الفنية عن دائرة دينهم، وافتتانهم بما عند غيرهم وهم الذين يجاهدهم أمير البيان - أحسن الله إليه - بلسانه وقلمه وتدعوهم مجلة (الفتح الغراء) التي نوه بها الكاتب إلى الرجوع إلى حظيرة دينهم.
فرجال الدين (الإصلاح) السلفيون يجتهدون في تصحيح العقائد والقواعد، ودعاة الدين والمدنية الإسلامية يسعون في تخفيف المهالك والمفاسد، ولا بد من تعاون الفريقين على إنشاء معاهد علمية في الأقطار الشرقية والغربية تدعو إلى الله على بصيرة، وتجدد الحضارة الإسلامية الصحيحة، وتعيد عهد السلف الصالحين، والله هو الموفق والمعين.
المصدر: مجلة الإصلاح، العدد السابع عشر، محرم وغرة صفر 1348هـ، ص8