فقه المواريث - شروط إرث الحمل


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس التوريث بالتقدير والاحتياط، بعد أن تدارسنا التوريث عن طريق التحديد والانضباط، فيما يتعلق بالفروض والعصبات وغير ذلك.

إخوتي الكرام! تقدم معنا أن الورثة أحياناً يشك في وجودهم وفي موتهم، هل هو ميت أو حي، هل هو موجود أو مفقود، كما يشك في ذكورته وأنوثته؛ ولذلك يترتب معنا عدة مباحث أولها الخنثى، وهو موجود لكن هل هو ذكر أو أنثى، والحمل وهو من ثبت وجوده في بطن أمه لكن هل هو ذكر أو أنثى، بل الإشكال فيه أكثر من الإشكال في الخنثى كما سيأتينا، هناك إما ذكر وإما أنثى، وأما هنا فقد يكون الحمل ذكرين أو أنثيين أو ذكراً وأنثى أو أكثر من ذكرين أو أكثر من أنثيين أو أكثر من ذكرين وأنثيين، أحياناً قد يلد مثلاً سبعة أولاد في الحمل، وقد يكون معدوماً، أي: يولد ميتاً، فصار الإشكال فيه أكثر من الإشكال في الخنثى؛ ولذلك قلت في موضوع الذكورة والأنوثة يدخل معنا مبحثان: الخنثى والحمل، والخنثى انتهينا منه، والحمل سنبدأ فيه، وأما في موضوع الوجود والعدم، هل هو موجود عند موت مورثه أو معدوم ميت، فقلت: معنا ثلاثة مباحث، الحمل يدخل في الأمرين، وهكذا المفقود، وهكذا من يموتون في موت جماعي من حرق وغرق وغير ذلك، بعد أن انتهينا من الخنثى ندخل الآن في مبحث الحمل إن شاء الله.

الحمل أول مباحثه تعريفه لغة واصطلاحاً، الحمل في اللغة: هو ما في بطن كل حبلى من آدمية أو غيرها، يقال له حمل، وهو ثقل لكنه محمول في البطن، وإذا حمل الثقل في الظاهر إما على الظهر أو على اليدين أو على الرأس فيقال له: حمل، فالحَمل ما في بطن الحبلى من آدمية وغيرها، والحِمل هو الثقل المحمول ظاهراً، وذاك محمول باطناً، وقد أشار ربنا جل وعلا إلى هذا في كتابه فقال في سورة الأعراف: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ [الأعراف:189] وأما الحِمل فأشار إليه ربنا جل وعلا بقوله: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ [فاطر:18] إلى حملها، أي: إلى الشيء الذي تحمله وهي الأوزار التي تحمل على الظهور كما قال العزيز الغفور: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25]، فهنا حِملها، وهناك حَملها، فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا [الأعراف:189] وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ [فاطر:18]، وجمع أحمال أحمالاً، ومنه قول ذي العزة والجلال: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، والأنثى الحبلى يقال لها: حامل بغير تاء، وحاملة، حامل وحاملة، فإن حملت شيئاً ظاهراً فهي حاملة فقط، الحمل الذي في بطنها تقول هذه حامل وهذه حاملة، ثم إذا حملت على ظهرها أو على رأسها تقول: هذه حاملة، ولا يجوز أن تقول: هذه حامل، فالحمل الذي في بطن الحبلى تقول للحبلى إذا حملت: هي حامل أو هي حاملة، في اللغة الضبطان صحيحان، وإذا حملت حملاً ظاهراً، فهي حاملة ليس إلا.

هذا فيما يتعلق بالتعريف اللغوي، والمراد من الحمل في الفرائض فهو ما في بطن الآدمية من ولد، وتقدم معنا أن الولد أعم من الذكر والأنثى.

وليس المراد ما نريد أي: حمل أيضاً إنما الحمل الذي يرث ويحجب في كل تقدير، أو ببعض التقادير إذا انفصل حياً.

إذاً: نحن سنبحث في خصوص الحمل الوارث، أما لو قدر أن إنساناً مات، وترك امرأة من قراباته حاملة لكن ما في بطنها لا يرثه، ما لنا علاقة به.

يُشترط لتوريث الحمل شرطان باتفاق علمائنا الكرام:

الشرط الأول: تحقق وجوده في الرحم حين موت المورث، ولو نطفة، والسبب في اشتراط هذا الشرط أن الميراث خلافة عن الميت، والوارث يخلف المورث، فكيف سيخلفه وهو معدوم غير موجود! فينبغي أن نتحقق من وجوده، ولكن الحياة الشرعية تكون إذا ثبت أنه نطفة في الرحم، وهذه النطفة دخلت في مراحل التكوين، ويأتينا متى نتحقق من وجوده، هذا مبحث آخر سيأتينا ضمن خطوات البحث إن شاء الله.

إنما إذا ثبت وجوده في بطن أمه عند موت مورثه ولو نطفةً أي: أنه يعني: العلوق، فحصل الحمل، لكن في أول المراحل الحمل أربعون يوماً نطفة، ثم أربعون يوماً علقة، ثم أربعون يوماً مضغة، ثم يحصل النفخ والتكوين على رأس عشرين ومائة يوم بعد أربعة أشهر، فإذا ثبت أنه استقر في الرحم ولو نطفة عند موت المورث اعتبر أنه حي وهو موجود وحياته حياة شرعية، وتقدم معنا عند شروط الإرث أنه تشترط شروط أربعة:

أولها: التحقق من موت المورث حقيقة أو حكماً كما تقدم معنا في المفقود.

ثانيها: حياة الوارث حياة شرعية مستقرة، ولو كان نطفة في بطن أمه في رحم أمه تقدم معنا.

ثالثها: انتفاء المانع.

رابعها: وحوله كلام كثير في كتب الفرائض قالوا: علم من يعطي الوارث حقه.

لكن قلت سابقاً: هذا لا يصح أن يعتبر شرطاً؛ لأن هذا يشترط في جميع الأمور.

الشرط الثاني: انفصاله حياً عند ولادته حياة معتبرة مستقرة، فلا بد من أن يخرج تثبت له الحياة؛ ولذلك لا بد من استهلاله وصياحه، أما لو قدر أنه خرج وتنفس ومات فلا تعتبر حياة شرعية، فهذه كحركة المذبوح، يعني لا بد من أن يصيح، لا بد من أن يبكي، لا بد من أن يتنفس تنفساً طويلاً ويثبت، وإذا رضع أو مص أصبعه من باب أولى، أما اختلاج أو تنفس تنفساً يسيراً ثم مات فهذا لا يرث، فلا بد من أن ينفصل من بطن الأم وهو حي حياة ثابتة معتبرة مستقرة، لما ثبت في سنن أبي داود والسنن الكبرى للإمام البيهقي ، والحديث حسن بشواهده سكت عنه أبو داود وحسنه أئمتنا لوجود الشواهد له بل نصوا على تصحيحه، انظروا نص الراية للإمام الزيلعي، وقلت لكم: إنه كتاب عظيم، وهو أول من شرع في تخريج الأحاديث وجمع طرقها من كتب الفقه، نصب الراية في تخريج أحاديثه للإمام الزيلعي في الفقه الحنفي، في الجزء الثاني صفحة سبع وسبعين ومائتين، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا استهل المولود ورث ) ولك أن تجعلها بصيغة المبني للمجهول، وبالضبطين ذكرهما أئمتنا، وُرِث وَرث، أي: يورث من قبل الأحياء، وهو يستحق الإرث ويصبح وارثاً، وسيأتينا ضابط الاستهلال عند أحوال المولود عند خروجه من بطن أمه.

والحديث فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن، وهو مدلس، وهو من رجال مسلم والسنن الأربعة، ومسلم أخرج له مقروناً، لكن كما قلت للحديث شواهد سيأتي الإشارة إلى بعضها إن شاء الله.

قال الإمام البيهقي في السنن الكبرى: ورواه الإمام ابن خزيمة وزاد في الرواية، هذه الرواية موصولاً في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا استهل المولود ورث، تلك طعنة الشيطان ) يعني: الاستهلال من أثر طعنة الشيطان،( تلك طعنة الشيطان، كل بني آدم نائل منه تلك الطعنة، إلا ما كان من مريم وابنها فإنها لما وضعتها أمها قالت: إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، فضُرب دونها بحجاب، فطعن فيه) يعني: في الحجاب، يعني: طعن الشيطان أيضاً بأصبعه لكن ما أصاب خاصرة نبي الله عيسى، على نبينا عليه الصلاة والسلام ولا خاصرة أمه، ولا أصابهما بسوء، فطعن في الحجاب، إن الحجاب جعل في المشيمة أو حجاب آخر، والله على كل شيء قدير، (فطعن فيه )يعني: في الحجاب.

وفي رواية الأعرج -هذا كله الكلام للإمام البيهقي في السنن الكبرى- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه إلا عيسى بن مريم ) على نبينا وعليه الصلاة والسلام، (ذهب يطعن )يعني: الشيطان، ( فطعن في الحجاب ) قال أبو هريرة: هذا في رواية الأعرج، وفي الرواية الثانية من كلامه رضي الله عنه وأرضاه: أرأيت هذه الصرخة التي يصرخها الصبي حين تلده أمه، فإنها منها، يعني: من تلك الطعنة والضربة، فطعن الشيطان في جنب الإنسان تقدم معنا ضمن المباحث في الترمذي، وقلت: إن الحديث ثابت في المسند والصحيحين وغيرهما وتقدم معنا أيضاً من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وبينت هناك أن هذا ليس من باب الخصوصية لنبي الله عيسى وأمه على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه، فالأنبياء يحصل لهم هذا كما تقدم معنا في كلام القاضي عياض، وقلت: بل إن حفظ نبينا عليه الصلاة والسلام من طعنة الشيطان من باب أولى؛ لأنه إذا مريم وابنها عوذا من قبل أم مريم فنبينا عليه الصلاة والسلام حصن وعوذ من قبل الله جل وعلا، عندما أوحي إلى أمه إذا وضعتيه قولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد وسميه محمداً على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، تقدم معنا البحث في ذلك، وكما قلت: الحديث في مسلم والصحيحين وتقدم معنا أنه أيضاً استدركه الحافظ في مستدركه، وقلت هذا وهم منه، والحديث ثابت في الصحيحين، وهو في السنن الكبرى للبيهقي ومصنف عبد الرزاق، وتفسير الطبري وتفسير ابن أبي حاتم، ومسند عبد بن حميد، ومصنف ابن أبي شيبة، على كل حال الحديث في الصحيحين وهو ثابت.

إذاً: هذا الحديث الأول حديث أبي هريرة رضي الله عنه قلت: نص أئمتنا على تحسين الشاهد منه: ( إذا استهل المولود ورث )، وفي بعض روايات البيهقي لهذا الحديث قال أبو هريرة رضي الله عنه: من السنة أن لا يرث المنفوس -أي: المولود- حتى يستهل صارخاً، فإذا مات بعض مورثيه، واستهل ورثه، فإذا مات بعد ذلك ورث أيضاً، فلا يرث ولا يورث حتى تثبت حياته عن طريق الاستهلال أولاً.

وقول الصحابي عندما يقول من السنة كما لو قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام تماماً.

وحديث أبي هريرة: ( إذا استهل المولود ورث ) ورد له شواهد أحاديث متصلة مرفوعة، وأحاديث مرسلة، وآثار موقوفة لها حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، استمعوا إلى التفصيل الموجز لهذه الأمور الثلاثة:

أولها حديث مرفوع متصل، من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، والحديث إسناده صحيح كالشمس قال عنه الإمام الترمذي : حسن صحيح، وصححه عدل من أئمتنا، وفيه أيضاً تدليس أبي الزبير في روايته عن جابر بن عبد الله وهو مدلس وقد عنعن، لكن الرواية كما قلت ثابتة، ولذلك صححها الإمام الترمذي، والحديث في سنن الترمذي وابن ماجه ورواه ابن حبان في صحيحه انظروا موارد الضمآن صفحة ثلاثمائة، ورواه الحاكم في مستدركه وصححه وأقره عليه الذهبي في الجزء الرابع صفحة تسع وأربعين وثلاثمائة، ورواه البيهقي في السنن الكبرى في الجزء الرابع صفحة ثمانية، وأورده الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد في الجزء الرابع صفحة خمس وعشرين ومائتين، وعزاه إلى معجم الطبراني الكبير والأوسط، وهو خلاف شرطه كما تقدم معنا مراراً، أنه إذا كان الحديث في الكتب الستة ينبغي أن لا يذكر في المجمع لكنه ذكره منه، ونسبه إلى معجم الطبراني الكبير والأوسط، وعليه نقول رواه أيضاً الطبراني في معجميه، لكن لا داعي لاستدراكه على الكتب الستة لزيادته على الكتب الستة، فهو موجود في كتابين من الكتب الستة في سنن الترمذي وابن ماجه كما تقدم معنا، قال الإمام البيهقي في السنن الكبرى وأورده في كتاب الجنائز؛ لأنه استدل به على أمرين: على موضوع الصلاة على الميت المولود الجنين إذا استهل، والأمر الثاني على توريثه، قال في كتاب الجنائز في الجزء الرابع صفحة ثمانية: وروِّيناه في كتاب الفرائض من حديث أبي هريرة مرفوعاً، تقدمت معنا رواية أبي هريرة أن البيهقي رواه أيضاً يقول: هذا الحديث الذي سأذكر لفظه، يقول: رويناه في كتاب الفرائض من حديث أبي هريرة مرفوعاً، ولك أن تقول: روَيناه، رويناه من قبل مشايخنا ورويناه عنهم.

ولفظ حديث جابر عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( الطفل لا يصلى عليه، ولا يرث، ولا يورث حتى يستهل ), وفي بعض رواية الحديث: ( السقط ) وهو الذي يولد قبل التمام، ( لا يصلى عليه ولا يرث، ولا يورث حتى يستهل )، وفي رواية ابن ماجه : (الطفل لا يصلى عليه، ولا يرث ولا يورث حتى يستهل) وروي الحديث مرفوعاً من رواية علي وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، انظروا تفصيل الكلام على هذه الروايات في نصب الراية في المكان المشار إليه آنفاً.

إخوتي الكرام! بالنسبة للصلاة على السقط أو على الطفل، عند المذاهب الأربعة بلا خلاف إذا ولد المولود قبل أربعة أشهر لا يصلى عليه؛ لأنه لم يكتمل خلقه، فإذا ولد بعد أربعة أشهر واكتمل خلقه، وفيه علامة التصوير والتكوين فثلاثة أقوال في تغسيله والصلاة عليه.

القول الأول: مذهب أبي حنيفة يقول: إذا صدر منه ما يدل على الحياة من تنفس واستهلال وبكاء غسل وصلي عليه، مع أنه سقط ونزل ميتاً، يعني: لو ولد وهو على أربعة أشهر، خمسة أشهر.. ستة أشهر.. سبعة أشهر، إلى ما شاء الله، المقصود فيه علامة الخلق، وظهر ما يدل على الحياة من نفس وبكاء فهذا يصلى عليه.

وقول الإمام مالك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا قريب من قول الإمام أبي حنيفة، لكنه قال: لا بد من أن يكون النفس طويلاً، لا يكفي حصول نفس يسير، فلو تنفس نفساً يسيراً لا يعتبر حياً، وعليه لا يغسل ولا يصلى عليه، كما لو أسقطت مضغة أو قطعة لحم.

القول الثاني: وهو للإمام الشافعي عليه رحمة الله فيقول: التغسيل لا بد منه بعد أربعة أشهر، وأما الصلاة إذا لم يجر منه ما يدل على حياته بأن لم يتنفس أو لم يحصل منه صياح -استهلال- فعنده قولان: في الجديد لا يصلى عليه، وفي القديم يصلى عليه، والتغسيل لا بد منه في كل حال، لكن هذا كله إذا لم يحصل منه كما قلت، ما يدل على حياته.

والقول الثالث للإمام أحمد : إذا استبان بعض خلقه يغسل ويصلى عليه حصل منه ما يدل على حياته أو لم يحصل.

وفيما يظهر والعلم عند الله الآثار متعارضة في ذلك، ورد ما يدل على الصلاة، وأذكر لكم حديثاً وإن لم تتبين حياته، فورد أن الصلاة مقيدة بما لو حصل منه استهلال، فمن الأحاديث التي تدل على أنه يصلى عليه مطلقاً، ولم يقيد ذلك باستهلال، وهو حديث صحيح ثابت في المسند والسنن الأربعة، ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وأبو داود الطيالسي في مسنده، والبيهقي في السنن الكبرى، والطحاوي في شرح معاني الآثار وإسناده صحيح كالشمس من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( السقط ) وفي رواية ابن ماجه: ( الطفل يصلى عليه ) وما قيد إذا استهل أو لم يستهل، زاد أبو داود والحاكم والبيهقي والطيالسي: ( ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة ).

إذاً: الطفل إذا ظهرت منه علامة الحياة فبالاتفاق يصلى عليه، لكن إذا لم يظهر، فعند الإمام الشافعي تغسيله لا بد منه، وفي الصلاة عليه قولان، وعند الإمام أحمد لا بد من الصلاة عليه كالتغسيل، وعند أبي حنيفة إذا لم يظهر علامة الحياة لا يصلى، وهكذا الإمام مالك.

إذاً: ( السقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة )، قال الإمام الترمذي : هذا حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، قالوا: يصلى على الطفل وإن لم يستهل، بعد أن يعلم أنه خلق، يعني: اكتمل خلقه، ونفخت فيه الروح، وهو قول أحمد وإسحاق .

إذاً: لتعارض النصوص اختلفت أقوال الأئمة والأحوط الصلاة عليه، فإذا لم تنفع لا تضره، غسلته صلى عليه وادعو لوالديه بالمغفرة والرحمة، فإن كان يعتبر وجوده وأنه مات فسيبعث يوم القيامة وقد قمت نحوه بما قمت من أمر شرعي، وإلا فلا مضرة والعلم عند الله جل وعلا.

إذاً: هذا الأثر الأول كما قلت متصل مرفوع، والأثر الثاني مرسل، وعندنا مرسلان في ذلك، الأول مرسل سعيد بن المسيب ومراسيله كما تقدم معنا مراراً أصح المراسيل، ومرسله ثابت في السنن الكبرى للإمام البيهقي في الجزء السادس صفحة سبع وخمسين ومائتين عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه وأرضاه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يرث الصبي إذا لم يستهل )، والاستهلال الصياح أو العطاس أو البكاء، قال سعيد: ولا يصلى عليه، يعني: إذا لم يستهل؛ لأنه هو يقول: لا يرث، وتقدم معنا: ولا يصلى عليه من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين.

والمرسل الثاني عن مكحول الدمشقي، وهو لأهل الشام كـالحسن البصري لأهل البصرة عليهم جميعاً رحمة الله، مرسل في سنن الدارمي في الجزء الثاني صفحة ثلاث وتسعين ومائتين، عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يرث المولود حتى يستهل صارخاً، وإن وقع حياً ) يعني: إذا ولد وهو حي، لكن ما حصل منه ما يدل على الحياة الكاملة من استهلال وعطاس وبكاء، وحركة تدل على الحياة التامة، يعني: لو قدر أنه تنفس تنفساً يسيراً واختنق، فلا يرث،( لا يرث المولود حتى يستهل صارخاً، وإن وقع حياً ) هذا مرسل عن مكحول الدمشقي رضي الله عنهم أجمعين، والأثر الموقوف.

عندنا ثلاثة آثار موقوفة عن ثلاثة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، أولها أثر جابر رضي الله عنه وأرضاه رواه الدارمي في المكان المتقدم والبيهقي في المكان المتقدم في الجزء السادس صفحة سبع وخمسين ومائتين قال الإمام البيهقي : روي من حديث جابر مرفوعاً وموقوفاً، وقد مضى في الجنائز بعد رواية أبي هريرة التي تقدمت معنا في أول الباب، قلنا: رواها البيهقي كما أحال في كتاب الجنائز على رواية أبي هريرة، أحال في كتاب الفرائض على رواية جابر، قال: روي أيضاً حديث أبي هريرة من رواية جابر بن عبد الله موقوفاً ومرفوعاً، ثم قال: وقد مضى في الجنائز، يعني: في الجزء الرابع صفحة ثمانية في الجنائز، كما حدد، وفي الجنائز ذكر الروايتين الموقوفة والمرفوعة عن جابر، المرفوعة تقدمت معنا، والموقوفة في نفس المكان، ورواية جابر الموقوفة رواها ابن أبي شيبة أيضاً في مصنفه في الجزء الحادي عشر صفحة ثلاث وتسعين ومائتين، وعبد الرزاق في مصنفه أيضاً.

الموقوف الثاني: الأثر الثاني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين رواه عبد الرزاق في مصنفه في المكان المتقدم في الجزء الثالث صفحة ثلاثين وخمسمائة.

وأثر جابر هذا روي مرفوعاً وموقوفاً، ولذلك بعض العلماء يقول هذا اضطراب، تارة يرفع، وتارة يوقف، وفيه عن أنس وأبي الزبير، يقول: لأن هذا اعتبروه اضطراباً، والذي يظهر إذا ثبت الرفع لا يقال: مرة وقفه ومرة رفعه، لا إشكال في ذلك، يعني: فقط يثبت الإسناد، أما أنه يعني إذا روي موقوفاً فهذا يعتبر علة في رفع الحديث، وأن هذا اضطراب في الإسناد فلا ثم لا، فكم من حديث أحياناً يروى موقوفاً، وأحياناً يروى مرفوعاً، فهذه الآن اعتبروها علة اضطراب.

الحديث الثاني كما قلت الأثر الموقوف أثر عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين في مصنف عبد الرزاق، من رواية أبي إسحاق، وهو أبو إسحاق السبيعي الذي تقدم معنا من أئمة الإسلام رحمة الله ورضوانه عليه، قال: سئل ابن عمر عن السقط يقع ميتاً أيصلى عليه، قال: لا حتى يصيح، فإذا صاح صلي عليه وورث، وهذا له أيضاً حكم الرفع.

الأثر الثالث أثر عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، في سنن الدارمي في الجزء الثاني صفحة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وهي في مصنف ابن أبي شيبة أيضاً الأثر في مصنف ابن أبي شيبة، في الجزء الحادي عشر صفحة أربع وثمانين وثلاثمائة، قال رضي الله عنه وأرضاه: إذا استهل الصبي ورث وصلي عليه.

إذاً: معنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، له شاهد في حديث مرفوع متصل، وله شاهد في مرسليه، وهناك ثلاثة آثار موقوفة تشهد له، وكما قلت أئمتنا حسنوه بل صححوه وهو إذا استهل المولود ورث وعليه لا بد من انفصاله حياًحياة معتبرة شرعية يثبت له الإرث ممن مات من مورثيه وهو حمل في بطن أمه، وهذه الآثار الموقوفة ورد أيضاً ما يقررها ويقويها ويشهد لها ويماثلها من أقوال التابعين عن جمع غفير منهم، انظروا أقوالهم في مصنف عبد الرزاق، في الجزء الثالث صفحة ستاً وعشرين وخمسمائة إلى ثلاث وثلاثين وخمسمائة، أورد آثاراً متعددة عن التابعين في هذا الأمر وهو أن الصبي لا يرث حتى يستهل، وهكذا في مصنف ابن أبي شيبة في أربع صفحات في الجزء الحادي عشر صفحة واحد وثمانين وثلاثمائة إلى أربع وثمانين وثلاثمائة، وانظروا أيضاً في سنن الدارمي في الجزء الثاني صفحة اثنتين وتسعين وثلاثمائة إلى ثلاث وتسعين وثلاثمائة والعلم عند الله جل وعلا.

إذاً شرطان لا بد منهما لإرث الحمل.

الشرط الأول: تحقق وجوده حياً حياة شرعية معتبرة في بطن أمه ولو نطفة عند موت مورثه؛ لأن الإرث خلافة الحي للميت، فلا بد من أن يكون موجوداً حياً لتحصل خلافته لمن مات قبله.

والشرط الثاني أن نتحقق من ولادته حياً حياة شرعية مستقرة ثابتة عن طريق الاستهلال أو البكاء أو غير ذلك، والأمران متفق عليهما عند علمائنا الكرام.

المبحث الثالث في الحمل: مدة الحمل، وهذه لازمة ضرورية معنا في الحمل، يعني إلى متى نعتبر الحمل معتبراً به وموجوداً ويرث، إلى سنتين كما يقول الحنفية، لو ولد بعد موت مورثه، بأكثر من سنتين بيوم واحد لا يرث، لأنه يقول: لا يمكن الحمل أن يمكث أكثر من سنتين، أو إلى أربع سنوات كما يقول الحنابلة، وهو قول للشافعية، أو إلى ما لا تحديد له، كما يقول الإمام مالك ولو إلى عشر سنوات، وجد من ولد وحملته أمه وبقي في بطنها سبع سنين متتالية، إذاً: ما المدة التي يرث بها هذا الحمل إذا ولد بعد موت المورث وهذه لا بد من ضبطها. ‏

معنى قوله تعالى: (ما تغيض الأرحام وما تزداد)

قال الله جل وعلا في كتابه في سورة الرعد: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8] سبحانه وتعالى، يعلم ما تحمل كل أنثى، ما إما أن تكون موصولة، وإما أن تكون مصدرية، وإما أن تكون استفهامية، وبالأقوال الثلاثة قال أئمتنا، وإن ضعفوا القول الثالث.

الأول موصولة: ما موصولة، والعائد محذوف، اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى [الرعد:8] ما تحمله كل أنثى، وما تنقصه وما تزيده؛ لأن الغيض النقص، وتزداد: الزيادة، فما المراد بالنقص والزيادة، إما نقص في العدد، أو زيادة فيه، فتحمل مولوداً واحداً، وما تزداد: اثنين وثلاثة وأربعة إلى ما شاء الله.

أو المراد ما تنقص من أعضاء المولود فلا يخرج سليماً كاملاً، إما فاقداً الرجل أو اليد أو البصر، وما تزداد يخرج أحياناً فيه أعضاء زائدة، يولد له مثلاً ستة أصابع أو أكثر، رأسان نسأل الله أن يحسن خلقنا وخلقنا بفضله ورحمته.

أو ما تنقص عن مدة الحمل المعتادة، فإما تلقيه سقطاً قبل ستة أشهر، ولا يمكن أن يعيش، وإما قبل تسعة أشهر فما أخذ المدة الكاملة التي هي غالب الولادات.

هذه كلها يمكن أن يدخل في الآية، أو المراد ما تنقص الأرحام من حجم المولود، والمرأة إذا حاضت أيام حملها وعند الإمام الشافعي الحامل تحيض، فيخرج حجم المولود صغيراً، والحجم الطبيعي كما يعني يقدر المقدرون أنه ثلاثة كيلو؛ لأنه تأثر بحيض أمه وفي الغالب إذا وجد توأم يخرج المولود أيضاً ضعيفاً، ومن جملتهم الإمام الشعبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا كما كان يقوله عن نفسه يقول: زوحمت في الرحم، فكان نحيفاً ضعيفاً.

هذا المعنى إخوتي الكرام وهو أن (ما) هنا موصولة دل عليه كلام الله جل وعلا، قال الله جل وعلا في آخر سورة لقمان: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]، وقد أخبرنا الله جل وعلا عن هذا المعنى، وأن نعيمه محيط بما في الرحم في آيات كثيرة، فقال: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32]، وقال جل وعلا: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران:6].

وعلم ما في الرحم علم خاص بالرب لكن قبل مرحلة التكوين، فإذا كون نفخ فيه الروح فهذا ما يحجبنا عنه إلا جلدة البطن، وهذا الآن ليس بعلم غيب، فعلم الغيب المختص بالرب علم استقلالي محيط بجميع المعلومات كماً وكيفاً، وهذا لا يمكن أن يحصل للمخلوق، نحن بعد ذلك إن علمنا بعد تكوينه إنما نعلم وجهاً وخفيت عنا أوجه، ولذلك غاية ما نكشف الذكورة والأنوثة لكن قل له: كم سنة يعيش وماذا سيكون، والذكورة ليس ضرورياً أن تكون بمجاهر، هات سكيناً، وشق البطن يظهر لك، أو ليس كذلك؟ هذا الآن ليس الآن بعلم غيب، إخوتي كم نحن الآن في هذا الفصل، والباب مغلق علينا، ولو أتوا بجهاز أشعة وصورونا وقالوا: يوجد في الفصل عشرون رجلاً لا نقول: علمتم الغيب، لا يقول هذا إلا من لا عقل له، ونحن لسنا بغيب، فنحن الآن موجودون، لكنه فقط كشفنا بجهاز، لكن الآن عندما يتزوج الإنسان ويتصل بزوجته، سل أطباء الأرض، هل سيحصل حمل أم لا؟ يقول: ما ندري، وإذا حصل الحمل قل له: هل سيكون ولداً أو توأماً؟ ذكراً أو ذكرين أو أكثر؟ يقول: ما ندري، أحياناً عن طريق التحليل قد يقول: احتمال الآن للذكورة للأنوثة لكن قل له: كم ذكر؟ لا يدري، قل له سيخلق كامل الأعضاء أو ناقصها، يقول: لا أدري، أو ليس كذلك؟ فماذا علم يا عبد الله؟! ماذا علم، ما علم شيئاً على الإطلاق.

هناك ثلاثة ضوابط تخرج علم المخلوق عن الخالق، فعلم الله هذا استقلالي، وأما نحن فأخذناه بالدلائل، وشتان شتان بين علم الدلائل وعلم الاستقلال.

ثم العلم هنا علم جزئي فيما دلتك الدلالة عليه، وأما هناك فعلم استقلالي محيط بجميع المعلومات كماً وكيفاً، والإمام النووي عليه رحمة الله أحسن من ضبط علم الغيب المختص بالرب فقال: علم استقلالي يحيط بجميع المعلومات كماً وكيفاً.

الأمر الثاني: ما مصدرية، الله يعلم حمل كل أنثى، ونقصانها وزيادتها، النقصان والزيادة في الأمور الأربعة، نقصان عدد، وزيادة عدد، نقصان عضو وزيادة عضو، في مدة الحمل، أو زيادة في مدة الحمل، في الوزن نقص وزيادة، هذا كله يدخل في هذه الآية، وهذا منقول عن السلف الكرام، إذاً حملها ونقصانها وزيادتها، دل على هذا المعنى قول الله جل وعلا في سورة فصلت: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فصلت:47]، وقال الله جل وعلا نظير هذه الآية في سورة فاطر: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر:11].

والمعنى الثالث: ما استفهامية، جوز ذلك الإمام أبو حيان في البحر المحيط في الجزء الخامس صفحة ستاً وستين، وثلاثمائة، والإمام الألوسي مع استبعاده له في روح المعاني في الجزء الحادي عشر صفحة تسع وثلاثمائة، الله يعلم أي شيء تحمله كل أنثى، وعلى أي حال هو، وماذا يطرأ عليه من الأحوال المتواردة المتخالفة، المتغايرة من نقص أو زيادة في العدد أو في الأعضاء، أو من نقص في المدة أو زيادة، أو من نقص في الحجم أو زيادة على ذلك، أي قال الإمام الألوسي: ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر المتبادر.

إذاً: الله يعلم ما تحمل كل أنثى، ما تحمله حمل كل أنثى، أي شيء تحمله كل أنثى، وهذا الحمل الذي يكون في بطن الآدمية دلت السنة الثابتة الصحيحة على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، أن هذا الحمل علمه مختص بالله جل وعلا، والله قد استأثر بعلمه وبأحوال الجنين في بطن أمه ولم يطلع على ذلك أحداً من خلقه.

ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم أحد ما يكون في غدٍ إلا الله، ولا يعلم أحد ما في الأرحام، ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة، ولا تدري نفس ماذا يكسب غداً، ولا يعلم أحد متى يجيء المطر ) والحديث ثابت من رواية أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين، ومن رواية بريدة في مسند الإمام أحمد ومسند الإمام الروياني بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خمس لا يعلمها إلا الله ) وفي رواية أبي هريرة : ( فيه خمس لا يعلمها إلا الله ) في حديث جبريل الذي سأله عن الإيمان والإسلام والإحسان ثم سأله عن الساعة قال: ( فيه خمس لا يعلمها إلا الله، ثم تلا: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34] ).

إذاً: علم ما في الأرحام من الغيب المختص بالرب جل وعلا، وقد استأثر الله بعلم ذلك فلم يطلع على ذلك أحد من خلقه، ومن جملته ما في الأرحام، وعلم الغيب ضابطه كما قال الإمام النووي في صفحة ست وستين ومائتين من الفتاوى: هو علم استقلالي محيط بجميع المعلومات كماً وكيفاً، فخرج العلم الذي يحصله الإنسان عن طريق الحواس، علم استقلالي محيط بجميع المعلومات كماً وكيفاً، فخرج العلم الذي يحصله وتصل إليه عن طريق حواسك، وخرج العلم الذي يحصله الإنسان اضطرارياً فهو معلوم ضرورة، وخرج العلم الذي يحصله الإنسان عن طريق الدلائل، سواء كانت عقلية أو حسابية أو تجريبية، وعليه: اطلاع من يطلع في هذه الأيام على الجنين أنه ذكر أو أنثى، هذا عن طريق الدلائل، فعنده أمور حسابية أو تحليلات استنتج أو أشعة صور ثم يبقى هذا علماً جزئياً ما أحاط بجميع ما سيحصل للجنين، فهو علم جزئي في مرحلة لا في جميع المراحل، وقبل أن تنفخ الروح في الجنين، وقبل أن يكون نطفة أو علقة أو مضغة هو عاجز عن الاطلاع على حالته.

فإذاً: ما في الأرحام لا يعمله إلا الرحمن، أما قبل مرحلة التكوين هذا لا يعلمه أحد، لا ذكر ولا أنثى، ولا علم آخر من الأمور الأخرى وجميع أمور الغيب مختصة بالرب، فعلام خص الله هذه الأمور الخمسة بالذكر، هذا مما يسئل عنه بكثرة، لأن كل غيب مختص بالرب، وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ [هود:123] سبحانه وتعالى، قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65].

لقد خصها الله بالذكر لخمسة أمور:

أولها: هي أمهات الغيب، وإذا جهلها الإنسان فهو عن غيرها أجهل.

ثانيها: هذه الأمور الخمسة لم يوحي الله بعلمها إلى أحد من خلقه، من ملك مقرب أو نبي مرسل، على نبينا وأولياء الله وملائكته صلوات الله وسلامه.

الأمر الثالث: هذه الأمور الخمسة مما يقع السؤال عنها بكثرة من قبل المخلوقين لأنبياء الله ورسله، كانوا يسألونهم عن هذه الأمور، فأخبرهم ربنا العزيز الغفور أنه استأثر بعلمه.

الأمر الرابع: هذه الأمور الخمسة كان يدعي من يدعي من أهل الشطط والكهان معرفتها، فكذبهم الله، وأخبر أنه استأثر بعلمها.

الأمر الخامس وهو آخر الأمور: أن هذه الأمور الخمسة تشتاق النفوس إلى معرفتها، وتتطلع إلى العلم بها، متى يأتي المطر؟ متى تقوم الساعة؟ ماذا سيحصل غداً؟ أين سأموت؟ ماذا في بطن زوجتي؟ ولذلك ترى بعض الحمقى في هذه الأيام يعني بعد أن يأخذ زوجته لأجل أن يعلم ما في بطنها من ذكورة وأنوثة عن طريق الشاشة التلفزيونية، أخبرني مرة بعض الناس يقول: أخذ زوجته ثلاثين مرة، يذهب من هنا إلى هنا، ويذهب إلى أماكن يكذب عليه، يا عبد الله! أنت لو صبرت سيأتيك بالأخبار من لم تزود، يعني: هي عند الولادة سيظهر حالها، لماذا الاستعجال؟ هذه طبيعة البشر، النفوس تشتاق؛ لكن الإنسان ينبغي أن يوقف نفسه عند حدها، وأن لا تشتط، وأن لا تتمادى يعني في العبث، فهذا حال النفس.

أقوال أهل العلم في أكثر مدة الحمل

إخوتي الكرام! آية الرعد التي وضعتها في أول البحث وعنونت عليها عند المبحث الثالث مدة الحمل دالة كما قال أئمتنا على أن أكثر مدة الحمل لا يعلمها إلا الله، اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ [الرعد:8] وقلنا الغيض النقصان، والزيادة الزيادة في عدة أمور منها مدة الحمل، فيمكن أن تزيد على ستة أشهر أو على تسعة أشهر أو على سنتين أو على ثلاث.. إذاً أكثر مدة الحمل لا يعملها إلا الله جل وعلا، أما أقل مدة الحمل فسيأتينا أشار الله إليها واستنبطها أئمتنا وأجمع عليها بناءً على آيات وردت في ذلك لا خلاف فيها، نحن الآن في بيان الأكثر.

الآية تشير إلى أن أكثر مدة الحمل لا يعلمها إلا الله، ولا تحدد بحد، ولا تضبط بفترة، وهذا هو المعتمد عند الإمام مالك من أقوال ثلاثة قالها، رحمة الله ورضوانه عليه وعلى أئمتنا، كما في تفسير القرطبي في الجزء التاسع صفحة سبع وثمانين ومائتين، فقال: لا يوجد لأكثر مدة الحمل حد معين، ينتهي الإنسان إليه، ولو زادت مدته على عشرة أعوام، فهذا ممكن، يقول: لا يحد هذا بحد معين، ولا يضبط لسنوات معلومة، وشيخنا الشيخ محمد الأمين عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في أضواء البيان في الجزء الثالث صفحة ست وثمانين، قال: أما أكثر مدة الحمل فلا حد لها ولا تثبت بمدة معينة، وهذا أظهر الأقوال دليلاً.

قال: والأقوال التي فيها تحديد أكثر مدة الحمل لا دليل عليها، ولا أصل لها، وهذا القول نقله الإمام ابن القيم في تحفة المودود في أحكام المولود صفحة عشر ومائتين عن بعض العلماء الكرام أيضاً، فقال: قالت فرقة لا يجوز في هذا الباب تحديد، أي: في باب أكثر مدة الحمل منهم أبو عبيد القاسم بن سلام عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وحكى عن الإمام الزهري ما يدل على هذا، فقال: قال الزهري قد تحمل المرأة ستة أعوام، وسبعة أعوام مما يدل على أنه يميل إلى هذا القول، وأنه لا يقول بالتحديد بسنتين أو بأربع.

وفي كتاب تحفة المودود قال الإمام ابن القيم: وحكي عن عباد بن العوام، قال: ولدت امرأة معنا هاهنا في الدار بخمسة أعوام، وقد بلغ شعره إلى منكبيه لما ولد، وخرجت أسنانه، ولما سقط مولوداً نزل بجواره طائر فقال له: هش.

القول الثاني للإمام مالك : أن أكثر مدة الحمل أربع سنوات، وهذا قول الإمام أحمد، وهو قول الإمام الشافعي عليهم جميعاً رحمة الله، وحجة هذا القول أمران:

الأمر الأول: ما لا نص فيه ولا دليل عليه نرجع في ضبطه وتحديده إلى الوجود والوقوع، وبما أنه لا يوجد نص يحدد ونحن اطلعنا على من حملته أمه أربع سنين فنقول أكثر مدة الحمل أربع سنين، فالاستدلال صحيح لو لم يثبت عندنا أكثر من ذلك، يعني: لو بالاستقراء ما ثبت إلا أربع سنين، لقلنا الأمر لا يجوز أن نتجاوزه، لكن إذا ثبت ما هو أكثر، وعليه لا يصلح التعويل على هذا الدليل.

إذاً يقولون ثبت الوقوع، وأوردوا في ذلك عدة آثار:

الأثر الأول: رواه الدارقطني في السنن، في الجزء الثالث صفحة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، والبيهقي في السنن الكبرى في الجزء السابع صفحة ثلاث وأربعين وأربعمائة وبوب عليه باباً فقال: باب ما جاء في أكثر مدة الحمل، ولفظ الأثر عن الوليد بن مسلم أنه قال للإمام مالك عليهم جميعاً رحمة الله: حُدثت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا يمكث الحمل في بطن أمه أكثر من سنتين ولو بمقدار ظل المغزل، فقال الإمام مالك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا سبحان الله من يقول هذا؟ هذه امرأة محمد بن عجلان، جارة لنا، امرأة صدق، وزوجها محمد بن عجلان رجل صدق، هذا الإمام مالك مطلع يعني: هي جارة لهم، وقد كانت تحمل وتلد كل أربع سنين، قال: وولدت ثلاثة أولاد باثنتي عشرة سنة، كل ولد تحمله أربع سنوات متتالية.

الأثر الثاني: في الكتابين المتقدمين في السنن للإمام الدارقطني والسنن الكبرى للإمام البيهقي عن هاشم المجاشعي قال: كنا في مجلس مالك بن دينار أبي يحيى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، فجاء رجل بعد أن انتهى الإمام مالك من وعظه ومجلسه قال: أبا يحيى! إن زوجتي مكثت في الحمل أربع سنين، وقد لاقت معاناة ومشقة، فأريد منها أن تدعو لها لعل الله يفرج همها، فقال الإمام مالك بن دينار: سبحان الله! تأتون إلينا وكأننا أنبياء لندعو لكم، يعني: دعاء الأنبياء له شأن، وأما نحن فمن نحن فانصرف .. فلما انصرف رفع الإمام مالك يديه وبدأ يدعو، والحاضرون يؤمنون، ومن جملة دعائه: اللهم إن كان في بطنها رياحاً وانتفاخاً فأذهب ذلك عنها وأذهبه عنها، وإن كان في بطنها جارية وأنثى فأسألك أن تقلبه إلى غلام فأنت تمحو ما تشاء وتثبت وأنت على كل شيء قدير، وبدأ يلح في الدعاء والحاضرون يؤمنون، فما حط يديه حتى جاء الرجل عاقد ويحمل الولد على رقبته، وقال: أبا يحيى! أجاب الله دعاءك، وهو غلام ذكر.

قصة ثالثة ثابتة في الكتابين المتقدمين، وهي في مصنف عبد الرزاق في الجزء السابع صفحة خمس وخمسين وثلاثمائة، وفي سنن سعيد بن منصور في الجزء الثاني صفحة سبع وستين، انتبه جميع رجال الإسناد ثقات بعد ذلك كلام يسير أوضحه إن شاء الله عن الأعمش، عن أبي سفيان وهو أبو سفيان الإسكاف الواسطي، اسمه طلحة بن نافع، حديثه مخرج في الكتب الستة، وإلى هنا الإسناد كله رجاله ثقات أثبات، لكن أبا سفيان الذي هو طلحة بن نافع روى الحديث عن أشياخ لهم.

قال: رفعت امرأة إلى عمر رضي الله عنهم أجمعين، غاب عنها زوجها سنتين، فلما عاد وجدها حاملاً، فرفع أمرها إلى عمر، قال: غبت عنها سنتين متتاليتين فرجعت وهي حامل، فقالت: يا أمير المؤمنين الحمل منه فهم عمر برجمها رضي الله عنه؛ لأنه لا يمكن أن يبقى الحمل أكثر من سنتين، فإذاً كأنها عملت .. وهذا حمل زنا، فقال له معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين إن كان لك سلطان عليها، وتريد أن ترجمها، فليس لك سلطان على ما في بطنها، اتركها حتى تضع، فتركها عمر رضي الله عنه حتى وضعت، فلما وضعت عرف الرجل الزوج شبهه، وأن الولد يشبهه حذو القذة بالقذة فقال: ابني والله ابني والله، فقال عمر رضي الله عنه: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر رضي الله عنهم أجمعين، فهذا الآن حمل مكث أكثر من سنتين، وبعد السنتين بفترة ولدت وهو غاب سنتين، إذاً حملت منه وغاب ورجع، وهي حامل ثم تلد بعد ذلك، فقالوا: هذا حمل لأكثر من سنتين.

هذا الأثر الأخير إخوتي الكرام كما قلت ما فيه إلا جهالة الأشياخ، لكن هو دائماً يقول: أشياخ ليس عن واحد، وإذا ذكر الإنسان جماً غفيراً يعني: كما يقال عن أصحاب معاذ كما تقدم معنا في حديث معاذ فهم من الشهرة بمكان ليسوا واحداً حتى نسميه، إنما هم جماعة، فهذا مما يزيد في قوة الأثر إذا كانوا جماعة عما لو سمى واحداً بعينه، ثم لو قدر فيهم شيء من الجهالة يبقى أنهم من التابعين الكبار، الذين يروون هذه الحادثة التي وقعت مع سيدنا عمر رضي الله عنهم أجمعين.

الإمام ابن حزم في المحلى على عادته في مثل هذه المواقف، وقد تبنى قولاً لم يقل به إنس ولا جان، فقال: أكثر مدة الحمل تسعة أشهر، فلو ولدت بعد ذلك فليس بحمل معتبر، مع أن الحامل قد تبقى للشهر العاشر، أو يمر عليها سنة، وهذا طبيعي لكنه يقول: لا يعتبر هذا الحمل، وأقله ستة أشهر، ويكذب الآثار، ويرد بعبارات بمنتهى الفضاضة، عندما يرد على أئمتنا لما جاء بهذا الأثر في المجلد العاشر صفحة ستة عشرة وثلاثمائة، قال أبو سفيان، وهو طلحة بن نافع ضعيف، وهو من رجال الكتب الستة، حديثه مخرج في الصحيحين وغيره، طلحة بن نافع أبو سفيان الإسكاف الواسطي، يقول: ضعيف، ثم هو يقول: روى هذا الأثر عن أشياخه، وهم مجهولون، وهذا صحيح لكن قلت هم من الكثرة وبالمكان والشهرة، وهذا أعلى مما لو قال إنه واحد بعينه، أما أنه أبو سفيان ضعيف فلا ثم لا، وهو من رجال الكتب الستة كما قلت، وتضعيفه للأثر مردود عليه.

وقد ورد في السنن الكبرى للبيهقي وسنن الدارقطني عن الإمام مالك قال: معرضاً بذكر نفسه دون أن يصرح أعرف من حملته أمه أكثر من سنتين، قال أئمتنا يريد به نفسه؛ لأن أمه حملته ثلاث سنين.

قال أئمتنا: ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي حملته أمه أربع سنين.

قال الإمام ابن قتيبة في المعارف صفحة سبع وخمسين ومائتين: وقد بقي هرم بن حيان في بطن أمه أربع سنين، ولذلك قيل له هرم، أي إنه بقي فترة طويلة كأنه هرم وشاخ في بطن أمه.

إذاً: هذه عدة حوادث بناء عليها قال أئمتنا أكثر مدة الحمل أربع سنين.

الدليل الثاني عندهم كما قالوا: إن الوجود يدل على هذا الأمر، قالوا: قضاء عمر رضي الله عنه في المفقود، وقد وافقه عليه ذو النورين والإمام علي رضي الله عنهم أجمعين، وافقاه على هذا القضاء وهو أن من فقد تضرب له مدة أربع سنين، وسيأتينا بحث هذا في المفقود إن شاء الله، فقالوا: من فقد زوجته تعتد إلى أربع سنين، فإذا ما جاء الزوج بعد أربع سنين، يحكم بموته، فتعتد عدة الوفاة بعد الأربع سنين، ثم تتزوج إن شاءت، وتعليله أنه بالأربع سنين تظهر المرأة إذا كانت حاملاً، فلو كان هناك حمل ستلده، ما يمكن أن يبقى أكثر من أربع سنين، فعندما حدد عمر رضي الله عنه أربع سنين للمفقود، وأن زوجته تمكث هذه الفترة، فإذا لم يأت تعتد بعد ذلك، قال: هذا دليل على التحقق من براءة الرحم، هل فيه حمل أم لا؟ فإن كانت حاملة وضعت، وإلا فلا تضع، وهذا الدليل أيضاً سيأتينا بالنسبة لقضاء عمر رضي الله عنه، وهو في السنن الكبرى للبيهقي ومصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسنن سعيد بن منصور، وسنن الدارقطني وإسناده صحيح كالشمس.

وهكذا قضاء عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، أن امرأة المفقود تمكث أربع سنين ثم تعتد ثم تتزوج إن شاءت، وإذا رجع زوجها الأول سيخير بينها وبين المهر الذي بذله لها، فإن شاء أن يأخذ المهر أخذه وتركها للزوج الثاني، وإن شاء أن يسترد فيفسخ النكاح بينها وبين الزوج الثاني، وتعود إلى الأول، وهو أولى بها من زوجها الثاني، وهذا لا خلاف فيه أيضاً بين أئمتنا كما سيأتينا إن شاء الله، ضمن مبحث المفقود.

إذاً: القضاء ثابت، لكن فيما يبدو لي والعلم عند ربي أن العلة التي عللوا بها هذا القضاء غير مسلمة، وهي أن العلة براءة الرحم، لأن من الممكن أن يقال: لو ولدت بعد فقده بسنة هل يجوز أن تتزوج؟ لا. فليست العلة إذاً براءة الرحم، العلة أن هذا كما يقال حل وسط، أن تتزوج بعد فقده بسنة يعني: هذا مضرة عليه، وأن تمكث أربعين سنة مضرة عليها، فلا يرغب فيها بعد ذلك راغب، فلا بد إذاً من أمر اعتباري، وهي تتحمل شيئاً وذاك بعد ذلك يقال له: نحن معذورون، لا مكن الانتظار إلى ما لا نهاية له، فإذاً أربع سنين كما يقال حل وسط في هذه القضية، والمقصود مراعاة حق الزوج، هذا كله إذا لم يأتنا خبر عنه، وإلا فتبقى زوجته ولو إلى سبعين سنة، لأن انتظارها أربع سنين إنما هو إذا انقطع خبره.

وللإمام مالك قول ثالث وهو أن أكثر مدة الحمل خمس سنين، وهذا ما وافقه أحد عليه.

فالإمام مالك في قوله أربع سنين كان معه الإمام أحمد والشافعي ، وفي قوله بعدم التقدير كان معه أبو عبيد والزهري ، أما هذا القول فلم يوافقه عليه أحد من الأئمة الثلاثة.

كما في الاختيار لتعليل المختار، في الجزء الرابع صفحة تسع وسبعين ومائة، وهذا هو المعتمد عندهم، وهو قول للإمام أحمد، لكنه خلاف ظاهر المذهب، وبهذا سفيان الثوري عليهم جميعاً رحمة الله أن أكثر مدة الحمل سنتان، فإذا ولد الحمل بعد السنتين لا يرث.

واستدلوا على هذا القول بالأثر الوارد عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهو في السنن الكبرى للإمام البيهقي وسنن الدارقطني في الأمكنة المتقدمة، ورواه سعيد بن منصور في سننه في الجزء الثاني صفحة سبع وستين عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، أنها قالت: لا يمكث الحمل في بطن أمه أكثر من سنتين، ولو بمقدار ظل المغزل، وهذا الأثر قال عنه الإمام ابن القيم في تحفة المودود صفحة عشر ومائتين طعن فيه أبو عبيد، وسبب الطعن أن التابعية الراوية عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها مجهولة، وهي جميلة بنت سعد، قال الإمام ابن حزم في المحلى في الجزء العاشر صفحة ست عشرة وثلاثمائة أنها مجهولة لا يدرى من هي فبطل الخبر، والإمام الذهبي في الميزان في الجزء الرابع صفحة خمس وستمائة في ترجمة جميلة بنت سعد نقل كلام ابن حزم فقط، وما أتبعه بقول أحد من أئمتنا.

إذاً كلهم يرجعون إلى ابن حزم في تجهيلها، والإمام ابن حجر في اللسان أسقط ترجمتها رأساً، مع أنها ليست من رجال الكتب الستة، والأصل أن يذكرها في اللسان، ففي الميزان ذكرها الذهبي وقال مجهولة، وعزى تجهيلها إلى ابن حزم وابن حجر في الميزان أسقطها مع أنه ذكر حديثها الذي تقدم معنا، انظروا الجزء الثاني صفحة ثمانين من الدراية للحافظ ابن حجر وانظروا هذا الحديث في نصب الراية في الجزء الثالث صفحة خمس وستين وثلاثمائة، ولم يتكلم على هذه القانتة، وأنا أقول حديثها لا يصل إلى البطلان ولا إلى الترك، ولا إلى النكارة قطعاً، لقول الإمام الذهبي في أول ترجمة النسوة: لا أعلم في النساء من اتهمت ولا من تركت، لا يوجد متهمة ولا متروكة، ومن باب أولى لا يوجد كذابة، وما أكثر الكذابين والوضاعين في الرجال، وهذه المنقبة امتاز بها النساء عن الرجال في رواية الحديث والسنة، لا يوجد امرأة كذابة ولا متهمة ولا متروكة، وهي تابعية كما قلت، وروى عنها وهي روت عن أمنا عائشة رضي الله عنها، إنما لم يرو عنها راوية، ولا يعلم فيها جرح، والحنفية استدلوا بها، وقالوا هذا الأثر عن أمنا عائشة له حكم الرفع إلى النبي عليه الصلاة السلام؛ لأنه لا يدرك من قبل الرأي، وعليه لا يمكن أن تكون أكثر مدة الحمل أكثر من سنتين.

وبناءً عليه لا يرث الحمل بعد هذه المدة.

وبهذا ننتهي من درسنا هذا، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.